الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب الرابع عشر
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حديث هذا اليوم يستوعب الربع الأخير من الحزب الرابع عشر في المصحف الكريم، ويبتدىء بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} وينتهي بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
ــ
في هذا الربع، تتناول مجموعة من الآيات الكريمة استعراض جملة من آيات القدرة الإلهية وأثار الحكمة الربانية في الخلق والإيجاد، والتدبير والإمداد، فمن فلق للحب والنوى، ومن إخراج الحي من الميت والميت من الحي، ومن إبراز آية النور ومحوها لآية الظلام، ومن تسيير للشمس والقمر بحسبان، ومن تزيين للسماء بالنجوم، ونصبها علامات للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، ومن إنشاء للنفس البشرية ولكل ما تفرع عنها من مختلف الأجناس والأنواع، ومن إنزال للماء وما ينبت به من مختلف الألوان والأشكال والطعوم.
وتتناول مجموعة ثانية من آيات هذا الربع الحديث عن عقائد المشركين، وما نسبوه إلى الحق سبحانه وتعالى من بنين وبنات، وما
أشركوه به من الجن، وما أقسموا به من الأيمان الكاذبة، على أنهم مستعدون للإيمان بالله، إذا نزلت عليهم بالخصوص آية تكون من خوارق العادات، نظير ما سبق نزوله على الأمم السالفة في عهد الأنبياء السابقين، كما تتناول نفس الآيات ما ينبغي أن يكون عليه موقف المؤمنين والمشركين في المعاملة والمجادلة، وكيف ينبغي أن يكون موقف الرسول صلى الله عليه وسلم منهم بالأخص.
وتتناول مجموعة ثالثة من آيات هذا الربع عرض جزء مهم من صفات الله العليا وأسمائه الحسنى، تثبيتا لحقيقة الألوهية في النفوس، وتركيزا لها في القلوب.
فمن المجموعة الأولى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} وهو يتضمن الإشارة إلى سر الحياة الذي يسري في البذرة والنواة، والذي لا يعلم مصدره إلا الله، ولا يدرك كنهه سواه، على غرار قوله تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} الآية. ومنها قوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} وهو يتضمن الإشارة إلى توزيع الحياة اليومية بين الليل البهيم المناسب للسكون، والنهار المشرق الملائم للحركة {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} كما يتضمن الإشارة إلى أسباب هذا التوزيع وحكمته، وإلى آثاره العميقة في حياة الإنسان والحيوان والنبات.
ومنها قوله تعالى {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} وهو يتضمن الإشارة إلى ما تسير عليه الشمس ويسير عليه القمر في حركتهما وتنقلاتهما ودورانهما من نظام مرسوم، وحساب مقنن مقدر معلوم،
لا يتغير ولا يضطرب {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} - {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .
ومنها قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وهو يتضمن الإشارة إلى مواقع النجوم في السماء، وكيف يهتدي الناس بواسطتها في غمرات البحر وسط الغيوم المتلبدة، والسحب الكثيفة، وفي متاهات البر داخل الصحارى وفي جوف الأدغال، وسط الزوابع والأعاصير.
ومنها قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} وهو يتضمن الإشارة إلى نشأة النفس البشرية عن أصل واحد، ثم تفرعها إلى ذكر وأنثى، ثم إلى أجناس وألوان ولغات، " فمستقر " في أرحام النساء و " مستودع " في أصلاب الرجال، وما تشتمل عليه هذه النشأة من عجائب وحكم، في بدايتها وفي تسلسلها وفي تنوعها {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} .
ومنها قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} وهو يتضمن الإشارة إلى أن ماء المطر، رغما عن كونه واحدا في طبيعته، متماثلا في تركيبه وماهيته، ينشأ عنه، بإذن الله وتسخيره، ما لا يحصى من أصناف النباتات التي يعيش عليها الإنسان والحيوان، مع اختلاف الأحجام والطعوم والألوان، {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا
وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} - {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وفي هذا المعنى ورد أيضا قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
وأقل تفكير في هذه العطايا الإلهية، والهبات الربانية المتوالية، يبعث الإنسان على الإيمان بالله والاعتراف بربوبيته، ويدفعه إلى محبته وطاعته، فالإنسان في كل حركة من حركاته، أو سكنة من سكناته، إنما يتقلب في نعمة الله الوافرة، وفي رحمته الواسعة، ولو وكل إلى نفسه لحظة واحدة، بل لو حرم من إمداد الحق ثانية واحدة، لذهب في خبر كان، ولم يبق منه عين ولا أثر.
أما المجموعة الثانية في هذا الربع، وهي الآيات التي يدور الحديث فيها عن التنديد بالشرك والمشركين، فمنها قوله تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} وهو يتضمن الإشارة إلى ما كان شائعا بين مشركي العرب من الاعتقاد في تأثير الجن، وفي أن لهم القدرة على الضر والنفع بواسطة الكهان والأصنام والأوثان، وها هنا تستغرب الآية أن يكون الجن شركاء لله وأندادا له، وهم لا يزيدون عن أن يكونوا من جملة عباده المخلوقين المقهورين، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} .
ومنها قوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وهو يتضمن الإشارة إلى عقيدة وثنية أخرى اختلقها المشركون، وتابعهم
عليها بعض أهل الكتاب، ألا وهي نسبة البنين والبنات إلى الحق سبحانه وتعالى الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد، كقول المشركين " الملائكة بنات الله " وقول اليهود " عزيز ابن الله " وقول النصارى:" المسيح ابن الله "{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
ومنها قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} . وهو يتضمن الإشارة إلى أدب الدعوة في الإسلام، وأن المشركين بالرغم من سفاهة عقولهم وفساد عقائدهم لا ينبغي للمسلمين أن يوجهوا السب واللعن إلى معبوداتهم الباطلة، إذ لها من الحرمة في نفوس المشركين والقداسة في معتقداتهم ما قد يحملهم على مقابلة السب بمثله، واللعنة بأختها، وبذلك يكون المسلمون قد تسببوا في تجرؤ المشركين على مقام الله الأقدس، وجنابه الأعلى.
قال القاضي أبو بكر " ابن العربي ": " اتفق العلماء على أن معنى هذه الآية: لا تسبوا آلهة الكفار فيسبوا إلهكم، وكذلك هو. فإن السب في غير الحجة فعل الأدنياء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الرجل الذي يسب والديه. قيل يا رسول الله: وكيف يسب والديه. قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه). فمنع الله في كتابه أحدا أن يفعل فعلا جائزا يؤدي إلى محظور، ولأجل هذا تعلق علماؤنا بهذه الآية في " سد الذرائع "، وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصل به إلى محظور.
وأما المجموعة الثالثة في هذا الربع، وهي الآيات التي تتناول صفات الله العليا وأسمائه الحسنى، فمنها قوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي مبدعها على غير مثال، لا سابق ولا لاحق، وقوله تعالى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} أي أنه سبحانه وتعالى لا تحيط به أبصار الخلائق، وأن أكرم الصالحين من عباده بالنظر إليه، مصدقا لقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . لكنهم بمقتضى طبيعتهم أعجز من أن يحيطوا بحقيقة الخالق وعظمته وجلاله، فكم من مرئيات من جنس المخلوقات يراها الإنسان بعيني رأسه ولكنه بالرغم عن رؤيته لها يعجز عن إدراك حقيقتها وكنهها، ولا يحيط بها إحاطة تامة، فما بالك بالخالق سبحانه وتعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} .