المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الثالث من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٢

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌الربع الأول من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المائدة

- ‌الربع الثاني من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني عشرمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثانيفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني عشرفى المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث عشرمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأنعام

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس عشرفي المصحف (ق)

- ‌ سورة الأعراف

- ‌الربع الأول من الحزب السادس عشرفي المصحف (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأنفال

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة التوبة

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الثالث من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الثالث من الحزب التاسع عشر

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

في حصة هذا اليوم نتناول الربع الثالث من الحزب التاسع عشر في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} .

ــ

في الربع الماضي أنهينا تفسير سورة الأنفال المدنية، وانتقلنا منها إلى سورة التوبة المدنية أيضا، وأول ما يستلفت النظر في سورة التوبة أن " البسملة " غير مكتوبة في أولها كبقية سور القرآن، وإنما لم يبدأ فيها بكتابة البسملة، جريا على ما اختاره أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه في كتابة المصحف " الإمام "، حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يتلقى عنه كتاب الوحي ما يعرفهم هل " سورة التوبة " جزء من " سورة الأنفال " فلا يفصل بينهما بالبسملة، أم هي مستقلة عنها، فتفصل عنها بالبسملة. ونظرا لهذا

ص: 354

الاعتبار قرن بينهما عند كتابة المصحف من جهة، ولم تكتب بينهما البسملة التي تفرق بين سورة وأخرى فرقا تاما، من جهة أخرى.

وإنما سميت " سورة التوبة " بهذا الاسم، أخذا من قوله تعالى في شأن الثلاثة الذين خلفوا ثم تابوا في غزوة تبوك:{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .

والموضوع الرئيسي الذي تعالجه سورة التوبة هو بيان ما يجب أن تكون عليه علاقات المسلمين بغيرهم من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب، وإبراز ما كانت تنطوي عليه نفوس المثبطين والمتخلفين والمتثاقلين، حين استنفر رسول الله إلى غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، بغية فك الحصار الذي كان يضربه الروم إذ ذاك على الدعوة الإسلامية ناحية الشام، وتمهيدا لخروج هذه الدعوة السماوية من جزيرة العرب، وانتشارها في بقية أرجاء العالم.

قال ابن كثير: " وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك، وهم بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم ذاك إلى موسم الحج على عادتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة، فكره صلى الله عليه وسلم مخاطبتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا، ثم أتبعه بعلي ابن أبي طالب ومعه {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ليؤذن بها ويبلغها إلى الناس.

ص: 355

ونقل القاضي أبو بكر " ابن العربي " عن أبي المظفر طاهر ابن محمد أنه قال: " إنما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا {ببراءة} مع أبي بكر، لأن {براءة} تضمنت نقض العهد الذي كان عقده النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سيرة العرب أنه لا يحل العقد وينقضه إلا الذي عقده أو رجل من بيته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة، وأن يرسل ابن عمه الهاشمي من بيته بنقض العهد، حتى لا يبقى لهم متكلم ". قال القاضي أبو بكر تعقيبا عليه: " وهذا بديع في فنه ".

وهكذا طاف أبو بكر وعلي بالناس في ذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالمواسم كلها، وخطب أبو بكر الناس يوم عرفة، ولما أتم خطبته التفت إلى علي وقال له:" قم يا علي، فأد رسالة رسول الله " فقام علي وقرأ عليهم أربعين آية من {براءة} ، ثم علم علي بعد ذلك أن أهل الجمع لم يكونوا كلهم حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة، فلم يزل يتتبع الفساطيط بمنى فسطاطا فسطاطا ويقرؤها عليهم، حتى بلغت {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى الجميع، وأدرك المشركون من العرب حينئذ أن الساعة قد دقت، وأنه لم يبق أمامهم أي احتمال، ما عدا الإسلام أو القتال، وكان المؤذنون يؤذنون يوم النحر: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

وبهذا التدبير الحاسم الذي اتخذه الرسول بوحي من ربه وضع حدا نهائيا لجميع مظاهر الشرك وشعائره في عبادة الحج، وانتظر رسول الله حلول العام القابل ليدشن بنفسه موسم الحج الإسلامي بشعائره الإسلامية الكاملة، فجاء الرسول عليه الصلاة والسلام على رأس الآلاف المؤلفة من المسلمين ليحج " حجة الوداع "

ص: 356

في السنة التالية، وهي السنة العاشرة للهجرة، دون أن يشارك في تلك الحجة أحد من المشركين.

والآن فلنلق نظرة سريعة على الآيات السابقة من سورة براءة الواردة في نهاية الربع الماضي، لننتقل منها إلى الآيات الواردة في هذا الربع، إذ إنها يرتبط بعضها ببعض معنى وسياقا، وفهم الآيات اللاحقة متوقف على فهم الآيات السابقة.

فقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي هذه الآيات براءة من الله ورسوله، والبراءة بمعنى التبرؤ، تقول برئت من الشيء إذا أزلته عن نفسك، وقطعت ما بينك وبينه من علاقات.

وقوله تعالى: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يستفاد منه مبدأ تشريعي مهم، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وحده هو الذي عاهد المشركين عندما اقتضت مصلحة المسلمين ذلك، بصفته " إماما " حاكما وآمرا، لكن هذه الآية نسبت العهد الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى جميع المؤمنين، إذ قالت:{الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} ولم تقل الآية: {الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} نظرا إلى أن كل ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم أو أمر به فهو لازم لأمته، منسوب إليها، ومحسوب عليها، إذ هو رئيسها الأعلى. ومن هنا جاءت القاعدة الشرعية:" أن الإمام إذا عقد أمرا بما يرى فيه المصلحة للأمة لزم حكمه جميع رعاياه، فإذا رضوا به كان أثبت لنسبته إليهم}. كما نسب عهد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان قد عاهد به المشركين، إلى جميع المسلمين، لكونهم به راضين، وهذا فن بديع من تحقيقات القاضي أبي بكر " ابن العربي " وتدقيقاته.

ص: 357

وقوله تعالى هنا: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يقتضي أن أولئك المعاهدين لم يكونوا من أهل الكتاب، فقد كان العهد المشار إليه هنا خاصا بالوثنيين من العرب.

وقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} من السياحة أي السير، ومعنى الآية: أن الحد الذي حده الله للذين عاهدوا رسوله من مشركي العرب لا يتجاوز بعد {إعلان البراءة} أربعة أشهر، لهم أن يسيروا خلالها ويذهبوا حيث شاؤوا، ناجين بأنفسهم آمنين، ليدبروا أعمالهم، ويتدبروا مآلهم، فإن دخلوا أثناءها في الإسلام كان لهم ما للمسلمين من العصمة والأمان والاحترام، وإن أصروا على الشرك كان لهم عند تمام آخر ليلة من آخر شهر، إما القتل وإما الأسر، وقد استغرق هذا الأجل المحدود بأربعة أشهر: عشرين يوما من ذي الحجة، وكانت نهايته: اليوم العاشر ربيع الثاني كما نص عليه ابن كثير، وهذا الأجل الذي ضربه الله للمعاهدين من المشركين- أجل أربعة أشهر- إنما هو بالنسبة لمن كان لهم عهد مطلق، غير مؤقت ولا محدود المدة.

وقوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} الآية. المراد (بالأذان) في لسان العرب مطلق الإعلام، أي هذا إعلام مقدم، وإنذار سابق من الله ورسوله إلى الناس، جريا على المنهج الإسلامي المعروف في قوله تعالى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وفي قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} .

و {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} إما أنه يوم عرفة كما رواه ابن جرير وابن

ص: 358

أبي حاتم عن ابن عمر، وروي مثله عن ابن عباس وغيره من مفسري السلف، اعتمادا على قوله صلى الله عليه وسلم:(الحج عرفة)، وإما أنه يوم النحر كما روي عن الإمام مالك، نظرا لأنه اليوم الذي ترمى فيه الجمرة، وينحر فيه الهدي، وينقضي فيه الحج، ورجح القاضي أبو بكر " ابن العربي " أن المراد (بيوم الحج الأكبر) الوارد في هذه الآية بالخصوص هو يوم النحر، لثبوت الحديث الصحيح بذلك، إذ قال صلى الله عليه وسلم يوم النحر:(أي يوم هذا؟ أليس يوم الحج الأكبر؟).

وقوله تعالى: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} يتضمن الإشارة إلى مبدإ أساسي في الإسلام، هو أن الإسلام يجب ما قبله، وذلك لما انبنى عليه من سماحة ورحمة وعفو، فمهما اقتحم المشركون والكفار من المعاصي والجرائم، وارتكبوا من الموبقات والمآثم، ثم أسلموا وجوههم لله، إلا ونالتهم المغفرة، وقبلت منهم التوبة، ولم يواخذوا بما سلف:{عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} والحكمة في ذلك تأليفهم على الملة، وتسهيل دخولهم في الدين، حتى ينيبوا إلى الله، ويسلموا وجوههم إليه.

أما قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} فهو استثناء من ضرب الأجل المحدود بأربعة أشهر، ومعناه من كان لهم من المشركين عهد مؤقت بمدة معينة، فالأجل بالنسبة إليهم هو انتهاء المدة المعينة التي عوهدوا عليها، وفي مثل هؤلاء ورد في الحديث:(إن من كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته) لكن بشرط أن لا ينقض المعاهد منهم عهده، وأن

ص: 359

لا يمالئ على المسلمين غيرهم، فهذا هو الذي يوفى له بذمته، ويمتد أجل عهده إلى نهاية مدته. وحضا للمؤمنين على الوفاء بالعهد لهذا الصنف من المعاهدين، قال تعالى في نفس السياق:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} والشأن في المتقي أن يكون وفيا بالعهد، منجزا للوعد.

ويؤخذ من قوله تعالى في هذه الآية: {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} أن المعاهدين من المشركين كانوا قسمين: قسم منهم ثبت على العهد دون الخيانة ولا ممالأة ضد المسلمين، وهذا القسم هو الذي استثناه كتاب الله من أجل أربعة أشهر، وجعل أجله انتهاء المدة المتعاهد عليها، وقسم منهم خاس بعهده ونقضه، وهذا القسم هو الذي تولى بيان حكم الله فيه قوله تعالى في هذا الربع:{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} .

وزاد هذا الحكم بيانا وتوضيحا قوله تعالى في آية أخرى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية. قال القاضي أبو بكر " ابن العربي ": " إنما العهد حكم اقتضاه النظر، والتزمه المسلمون، فإذا نقضه " المعاهد " انتقض كسائر العقود، فإنها تعقد فترتب عليها الأحكام، فإذا نقضت ونسخت ذهبت تلك الأحكام ".

وتأكيدا لنفس الحكم المتعلق بالقسم الأول، وهو الوفاء بالعهد لمن بقي على عهده إلى مدته، قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ

ص: 360

عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}، ثم أعطى لهذا الحكم قوة جديدة، فقال في نفس السياق وللمرة الثانية:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .

وأوضح كتاب الله كيف يكون العمل مع مشركي العرب المعاهدين الذين ضرب لهم أجل أربعة أشهر، إذا انتهى الأجل المضروب لهم دون أن يهتدوا للإسلام، وأصروا على الشرك والمقاومة دون استسلام، فقال تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} . والمراد بها هنا بالخصوص " أشهر الأمانة الأربعة " التي أباح لهم أن يسيروا أثناءها حيث شاؤوا آمنين على أنفسهم، فمعناها هنا غير معناها في قوله تعالى:{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} .

ثم مضى كتاب الله يقول: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ، وذلك لأن جزيرة العرب قضى الله أن تكون خالصة لدين الحق، وأن لا يجتمع فيها إسلام وشرك، {وَخُذُوهُمْ} أي خذوهم أسرى {وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي اقصدوهم بالحصار في معاقلهم، وبالرصد في طرقهم ومسالكهم، فإما أن يهتدوا ويسلموا، وإما أن يقاتلوا إلى أن يستسلموا.

ثم بين كتاب الله كيف يكون العمل معهم إذا اختاروا الإسلام دينا، فقال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا} أي تابوا من معصية الشرك والوثنية ومعتقدات الجاهلية، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .

وقوله تعالى هنا: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} قد تولت السنة النبوية بيان معناه على أكمل وجه، فقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس

ص: 361

حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله) فانتظم القرآن والسنة واطردا كما قال القاضي أبو بكر (ابن العربي).

وما يفيد التنبيه إليه في هذا المقام أن هذه الآية دليل قوي للموقف الصارم الذي اتخذه الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة، فهذه الآية لم تسمح بتخلية سبيل المشركين المعاهدين وعصمة دمائهم إلا بشرط التوبة من الشرك والدخول في الإسلام، والقيام بواجباته الأساسية، وعلى رأسها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وصدق أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما قال قولته المشهورة:" لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الله قد جمعهما ولم يفرق بينهما". وأعاد كتاب الله نفس المعنى مرة أخرى في هذا الربع، لتقويته في النفوس وتركيزه في الأذهان، فقال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وفي هذه الآية معنى جديد، وهو معنى " الأخوة " بدلا من معنى " العصبية " ووصف جديد هو وصف " الأخوة في الدين " بدلا من " حمية الجاهلية "، والأخوة في الدين رابطة تقوم على أساس التماثل في الاعتقاد والتفكير والعمل والسلوك، تشبيها لها بتماثل الأخوين ولا سيما إذا كانا شقيقين في كثير من الخصال والخلال، وقد بينت السنة النبوية ما تقتضيه الأخوة في الدين من التزامات أدبية وأخلاقية وعلمية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم).

ص: 362

وانتقل كتاب الله إلى توضيح الحكمة في إنذار الله ورسوله للمشركين، ومنعهم من حج بيت الله الحرام بعد هذا العام، فقال تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} - وعلى رأسها المسجد الحرام - {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} - أي بحالهم ومقالهم، بينما بيوت الله، وأشرفها البيت الحرام، إنما أقيمت للتوحيد لا للشرك، وللإيمان لا للكفر، فعمارة المشركين لها قلب للأوضاع:{أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} ، وبعمارة المؤمنين لها يعود الحق إلى نصابه، فمن أراد المساهمة في عمارة بيوت الله، عليه قبل كل شيء أن يخلع الشرك ويؤمن بالله، ومن أراد الوقوف فيها بين يدي الله، فلا يأت إليها عريانا على عادة الجاهلية، وليتزين بزينة الله:{فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} .

ص: 363