الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جعلُوا عُقُولهمْ دعاة إِلَى اللَّه ووضعوها مَوضِع الرُّسُل فِيمَا بَينهم، وَلَو قَالَ قَائِل: لَا إِله إِلا اللَّه، عَقْلِي رَسُول اللَّه، لم يكن مستنكرا عِنْد الْمُتَكَلِّمين من جِهَة الْمَعْنى، وَظهر فَسَاد قَول من سلك هَذَا المسلك.
ثُمَّ نقُول وَالله الْهَادِي والموفق: إِن اللَّه تَعَالَى أسس دينه وبناه عَلَى الِاتِّبَاع وَجعل إِدراكه وقبوله بِالْعقلِ، فَمن الدّين مَعْقُول وَغير مَعْقُول، والاتباع فِي جَمِيعه وَاجِب. وَمن أهل السّنة من قَالَ بِلَفْظ آخر، قَالَ إِن اللَّه لَا يعرف بِالْعقلِ، وَلَا يعرف مَعَ عدم الْعقل وَمعنى هَذَا: أَن اللَّه تَعَالَى هُوَ الَّذِي يعرف العَبْد ذَاته فَيعرف اللَّه بِاللَّه لَا بِغَيْرِهِ، لقَوْله عز وجل:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي من يَشَاء} ، وَلم يقل: وَلَكِن الْعقل يهدي من يَشَاء. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} والآيات فِي هَذَا الْمَعْنى كَثِيرَة.
171 -
وَقد ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -
قَالَ: " وَالله لَوْلَا اللَّه مَا اهتدينا وَلَا تصدقنا وَلَا صلينَا " فَهَذِهِ الدَّلَائِل دلّت أَن اللَّه تَعَالَى هُوَ الْمُعَرّف إِلا أَنه
إِنما يعرف العَبْد نَفسه مَعَ وجود الْعقل لِأَنَّهُ سَبَب الإِدراك والتمييز لَا مَعَ عَدمه، لأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لقوم يعْقلُونَ} ، وَقَالَ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قلب} وَقَالَ سبحانه وتعالى مخبرا عَن أَصْحَاب النَّار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} وَالله يُعْطي العَبْد الْمعرفَة بهدايته إِلا أَنه لَا يحصل ذَلِك مَعَ فقد الْعقل. وَهَذَا كَمَا أَن العَبْد لَا يعرف اللَّه بجسمه، وَلَا بشخصه، وَلَا بِرُوحِهِ، وَلَا يعرفهُ مَعَ عدم حسمه، وشخصه، وروحه. كَذَلِك لَا يعرف اللَّه بِالْعقلِ وَلَا يعرفهُ مَعَ عدم الْعقل، وَنَظِير هَذَا أَيْضا: أَن الْوَلَد لَا يكون مَعَ فقد الوطئ وَلَا (يكون) بالوطئ، بل يكون بإِنشاء اللَّه وخلقه. وَكَذَلِكَ لَا يكون الزَّرْع إِلا فِي أَرض، وبذر، وَمَاء، وَلَا يكون بذلك، بل يكون بقدرة اللَّه وإِنباته. قَالَ اللَّه تَعَالَى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحن الزارعون} مَعْنَاهُ: أأنتم تنبتونه أَن نَحن المنبتون. يُقَال للْوَلَد زرعه اللَّه أَي: أَنْبَتَهُ اللَّه، وأمثال هَذَا كَثِيرَة، والموفق يَكْتَفِي باليسير، والمخذول لَا يشفيه الْكثير، وَقد قَالَ بعض أهل الْمعرفَة: إِنما أعطينا الْعقل لإِقامة الْعُبُودِيَّة، لَا لإِدراك الربوبية، فَمن شغل مَا أعْطى لإِقامة الْعُبُودِيَّة بإِدراك الربوبية، فَاتَتْهُ الْعُبُودِيَّة، وَلم يدْرك الربوبية. وَمعنى قَوْلنَا: إِنما أعطينا الْعقل لإِقامة الْعُبُودِيَّة هُوَ أَنه آلَة التَّمْيِيز بَين الْقَبِيح وَالْحسن، وَالسّنة والبدعة، والرياء والإِخلاص،
ولولاه لم يكن تَكْلِيف وَلَا توجه أَمر وَلَا نهي، فَإِذَا اسْتَعْملهُ عَلَى قدره، وَلم يُجَاوز بِهِ حَده أَدَّاهُ ذَلِك إِلَى الْعِبَادَة الْخَالِصَة، والثبات عَلَى السّنة، وَاسْتِعْمَال المستحسنات وَترك المستقبحات.
172 -
فَيكون هَذَا معنى قَول نَبِي اللَّه. فِي الرجل يكثر الصَّلَاة وَالصِّيَام: " إِنما يجازى عَلَى قدر عقله ". وَقَالَ بَعضهم: الْعقل مُدبر يدبر لصَاحبه أَمر دُنْيَاهُ وعقباه، فَأول تَدْبيره الإِشارة إِلَى الْمُدبر الصَّانِع، (ثُمَّ) إِلَى معرفَة النَّفس ثُمَّ يُشِير إِلَى صَاحبه بالخضوع وَالطَّاعَة لله، وَالتَّسْلِيم لأَمره، والموافقة لَهُ، وَهَذَا معنى قَوْلهم: الْعَاقِل من عقل عَنِ اللَّه أمره وَنَهْيه. وَقَالَ بَعضهم: الْعقل حجَّة اللَّه عَلَى جَمِيع الْخلق، لِأَنَّهُ سَبَب التَّكْلِيف، إِلا أَن صَاحبه لَا يسْتَغْنى عَنِ التَّوْفِيق فِي كل وَقت. وَنَفس الْعقل بالتوفيق كَانَ، وَالْعقل مُحْتَاج فِي كل وَقت إِلَى توفيق جَدِيد، تفضلا من اللَّه تَعَالَى، وَلَو لم يكن كَذَلِك، لَكَانَ الْعُقَلَاء مستغنين عَنِ اللَّه بِالْعقلِ، فيرتفع عَنْهُم الْخَوْف والرجاء، ويصيرون آمِنين من الخذلان، وَهَذَا تجَاوز عَن دَرَجَة الْعُبُودِيَّة وتعد عَنْهَا، ومحال من الْأَمر، إِذ لَيْسَ من الْحِكْمَة أَن ينزل اللَّه أحدا غير مَنْزِلَته، فَإِذَا أغْنى عبيده عَن نَفسه فقد أنزلهم غير مَنْزِلَتهمْ، وَجَاوَزَ بهم حدودهم، وَلَو كَانَ هَذَا هَكَذَا لَا ستوى الْخلق والخالق فِي معنى من مَعَاني الربوبية، وَالله تَعَالَى لَيْسَ كمثله شَيْء فِي جَمِيع الْمعَانِي.
وَقَالَ بَعضهم: الْعقل عَلَى ثَلَاثَة أوجه، عقل مَوْلُود مطبوع، وَهُوَ عقل ابْن آدم الَّذِي بِهِ فضل عَلَى أهل الأَرْض، وَهُوَ مَحل التَّكْلِيف وَالْأَمر وَالنَّهْي، وَبِه يكون التَّدْبِير والتمييز.
وَالْعقل الثَّانِي: عقل التأييد، الَّذِي يكون مَعَ الإِيمان مَعًا، وَهُوَ عقل الْأَنْبِيَاء وَالصديقين، وَذَلِكَ تفضل من اللَّه تَعَالَى.
وَالْعقل الثَّالِث: هُوَ عقل التجارب، والعبر، وَذَلِكَ مَا يَأْخُذهُ النَّاس بَعضهم من بعض، وَمن هَذَا قَول من قَالَ: ملاقاة النَّاس تلقيح الْعُقُول. وَقَالَ بعض أهل الْمعرفَة: مِقْدَار الْعقل فِي الْمعرفَة كمقدار الإِبرة عِنْد ديباج أَو خَز فَإِنَّهُ لَا يُمكن لبس ديباج أَو خَز، إِلا أَن يخاط بالإِبرة، فَإِذَا خيط بالإِبرة فَلَا حَاجَة لَهَا إِلَى الإِبرة. كَذَلِك تضبط الْمعرفَة بِالْعقلِ، لَا أَن الْمعرفَة تحصل من الْعقل أَو تثبت بِهِ.
وَاعْلَم: أَن فصل مَا بَيْننَا وَبَين المبتدعة هُوَ مَسْأَلَة الْعقل فإِنهم أسسوا دينهم عَلَى الْمَعْقُول، وَجعلُوا الِاتِّبَاع والمأثور تبعا للمعقول، وَأما أهل السّنة؛ قَالُوا: الأَصْل فِي الدّين الِاتِّبَاع والمعقول تبع، وَلَو كَانَ أساس الدّين عَلَى الْمَعْقُول لَا ستغنى الْخلق عَنِ الْوَحْي، وَعَن الْأَنْبِيَاء، ولبطل معنى الْأَمر وَالنَّهْي، ولقال من شَاءَ مَا شَاءَ، وَلَو كَانَ الدّين بني عَلَى الْمَعْقُول لجَاز للْمُؤْمِنين أَن لَا يقبلُوا شَيْئا حَتَّى يعقلوا. وَنحن إِذَا تدبرنا عَامَّة مَا جَاءَ فِي أَمر الدّين من ذكر صِفَات اللَّه، وَمَا تعبد النَّاس بِهِ من اعْتِقَاده، وَكَذَلِكَ مَا ظهر بَين