الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الخامس عشر
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الأول من الحزب الخامس عشر في المصحف الكريم، وبداية قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} ونهايته قوله تعالى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} .
ــ
بعدما عرض كتاب الله في الربع الماضي على أنظار المشركين والكافرين آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق المحيطة بهم من حولهم، وما أنعم به على خلقه من النعم المتوالية والعطايا الدائمة، رحمة بهم وإحسانا إليهم. وبعدما تبين ما هم عليه من تحجر في الفكر، وقسوة في القلب، وإصرار على التمسك بالباطل، واستكبار عن قبول الحق، جاء كتاب الله في هذا الربع، مبينا أن من كان مثلهم تحجرا واستغلاقا، وعنادا وإصرارا، لا تنفع فيه، لا آيات الوحي الناطقة، ولا آيات الكون الصامتة، بل إن إجراء خوارق العادات من أجل إقناعهم، وإقامة الحجة عليهم، لو وقع، تلبية لطلبهم، واستجابة لتحديهم، لما كان له إلا أثر سلبي في أنفسهم، فقد
عميت بصائرهم، وتحجرت عقولهم، إلى درجة أنه لم يبق أي منفذ ينفذ منه الحق أو الحقيقة إلى قلوبهم، وذلك ما يؤكده قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} أي عيانا ومشاهدة، {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}. وفي مثل هذا المعنى جاء قوله تعالى في سورة يونس:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} .
ثم انتقلت الآيات الكريمة إلى وصف ما تلاقيه دعوة الأنبياء والرسل من دعايات مضادة يقوم بها أعداء الرسالات الإلهية وخصومها المفسدون في الأرض، مبينة أن هؤلاء الأعداء المتحالفين على محاربة الرسل ورسالاتهم هم أشرار الخلق من الإنس والجن، فهم حلف واحد متمرد على الله، متعاون على حرب رسله، وما من فريق منهم إلا هو يستوحي من الفريق الآخر كل ما يساعده على التغرير بضعفاء النفوس، وتضليل بسطاء العقول، ونبهت نفس الآيات إلى أن الذين ينكرون الحياة الآخرة ولا يؤمنون بالبعث هم الضحايا الأولون، والزبناء المختارون لهذا الحلف الضال، من شياطين الإنس والجن، فهم الذين يتقبلون وحي هؤلاء الشياطين برضى واطمئنان، وهم الذين يقترفون- بإيحاء منهم- كل ما يأتونه
من المناكر والفواحش والضلالات، معرضين عن الله، متنكرين لجميع الرسالات، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} ، وقوله تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} .
واتجه خطاب الله إلى الحديث عن موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من ضلالات المشركين ودعاويهم الباطلة، والتأكيد على أنه غير مستعد للتحاكم إلى أهوائهم وأوهامهم، وأنه لا يرتضي حكما في النزاع القائم بينه وبين المشركين حول عقيدة التوحيد إلا الحق سبحانه وتعالى، فهو الحكم الوحيد الذي ترضى حكومته عند رسوله والمؤمنين، لاسيما وقد فصل في كتابه المبين الذي أنزل على رسوله الصادق الأمين بلسان عربي مبين، دلائل الحق الصراح الذي لا جدل فيه ولا مراء، والذي فيه غاية الهدى وكل الشفاء، وذلك قوله تعالى في إيجاز وإعجاز:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} - {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} .
ثم نبه كتاب الله مرة أخرى إلى أن هذا الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الكتب، بل هو من جنس الكتب الإلهية التي أنزلها على رسله السابقة، فهو حلقة من سلسلة النور الممدودة من السماء إلى الأرض، وهو وإن كان خاتم الكتب الإلهية والمهيمن
عليها فليس هو بأولها، بل إن هناك طائفة من أهل الأرض تعرف " بأهل الكتاب " تعرف الوحي وتعرف الرسالة، وعندها من بشارات الرسل السابقين بذلك ما يشفي ويكفي، وهي تعرف أن هذا القرآن الذي ختم الله به الوحي من عنده، جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب والرسالات، وجاء بالحق من العقائد، والحق من الشعائر، والحق من الشرائع، والحق من أخبار الخليقة، والحق من قصص الأنبياء والرسل، فلا يصح أن يكون بعد ذلك كله موضع شك ولا تردد عند أحد من الناس. وذلك قوله تعالى:{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} . وقوله تعالى في نفس السياق: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وارد على غرار قوله تعالى في سورة يونس: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} . وتعليقا على " حرف الشرط "{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ} أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: (لا شك ولا أسأل).
ومضى كتاب الله يوضح من خصائص القرآن ومميزاته ما يثلج صدور المؤمنين ويزيدهم يقينا بالحق، واطمئنانا إلى الحقيقة، فنبه إلى أن كلمات الله التي يتضمنها كتابه العزيز هي المثل الأعلى في الصدق، فلا يوجد ما هو أصدق منها، لا خبرا ولا توجيها، لا فرق في ذلك بين خبرها عن الغيب، ولا خبرها عن الماضي، ولا خبرها عن أطوار البشرية في حالتي شقائها وسعادتها، وحالتي ضلالها وهدايتها، ولا فرق في ذلك بين توجيهها للفرد المسلم،
وتوجيهها للجماعة المسلمة، وتوجيهها للدولة الإسلامية، وتوجيهها للإنسانية جمعاء، فتوجيهاتها كلها حق وصدق، كما نبه كتاب الله إلى أن كلمات الله التي يتضمنها كتابه العزيز هي المثل الأعلى في العدل، فلا يوجد في أحكامها، ولا في تكاليفها، ولا في أوامرها، ولا في نواهيها، ولا في مبادئها التشريعية والأخلاقية، ما يناقض مبدأ العدل المطلق، الذي لا عدل فوقه ولا عدل سواه، إذ هو عدل الحكم العدل الذي هو أحكم الحاكمين ورب العالمين، فعدله ليس عدل طبقة ضد طبقة، ولا عدل جنس ضد جنس، ولا عدل لون ضد لون، ولا عدل ملة ضد ملة، وهو فوق الأهواء والشهوات، لأنه عدل " الكامل " الذي لا يلحقه أي نقص، و " الغني " الذي لا تضطره أي حاجة و " العادل " الذي لا يتصور منه أي ظلم.
ونبه كتاب الله في نفس هذا السياق إلى أن ما تحتوي عليه كلمات الله في كتابه المبين من صدق وعدل لا يمكن أن يلحقه نقض ولا إبطال، ولا تغيير ولا تبديل، ولا تحريف ولا تزوير، لأنها أحكام صادرة عن علم الله، وحكم منطوية على سر الله، وكلمات محفوظة بحفظ الله، وذلك قوله تعالى {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} - {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} .
وانتقلت الآيات الكريمة إلى تقرير حقيقة اجتماعية وتاريخية كبرى، حتى لا يضل عنها المسلمون، ولا يختلط عليهم الحابل بالنابل، ألا وهي " معيار الحق " و " معيار الحقيقة " ليس هو كثرة القائلين بالقول، ولا كثرة المقلدين للرأي، فكم من الأكثريات
والأغلبيات إنما تؤيد الباطل، دون الحق، وتسير وراء الأوهام، لا وراء الحقائق، وذلك في جميع عصور التاريخ، وبالنسبة لكافة الدعوات، بحيث كثيرا ما تكون القلة من الناس دون الكثرة هي المتمسكة بالحقيقة، والحريصة على الحق {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ولم يكتف كتاب الله بتقرير هذه الحقيقة، مجردة من الحجة الدالة على صدقها، بل عقب عليها بما يكشف السر فيها، فبين أن أكثرية الناس إنما يكتفون في أحكامهم وتصرفاتهم بمجرد الظنون والأوهام، ولا يجدون لا من سعة من الوقت، ولا من سعة الفكر، ما يساعدهم على أن يتبينوا وجوه الضعف فيما يقال لهم وما يعرض عليهم من الآراء الملتوية، والأهواء المستعصية، فينقادون بسهولة لمن يوحون إليهم بتلك الآراء المدخولة، والأفكار المعلولة، من شياطين الإنس والجن، ويسايرون تيار الضلال والتزوير على غير علم، ودون أن يكونوا على بينة، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .