الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الرابع عشر
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حصة هذا اليوم تستوب الربع الأول من الحزب الرابع عشر في المصحف الكريم، والآية الأولى منه هي قوله تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} والآية الأخيرة من هذا الربع قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ}
ــ
يبتدئ هذا الربع، بتقرير حقيقة ثابتة، ألا وهي أن السبيل إلى تلقي الدعوة والاستجابة لها هو تفتح العقل لإدراك ما يعرض عليه واستيعابه، وتفتح الحواس للإحساس بما تتلقاه من المحسوسات والمشاهدات واستيعابها، فإذا تعطلت ملكة العقل في أي إنسان عن وظيفتها الأساسية، وإذا تعطلت الحواس الظاهرة والباطنة عن نشاطها العادي، لم يبق لدى الإنسان أية وسيلة أخرى للإدراك ولا للإحساس، وبالتالي يتعذر عليه أن يتلقى الدعوة ويتفهمها، فضلا على أن يستجيب لها ويتجاوب معها، فقد تعطل فكره وتعطلت حواسه، وهو بمنزلة من مات موتا حقيقيا، وإن كان لا يزال معدودا بين الأحياء حياة ظاهرة.
وإذن فأمام الدعوة الإسلامية صنفان من الناس، أحياء لا يزالون يتمتعون بملكاتهم وحواسهم، وعندهم استعداد للفهم والتفاهم، وهؤلاء معقد الأمل والرجاء في نصر الدعوة الإسلامية، {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} وهناك أموات أحاطت بهم الضلالات والأوهام من كل جانب، فدمرت فيهم جميع الملكات، وعطلت في أنفسهم جميع الطاقات، وضربت من حولهم حصارا تاما لا يبقى معه أي منفذ تصل إليهم عن طريقه هذه الدعوة، ولا أية نافذة يطلون منها على حقيقة الكون والمكون، وهؤلاء وإن كانوا لا يزالون في الدنيا فهم موتى موتا معنويا وروحيا، وسيظلون على موتهم المعنوي هذا إلى أن تتم موتتهم الجسمية الأولى، ولن يبعثوا من موتهم المعنوي ثم موتهم الجسمي إلا يوم يحل موعد البعث والنشر والحشر يوم القيامة، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} أي الذين لا تزال ملكاتهم غير معطلة {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} أي الذين تعطلت ملكاتهم لا يستجيبون للرسول صلى الله عليه وسلم، فهم موتى، والميت لا يجيب إلا عندما يبعث ويحشر أمام الله {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
ويواصل كتاب الله في هذه السورة عرض شبهات المشركين في سياق الحكاية عنهم بلفظ {قالوا} أي قال المشركون لرسول الله.
ثم يعرض بعد ذلك حقائق الإيمان التي يتلقاها الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، ليبطل شبهات المشركين، مسبوقة بكلمة {قل} أي قل لهم يا محمد.
وها هنا يحكي كتاب الله ما يطالب به المشركون رسول
الله صلى الله عليه وسلم من تنزيل الآيات عليهم، وهم يقصدون بذلك أن يأتيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بخوارق العادات والمعجزات المادية، بدلا من آيات الوحي المبين، إذ إن كثيرا منهم بلغوا من التحجر والتبلد والانحطاط الفكري ما جعلهم لا يكتفون بآيات الوحي المبين، التي تقنع العقول وتثلج الصدور، فيجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله قادر على أن يأتيهم بالخوارق والمعجزات المادية، كما أتى بها للأمم السالفة من قبل، إلا أن المنهاج الجديد الذي جاءت به الدعوة الإسلامية - وهو خاتمة الرسالات إلى الناس كافة - هو عرض الحقائق الإيمانية على الإنسانية جمعاء، وحث الإنسان أينما كان على تفهم هذه الحقائق، ومعرفة صدقها وأحقيتها عن طريق التفكير بها، والنظر في دلائلها، والمقارنة بينها وبين بقية العقائد، فقد مضى العهد الذي كان فيه البشر لا يزالون أطفالا أو أشباه أطفال لا تقنعهم إلا المعجزات المادية وخوارق العادات التقليدية، وها قد أقبل مع ظهور الإسلام عهد جديد للبشرية، هو عهد إعدادها للنضج، وتهيئتها للرشد، والأخذ بيدها في سبيل هدايتها إلى الحق، عن طريق الانتفاع بنفس الطاقات الكامنة فيها، وتسخير العقل والقلب والضمير والحواس الظاهرة والباطنة لإدراك حقائق الإيمان، إدراكا منبثقا من أعماق الإنسان، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى حكاية عن المشركين {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} وقوله تعالى في رد الرسول صلى الله عليه وسلم على طلبهم {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً}. ثم يأتي التعقيب بقوله تعالى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .
ويأخذ كتاب الله في التنبيه على بعض الحقائق الكونية التي
تساعد الإنسان على الوصول بنفسه إلى إدراك عقيدة التوحيد الأساسية، متى أحسن التأمل فيها، واستخلص العبرة منها.
- الحقيقة الأولى- أنه ما من جنس جنس، ونوع نوع، وصنف صنف من أجناس الأحياء وأنواعها وأصنافها إلا وله من الخصائص والصفات المشتركة، والنواميس الثابتة لسائر أطوار حياته ما يجعله {أمة واحدة} مشابهة لما في النوع الإنساني نفسه، من أمم مختلفة الألسنة ومختلفة الألوان. ولا تقل حكمة الله في بقية خلقه، وعنايته بتدبير أمره، عن عنايته بالإنسان وتدبيره لأمره، وحكمته في خلقه.
- الحقيقة الثانية - أن كل ما خلق الله من عوالم الأحياء على تعدد أجناسها، وتنوع أنواعها، واختلاف أصنافها، هو في نهاية الأمر كما في بدايته شيء واحد متماثل، ونظام واحد متكامل، لأنه انبثق عن خالق واحد نفخ فيه الروح، له الخلق والأمر، وهو الحي القيوم.
- الحقيقة الثالثة - أن الحق سبحانه وتعالى الذي انفرد بخلق كل شيء قد انفرد أيضا بتدبير كل شيء، فما من شيء صغر أو كبر، جل أو حقر، إلا وهو محل العناية الإلهية، بحيث لا يلحقه أدنى تفريط ولا إهمال {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .
وما من جزء من أجزاء الكون إلا وهو يسير إلى مصيره المحتوم، وفق تدبير محكم ونظام مرسوم، لا يتخلف عنه قلامة ظفر، فمشيئة الله هي القانون الحتمي الأول، وتدبير الله هو القانون الحتمي الأخير.
وبديهي أن إدراك هذه الحقائق الثلاث كاف لأن يجعل من له مسكة من العقل، وأقل حظ من التفكير، وأبسط نصيب من الملاحظة، مؤمنا بالله من أعماق قلبه حق الإيمان، بعيدا كل البعد عن الشرك بالله وعبادة الأصنام والأوثان، ولا يصعب عليه أن يستخلص هذه الحقائق جميعا من قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} .
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} يمكن أن يحمل على أنه وارد في سياق ما سبق من قوله تعالى: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} . وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فيكون مرده كسابقه إلى الأحياء بأجسامهم، الموتى بقلوبهم، وهم المشركون الذين لا يستيقظون من سباتهم العميق إلا على أهوال النشر والحشر.
ويمكن أن يعود الضمير فيه إلى أقرب مذكور، ويحمل على معنى أن الأحياء من غير الإنسان ستحشر أيضا كما يحشر الإنسان، على حد قوله تعالى:{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} وكلا المعنيين صحيح لغة وشرعا.