الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الحادي عشر
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حديث هذا اليوم نشرع في تفسير الحزب الحادي عشر من المصحف الكريم، ويبتدىء الربع الأول منه بقوله تعالى:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} وينتهي نفس الربع بقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} .
ــ
يتناول كتاب الله في هذا الربع، بادئ ذي بدء موضوعا أخلاقيا خطيرا، ألا وهو الجهر بقالة السوء بين عامة الناس ونشر المرذول من الأقاويل بينهم، وترويج البذيء من الإشاعات المغرضة في أوساطهم، فكما يبغض الإسلام أولئك الأبالسة المفسدين الذين يتاجرون بالأعراض والعقول، ويشيعون الفاحشة بين أفراد المجتمع، والذين يضربون بسلوكهم أسوأ الأمثال لمن عداهم فيصبحون قدوة في الفساد، كذلك يبغض الإسلام من يتعمدون الجهر بالسوء، ويقومون بترويج الإشاعات الكاذبة والتلفيقات المضللة، ويتحدثون عن الناس بما يلوث أعراضهم، ويضيع الثقة منهم وفيهم، إذ بذلك ينتشر سوء الظن بين الناس
جميعا، وتضعف ثقة بعضهم ببعض، أو تزول بالمرة، ويصبح المجتمع كله - بحكم العدوى والتقليد والبلبلة - مجتمع سوء لا خير فيه، ولا ثقة بين أفراده، بل ما منهم من أحد إلا هو يتربص بأخيه الدوائر، لينقض عليه انقضاض الأسد على فريسته، دون شفقة ولا رحمة، ومن غير تقزز ولا مضض، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} .
غير أن الإسلام الذي يعطي للمظلوم الحق في دفع الظلم عنه، ويأذن له بالعمل على رفعه، لا يقف حجر عثرة في سبيل تشهير المظلوم بالظالم، لإقامة الحجة عليه، وتحذير الناس منه، حتى لا يكونوا من ضحاياه، وذلك ما ينبغي أن نفهم من قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} أي أن المظلوم لا يحرمه الإسلام من التمتع بحق التنفيس عن كربه، وبالتحدث عن مظلمته، حديثا قد يسيء إلى الظالم في سمعته ومكانته، ما دام ذلك في حدود الواقع، ودون مبالغة فيه ولا زيادة عليه.
وقوله تعالى في التعقيب على هذا السياق {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} إشارة إلا أن الحق سبحانه وتعالى لا يخفى عليه من أقوال القائلين شيء، بل يسمع أقوالهم كيفما كانت، لا فرق بين من قال سوءا أو قال خيرا، كما أنه سبحانه مطلع على نياتهم ومقاصدهم، يعلم منهم المظلوم من الظالم، والصادق من الكاذب، والمفسد من المصلح.
ثم أخد كتاب الله ينبه المؤمنين إلى ما ينبغي أن يشغلوا به ألسنتهم من قول الخير، بدلا من قول السوء، ويحضهم على إبراز
خصال الخير وإشهار فضائله والتنويه بمظاهره، وعلى ضرب المثل للناس بالعفو عن السوء كلما بدرت بادرته من مسيء، ومضى كتاب الله في توكيد هذا المعنى وإغراء المؤمنين به، لافتا نظرهم إلى أن من صفات الكمال التي اتصف بها الحق سبحانه وتعالى صفة (العفو) مع كامل القدرة، وإذن فمن أدب المؤمن، بل من الواجب عليه أن يتحلى في هذا المجال بخلق ربه، فيعفوا عمن أساء إليه، حتى ولو كان قادرا عليه، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى:{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} .
ومما تجب ملاحظته في هذه الآية أنها ابتدأت في الذكر بإبداء الخير وإبرازه، فقالت {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا} لأن في إبداء الخير وإظهاره وإشهاره بين الناس تشجيعا عليه، ودفعا إليه، وضربا للمثل الصالح والقدوة الحسنة.
ولا يخفى على بصير أن تقليد الناس ومحاكاة بعضهم لبعض، وتشبه فريق منهم بفريق، ظاهرة اجتماعية ونفسية لا تتخلف بالنسبة للخير والشر، وللصلاح والفساد، فإشاعة الفاحشة وقالة السوء تدفع بالمجتمع إلى أن يصير مجتمعا فاحشا ومجتمع سوء وإشاعة الخير قولا وفعلا تدفع بالمجتمع إلى أن يصير مجتمعا خيرا، ومن هنا نادى الإسلام في غير ما آية وغير ما حديث بضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك حتى تضيق دائرة الشر، وتحاصر بؤرة الفساد فلا يتسرب إلى البلاد والعباد.
وعلى ضوء هذا التفسير يتضح المقصود من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
وفي هذا الربع يعود كتاب الله إلى الحديث بمنتهى القوة وبالحجج البالغة عن وحدانية الله، ووحدة الوحي الإلهي، ووحدة الرسالة السماوية، ووحدة الرسل والأنبياء جميعا، وكما أن الكون بسائر أصنافه وأشكاله وألوانه، وعلى اختلاف أنواعه، تتجلى فيه وحدة المكون وحكمته، من خلال نواميسه القائمة وسننه الثابتة، فعالم الإنسان الذي هو جزء لا يتجزأ من الكون لا يختلف عن هذه الحقيقة الكبرى، وما الوحي وما الرسالة وما الرسل إلا فرع من شجرة الوحدة الكبرى، وحدة الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر، الخلق لجميع العوالم، والأمر لعالم المكلفين من بني آدم وغيرهم من بقية العوالم {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} .
وقد حمل كتاب الله بمنتهى الشدة على من يدعون الإيمان ببعض الرسل وبعض الكتب، وهم يكفرون ببقية الرسل والكتب، واصفا لهم بصفة الكفر المطلق، وبأنهم في الواقع يكفرون بجميع الرسالات والرسل ولا يؤمنون منها بشيء، إذ إن ظاهرة النبوة والرسالة، وظاهرة الوحي إلى الأنبياء والرسل، هي في الواقع ظاهرة واحدة متماثلة، ومتسلسلة، في موكب الأنبياء والرسل، من فاتحهم إلى خاتمهم.
وقصر الإيمان على البعض منهم دون الآخر لا يقضي به منطق، ولا يبرره أي برهان، وإنما هو أثر من آثار التعصب البغيض، والتقليد الأعمى، والهوى المتبع، وذلك قوله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} .
والإسلام عندما يقرر وحدة الوحي، ووحدة الرسالة، ووحدة الرسل، إنما يؤكد بذلك وحدة الإنسان نفسه، ووحدة التوجيه الإلهي للناس جميعا، لا فرق بين مختلف الأجناس والألوان والفئات، فالإنسانية في حقيقتها واحدة، ودين الله كما أوحاه إلى رسله وأنزله في كتبه واحد في مصدره، واحد في جوهره، واحد في أثره، والأثر الذي يهدف إليه هو هداية الإنسان عن طريق الوحي الإلهي، وإمداد الإنسان عن طريق التوجيه الإلهي، حتى لا يبقى للإنسان على الله حجة، إذ كما أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد، أنعم عليه بنعمة التوجيه والإمداد، وذلك قوله تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} . وفي آية أخرى من كتاب الله بسورة طه ما يزيد هذا المعنى وضوحا وبيانا، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى * وَلَوْ أَنَّا
أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى * قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى}.