المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الثاني من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٢

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌الربع الأول من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المائدة

- ‌الربع الثاني من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني عشرمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثانيفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني عشرفى المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث عشرمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأنعام

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس عشرفي المصحف (ق)

- ‌ سورة الأعراف

- ‌الربع الأول من الحزب السادس عشرفي المصحف (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأنفال

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة التوبة

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الثاني من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الثاني من الحزب السادس عشر

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

في حصة هذا اليوم نتناول الربع الثاني من الحزب السادس عشر في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} إلى قوله تعالى في نهاية هذا الربع: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} .

ــ

وهذا الربع، يتحدث أكبر عدد من آياته الكريمة، عن مشاهد يوم القيامة وأهوالها العظيمة، فيصف أحوال أصحاب الجنة وأصحاب النار، ويعرض ما يتبادله الفريقان من النداءات والأحاديث والحوار.

ولفهم الآيات الأولى في هذا الربع وربطها بما سبقها، نرى من المناسب أن نعود إلى بعض آيات الربع الماضي، فقد رأينا فيه كيف امتن الحق سبحانه وتعالى على عباده بما مكنهم في الأرض من حياة واستقرار، إذ جعلها مسخرة لهم، ووضعها تحت تصرفهم، ولائم بين طبيعتها وطبيعتهم، وآتاهم فيها من أسباب الكسب ووسائل العيش ما يطيب معه القرار، وإن كان شكرهم لله يتناسب مع واسع عطائه، وكثرة نعمه وآلائه {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ

ص: 206

فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}. كما رأينا فيه كيف امتن سبحانه وتعالى على عباده بما خصهم به دون غيرهم من بقية المخلوقات، من نعمة الستر، وما آتاهم من المواد الصالحة لاستعمال اللباس الذي يواري سوآتهم، ويستر عوراتهم، وما أكرمهم به من الرياش والمتاع والأثاث زيادة في التوسعة عليهم، حتى يستوفوا حظهم، في العيش الكريم، من الضروريات والحاجيات والكماليات، ثم ما أعده لهم من لباس التقوى الذي هو أبهى لباس وأشرف حلة يتزين بها عباده المتقون {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} وإلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في سورة النحل:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} . ودعا الحق سبحانه وتعالى عباده إلى أن يظهروا نعمة الله عليهم فيتجملوا ويتزينوا، ولاسيما في مواطن الخير، كبيوت الله والمناسبات الدينية وما شابهها {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، كما دعاهم سبحانه إلى أن يقبلوا على مائدته الكريمة، ليتناولوا منها ما لذ وطاب، لكن حذرهم في نفس الوقت من مغبة الإسراف في الأكل والشراب، حفظا لصحتهم الغالية، وإعانة لهم على القيام بواجباتهم الدينية والدنيوية، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} قال بعض السلف: جمع الله الطب كله في نصف آية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} .

ص: 207

وبعدما لفت كتاب الله في الربع الماضي أنظار عباده إلى المنن التي امتن عليهم بها، ودعاهم إلى التنعم بها دون إسراف ولا إفراط، توجه الخطاب الإلهي في هذا الربع إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، داعيا إياه إلى التصدي بالرد على كل من يدعون الناس إلى أن يعيشوا عيشا غير كريم، والرد على كل من يدعونهم إلى أن يظهروا في المجتمع بمظهر دميم، مبينا لرسوله أن ذلك منهم مجرد تقول على الله وادعاء، ومحض افتراء، فقال تعالى مخاطبا لنبيه:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} أي أن الله تعالى أباحها، ودعا عباده إلى استعمالها، وما دام الحق سبحانه هو وحده المختص بالتحليل والتحريم وقد أحلها ولم يحرمها، فليست إذن بحرام.

ومما يستلفت النظر تعبير الآية الكريمة هنا بكلمة {زِينَةَ اللَّهِ} على حد التعبير الوارد في آية أخرى بكلمة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} . ف {فِطْرَتَ اللَّهِ} وهي الإسلام تنسجم مع {زِينَةَ اللَّهِ} تمام الانسجام، والتزمت والرهبانية والحرمان إنما هي بدع ابتدعها المنحرفون عن الفطرة السليمة، من أتباع الملل والمذاهب السقيمة.

وقوله تعالى هنا: {الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} تنبيه إلى أن الحكمة الإلهية فيما خلقه الله من زينة وطيبات إنما هي إكرام الإنسان بسد حاجاته الضرورية، والترفيه عليه بشتى المتع والهبات الكمالية، على حد قوله تعالى في آية أخرى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} .

ص: 208

وقوله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} يقتضي أن الخبائث من الرزق حرام وغير حلال، ومن أجل ذلك وصف الله رسوله في كتابه بقوله:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ومن الرزق الخبيث ما كان حاصلا عن سرقة أو اختلاس أو غصب أو كسب غير مشروع.

ثم عقب كتاب الله على هذه الحقيقة الدينية بالتلويح إلى حقيقة كونية قائمة، ألا وهي أن زينة الله ورزقه يشترك في تناولهما والانتفاع بهما في هذه الحياة الدنيا المؤمن والكافر، والبر والفاجر، بمقتضى حكمته الإلهية، ورحمته الربانية، مصداقا لقوله تعالى:{وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} - {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} . لكن إذا كانت الشركة في زينة الله ورزقه قائمة في هذه الدنيا، فإن هذه الشركة ترتفع وتزول، ولا يبقى لها أي أثر في الدار الآخرة، إذ هناك ينفرد المؤمنون وحدهم دون الكافرين بزينة الله ورزقه الأعظم انفرادا تاما، تمييزا لهم وإكراما، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا مخاطبا لنبيه:{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . قال القاضي أبو بكر " ابن العربي ": " يعني أن الكفار يشاركون المؤمنين في استعمال الطيبات في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة خلصت للمؤمنين في النعيم، وكان للكفار العذاب الأليم ".

ومن هنا انتقل كتاب الله إلى تقعيد قاعدة أساسية تستحق أن نقف عندها وقفة خاصة، إذ تعتبر هي المعيار الوحيد الذي حدده الشرع لتمييز الحلال من الحرام، وذلك قوله تعالى مخاطبا لنبيه وملقنا

ص: 209

إياه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وبموجب هذه الآية أعلن الحق سبحانه وتعالى أنه لم يحرم على خلقه شيئا من الطيبات، فقد أحلها لهم جميعا، وإنما حرم عليهم الخبائث، الخبائث بطبيعتها، والخبائث بآثارها، ومنها الفواحش، و " الفاحشة " هي ما يشتد قبحه من الذنوب كما عرفها الإمام الزجاج، سواء كان الذنب عبارة عن عقيدة فاسدة أو عن قول فاسد، أو عن عمل فاسد، فالعقيدة الفاسدة كأن يشرك الإنسان بالله غيره {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} ، والقول الفاسد كأن يتقول على الله ما لم يقل، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، والعمل الفاسد كأن يصلي بالمسجد أو يطوف بالكعبة وهو عريان، وإلى هذا أشارت الآية الكريمة من قبل في هذه السورة {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} وكأن يرتكب الإنسان فاحشة الزنى، أو فاحشة اللواط، أو يتزوج بزوجة أبيه، وإلى المثال الأول أشار قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} ، وإلى المثال الثاني أشار قوله تعالى في سورة النمل:{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} ، وإلى المثال الثالث أشار قوله تعالى في سورة النساء {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} .

ومن الثابت في الكتاب والسنة أن الطاعات التي يرضى عنها

ص: 210

الله ورسوله هي عبارة عن المعتقدات والأقوال والأعمال الصالحة، التي تتحقق عن طريقها سعادة الفرد، ورفاهية المجتمع، واستقرار الدولة، طبقا للتخطيط الإلهي الذي لا يختل، والتوجيه السماوي الذي لا يضل، وبعكس ذلك المعاصي والذنوب التي يحذر منها الله ورسوله، فهي تلتقي كلها في نقطة واحدة: فساد الفرد، وفساد المجتمع، وفساد الدولة، وما من معتقد أو قول أو فعل حرمه الله ورسوله إلا ويتبين عند تحليله وتعييره أنه عامل من عوامل الشقاء والفناء، ولو لم يتبين أثره إلا بعد مرور الأيام، إلا أن المعاصي والذنوب ليست على درجة واحدة، فمنها ما ضرره أقل، ومنها ما ضرره أكثر، ومنها ما ضرره قاصر على مرتكبه وحده، ومنها ما ضرره يقع على مرتكبه ويتعداه إلى الغير، ومن أجل ذلك كان في الذنوب ما هو من قبيل " الصغائر " وما هو من قبيل " الكبائر "، وقد أوضح الإمام الغزالي أنه ما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه، وصغير بالإضافة إلى ما فوقه. ومن اختيارات الإمام الحليمي: أنه ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تضم إليها، وتنقيب الكبيرة فاحشة بقرينة صغيرة، مثال ذلك: القبلة يفعلها الرجل مع غير أهله تعتبر من الصغائر، لكن إذا فعلها مع زوجة جاره أصبحت من الكبائر، لمضاعفة ذنب القبلة بهتك حرمة الجوار، ومثال آخر: إذا زنى الرجل بامرأة يكون قد ارتكب كبيرة، فإن زنى بزوجة جاره كان قد ارتكب فاحشة، وهي أعلى درجات الكبيرة، لمضاعفة ذنب الزنى بالاعتداء

ص: 211

على عرض الجار، ورد في الصحيحين من حديث عبد الله ابن مسعود أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم، فقال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك. وهكذا يكون ترتيب الذنوب والمعاصي حسب التدرج من الأدنى إلى الأعلى، صغائر، ثم كبائر، ثم فواحش.

ويشهد لوجود هذه الأصناف الثلاثة من الذنوب عدة آيات وردت في كتاب الله منها قوله تعالى في سورة الكهف: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} وقوله تعالى في سورة النجم في وصف المؤمنين {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} قال ابن كثير: وهذا استثناء منقطع، لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال.

وقوله تعالى هنا: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} بعد ذكر الفواحش وإعلان تحريمها بصفة عامة تنبيه إلى أن الإسلام لا يكتفي من معتنقيه بالشكليات والظواهر، ولا يرضى منهم بالنفاق، وإنما ينفذ إلى الأعماق والبواطن، فالنية الفاسدة والقصد السيئ والخلق المرذول الذي ينطوي عليه الشخص باطنا، والعمل القبيح الذي يتستر به عن الأعين، كل ذلك يعتبره الإسلام ذنبا ومعصية وفاحشة يؤاخذ بها المكلف، مثل ما يؤاخذ بالفواحش الظاهرة، والإسلام حريص على أن يكون الظاهر عنوان الباطن بالنسبة

ص: 212

للمسلم، لا أن يكون ظاهره مجرد واجهة براقة تخلب الأبصار، وتخدع الأغرار، وفي نفس هذا المعنى سبق قوله تعالى في سورة الأنعام:{وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وقوله تعالى في نفس السورة: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} .

وقوله تعالى هنا: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} نبه القاضي أبو بكر " ابن العربي " إلى أن ذكرهما بالاسم الخاص بعد دخولهما في الاسم العام - الفواحش - إنما هو لتأكيد أمرهما قصد الزجر عنهما، نظير قوله تعالى في آية أخرى:{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} فذكر النخل والرمان بعد دخولهما في الاسم العام - الفاكهة - للتنويه بهما في نفس المقام، " والإثم " عبارة عن الذم الوارد في الفعل، أو عبارة عن نفس الوعيد الذي يتناول الفعل، و " البغي " تجاوز الحد والتعدي على الغير، فكل فعل ذمه الشرع واستقبحه، أو ورد في شأنه الوعيد بالعقاب على لسان الشارع يعتبر فعلا محرما، وفسر بعضهم " الإثم " بأنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، و " البغي " بأنه الخطايا المتعدية منه إلى بقية الناس، وقوله تعالى هنا:{بِغَيْرِ الْحَقِّ} تنبيه إلى أن معيار البغي والظلم الذي يميزه عن غيره هو أن يكون عملا غير مستند إلى أي سند من الحق، لا أن البغي منه ما يكون بحق، ومنه ما يكون بغير حق، فذلك بعيد عن التصور. جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وروى الإمام أحمد بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أن رسول اله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا) ورواه

ص: 213

النسائي وابن ماجه من طريق سعيد ابن مسلم. وروى الطبراني بسنده إلى سعد ابن جنادة قال: (لما فرغ رسول الله صلى الله عيه وسلم من غزوة حنين نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا، من وجد عودا فليأت به، ومن وجد حطبا أو شيئا فليأت به. قال: فما كان إلا ساعة حتى جعلناه - أي ذلك القفر من الأرض - ركاما - أي متراكما بعضه فوق بعض. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذا، فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا، فليتق الله رجل، ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنها محصاة عليه).

ص: 214