الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الثالث عشر
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نعالج الربع الثالث من الحزب الثالث عشر في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} ونهايته قوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
ــ
في هذا الربع، من كتاب الله نجمع بين آخر ثمن من سورة المائدة وأول ثمن من سورة الأنعام، وبذلك نكون قد اختتمنا سورة وابتدأنا أخرى، مستعينين بالله ومعتمدين عليه.
والحديث في الثمن الأخير من سورة المائدة يتعلق بعيسى ابن مريم عليه السلام والحواريين الذين آمنوا به وصدقوه. وقصة المائدة التي طلبوها، والحوار الذي دار بينهم وبين عيسى في شأنها، كما يتناول وصف الكيفية التي يكون عليها سؤال الحق سبحانه وتعالى يوم القيامة لعيسى عن موقف المسيحيين الذين غالوا في تعظيمه حتى رفعوه إلى درجة الألوهية، فأشركوا بالله الواحد الأحد، ثم وصف الجواب الذي يجيب به عيسى ابن مريم ربه، متبرئا
من المنتسبين إليه زورا وبهتانا، والغالبين في حقه ظلما وعدوانا.
فقوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} الذي نبتدئ به ربع هذا اليوم هو وارد في سياق آيات أخرى سبقت في نهاية الربع الماضي، وهو تابع لها ومرتبط بها في المعنى كل الارتباط، فقد سبقها قوله تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} .
والمقام في هذه الآيات مقام استعراض عام أمام الله وبين يديه لجميع الرسل الذين أرسلهم الحق سبحانه وتعالى إلى خلقه، من أولهم إلى آخرهم، واستجوابهم أمام الجناب الإلهي الأقدس، ماذا كان موقف أممهم من الرسالات التي أرسلهم بها، وماذا كان جواب أممهم عنها؟
وفي وسط هذا الاستعراض الضخم لموكب الرسل الكرام جميعا يقف كتاب الله خاصة عند سؤال عيسى ابن مريم وجوابه، ويصف الحق سبحانه وتعالى له بشيء من التفصيل، وفي أسلوب من الحوار، فقد اختلط أمر عيسى ابن مريم
على من يدعون أتباعه اختلاطا كبيرا، وقد ارتبك في شأنه عدد غير قليل من البشر، وفي هذا السياق يذكر الله رسوله عيسى ابن مريم بالمعجزات التي أيده بها {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} ويعدها عدا، مؤكدا أنها كلها إنما كانت معجزات من عند الله ومن صنعه وبإذنه، لا من وضع عيسى ولا بقوته وقدرته {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} - {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} - {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} - {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} - {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ} - {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} - وهكذا وردت هذه الآية الأخيرة في معرض تذكير الله لعيسى بن مريم بنعمه التي أنعم بها عليه، تمهيدا لاستجوابه واستفساره عن الغلو في تعظيمه، وتأليهه من طرف المنتسبين إليه، وموقفه من ذلك الغلو.
والنعمة التي يمتن الله بها على عيسى ابن مريم في قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} هي نعمة ما أكرمه الله به من الأصحاب والأنصار، إعانة له على تبليغ الرسالة، وأداء الأمانة، فقد ألهم الله الحواريين المعرفة بصدق رسالته، وألقى في قلوبهم بذور محبته، وهداهم إلى الإيمان بالله بواسطته، و {الوحي} إلى الحواريين في هذا المقام، لا يتجاوز أن يكون وحي (الإلهام)، على غرار ما جاء في قوله تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} الآية. ثم بين كتاب الله كيف استجاب الحواريون لدعوة عيسى ابن مريم، وكيف آمنوا وشهدوا
على أنفسهم بعقيدة الإسلام، التي جاء بها كافة الرسل من عند الله.
وانتقل بعد ذلك إلى تفصيل قصة المائدة، التي طلب الحواريون من عيسى ابن مريم أن يسألها لهم من الله، وبها سميت هذه السورة (سورة المائدة).
وبين كتاب الله تحرج عيسى ابن مريم من هذا الطلب، ثم إصرار الحواريين على رجائهم {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} .
وأمام إلحاح الحواريين لم يسع عيسى ابن مريم إلا أن يسأل ربه إنزال المائدة {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} فاستجاب الله دعاء رسوله عيسى ابن مريم {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} ولكن الحق سبحانه وتعالى حذر من الكفر بعد ذلك، وأنذر من كفر بعد نزول المائدة بعذاب لا مثيل له {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} .
وبعد الانتهاء من تعداد النعم التي أنعم الله بها على عيسى ابن مريم ينتقل كتاب الله إلى محور الموضوع، وهو وصف الاستجواب الإلهي لعيسى ابن مريم أمام مجمع الرسل يوم القيامة، ووصف جواب عيسى لربه عن نفس السؤال، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فأجاب عيسى ربه منزها مقام الربوبية، ومتبرئا من أتباعه المحرفين المغالبين {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} .
ثم يتفصى عيسى ابن مريم أمام الحق سبحانه وتعالى من كل مسؤولية يمكن إلقاؤها عليه من جراء ادعاءات المسيحيين إلا ما شاهده عيانا وهو لا يزال بين أظهرهم. أما بعد أن توفاه الله ورفعه إليه فإنه لم يعد يعرف عنهم شيئا. نعم بقيت رقابة الله عليهم مبسوطة، فهو الذي يعلم حقيقة أحوالهم، وهو سبحانه الشهيد على جميع عباده وعلى كل شيء من أعمالهم، {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
وأخيرا سجل كتاب الله إذعان عيسى ابن مريم لمشيئة الله إذعانا كليا، ورضاه بحكمه الفاصل في شأن الأباطيل والضلالات التي روجها المسيحيون واعتقدوها من بعده، ولم يتجرأ على الشفاعة الصريحة فيهم لعظم جرمهم، واقتصر على مخاطبة الحق سبحانه وتعالى بقوله:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
وبعدما تحدث كتاب الله عن الاستعراض الإلهي لموكب
الرسل واستفسارهم عامة، واستفسار عيسى ابن مريم خاصة عقب على ذلك بما يعتبره خلاصة الموقف والحكم النهائي، قائلا:{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومعنى ذلك أن يوم القيامة يوم مجموع له الناس، تجمع فيه كافة الخلائق، وتنكشف فيه كل الحقائق، فلا مكان فيه للتدجيل والتضليل، ولا مجال فيه للتزييف والتحريف، والفوز فيه إنما هو لمن صدق الله، والتزم طاعته ورضاه.
ومن هنا ننتقل إلى (سورة الأنعام) وهي في طليعة سور القرآن الكريم التي نزلت بمكة قبل الهجرة، بل إن ما نزل من القرآن بمكة متأخرا عنها يعتبر مبنيا عليها في نظر المحققين من علماء الشريعة، نظير (سورة البقرة) التي يعتبر ما نزل من القرآن الكريم بالمدينة بعدها مبنيا عليها أيضا.
وكما أن "سورة البقرة" هي الركيزة الأولى للشريعة الإسلامية، فإن "سورة الأنعام" هي الركيزة الأولى للعقيده الإسلامية، ومنها استخراج العلماء قواعد التوحيد وأصول الدين، على حد ما قاله الشاطبي في "الموافقات".
وقد أطلق عليها اسم سورة (الأنعام) والله أعلم، لما ورد فيها من الآيات الكريمة التي تحدد موقف الإسلام من الأنعام، وتندد بموقف الشرك والمشركين منها، وذلك مثل قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا
لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ومثل قوله تعالى: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} مثل قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} .
وقد تناول كتاب الله في الثمن الأول من سورة الأنعام- وهو الذي يدخل في حصة اليوم- توضيح العقيدة الإسلامية فيما يخص الكون والمكون، والخلق والخالق، {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} كما تناول الحديث فيه موقف المشركين والكافرين من عقيدة التوحيد، وإصرارهم على الإعراض عنها والتكذيب بها {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} . ووصف كتاب الله في هذا السياق أنواع العناد وأساليب الجدل التي لجأ إليها خصوم العقيدة الإسلامية {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} وأخيرا أكد الحق سبحانه وتعالى ما ينتظرهم في النهاية من الوقوف بين يديه، وما ينالهم من خسران وبوار {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .