الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب الثاني عشر
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حديث هذا اليوم يتناول تفسير الربع الأخير من الحزب الثاني عشر في المصحف الكريم، وأول آية منه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وآخر آية فيه قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} .
ــ
يبتدئ الخطاب الإلهي في هذا الربع، بحض الرسول صلى الله عليه وسلم على القيام بواجب التبليغ الذي كلفه الله به دون توان ولا تردد، وينبهه إلى أن أي تقصير في هذا الواجب يعتبر عملا مضادا للتبليغ، كما يؤكد للرسول صلى الله عليه وسلم أن الله الذي أرسله لتبليغ الرسالة قد تعهد بحفظه، وأنه مهما استعمل من الوسائل لتحقيق هذه الغاية وضاعف من الجهود في هذا السبيل، فلن ينال حياته أي مكروه، وأن أي محاولة يحاولها الكافرون ضده ستبوء بالفشل، وذلك قوله تعالى، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. وينبغي أن يفهم هذا الأمر الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم بالتبليغ والحرص عليه، على أنه أمر موجه إلى ورثة الرسول من بعده، وهم علماء الشريعة وحملة الدين، الذين هم مطالبون بتبليغ الدعوة الإسلامية، وكشف النقاب عنها على وجهها الحق، في كل العصور والأجيال، مهما كلفهم ذلك من الجهود والتضحيات.
ثم يوجه كتاب الله خطابه إلى أهل الكتاب مرة أخرى، فيدينهم جميعا بما هم عليه من مخالفة صريحة للتوراة والإنجيل، مبينا أن ما يدعونه من التمسك بهما، وما ينسبونه إليهما مما ليس منهما، هو منتهى الزور والتضليل، وموضحا أن {أَهْلِ الْكِتَابِ} بسبب ابتعادهم في دينهم، وتحريفهم لكتبهم، وابتعادهم عن روح الدين ومنبع الإيمان، أصبحوا وهم {ليسوا على شيء} لا من الدين، ولا من الإيمان ولا من الكتاب، وأن الوسيلة الوحيدة لإنقاذهم مما هم فيه قبول رسالة الإسلام التي قامت على أساسها وهديها نفس التوراة ونفس الإنجيل، والتي جاء القرآن الكريم بتتميمها وختامها لخير الناس أجمعين، وذلك قوله تعالى، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} .
وعقب كتاب الله على هذه الدعوة بما يفيد أن كثرة من أهل الكتاب ستصر على ضلالها، وسوف لا تستجيب لدعوة الإخاء الديني والإنساني التي ينادي به الإسلام، بل ما يؤكد أن هذه الدعوة ستزيدها طغيانا على طغيان، وكفرا على كفر، اعتزازا منها
بالإثم والأنانية، وإمعانا في العناد والاستكبار، وتمسكا بحفظ مصالحها وامتيازاتها، وحرصا على إبقاء الجماهير المضللة في شبكتها، وتحت تأثيرها، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .
وانتقلت الآيات الكريمة إلى التنديد بموقف بني إسرائيل من ميثاق الله الذي واثقهم به، والتنديد بموقفهم من رسل الله الذين تعاقبوا عليهم الواحد بعد الآخر، فلم يكن آخرهم أحسن حظا من أولهم، وأشارت نفس الآيات إلى ما تقلبت فيه كثرة بني إسرائيل من عصيان وتوبة، ثم عصيان مستمر جعلهم محل سخط الله وغضبه، وذلك قوله تعالى {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} .
ومن الحديث عن بني إسرائيل وموقفهم من أنبيائهم انتقلت الآيات مرة أخرى إلى الحديث عن موقف المدعين لإتباع المسيح والإيمان به، مبينة كفرهم الصريح بسبب تأليههم لعيسى ابن مريم، على خلاف تعاليمه ووصاياه التي نادى بها من المهد إلى اللحد، فنفس المسيح عليه السلام منذ كان في المهد صبيا قال:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} ولم يقل إني إله، ونفس المسيح ظل خلال قيامه برسالته يدعوا أتباعه إلى عبادة الله الواحد الأحد،
وعرفهم بأن الإله المعبود هو رب العالمين وحده لا شريك له، وبأن الشرك بالله ظلم عظيم لا جزاء له إلا النار، وليس لأهله شفعاء ولا أنصار، وذلك قوله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
ثم يتولى كتاب الله وصف الحقيقة الصادقة عن المسيح وأمه مريم دون زيادة ولا نقص، ولا غلو ولا تحريف، ولا تأليه ولا تثليث، وذلك قوله تعالى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} .
وقوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} فيه توضيح لبشرية عيسى وأمه وتوابع هذه البشرية، بتعبير قرآني مهذب، فمن كان يتناول الطعام لدفع ألم الجوع، سوف يضطر بحكم تناوله الطعام إلى العمل على التخلص من فضلاته، وإذن فهو يحتاج لتناول الطعام أولا والتخلص من فضلاته ثانيا، ومن كان حاله هو هذا
الحال، لا يمكن أن يكون إلها ولو في الخيال.
وواصلت الآيات الكريمة حديثها عن كفار بني إسرائيل، مبينة تواطؤهم على المناكر، وحرصهم على موالاة الكافرين، وما أدى إليه هذا السلوك المنحرف من عذاب في الدنيا والآخرة، وذلك قوله تعالى:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} .
وإذا استنكر كتاب الله موقف التواطؤ على المنكر من بني إسرائيل، فإنه يستنكره من المسلمين من باب أولى وأحرى.
على أن كتاب الله في هذا الربع قد فتح في وجه المخالفين للإسلام أيا كان دينهم، وكيفما كان شعارهم - بالرغم عن مخالفتهم وانحرافاتهم - باب التوبة والمغفرة والدخول في حظيرة الإسلام على أساس المساواة التامة، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، ووعدهم وعد الحق والصدق بالأمن في الدنيا والآخرة، رفقا بهم، وحرصا على هدايتهم، وإقامة للحجة عليهم، وذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .