الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب العشرين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الثاني من الحزب العشرين، ابتداء من قوله تعالى:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
ــ
في بداية هذا الربع، أخبر الحق سبحانه وتعالى نبيه بحقيقة ما انطوى عليه المنافقون الذين كانوا منبثين بين المسلمين يقومون بدور " الطابور الخامس " المتعارف عليه في هذا العصر، فبين أنهم لو كانوا راغبين في الخروج مع رسول الله للقاء الروم في الشام لتأهبوا لذلك من أول وهلة، ولما تخاذلوا وترددوا، ثم كشف الحق سبحانه وتعالى عن اللطف الخفي، الذي حصل بعدم خروجهم، ذلك أنهم لو شاركوا المسلمين في الخروج إلى غزوة تبوك لكان وجودهم بين ظهرانيهم مثارا للبلبلة والاضطراب والخبال، ووقودا لإشعال نار الفتنة، وإفساد ذات البين، مما يعكر الجو ويشغل البال، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ
اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} أي أبغض خروجهم {فَثَبَّطَهُمْ} أي أخرهم عن الخروج: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي لمشوا بينكم بالنميمة، وحركوا بينكم عوامل البغضاء المؤدية إلى الفتنة:{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي وفيكم من يستحسن حديثهم الخداع، إذ إنكم لستم جميعا على بينة من أمرهم، فهم منافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وبذلك يقع السامع لهم في الشرك، ويحدث بين المؤمنين - بسبب دسيستهم وسعايتهم - فساد كبير، وإلى هذا التفسير ذهب قتادة وغيره من المفسرين.
ويحتمل أن يكون معنى قوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أنه يوجد منبثا من بينكم عيون لهم، منهم وإليهم، يتتبعون أخباركم وينقلونها إليهم أولا بأول، لإفساد خطة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعطيل سير المؤمنين، وإلى هذا التفسير الثاني ذهب مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير الطبري. قال ابن كثير:" والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق ".
ثم أخبر الحق سبحانه وتعالى عن تمام علمه وإحاطته بما ظهر وما بطن من نوايا المنافقين ودسائسهم، فقال تعالى:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فهو مطلع على سرائرهم، عليم ببواطنهم كعلمه بظواهرهم:{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} أي لقد فكروا وقدروا، ودبروا من أسباب الفتنة والاضطراب ما دبروا، وتعاونوا مع جميع القوات المعادية للإسلام بغية القضاء عليه، حتى لا يترعرع ولا يشتد ساعده، ومنذ هجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رمته قريش وحلفاؤها
عن قوس واحدة، وحاربه اليهود والمنافقون حربا لا هوادة فيها، ولعبت حرب الأعصاب والإشاعات والدسائس ضد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المعركة دورا كبيرا، فلما نصره الله (يوم بدر) قال زعيم المنافقين عبد الله بن أبي كلمته المشهورة:" هذا أمر قد توجه " ويئسوا وقتئذ من التغلب على رسول الله والمؤمنين، فلم يسعهم إلا أن يظهروا الإسلام ويندسوا بين المسلمين، لمتابعة دسائسهم، لكن دون جدوى، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا:{حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} .
وعرض كتاب الله نموذجا من نماذج الأعذار التي كان يعتذر بها المنافقون عن الخروج مع رسول الله إلى غزوة تبوك، فمن تلك الأعذار التي بلغت الغاية في المجون والاستهتار، ما قاله الجد بن قيس جوابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دعاه إلى الخروج مع المسلمين وقال له:(هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر هذا العام) - يريد الروم البيزنطيين- فكان جواب الجد بن قيس: (يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن) فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (قد أذنت لك). وإلى هذه القصة يشير قوله تعالى هنا في إيجاز وإعجاز: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} ثم عقب عليها كتاب الله بما يبين بطلان هذا العذر من أصله، وسوء نية صاحبه فقال:{أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} وكان هذا الجزاء من جنس العمل: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} .
ويمضي كتاب الله في كشف النقاب عن نفسية المنافقين ووصف انطباعهم عن الأحداث الكبرى التي يواجهها الرسول والمؤمنون، فقال تعالى:{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} .
ثم لقن كتاب الله نبيه والمؤمنين ما يواجهون به جميع الأحداث والنوازل كيفما كانت، في السراء والضراء، والشدة والرخاء، من الثبات واليقين والإيمان الراسخ، فقال تعالى مخاطبا لنبيه:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
وتعرض كتاب الله بعد ذلك لموقف الرسول والمؤمنين من دسائس المنافقين ونواياهم السيئة نحو المسلمين، وبين أن الله تعالى لا يقبل من تصرفاتهم الباطلة صرفا ولا عدلا، فقال تعالى:{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} أي ماذا تنتظرون بنا غير الموت في سبيل الله أو النصر عليكم، وكل واحدة منهما في حد ذاتها {حُسْنَى} عندنا وعند الله، لا {سُّوأَى} كما تتمنون:{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ * قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
وبين كتاب الله السر في إحباط نفقات المنافقين وعدم قبولها عند الله، فقال تعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} . وواضح أن من سلك مثل مسلك المنافقين من
أي جيل أو قبيل، يدخل معهم تحت هذا الحكم القاطع، ويعاقب بنفس هذا العقاب الرادع.
ويفضح كتاب الله خصلة من خصال المنافقين الملازمة لهم في القديم والحديث، ألا وهي خصلة الإكثار من الحلف باسم الله، ومن استعمال الأيمان المغلظة، بمناسبة أو بغير مناسبة، شعورا منهم بفقدان الثقة فيهم، وعدم الاطمئنان إليهم، فيحولون انتزاع الثقة من المخاطبين، باستعمال الحلف وتوكيد اليمين، وذلك ما ينص عليه قوله تعالى هنا:{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} ثم يرد عليهم كتاب الله مكذبا حلفهم ويمينهم الغموس، فيقول:{وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} وسترد آية أخرى في الربع القادم بنفس هذا المعنى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} .
ويمضي كتاب الله في فضيحة المنافقين وهتك أستارهم من أي جيل أو قبيل، فيؤكد ما انطووا عليه في ذات أنفسهم من الخوف والجزع، والرعب والفزع، على العكس من المؤمنين الذين هم أشداء على الأعداء، يوم اللقاء، وأقوياء دائما على التضحية والفداء، وذلك قوله تعالى هنا:{وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي قوم جبناء يصيبهم الفرق وهو الخوف: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} أي حصنا يتحصنون به {أَوْ مَغَارَاتٍ} أي كهوفا في قمم الجبال {أَوْ مُدَّخَلًا} أي نفقا تحت الأرض: {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي لفروا إليه وهم يسرعون.
ويذكر كتاب الله إحدى خصائص المنافقين البارزة التي تميزهم
عن غيرهم ولا ينفكون عنها بحال، ألا وهي خصيصة الطمع والاستغلال، والروح الإنتفاعية المهيمنة عليهم في جميع الظروف والأحوال، فهم راضون مستبشرون، يعلنون رضاهم كلما استغلوا وانتفعوا وكانت مصلحتهم الخاصة مضمونة ومصونة، وهم ساخطون متبرمون، يعلنون سخطهم كلما توقفت عجلة الاستغلال والانتفاع، وتعطلت أبسط مصلحة من مصالحهم الخاصة، وذلك قوله تعالى في شأن المنافقين، الأولين منهم والآخرين:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} أي من يطعن عليك ويعيبك في قسمها ويتهمك في توزيعها، و (اللمز) في الأصل يقصد به عيب الشخص لغيره في غيبته لا بمحضره، والمراد (بالصدقات) هنا الأموال العامة التي يقوم بجبايتها بيت مال المسلمين برسم الزكاة المفروضة:{فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} .
وبعدما فضح كتاب الله طبيعة المنافقين وما هم عليه من التقلب في المواقف بين السخط والرضى، وسقوط الهمة، والطمع البالغ والاستغلال الفاحش، بين كتاب الله الموقف السليم الذي يقفه -عادة - المؤمنون الصادقون، والذي أخطأ طريقه وضل عنه المنافقون، وهذا الموقف هو موقف الرضى بحكم الله، والثقة بوعده، والرجاء فيه، وإخلاص العمل لوجهه الكريم، فقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فقد تضمنت هذه الآية الكريمة " أدبا كريما، وسرا عظيما " كما أشار إليه ابن كثير.
وأخيرا تناول كتاب الله موضوع الزكاة بالتأصيل والتفصيل،
وهي الصدقة التي فرضها الله على أغنياء المسلمين في أموالهم لترد على فقرائهم، حماية للمجتمع الإسلامي من عوامل الفرقة والانقسام، وتوجيها له نحو العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي هي جزء لا يتجزأ من أصل " العدالة العامة " في الإسلام، فبين كتاب الله وجوب دفعها، وحدد وجوه صرفها، ولفت كتاب الله بذلك أنظار الجميع، إلى أن أمر الصدقات موكول إلى الله لا إلى غيره، فهو الذي أعلن حكمها، وهو الذي تولى قسمها، ولذلك فلا محل لأي لمز أو تقريع، فيما حدده لها من القسم والتوزيع، وذلك قوله تعالى هنا:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
قال القاضي أبو بكر " ابن العربي " ما خلاصته: " هذه الآية من أمهات الآيات فقد خص الله بعض الناس بالأموال دون البعض، نعمة منه عليهم، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم من مالهم، يردونه إلى من لا مال له، نيابة عنه سبحانه فيما ضمنه بفضله للمحتاجين من رزق في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، وقدر الصدقات على حسب أجناس الأموال، فجعل في النقدين ربع العشر، وجعل في النبات العشر، ومع تكاثر المئونة نصف العشر، و (الصدقة) متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض، ولفظ الصدقة مأخوذ من " الصدق " بمعنى مساواة الفعل للقول والاعتقاد، وبناء " ص د ق " يرجع إلى تحقيق شيء بشيء وعضده به، ومنه " صداق المرأة " أي تحقيق الحل وتصديقه بإيجاب المال والنكاح، على
وجه مشروع، ومشابهة الصدق ها هنا للصدقة أن من أيقن من دينه أن البعث حق، وأن الدار الآخرة هي المصير، -وأن هذه الدار الدانية قنطرة إلى الأخرى، وباب إلى السوأى أو الحسنى - " مؤنث الأسوأ والأحسن " عمل لها، وقدم ما يجده فيها، فإن شك فيها أو تكاسل عنها وآثر عليها بخل بماله، وغفل عن مآله}.
والآن فلنتحدث عن الألفاظ الواردة في هذا السياق لفظا لفظا حتى يتضح المعنى المراد، إذ كل لفظ منها يعبر عن صنف من أصناف المستحقين للزكاة:
فلفظ " الفقراء " جمع فقير، وهو المحتاج المتعفف.
ولفظ " المساكين " جمع مسكين، وهو المحتاج السائل، وهذا التفسير للاثنين منقول عن الإمام مالك في كتاب ابن سحنون.
وجاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المسكين ما هو فقال: (الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا).
ولفظ " العاملين عليها " يراد به الجباة والسعاة الذين يذهبون لتحصيل الزكاة ويوكلون على جمعها.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: " وهذا يدل على مسألة بديعة، وهي أن ما كان من فروض الكفايات فالقائم به يجوز له أخذ الأجرة عليه، ومن ذلك الإمامة، فإن الصلاة وإن كانت متوجهة على جميع الخلق، إلا أن تقدم بعضهم بهم من فروض الكفاية، فلا جرم يجوز أخذ الأجرة عليها ".
ولفظ {الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} يشمل المسلم الذي يعطي ليحسن إسلامه ويزداد يقينه، والكافر الذي له ميل إلى الإسلام، فيعطي لتقوية ذلك الميل فيه حتى يسلم، تأثرا بعطاء المسلمين وإحسانهم، وفي حكمهما من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه، ومن يعطى ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد. وروي عن مالك أنه قال:(إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم فحسن إسلامهم).
ولفظ {الرِّقَابِ} المراد به شراء الرقاب وعتقها من الرق، وذلك هو ظاهر القرآن الكريم، فإن الله حيثما ذكر الرقبة في كتابه إنما أراد منها العتق. روى الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داوود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(ثلاثة حق على الله عونهم: الغازي في سبيل الله، والمكاتب " أي الرقيق " الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف).
ولفظ {الْغَارِمِينَ} المراد به من ركبهم الدين ولا قدرة لهم على الوفاء به، اللهم إلا من تداين في سفاهة، فإنه لا يعطى من الزكاة ولا من غيرها، إلا أن يتوب، فإن مات من ركبه الدين في غير سفاهة قضي دينه من الزكاة، لأنه من الغارمين.
ولفظ {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال الإمام مالك: " سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله ها هنا الغزو " الجهاد "، وقال محمد بن عبد الحكم: " يعطى من الصدقة - أي الزكاة - في الكراع والسلاح، وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة، لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته ".
ولفظ {ابْنَ السَّبِيلِ} المراد به من غاب عن بلده ومستقر ماله، وانقطعت به الأسباب فلم يجد ما ينفقه في سفره، ولو كان غنيا في بلده. قال مالك في كتاب ابن سحنون:" وليس يلزمه أن يدخل تحت منة أحد، وقد وجد منة الله ونعمته " قال ابن كثير: " وهذا الحكم يماثله حكم من أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شيء، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه} إن لم يكن سفر معصية.
وقوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بظواهر الناس وبواطنهم، حكيم فيما يحكم به عليهم، حكيم فيما يشرعه لهم:{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} .