الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الثامن عشر
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
تتناول حصة هذا اليوم الربع الثالث من الحزب الثامن عشر في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} إلى قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} .
ــ
في حديثنا الماضي ختمنا بعون الله وتوفيقه سورة الأعراف المكية، وكانت ثالث سورة مكية في ترتيب المصحف الكريم، علاوة على سورة الفاتحة وسورة الأنعام المكيتين أيضا، وانتقلنا من سورة الأعراف إلى سورة الأنفال المدنية التي نحن بصدد تفسيرها الآن، وهي خامس سورة مدنية في ترتيب المصحف الكريم، بالإضافة إلى سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، التي هي سور مدنية أيضا.
وسورة الأنفال نزلت بمناسبة غزوة بدر الكبرى، وكانت كما قال الإمام مالك " في سبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان " وذلك في السنة الثانية للهجرة، وغزوة بدر في الإسلام تمثل الجولة الأولى
من جولات الكفاح الإسلامي المظفر، لصد العدوان ورد الطغيان، وإنقاذ المستضعفين الذين كانوا يضطهدون بمكة من الرجال والنساء والولدان.
ومن أجل ذلك أطلق بعض الصحابة على سورة الأنفال اسم " سورة بدر ". قال القاضي أبو بكر " ابن العربي ": " إن السورة هي سورة بدر كلها، وكلها مدنية إلا سبع آيات، فإنها نزلت بمكة، وهي قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} إلى آخر الآيات السبع ".
وقد تضمنت سورة الأنفال أهم المبادئ الأساسية التي جاء بها الإسلام لتنظيم شؤون السلم والحرب، وتحديد عوامل النصر وأسباب الهزيمة، وتعيين واجبات المجاهدين في سبيل الله من جهة الإعداد والاستعداد، وتوضيح حقوقهم على الدولة الإسلامية التي يدافعون عن كيانها، وتبيين الطريقة التي يعامل بها أسرى الحرب، والطريقة التي تتبع في الغنائم. وبالإجمال فإن هذه السورة الكريمة وضعت الحجر الأساسي للسياسة الحربية العامة التي يجب أن يطبقها الإسلام كلما اضطر المسلمون إلى خوض غمار الحرب للدفاع عن أنفسهم، ولم يجدوا من خصومهم عدلا ولا استعدادا للسلام.
وسميت هذه السورة " سورة الأنفال " أخذا من مطلعها الخاص، حيث ابتدأت بقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} .
وكلمة الأنفال هنا تعني بالخصوص الغنائم التي غنمها المجاهدون في غزوة بدر، فقد كانت أول شيء من نوعه بالنسبة لكثير منهم، فبادر الوحي الإلهي إلى التصريح بما يرفع في شأنها كل غموض، ويرفع في أمرها كل نزاع، وأعلن كتاب الله أن الحكم الخاص بها موكول إلى الله ورسوله رأسا، لأن حكمهما لا يلحقه ميل ولا حيف ولا جور، ولم يكن الحكم فيها موكولا إلى اجتهاد المجاهدين أنفسهم، حذرا من أن يكون في حكمهم دخل لاعتبارات لا علاقة لها بالجهاد، وذلك معنى قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ثم جاء الحكم في شأنها مفصلا كما سيأتي في قوله تعالى في نفس السورة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} الآية.
ونبهت الآيات الكريمة إلى أن الحكمة الإلهية في جعل الحكم في الغنائم موكولا إلى الله ورسوله هو تنقية الجو من كل ما يؤدي إلى فساد ذات البين بين الإخوة المجاهدين، وحمايتهم من عوامل الشقاق والنزاع، إذ متى كان الحكم في أمر من الأمور صادرا عن الله ورسوله، فلن يسع المؤمنين أجمعين إلا طاعة حكمهما، والائتمار بأمرهما، ومن شأن المؤمن إذا ذكر الله أمامه أن يخشع ويلين، ويخضع لحكمه ويستكين، وذلك ما أشار إليه قوله تعالى بعد مطلع سورة الأنفال-آخر الربع الماضي-:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} -
أي زادتهم تصديقا- {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الآية.
وقوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} وردت في أوله كاف التشبيه: {كَمَا أَخْرَجَكَ} وقد اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف من ناحية الإعراب.
ومن أحسن ما ورد في ذلك ما قاله القاضي عبد الجبار: {هذا الجنس من الحذف ربما يعد في كمال الفصاحة، فبشر الله نبيه بالنصرة التامة وجميل العاقبة يوم بدر، كما سهل له الخروج من بيته} إلى آخر كلامه، وذلك رغما عن تثاقل بعض المؤمنين وترددهم في الخروج، طبقا لقوله تعالى في نفس السياق:{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} وإنما ثقل الخروج عليهم لقتال المشركين، لما فيه من المشقة الزائدة، على حد قوله تعالى في آية أخرى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . وليس المراد أنهم كرهوا الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك لا يتصور في شأن المؤمنين، خصوصا السابقين الأولين.
وقد نقلت دواوين السيرة وكتب الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغه خروج قريش لقتال المسلمين أخبر الناس واستشارهم، فكان مما قاله المقداد بن عمرو من المهاجرين- وهو الذي اشتهر بالمقداد ابن الأسود-:" يا رسول الله امض لما أمرك الله به فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا وإنا معكما مقاتلون ".
ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أشيروا علي أيها الناس) وكان يريد أن يعرف رأي الأنصار بعدما عرف رأي المهاجرين، ويتخوف أن يكون رأيهم هو التعهد بنصرته ممن دهمه بالمدينة، لا بنصرته ممن هاجمه خارجها، فقال له سعد بن معاذ:" والله لكأنك تريدنا يا رسول الله. قال: أجل. فقال سعد باسم الأنصار: " فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، إنا لصبر عند الحرب، جمع " صبور " صدق عند اللقاء " جمع صدوق " فسر على بركة الله ". فسر رسول الله صلى اله عليه وسلم بقول سعد وقال للمسلمين:(سيروا على بركة الله وأبشروا. والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم).
وقوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} المراد بغير ذات الشوكة " طائفة العير " التي انتظر البعض أن تقع في أيديهم دون قتال، " وذات الشوكة " هي طائفة النفير من مشركي قريش، التي استنفرها أبو سفيان فجاءت لقتال المسلمين، وكان عددها يتجاوز ألف مقاتل، بينما كان عدد المجاهدين " البدريين " ثلاثة عشر مقاتلا وثلاثمائة مقاتل لا غير، كما حققه القاضي أبو بكر " ابن العربي "، وبسبب ذلك تخوف بعض المسلمين أن ترجح عليهم كفة المشركين.
ثم بين كتاب الله أن الحكمة من وراء غزوة بدر ليست هي القيام بمناوشة عادية، أو تحقيق مكسب رخيص، وإنما هي مقدمة كبرى لأمر كبير، وشأن خطير، هو انتصار الإسلام على الشرك داخل جزيرة العرب، وظهوره على الملل الباطلة والأديان المنحرفة في
جميع أطراف العالم: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} .
وقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية، إشارة إلى ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر عندما نظر إلى أصحابه في المعركة وهم قلة قليلة، ونظر إلى المشركين الذين جاؤوا بعصبة كبيرة، فاستقبل صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم أخذ يقول، (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا). فما زال صلى الله عليه وسلم يستغيث ربه ويدعوه دعاء المضطر حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر وناوله رداءه فارتداه، ثم التزمه أبو بكر من ورائه. وقال:" يا نبي الله: كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك وعدك ". فلم يلبث صلى الله عليه وسلم إلا قليلا حتى أمد الله المسلمين بمدد من عنده، ونزلت السكينة في قلوب المؤمنين، وحلت البشرى وجاء النصر السريع من عند الله؛ وبذلك تحققت الاستجابة، بعد الإنابة.
وهذا تنبيه من كتاب الله إلى أن الرجوع إلى الله واستمداد عونه ونصره في مثل هذه المواقف- مواقف الدفاع عن الإسلام والتضحية في سبيله بالنفس والنفيس- أمر لا غنى عنه في كسب المعارك لمن يريد النصر ويسعى إليه. ومن أجل ذلك سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السنة: سنة الاستغاثة بالله والاستنصار بقوته، رجاء إمداده وإعانته، إذ لا غنى عنهما في سلم أو حرب، لقوي أو ضعيف.
وإلى هذه المعاني يشير قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي
مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} -أي متتابعين-: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، وقوله تعالى:{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وقوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} أي ليعرف المؤمنين نعمته عليهم بإظهارهم على عدوهم، رغما عن كثرته وقلتهم:{ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} .
ونبه كتاب الله إلى أن سر النجاح في مثل هذه المواقف، أو مفتاح النصر فيها ليس في كثرة العدد والعدد بقدر ما هو كامن في الإيمان الصادق، والتضحية المثالية، وروح الفداء الخالصة لوجه الله التي يتشبع بها المسلمون، فالعبرة في نظر الإسلام بالكيف قبل الكم، وذلك ما يقتضيه قوله تعالى:{وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ} .
وقوله تعالى عقب ذلك: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} تعهد من الله تعالى بإعانة أهل الإيمان الحق، وبنصرتهم على غيرهم ولو كانوا ثلة قليلة، ما تمسكوا بإيمانهم وثبتوا على دينهم، وكانت صلتهم بالله موصولة غير مقطوعة.
واهتمت الآيات الكريمة اهتماما خاصا بجريمة الفرار من الصف، مما يمكن أن يحدث في مثل هذه الظروف، وهي الجريمة
التي يطلق عليها في الشريعة اسم " الفرار من الزحف " فمن ارتكبها وقع في الحرام، واستحق العقوبة المغلظة عليها من " الإمام "، اللهم إلا إذا كان مقصوده من هذا العمل مكيدة العدو، فيظن أن الذي تظاهر بالفرار قد خاف منه ويتبعه، وإذا به ينقض عليه ويقتله، أو كان مقصوده الانتقال إلى صف آخر من صفوف المجاهدين في المعركة، بغية إعانتهم على العدو الغادر، وذلك ما يفصله قوله تعالى في أثناء هذا الربع:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} {يَوْمَئِذٍ} أي يوم الزحف أيا كان ذلك اليوم، بما يشمل يوم بدر أو غيره من أيام الإسلام، على مدى العصور ومرور الأيام، {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} والتحرف للقتال هو أن يظهر الفرار وهو يريد الرجوع، مكيدة للعدو، حتى يقع العدو في الفخ بسهولة، {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} والتحيز إلى فئة هو أن ينتقل من مكانه الأول إلى موقع جديد في المعركة، وهو يريد إعانة الفئة المشتبكة فيه مع العدو. أما من ولى دبره وفر من الزحف وهو لا ينوي إلا مجرد الإدبار والفرار، دون أن يهتم بما يقع للمسلمين وراءه من هزيمة وانكسار:{فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قيل يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).