الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب السابع عشر
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الثاني من الحزب السابع عشر في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} إلى قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} .
ــ
هذا الربع، كله متعلق بقصة موسى وبني إسرائيل من جهة، وفرعون وقومه من جهة أخرى، وهو استمرار لقصة موسى التي ابتدأت في الربع الماضي من قوله تعالى:{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .
وقد استغرقت قصة موسى أكثر من ثلاثة أرباع هذا الحزب السابع عشر، مما يؤكد ما نبهنا إليه في مطلع سورة الأعراف، من أن قصة موسى وفرعون هي أطول قصة وردت في هذه السورة من بين قصص الأنبياء السابقين، ولعل الحكمة في ذلك - والله أعلم -
أن للأمة الإسلامية، وغيرها من الأمم حسابا طويلا وعسيرا مع بني إسرائيل - علاوة على حساب نبيهم موسى نفسه معهم - بدأ منذ ظهور الرسالة المحمدية، ولم ينته ذلك الحساب حتى الآن، فالله تعالى يريد أن يكون المسلمون أولا، وغيرهم بالتبع، على بينة من أمر بني إسرائيل والأطوار التي تقلبوا فيها جملة وتفصيلا، حتى يعدوا العدة لمواجهة دسائسهم، والوقوف في وجه مطامعهم جيلا فجيلا، وبديهي أن كتاب الله لا يورد القصص على أنها نوادر وأسمار، وإنما يوردها تنويرا للبصائر والأبصار.
وفي بداية هذا الربع يشير كتاب الله إلى باطل فرعون وسحرته، وما جاؤوا به من سحر عظيم، طمعا في مال فرعون وزلفى إليه، وإلى أن باطلهم قد زهق أمام الحق الذي أبرزه الله على يد موسى وعصاه {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ويحكي كتاب الله هول المفاجأة الكبرى التي فوجئ بها فرعون وملأه عندما سجد السحرة لله، أمام معجزة موسى، وآمنوا برسالته، فاستنكر عليهم فرعون أن يؤمنوا بموسى دون إذن منه، كأن الإيمان عملية مادية يستطيع الضمير لها دفعا، وكأن مفاتيح القلوب في أيدي الطغاة والجبابرة يفتحونها متى شاؤوا ويقفلونها متى شاؤوا {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} .
واتهم فرعون سحرته بعد إيمانهم بأنهم دبروا مع موسى مؤامرة لقلب نظام الدولة، وإخراج السلطة من يده ويد أعوانه، كما
حكى عنه كتاب الله قائلا: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} .
ثم هددهم بعقاب صارم هو عقاب الصلب بعد قطع الأيدي والأرجل، فقال مخاطبا لهم {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} قال القاضي أبو بكر " ابن العربي ":" هذا يدل على أن الصلب وقطع اليد والرجل من خلاف عقوبة متأصلة عند الخلق، تلقفوها من شرع متقدم، فحرفوها، حتى أوضحها الله في ملة الإسلام، وجعلها أعظم العقوبات لأعظم الأجرام، يعني جريمة " الحرابة " وهي جريمة العبث بالأمن العام، والمساس بأمن الدولة الداخلي، التي عالجها كتاب الله في قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
غير أن سحرة فرعون الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم وأدركوا البون الشاسع بين ما كانوا عليه من معتقدات الشرك والوثنية، وعقيدة الإيمان والتوحيد التي تلقوها عن موسى غضة طرية، لم يفت في عضدهم تهديد ولا وعيد، ولا صلب ولا تشريد فأعلنوها صيحة مدوية، أمام فرعون الطاغية {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} كأنهم يلوحون بذلك إلى بطلان التهمة المزورة التي اتهمهم بها زورا وبهتانا، لمجرد القضاء عليهم، والتخلص منهم، باسم حماية الدولة من المتآمرين عليها والكائدين لها.
ثم اتجهوا إلى الحق سبحاه وتعالى الذي أشرق نور الإيمان به في قلوبهم ضارعين خاشعين {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي صبرا عظيما نتحمل به عدوان فرعون وملإه، وما يهددنا به من قطع وصلب. {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} وكأنهم في هذا المقام لم يعد يهمهم من الحياة إلا أمر واحد، هو أن يختم الله لهم بالخاتمة الحسنى، وهي الوفاة على ملة الإسلام، التي هي ملة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهكذا بعدما كانوا في أول النهار سحرة كفرة، أصبحوا في آخره شهداء بررة، كما صرح بذلك جماعة من مفسري السلف.
وقول كتاب الله هنا على لسان موسى عليه السلام: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} الآية، يمثل حقيقة دينية، وحقيقة كونية، وسنة إلهية، فالتضحية والصبر، كانا دائما ولا يزالان مفتاح الغلبة والنصر، والاستعانة بالله والاعتماد عليه بعد اتخاذ الأسباب، هما الوسيلة الفعالة للنجاح والتغلب على الصعاب، والأرض ملك لله إنما يعيرها لخلقه للارتفاع والانتفاع، وإنما يستخلف فيها - أعزاء كرماء - أولئك الذين يتقون ولا يفسقون، فإن فسقوا وظلموا وأفسدوا استبدل بهم قوما آخرين {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
ثم يعرض علينا كتاب الله صورة من صور التذبذب والتململ والتردد والقلق، التي عرف بها بنو إسرائيل عبر القرون والأجيال، فرغما عن أن موسى عليه السلام نصره الله نصرا مؤزرا على فرعون وسحرته، ورغما عن أنه طالب فرعون بأن يرسل معه
بني إسرائيل كما حكى الله عنه، إذ خاطب فرعون قائلا:{فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} نجد بني إسرائيل يستثقلون ظل موسى ويتضايقون منه، ولا يخجلون أن يخاطبوه دون أدب ولا لياقة، كما حكى كتاب الله عنهم قائلين:{قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} ، لكن موسى يكظم غيظه ويرد عليهم ردا هادئا، منبها إلى أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يمتحنهم ويختبرهم، ويظهرهم للناس على حقيقتهم، وذلك بمقتضى سننه الثابتة في هذا الكون، فإن أصلحوا كانوا أهلا للاستخلاف بين الناس، وإن أفسدوا أصدر الحق سبحانه وتعالى في شأنهم حكمه العادل بالحجر والإفلاس {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} .
ويصف لنا كتاب الله نماذج مثيرة من عذابه الأليم الذي ينزله بالأمم، متى أصرت على الضلال والعدوان هي وقادتها في مختلف العصور، من أية سلالة كانت، وإلى أية ملة انتسبت، فيحدثنا عما أنزله الله بفرعون وقومه من أنواع المصائب والمتاعب، التي توالت عليهم دون انقطاع، بحيث لا يكادون يفرغون من واحدة منها حتى يستقبلوا أخرى تكون أدهى وأمر {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} - {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} وتعني كلمة " السنين " في هذه الآية سنين الجدب والقحط والجوع، وهذا أمر يستغربه كل من يعرف " نيل مصر " حتى قيل فيها إنها " هبة النيل "، وإنها ليست بلد الماء المحدود والزرع القليل.
ومعنى كلمة الطوفان في هذه الآية فيضان النيل وكثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار، " والجراد " معروف بأضراره الفادحة وأخطاره البالغة على الزرع والضرع، ومن اللطائف أن شريحا القاضي الشهير سئل عن الجراد فقال:" قبح الله الجرادة، فيها خلقة سبعة جبابرة، رأسها رأس فرس، وعنقها عنق ثور، وصدرها صدر أسد، وجناحها جناح نسر، ورجلها رجل جمل، وذنبها ذنب حية، وبطنها بطن عقرب ". وروى ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على الجراد قال: (اللهم أهلك كباره، واقتل صغاره، وأفسد بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء).
وتعني كلمة " القمل " الواردة في الآية السوس الذي يخرج من الحنطة وينخرها، وفي عدة تفاسير أنه بسبب ذلك السوس كانت عشرة أجربة لا يبقى منها بعد طحنها إلا ثلاثة أقفزة، إذ لا يبقى فيها من الحنطة إلا أقل القليل، و " الضفادع " معروفة ومشهورة بقفزها ووثبها. وورد في عدة تفاسير أن تلك الضفادع كانت قد ملأت البيوت والأواني والأطعمة. وتعني كلمة " الدم " الدم الرعاف كما قال زيد ابن أسلم، ورواه ابن أبي حاتم.
فهذه جملة المصائب التي نزلت بفرعون وقومه على التتابع والتوالي دون أن يتوبوا من شركهم وكفرهم، ولا أن يتراجعوا عن عتوهم وكبرهم، ثم جاءت القاصمة - قاصمة ظهر فرعون وقومه - فأغرق الله فرعون وجنده، ونصر عبده، وهذه المصائب لا تزال
تنزل بمختلف الأمم حتى الآن، ولا يحمي منها إلا التقوى والاستقامة والإيمان.
لكن بني إسرائيل ما كادوا يفلتون من قبضة فرعون، ببركة موسى الذي جدد عقيدة التوحيد على ملة إبراهيم الخليل عليهما السلام، حتى نفخ فيهم الشيطان من روحه، وأخذوا يلحون على موسى أن يعوضهم عن دين التوحيد الذي دعاهم إليه وأنقذهم باسمه، بدين وثني خاص من نوع الأديان القائمة إذ ذاك في عموم المنطقة، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فما كان من موسى إلا أن رد عليهم مستنكرا ومحذرا، قال:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وكلمة " تجهلون " في هذا السياق إما من الجهل ضد العلم، وإما من الجهال بمعنى السفه، على حد قوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . ثم أخذ يؤكد لهم ما ينتظر المشركين من هلاك وما هم عليه من باطل قائلا: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وأخيرا ذكرهم موسى بالرسالة التي حملها إليهم إذ جاءهم برسالة التوحيد، وذكرهم بتفضيلهم إن عملوا بها على فرعون وآله، لما كان عليه هو وقومه من الشرك والوثنية، وعدم الاتعاظ بنذر الله المتوالية، وذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام بقوله إذ خاطبهم من جديد:{قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}
الآية. لكن مواعظ موسى عليه السلام لم تترك في نفوس بني إسرائيل أثرها المرغوب، لا في حياته ولا بعد مماته، ولم يلبثوا إلا قليلا حتى فقدوا الرشد والصواب، وتوعدهم الحق سبحانه وتعالى:{لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} .