الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الرابع عشر
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
نتناول في حصة هذا اليوم الربع الثالث من الحزب الرابع عشر في الصحف الكريم، وأول آية منه قوله تعالى:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} وآخر آية فيه قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .
ــ
تناولت الآيات الكريمة الواردة في آخر الربع الماضي قصة إبراهيم الخليل عليه السلام وكيف هداه الله عن طريق الفطرة السليمة التي فطره عليها إلى الدلائل القاطعة على عقيدة الوحدانية، وبطلان الشرك والوثنية، وكيف أخذ يندد في قرارة نفسه بمعبودات قومه واحدا بعد الآخر، وكيف وجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفا {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} .
وفي بداية هذا الربع، تشير الآيات الكريمة إلى المرحلة التالية التي تبعت تلك المرحلة الأولى، فمن مرحلة التفكر والتأمل والنظر المجرد، التي تحدثت عنها الآيات السابقة، ينتقل إبراهيم الخليل إلى مرحلة المناظرة والمجادلة عن الحق، فيما بينه وبين قومه، وهذه المرحلة هي موضوع الآيات الأولى من ربعنا اليوم {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} .
ونظرا لما أكرم الله به إبراهيم الخليل، إذ جعله {مِنَ الْمُوقِنِينَ} لا من الشاكين ولا من المترددين، فإن جوابه لقومه كان يحمل كل معاني الاستغراب من موقفهم، وكل علامات الرفض لدعاواهم، وهذا ما يفسر قوله الصادر عن إيمان كامل، واطمئنان تام {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} فهل من العقل السليم أن يهتدي الإنسان، ثم يترك الهدى لينغمس في الضلال؟
وتمضي الآيات الكريمة في نفس السياق، لتشير إلى أن قوم إبراهيم أخذوا يخوفونه من غضب معبوداتهم ومن انتقامها، على غرار ما قالته عاد لنبيها هود {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} فما كان من إبراهيم الخليل إلا أن أعلن بلهجة المؤمن بربه، الواثق بحمايته من أذى الشيطان وحزبه، أنه لا يخاف معبوداتهم في قليل ولا كثير، لأن معبوداتهم لا تضر ولا تنفع، ولا تعي ولا تسمع، {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} على غرار ما قاله هود لقومه عاد {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} ، وإنما يخاف إبراهيم ربه وحده دون سواه، فهو الذي لا يفلت من قبضته شيء، ولا
يغيب عن علمه شيء {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} .
ثم يوجه إبراهيم الخليل إلى قومه سؤالا يفحمهم ولا يجدون عنه أي جواب مقنع، إذ يتساءل أمامهم من هو الذي يجدر به الخوف والفزع؟ هل الذي يعبد المعبودات السخيفة ويشركها بالله، وهي مثال العجز والضعف والجهل، أم الذي يعبد الله فاطر السماوات والأرض، القادر على كل شيء والعالم بكل شيء، دون أن يشرك به شيئا؟
من الذي يلزمه أن يخاف ويتردد؟ هل الذي لا يملك أدنى حجة يستند إليها في عبادة الأوثان والأصنام، أم الذي يملك كل الحجج على وحدانية الله الواحد الأحد، وألوهية الفرد الصمد؟
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه الواحد
ويستخلص إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام نتيجة حواره لقومه وإفحامه لهم متسائلا: أي الفريقين أحق بالأمن وأيهما أحق بالخوف؟ هل الفريق الذي يستند إلى ركن الإيمان الركين، وحصن اليقين الحصين، أم الفريق الذي يستند إلى الفراغ، ويملأ قلبه وعقله بالفراغ، هل الفريق الذي يسير في وئام وانسجام مع تعاليم الله وأوامره المطابقة لنواميسه الثابتة في الكون، فلا يصطدم معها في شيء، أم الفريق الذي يتنكر لنواميس الكون وتعاليم المكون، فيصطدم في طريقه وسلوكه بكل شيء وفي كل لحظة، ويعيش في
حرب مستعرة تدور رحاها فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين ربه؟ فهو في صراع لا يفتر، واضطراب لا يقف، وحيرة لا تنتهي {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
ويأتي الجواب المنطقي الصريح والوحيد، مضمنا في قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فمن آمن بالله إيمانا كاملا وأسلم وجهه لله إسلاما تاما، ولم يشرك بالله غيره، لا في عبادته ولا في محبته، ولا في رجائه وخوفه، واستند إلى ركن الإيمان بالله الركين، وحصن اليقين في الله الحصين، تعهد الله له بالأمن والهداية في الدنيا والآخرة، وجعله من الآمنين والمهتدين، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} ومن أشرك بالله غيره في عبادة، أو محبة، أو رجاء أو خوف، أو تعلق بأي وجه من الوجوه، كان قلق النفس، مضطرب البال، ولم يزل طيلة حياته متعثر الخطى، أسيرا للوساوس، غريقا في الأوحال.
جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا يستفسرونه قائلين: (وأينا لم يظلم نفسه؟) إذ فهموا من كلمة " ظلم " مجرد ظلم النفس ولو بارتكاب الصغائر، فنبههم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن معنى هذه الآية يؤخذ من آية أخرى تفسرها أحسن تفسير، وهي قوله تعالى في سورة لقمان، {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وبذلك يكون معنى
{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} : أي لم يخلطوا إيمانهم بشرك).
وبعدما أفحم إبراهيم الخليل قومه وغلبهم في معرض الحجاج عن عقيدة التوحيد التي لا عقيدة تعدلها قوة وصحة، ووضوحا وبساطة، عقب كتاب الله على ذلك بقوله {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} .
ويتولى كتاب الله وصف الحالة الأليمة التي يكون عليها المشركون وهم في غمرات الموت وسكراتها، من الاضطراب والحيرة والخيبة والذعر والفزع، وما يسلطه عليهم الملائكة الموكلون بهم من ألوان التعذيب ساعة الاحتضار، وما يطالبونهم به من القيام بإخراج أرواحهم بأنفسهم، بعد أن تأبى أرواحهم مفارقة أجسادهم من تلقاء نفسها، وذلك قوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} ، نظير قوله تعالى في سورة محمد {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} الآية.
ثم ينطق كتاب الله بتقريع المشركين الظالمين، وتوبيخهم على ما ارتكبوه في حق الله بشركهم، من الظلم العظيم، مبينا أن إهانة الله لهم هي خير جزاء يجازيهم به على تكبرهم، وذلك قوله تعالى:{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} .
وأخيرا يتوجه الخطاب الإلهي إليهم، مسجلا عليهم أنهم رغما
عما كانوا يعتمدون عليه من الشفعاء والأنصار، فقد عادوا إلى الله كما خلقهم أول مرة، عزلا وفرادى دون مال ولا متاع، ولا أهل ولا أولاد ولا نفوذ ولا جاه، ولا رفقاء ولا شفعاء، فلا شفيع معهم من أولئك الشفعاء المرموقين الذين زعموا أن لهم فيهم حظا مع الله، وإذن فهم في منتهى الفقر، وفي منتهى العزلة، وفي منتهى الخيبة، موكلون إلى أنفسهم، قد انقطع بينهم وبين الناس كل حبل، وانفصمت كل رابطة تربطهم بالآخرين، وليست أمامهم إلا حقيقة الحقائق، وهم وحدهم في مواجهة الحق الأكبر الذي لا حق دونه، ولا حق فوقه، وذلك قوله تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .