المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الأخير من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٢

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌الربع الأول من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المائدة

- ‌الربع الثاني من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الحادي عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني عشرمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثانيفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني عشرفى المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث عشرمن المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأنعام

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس عشرفي المصحف (ق)

- ‌ سورة الأعراف

- ‌الربع الأول من الحزب السادس عشرفي المصحف (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأنفال

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة التوبة

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع عشرفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب العشرينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الأخير من الحزب الثامن عشرفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الأخير من الحزب الثامن عشر

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

في حصة هذا اليوم نتناول الربع الأخير من الحزب الثامن عشر في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} إلى قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} .

ــ

أول ما ينبغي التنبيه إليه في بداية هذه الحصة هو أن أول آية من هذا الربع، ترتبط ارتباطا وثيقا بالآيات السابقة عليها في أواخر الربع الماضي، فقد سبق قبلها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} . ومعنى هذه الآيات السابقة أن طاعة الله ورسوله واجبة على المؤمنين، وأن مخالفة أمر الرسول بعد العلم بأمره محرمة عليهم وهم منهيون عنها نهيا باتا، ثم طالبهم الحق سبحانه وتعالى بأن لا يسلكوا مسلك المشركين والمنافقين، إذ المشركون مجاهرون بالمخالفة، مصرون على العناد، والمنافقون - وإن أظهروا الطاعة- فهم ينطوون على النفاق والإلحاد، ومن هذا

ص: 319

السياق انتقل كتاب الله مباشرة إلى وصف دقيق فيه تبكيت وتنكيت ينطبق على المشركين والمنفقين الذين نهى الله المؤمنين عن اتباعهم وسلوك مسلكهم، وفي ذلك تحذير من نفس السلوك، فقال تعالى في شأنهم، تقريعا وتوبيخا، في بداية هذا الربع:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} أي الصم عن سماع الحق، لأنهم لا يستجيبون له، وإن قالوا سمعنا فهم لا يسمعون، والبكم عن الاعتراف بالحق - رغما عن تلقيه - لأنهم يمتنعون من ذكره وترديده.

وتعبير كتاب الله عن هذا الصنف من الخلق بكلمة {شر الدواب} مناسب لما لهم عليه كل المناسبة، فهم يشبهون الحيوانات العجماء في كونها لا تدرك عن طريق الاستماع بآذانها إلى كلام الناس إلا أصواتا غامضة تعجز كل العجز عن فهمها والإلمام بمعانيها، وهم يشبهون الحيوانات العجماء في كونها - وإن كان لها لسان- إلا أنها لا يصل منها إلى الغير إلا نبرات صوتية، لا قيمة لها ولا أهمية، وما دامت آذان هذا الصنف من الناس حين تسمع لا تنقل ما تسمعه إلى قلوبهم، وما دامت ألسنتهم حين تنطق إنما تهرف بما لا تعرف دون وعي ولا شعور، فآذانهم وألسنتهم أشبه ما تكون بآذان الدواب العجماء وألسنتها، وهم بسبب ذلك أدخل في عالم البهائم وأعرق، وأبعد من عالم الإنسان كل البعد. وسبق قوله تعالى في مثل هذا المقام:{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} .

قال القاضي عبد الجبار في كتابه (تنزيه القرآن عن المطاعن)

ص: 320

عند تفسير قوله تعالى، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}:" ذمهم على ترك القبول، ثم شبههم بالصم والبكم على طريقة اللغة، في مبالغة ذم من لا يقبل الحق، فربما قيل فيه إنه ميت، كما قال الله تعالى عن مثلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ولذلك قال هنا بعده: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ}، ثم قال {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فذمهم نهاية الذم " إذ لا خير فيهم ولا أمل في هدايتهم {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} أي أفهمهم {لَتَوَلَّوْا} أي لارتدوا بعد فهمه على أدبارهم {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي صادون عنه منصرفون، ولن ينفع العقل وحده صاحبه إذا كان قلبه ميتا، وإحساسه متبلدا.

وانتقل كتاب الله إلى مخاطبة المؤمنين بأشرف صفاتهم وهي صفة " الإيمان " داعيا إياهم إلى الاستجابة لله وللرسول، منبها لهم إلى أن تطبيق المنهج الإسلامي في الحياة هو الطريق الوحيد إلى الحياة الطيبة والعيش الكريم، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} قال الإمام البخاري {اسْتَجِيبُوا} أي أجيبوا {لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي لما يصلحكم. وقال عروة ابن الزبير: {لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد القهر. وقال القاضي عبد الجبار: وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} هو بعث من الله تعالى على الجهاد، فكما ذم من قعد عنه ولم يطع الرسول فيه كذلك مدح من قام بحقه. وأراد بقوله {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} أن الجهاد

ص: 321

يؤدي إلى حياتهم، من حيث لولاه لقتلهم الكفار، فهم كقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ويحتمل: إذا دعاكم للأمر الذي يؤدي به إلى حياة الأبد والثواب. وقال أبو بكر {ابن العربي} : " قوله تعالى {لِمَا يُحْيِيكُمْ} ليس يريد حياة المشاهدة والأجسام، وإنما يريد به حياة المعاني والقلوب، بدعائه إياهم إلى الإسلام، والقرآن، والحق، والجهاد، والطاعة، والألفة ".

وليعطي كتاب الله شاهدا حيا على صدق محتوى هذه الآية الكريمة، وعلى كون الدعوة الإسلامية كانت فعلا نقطة الانطلاق لإقامة حياة عزيزة الجانب موفورة البركات، جاء قوله تعالى في هذا السياق بعد بضع آيات:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فمن القلة إلى الكثرة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الحجر إلى الرشد، ومن الضيق والخصاصة إلى السعة والغنى عن الناس، ومن الانكسار إلى الانتصار.

والتعبير هنا بقوله تعالى: {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} تعبير حقيقي ينطبق على الواقع، فقد كان عدد المسلمين في بداية أمرهم بمكة أقل من القليل، وهم لا يتجاوزون بضع عشرات، وكانوا كالنقطة البيضاء في جلد الثور الأسود، إذ ليس في العالم باستثنائهم إذ ذاك إلا مشرك أو مجوسي أو يهودي أو نصراني، والكل يحوك لهم الدسائس، ويتربص بهم الدوائر، وينتظر لهم أسوأ مصير، فلم تمض إلا سنوات معدودة حتى نصر الله عبده، وهزم

ص: 322

الأحزاب وحده، وفك عن الإسلام الحصار المضروب من حوله، وانطلق كالموج الزاخر يزحف في مده الطالع من مكان إلى آخر، وكالشمس المضيئة تسطع على بقاع العالم بقعة بعد أخرى.

ويقابل معنى الحياة والإحياء المستفاد من قوله تعالى هنا في هذا الربع: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} معنى الهلاك والفناء المضاد له، المستفاد من قوله تعالى في سورة البقرة:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . روى الترمذي وصححه، وأبو داوود، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال الحاكم إنه على شرط الشيخين، وابن جرير في تفسيره، كلهم من حديث يزيد ابن أبي حبيب عن " أسلم " مولى عمران التجيبي قال: " حمل رجل من المسلمين على صف الروم في غزوة كانوا يغزونها حتى دخل فيهم، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري، أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على غير التأويل، نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا معشر الأنصار، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر واجتمعنا معشر الأنصار تخفيا، فقلنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونصره، حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما، فأنزل الله تعالى على نبيه يرد علينا ما قلنا:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة في

ص: 323

الإقامة في الأهل والمال وفي ترك الجهاد. قال " أسلم " راوي هذا الحديث: فما زال أبو أيوب الأنصاري شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم.

وقد نبه مصلحو الإسلام في القرن الأخير، وفي طليعتهم حكيم المشرق جمال الدين الأفغاني الحسيني ومؤرخ المغرب أحمد ابن خالد الناصري الجعفري إلى أن أهم سبب كان ولا يزال لطمع الأجانب في العالم الإسلامي هو إهمال المسلمين، لما أمرهم الله به وحضهم عليه، من العناية التامة بالقوة العسكرية، والفنون الحربية، ومن تركهم الاستعداد للجهاد، واعتمادهم في العدة والعتاد على نفس الأجانب الطامعين في السيطرة على العباد والبلاد.

وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن الأمانة الملقاة على عاتق المسلمين وما يجب عليهم إزاء تلك الأمانة، من أداء وصيانة، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

و" الأمانة " شجرة وارفة الظلال ذات فروع وأغصان، ويندرج تحتها جميع الأعمال التي ائتمن الله عليها الإنسان، فتبدأ بالخلافة عن الله في الأرض، والقيام بتطبيق بنود الدستور الإلهي بين جنباتها:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} وتتسع الأمانة شيئا فشيئا حتى تشمل واجب المسلم في جميع مجالات الحياة: واجبه نحو ملته، ونحو أمته، ونحو دولته، ونحو مجتمعه، ونحو أسرته وأولاده، ونحو

ص: 324

عماله وطلابه، ونحو نفسه التي بين جنبيه، ففي جميع هذه المجالات، وفيما هو أعلى منها أو دونها، توجد أمانة مقدسة، وتوجد مسؤولية كبرى عن تلك الأمانة، حتى لا يضيعها المؤتمنون عليها فيحسبوا في عداد الخائنين. ومن خان أي نوع من أنواع الأمانة الملقاة على عاتقه في أي مجال من مجالاتها يعد خائنا لله ورسوله في نظر الإسلام، لأنه يعتبر العدو " رقم واحد " للصالح العام.

قال ابن كثير: " والصحيح أن هذه الآية عامة، وإن صح أنها وردت على سبب خاص، فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء، و " الخيانة " تعم الذنوب الصغار والكبار، اللازمة والمتعدية}.

وأخيرا نبه كتاب الله إلى حقيقة من كبريات الحقائق تبشر المؤمنين وتلقي الطمأنينة في قلوبهم، لا سيما في أوقات الأزمات، والخطوب المدلهمات، وهذه الحقيقة هي أنه كما أنفق مشركو قريش كثيرا من الأموال، واستنفروا العدد العديد من الرجال، لقتال المسلمين وإبادتهم، ورغما عن ذلك باد الشرك وانهزم المشركون، وبقي الإسلام وانتصر المسلمون، فكذلك سينفق خصوم الإسلام بغية القضاء عليه أموالهم، وسيؤلبون عليه- لكسر شوكته- جميع قواهم، لكن عناية الله ستضع حدا لمكرهم، وترد كيدهم في نحرهم، فلا يجنون من نفقاتهم العريضة إلا حسرة وخسرانا، ولا من مؤامراتهم الطويلة إلا هوانا وخذلانا، وذلك ما يتضمنه قوله تعالى في هذا الربع مبشرا للمؤمنين بكتابه، والمتعلقين بأهدابه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

ص: 325