الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الثالث عشر
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
نتناول في حصة هذا اليوم الربع الأول من الحزب الثالث عشر في المصحف الكريم، ويبتدىء هذا الربع بقوله تعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} وينتهي بقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
ــ
في بداية هذا الربع، يتحدث كتاب الله، وهو يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، عن مواقف أهل الكتاب من الإسلام، وما يبرز في صفوفهم من عداوة أو مودة له ولأهله، ولا يغفل كتاب الله التنبيه إلى أن الهوة التي تفصل بين الإسلام والوثنية من جهة، وبينه وبين اليهودية من جهة أخرى، هوة سحيقة جدا، فطبيعة الوثنية في حد ذاتها ومن أصلها لا تنسجم مع الوحي الإلهي في شيء، ولاسيما الوحي الإلهي الوثيق الذي لا تبديل فيه ولا تغيير، كوحي القرآن الكريم، وأنى للظلمة أن تنسجم مع النور، وللحق أن يعايش الباطل.
وعناد اليهودية وتجاهلها لبقية الأنبياء والرسل ولبقية الكتب
المنزلة وتظاهرها بالاستعلاء والاستكبار على من لا يدين بدينها، كل ذلك جعلها سباقة إلى إشهار الحرب على الإنجيل ورسوله، كما جعلها سباقة إلى حرب القرآن ورسوله، وقد اختارت في كثير من الأوقات حرب الدسيسة، والتآمر، وبلبلة الأفكار، وإثارة المشاكل الجانبية، ثم محاولة التسرب إلى قلعة القرآن عن طريق التأويلات المبتذلة، والأساطير المنتحلة، فهي من الوجهة السياسية الحليفة الأولى للوثنية العربية طيلة عهد الرسالة المحمدية، وهي من الوجهة الاعتقادية والتشريعية تتزعم جميع الحركات والتيارات المناوئة للإسلام، والعاملة على تشويهه وتحريفه، وإبرازه كعنصر ثانوي لا أصالة فيه ولا ابتكار، ولا تفتر دوما عن ملاحقة الإسلام ومطاردته في مختلف المجالات، ولاسيما مجالات العقائد والأفكار والآراء، وإلى هذه المعاني يومئ قوله تعالى في إيجاز وإعجاز {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} .
ويلاحظ في هذه الآية تقديم {الْيَهُودَ} على {الَّذِينَ أَشْرَكُوا} والسر في ذلك - والله أعلم - أن خطر هذا العنصر أقوى وأشد من خطر جميع العناصر الوثنية، لا فرق بين الوثنية العربية وغيرها، فالوثنية ليس لها أي أساس مقبول من الوحي والرسالة، ولا من المنطق والحكمة، وهي عاجزة أن تقف على قدمها أمام الإسلام الذي يقوم في صميمه على الكتاب والحكمة معا، بينما اليهودية تعتبر نفسها عقيدة توحيد، وبيدها شريعة التوراة التي لا تقبل فيها نسخا، وإن كانت من الوجهة العملية قد حرفتها بنفسها ومسختها مسخا، وهكذا تجد المجال مفتوحا عند غير المسلمين، لتضليلهم
عن حقيقة الإسلام المثلي وجوهره الرفيع.
ثم تنتقل الآيات الكريمة إلى وصف طائفة أخرى من أهل الكتاب، هي طائفة من القسيسين والرهبان كانت تدين بالنصرانية، لكنها على أثارة من العلم بقرب ظهور خاتم الأنبياء والمرسلين طبقا لبشارة المسيح عليه السلام الثابتة من قبل {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} فما كاد يظهر الإسلام، ويشرع الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة التي تلقاها من عند الله، حتى آمنوا به وبرسالته، بل أعرضوا عن لغو اليهود من جهة، وتركوا نصرانيتهم من جهة أخرى، وخالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، وتلقوا ما أنزل إلى الرسول بتلهف وشوق وتأثر بالغ، ففاضت أعينهم بالدموع، وبرزت على جوارحهم آثار الخشوع وأخذوا يسألون الحق سبحانه وتعالى أن يكتبهم في زمرة الأمة المحمدية الشاهدة على الناس، وأن يدخلهم الجنة في رفقة القوم الصالحين، ونظرا لصدق يقينهم، وإخلاص إيمانهم، وتوفيقهم، استجاب الله دعاءهم، وأحسن جزاءهم، وذلك ما أشار إليه قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}.
وفي هذه الطائفة أو في مثلها نزل قوله تعالى في سورة القصص {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} .
وإذن فالأمر في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً} الآية يتعلق بمن كانوا على النصرانية ثم تركوها نهائيا وانتقلوا إلى الإسلام، لا بمن أصروا على نصرانيتهم واستمروا عليها ووقفوا في وجه الإسلام يحاربون دعوته، ويطاردون شريعته، ويستعبدون أمته، منذ نشأته الأولى إلى هذه الأيام، فهؤلاء هم الذين تولى الحق سبحانه وتعالى ذكرهم وذكر عقابهم في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} .
ومضى كتاب الله يدعو المؤمنين إلى تجنب مظاهر الرهبانية التي ابتدعها النصارى في دينهم، مطالبا للمؤمنين بتناول جميع الطيبات التي أحلها الله لهم، لكن في غير تجاوز الحدود، ودون إسراف بما يزيد عن الهدف المقصود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} .
ولفتت الآيات الكريمة أنظار المؤمنين إلى ما يجب أن يحيطوا به اسم الله من تقديس واحترام، وأنهم لا ينبغي لهم أن يقسموا
باسمه العظيم إلا عند الضرورة القصوى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} منبهة إلى أنه إذا كان الله تعالى لا يؤاخذهم باللغو في أيمانهم، لأنها صدرت منهم عن غير قصد ودون عمد، فإنه سبحانه سيحاسبهم على الأيمان التي قصدوها، وتعمدوا توكيد مقاصدهم بها هل بروا بها أو لم يبروا، وعليهم إذا لم يبروا بأيمانهم أن يكفروا عن تقصيرهم في البرور بها. وحددت نفس الآية الوجوه التي يمكن أن تقع {كفارة اليمين} باختيار واحد منها، وذلك قوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
وجدد كتاب الله الحديث عن تحريم الخمر والقمار، وتحريم الذبائح التي كان المشركون يذبحونها، ويرشون بدمائها أحجارا وثنية مخصوصة يدعونها (الأنصاب) أو يقتسمونها بواسطة قداح أو قراطيس خاصة يدعونها (الأزلام) مبينا الآثار السيئة التي تنشأ عن شرب الخمر وعن لعب القمار، ومعلنا تحريم الخمر والميسر تحريما قاطعا، وذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} .
وهنا يجب التنبيه والتأكيد على أن من صيغ التحريف التي
يستعملها القرآن الكريم صيغة (اجْتَنِبُوا) كما ورد في هذه الآية وغيرها من الآيات، مثل قوله تعالى في سورة النحل {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقوله تعالى في سورة الحج {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} ، وقوله تعالى في سورة الحجرات:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} الآية، فكل ما ورد في هذه الآيات بعد صيغة اجتنبوا يعتبر في الشريعة من المحرمات المقطوع بتحريمها.
ثم يعقب كتاب الله على ذلك كله بقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} ، منبها إلى أن شارب الخمر ولاعب القمار هما عمليا في حرب مع الله ورسوله، مجاهران لله ولرسوله بالعصيان، متمردان على طاعته، متهاونان بأحكام شريعته.
وإذا كان المتمرد على سلطة المخلوق مثله يتعرض لأشد أنواع العقاب، جزاء تمرده وعصيانه، فما بالك بالمخلوق المتمرد على سلطة الخالق القاهر فوق عباده، ماذا يكون مصيره بين يدي الله؟ يوم لا ينفعه إلا طاعة الله وتقواه وما قدمت يداه، وذلك هو معنى قوله تعالى:{وَاحْذَرُوا} بعد قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي احذروا مغبة عصيانكم لله، فقد تكون العاقبة أوخم عاقبة، وقد تكون الخاتمة أسوء خاتمة، فأطيعوا الله ليثبتكم في أحرج المواقف، ولا تلقوه وأنتم سكارى عند سكرات الموت، وكونوا من أهل الإيمان والإذعان، حتى ينعم الله عليكم في مواقف الحيرة والفزع بالثبات والاطمئنان، قال تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} .