المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الأخير من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٢

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌الربع الأول من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المائدة

- ‌الربع الثاني من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني عشرمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثانيفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني عشرفى المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث عشرمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأنعام

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس عشرفي المصحف (ق)

- ‌ سورة الأعراف

- ‌الربع الأول من الحزب السادس عشرفي المصحف (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأنفال

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة التوبة

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الأخير من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الأخير من الحزب العشرين

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

في حصة هذا اليوم نتناول الربع الأخير من الحزب العشرين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} إلى قوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} .

ــ

في بداية هذا الربع، واصل كتاب الله حديثه عن المنافقين وأصنافهم وأوصافهم، فوصفهم بخيانة العهود وإخلاف الوعود، لا مع مطلق الناس، ولكن حتى مع الله تعالى، ومن أمثلة ذلك تعهدهم أمام الله بأنه إن أغناهم تصدقوا وأحسنوا وسلكوا مسلك الصالحين من أهل الإيمان، في عمل البر والإحسان، لكنهم بمجرد ما أدركوا المنى، ونالوا الغنى، طغوا واستكبروا، وكفروا وما شكروا، مصداقا لقوله تعالى في الربع الماضي:{وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} واستولى عليهم الشح والبخل كل

ص: 413

الاستيلاء، كأنما لم يسبق منهم أي عهد أو التزام أمام الله بالإحسان والعطاء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} وهذه الآية الكريمة تشبه في مغزاها آية أخرى سبقت في سورة الأعراف المكية، وهي قوله تعالى:{فَلَمَّا أَثْقَلَتْ- أي حملت حملا ثقيلا - دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} الآية.

ولتمام الفائدة في هذا الصدد ينبغي التنبيه إلى أن " البخل " يستعمل في الكتاب والسنة للدلالة على التقصير في أداء ما هو واجب، بينما " الشح " يستعمل للدلالة على الإخلال بأداء ما هو مستحب، كما حرره ابن العربي المعافري.

وبين كتاب الله ما تعرض له المنافقون من سوء العاقبة بمثل هذا التصرف اللعين، فقد زاد نفاقهم بسببه حدة وشدة، إذ السيئة تشجع على أختها، والمعصية الصغيرة تدفع إلى ما هو أكبر منها، " فالمعاصي بريد الكفر " كما ورد في الأثر. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي فأعقبهم بخلهم نفاقا راسخا في قلوبهم، لازما لهم إلى يوم الدين، يوم يلقون جزاء نفاقهم، حيث يعرضون على الله للحساب والعقاب، {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} أي أن ذلك بسب إخلافهم للوعد، وخيانتهم للعهد {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي وبسب كذبهم فيما تحدثوا به والتزموه، إذ كانوا منطوين على سوء النية من أول وهلة،

ص: 414

فالمنافق في الوقت الذي يتحدث فيه إلى غيره يكون واثقا بأنه كاذب فيما يقول، وفي الوقت الذي يعد فيه غيره يكون مصمما على أن لا يفي بالوعد {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ، وإنما آتاهم الله من فضله ووسع عليهم الرزق - وهو يعلم السر والنجوى - ليبلوهم وينظر كيف يعملون أولا، وليظهر حقيقة حالهم للناس ثانيا، حتى يكونوا على بينة من نفاقهم الراسخ، ومعرفة بمرض قلبهم المزمن، على حد قوله تعالى في آية أخرى:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .

ومما يحسن التنبيه إليه في هذا المقام أن ما استنكرته هذه الآية الكريمة ووصفت به المنافقين من إخلاف الوعد: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} ومن الكذب في الحديث: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} هو نفس ما أكده الحديث النبوي الشريف المروي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان). وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).

ومن الأمثلة التي تندرج تحت هذه الآية قصة ثعلبة بن حاطب، وينسبها بعضهم إلى غيره، فقد جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الدعاء له بالمال قائلا: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه) فقال له ثعلبة: (والذي بعثك

ص: 415

بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه) فلم يسع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اليمين التي حلفها ثعلبة، والتزامه بأداء الحقوق اللازمة عليه في المال، إلى أن دعا له وقال:(اللهم ارزق ثعلبة مالا) ولم يلبث ثعلبة أن اتخذ غنما، فنمت كما ينمي الدود، وضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، فنزل واديا من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما، ثم نمت غنمه وكثرت، فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي كما ينمي الدود حتى ترك الجمعة، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة، ليسألهم عن الأخبار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ماذا فعل ثعلبة): فقالوا يا رسول الله: (اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة) فأخبروه بأمره، فقال رسول الله:(يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة) ثلاثا. وكما يقال: " نما ينمو " يقال " نمى ينمي " كما جاء في هذه الرواية، فهو من صيغ الأفعال التي جاءت " واوية " و " يائية ".

ولما نزلت فرائض الصدقة - وهي الزكاة - بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة من المسلمين، رجلا من جهينة، ورجلا من بني سليم، وكتب لهما كتابا في حدود الصدقة وما يأخذان من المسلمين، وقال لهما:(مرا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما) فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:(ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي). فانطلقا، وسمع بهما زميله السلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بها، فلما رأوها قالوا: (ما يجب عليك هذا، وما نريد أن

ص: 416

نأخذ هذا منك) فقال: (بلى فخذوها، فإن نفسي بذلك طيبة، وإنما هي له) فأخذاها منه، ومرا على الناس فأخذوا منهم الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال:(أروني كتابكما) فأعطياه الكتاب فقرأه، فقال مرة ثانية:(ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، فانطلقا عني حتى أرى رأيي) فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآهما قال لهما قبل أن يكلماه:(يا ويح ثعلبة) فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي، فدعا للسلمي بالبركة، فأنزل الله عز وجل:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} الآية، وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فخرج حتى أتاه وأخبره الخبر، ولما بلغ ثعلبة ما نزل من القرآن في شأنه وشأن أمثاله أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله أن يقبل صدقته، فقال له رسول الله:{إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك} فقام ثعلبة وأخذ يحثو التراب على رأسه، ولما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل صدقته رجع ثعلبة إلى منزله حزينا كئيبا، ثم انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وهو مقاطع لصدقته دون أن يقبل منها شيئا.

ولما استخلف أبو بكر أتى إليه ثعلبة، وسأله أن يقبل صدقته، فقال له أبو بكر:" لم يقبلها منك رسول الله فكيف أقبلها؟ " وأبى أن يقبلها منه، إلى أن توفي أبو بكر، وهو مقاطع لصدقة ثعلبة، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولما استخلف عمر جاءه ثعلبة يقول: " يا أمير المؤمنين، إقبل صدقتي " فقال له عمر: " لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر، وأنا أقبلها منك؟ " وتوفي عمر وهو مقاطع لصدقته أيضا دون أن يقبل

ص: 417

منها شيئا، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبخليفته الأول أبي بكر الصديق.

ولما استخلف عثمان جاءه يقول: " أقبل صدقتي " فقال له عثمان: " لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك؟ " فلم يقبلها منه وقاطعها أيضا، اقتداء برسول الله وخليفتيه أبي بكر وعمر، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان وهو محروم كل الحرمان من قبول صدقته، دون بقية الناس، وكان ذلك الموقف الصارم من طرف رسول الله وخلفائه من بعده تعزيرا وتأديبا لثعلبة وأمثاله في جميع العصور، وسنة حسنة يعمل بها من يريد الاقتداء برسول الله وخلفائه، في مقاطعة أولئك الذين يعاهدون ثم لا يوفون بالعهود، ونبذ أولئك الذين يعدون ثم يخلفون الوعود.

وقد نبه القاضي أبو بكر " ابن العربي " عند تفسير هذه الآية: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} " إلى أنه لما حيل بينهم وبين التوبة، ووقع التصريح بنفاقهم وكفرهم لم تقبل صدقاتهم "، ولذلك لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلمه عليه الصلاة والسلام بسريرة ثعلبة، واطلاعه على بنيات صدره " - يقال " بنيات الطريق " للطرق الصغيرة المتشبعة من الجادة -.

وإذا كان المنافقون يتجرؤون على لمز أشرف الخلق، والطعن في تصرفات خاتم النبيئين والمرسلين كما سبقت الإشارة لذلك في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ

ص: 418

لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} فإنهم سيكونون أشد جرأة وأكثر لمزا لمن دونه من المؤمنين، وفعلا فقد كان المنافقون ينتهزون كل فرصة للمز المؤمنين والطعن فيهم، فإذا جاء المؤمنون إلى رسول الله بعطاء جزيل لمزوهم وقالوا:" إنه عطاء مقصود به الرياء والسمعة "، وإذا جاء المؤمنون بعطاء يسير استهزءوا بذلك العطاء وقالوا:" إن الله لغني عن صدقة هؤلاء " بحيث لا يسلم من لمزهم وطعنهم واستهزائهم أحد، من أكبر كبير إلى أصغر صغير، وهذا هو شأن المنافقين في كل جيل. وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى هنا:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} أي يعيبون المتصدقين تطوعا وتبرعا من المؤمنين، {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} أي كما يلمزون الذين يتصدقون بالكثير يلمزون الذين يتصدقون باليسير على قدر طاقتهم:{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} أي يستهزئون بهم. ثم عقب كتاب الله على ذلك ذاكرا نوع العقاب الذي عاقب الله به المنافقين على استهزائهم بالمؤمنين، فقال تعالى:{سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهذه الآية واردة على طريق المقابلة، أي كما أنهم سخروا من المؤمنين عاقبهم الله فسخر منهم، إذ " الجزاء من جنس العمل ".

وحرصا على إزالة كل لبس، وعلى تمييز المنافقين من المؤمنين تمييزا تاما، نهى الله رسوله والمؤمنين عن الصلاة عليهم بعد وفاتهم، ونهاه عن القيام على قبورهم للدعاء لهم، وبذلك بقيت هذه الميزة خاصة بأموات المؤمنين وحدهم، فقال تعالى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} .

ص: 419

وقد تلقى حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء المنافقين وعرف أشخاصهم، فكان بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى هو الذي يلفت نظر المسلمين إليهم كلما مات واحد منهم، حتى لا يصلوا عليه ولا يقفوا على قبره، امتثالا لهذه الآية الكريمة، ومن أجل ذلك أطلق على حذيفة بن اليمان لقب " صاحب السر "، والسر إنما هو في هذا المقام بالخصوص. وهكذا أصبحت صلاة الجنازة قاصرة على المؤمنين يستغفر بها أحياؤهم لأمواتهم، ومما جاء في فضلها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان. قيل وما القيراطان؟ قال: أصغرهما مثل أحد) يشير إلى جبل أحد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) أخرجه أبو داود في سننه، وانفرد به.

وبعدما فضح كتاب الله في هذه السورة الكريمة الأعذار المنتحلة التي كان يعتذر بها المنافقون عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، كقوله تعالى حكاية عنهم:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} ، وكقوله تعالى حكاية عنهم أيضا:{وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} جاءت الآيات الكريمة بالقول الفصل في بيان العذر الصحيح والعذر الباطل.

ومضمون هذه الآيات أن الأعذار التي تقبل ويرفع الحرج بسببها عمن قعد عن الجهاد، إما أن تكون أعذارا لازمة للشخص،

ص: 420

كالعيوب القائمة بذاته لا ينفك عنها ولا تنفك عنه، وذلك مثل العمى والعرج ونحوهما، وإما أن تكون أعذارا عارضة للشخص، وهذا النوع الثاني من الأعذار يندرج تحته المرض الذي لا يتمكن معه صاحبه من الجهاد، والفقر الذي لا يتمكن معه صاحبه من إعداد الزاد والعتاد، وذلك ما ينص عليه قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إذا لم يقوموا في حال تخلفهم عن الجهاد بتثبيط ولا إرجاف، وكانوا عونا للمجاهدين من ورائهم، {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي لا سبيل إلى عقوبة هؤلاء المعتذرين، بعدما تيقن رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدق عذرهم، وعرف حقيقة أمرهم، قال القاضي أبو بكر " ابن العربي ":" هذا عموم ممهد في الشريعة، وهو أصل في رفع العقاب والعتاب عن كل محسن ".

ثم قال تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} أي لا حرج على الفقراء الذين عرضوا أنفسهم على رسول الله للجهاد، ثم رجعوا وهم يبكون حزنا وأسفا، لعجزهم عن تجهيز أنفسهم أولا، ولضيق وسائل التجهيز عند رسول الله ثانيا، ولما فاتهم من الالتحاق بصفوف المجاهدين ونيل شرف الجهاد في سبيل الله وحسن ثوابه ثالثا.

وفي مثل هؤلاء الذين منعتهم أعذار حقيقية لا منتحلة عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك ورد حديث أنس في

ص: 421

الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في غزوة تبوك: (إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم سيرا، إلا وهم معكم) قالوا: (وهم بالمدينة؟) قال: (نعم، حبسهم العذر)، {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} .

ص: 422