الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
211 -
" إِن الدّين بَدَأَ غَرِيبا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ فطوبى للغرباء ".
قَالَ: فَنحْن الْيَوْم فِي ذَلِك الزَّمَان وَبَين أَهله، فَلَا تنكر مَا تشاهده مِنْهُ، وسل اللَّه الْعَافِيَة من الْبلَاء، واحمده عَلَى مَا وهب لَك من السَّلامَة ثُمَّ إِنِّي تدبرت هَذَا الشَّأْن فَوجدت عظم السَّبَب فِيهِ أَن الشَّيْطَان صَار بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نَفسه بِفضل ذكاء وذهن، يُوهِمهُ أَنه إِن رَضِي فِي عمله ومذهبه بِظَاهِر من السّنة، وَاقْتصر عَلَى وَاضح بَيَان مِنْهَا كَانَ أُسْوَة الْعَامَّة، وعد وَاحِدًا من الْجُمْهُور والكافة، فحركهم بذلك عَلَى التنطع فِي النّظر، والتبدع بمخالفة السّنة والأثر، ليبينوا بذلك عَن طبقَة الدهماء، ويتميزوا فِي الرُّتْبَة عَمَّن يرونه دونهم فِي الْفَهم والذكاء، واختدعهم بِهَذِهِ الْمُقدمَة حَتَّى استزلهم عَن وَاضح المحجة، وأورطهم فِي شُبُهَات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا فِي حقائقها، وَلم يخلصموا مِنْهَا إِلَى شِفَاء نفس، وَلَا قبلوها بِيَقِين علم، وَلما رَأَوْا كتاب اللَّه تَعَالَى ينْطق بِخِلَاف مَا انتحلوه، وَيشْهد عَلَيْهِم بباطل مَا اعتقدوه، ضربوا بعض آيَاته بِبَعْض وتأولوها عَلَى مَا سنح لَهُم فِي عُقُولهمْ، واستوى عِنْدهم عَلَى مَا وضعوه من أصولهم، ونصبوا الْعَدَاوَة لأخبار رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ -
ولسننه المأثورة عَنهُ، وردوها عَلَى وجوهها وأساءوا فِي نقلتها القالة، ووجهوا عَلَيْهِم الظنون، ورموهم بالتزيد، ونسبوهم إِلَى ضعف الْمِنَّة، وَسُوء الْمعرفَة بمعاني مَا يَرْوُونَهُ من الحَدِيث، وَالْجهل بتأويله، وَلَو سلكوا سَبِيل الْقَصْد ووقفوا عِنْدَمَا انْتهى بهم التَّوْقِيف
، لوجدوا برد الْيَقِين وروح
الْقُلُوب، ولكثرت الْبركَة وتضاعف النَّمَاء، وانشرحت الصُّدُور، ولأضاءت فِيهَا مصابيح النُّور، وَالله يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم.
وَاعْلَم أَن الْأَئِمَّة الماضين وَالسَّلَف الْمُتَقَدِّمين لم يتْركُوا هَذَا النمط من الْكَلَام، وَهَذَا النَّوْع من النّظر عَجزا عَنهُ وَلَا انْقِطَاعًا دونه، وَقد كَانُوا ذَوي عقول وافرة، وأفهام ثاقبة.
وَكَانَ فِي زمانهم هَذِه الشّبَه والآراء، وَهَذِه النَّحْل والأهواء، وَإِنَّمَا تركُوا هَذِه الطَّرِيقَة، وأضربوا عَنْهَا لما تخوفوه من فتنتها، وَحَذرُوهُ من سوء مغبتها، وَقد كَانُوا عَلَى بَيِّنَة من أَمرهم، وعَلى بَصِيرَة من دينهم لما هدَاهُم اللَّه بِهِ من توفيقه، وَشرح بِهِ صُدُورهمْ من نور مَعْرفَته، وَرَأَوا أَن فِيمَا عِنْدهم من علم الْكتاب وحكمته، وتوقيف السّنة وبيانها غنى ومندوحة عَمَّا سواهُمَا، وَأَن الْحجَّة قد وَقعت بهما، وَالْعلَّة أزيحت بمكانهما، فَلَمَّا تَأَخّر الزَّمَان بأهلة وفترت عزائمهم فِي طلب حقائق عُلُوم الْكتاب وَالسّنة، وَقلت عنايتهم بهَا، واعترضهم الْمُلْحِدُونَ بشبههم، والمتحذلقون بجدلهم، حسبوا أَنهم إِن لم يردوهم عَن أنفسهم بِهَذَا النمط من الْكَلَام، وَلم يدافعوهم بِهَذَا النَّوْع من الجدل لم يقووا وَلم يظهروا فِي الْحجَّاج عَلَيْهِم، فَكَانَ ذَلِك ضلة من الرَّأْي، وغبنا فِيهِ وخدعة من الشَّيْطَان وَالله الْمُسْتَعَان.
فَإِن قَالَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم، فإِنكم قد أنكرتم الْكَلَام، ومنعتم اسْتِعْمَال أَدِلَّة الْعُقُول، فَمَا الَّذِي تعتمدون فِي صِحَة أصُول دينكُمْ، وَمن أَي طَرِيق تتوصلون إِلَى معرفَة حقائقها، وَقد عَلَّمْتهمْ أَن الْكتاب لم يعلم حَقه، وَالنَّبِيّ لم يثبت صدقه إِلا بأدلة الْعُقُول، وَأَنْتُم قد نفيتموها. قُلْنَا: أَنا لَا ننكر أَدِلَّة الْعُقُول، والتوصل بهَا إِلَى المعارف، وَلَكنَّا لَا نَذْهَب فِي اسْتِعْمَالهَا إِلَى الطَّرِيقَة الَّتِي سلكتموها فِي الِاسْتِدْلَال بالأعراض، وتعلقها بالجواهر وانقلابها فِيهَا عَلَى حُدُوث الْعَالم، وإِثبات الصَّانِع، ونرغب عَنْهَا إِلَى مَا هُوَ أوضح بَيَانا، وَأَصَح برهانا، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء أخذتموه عَنِ الفلاسفة، وَإِنَّمَا سلكت الفلاسفة هَذِه الطَّرِيقَة، لأَنهم لَا يسثبتون النبوات، وَلَا يرَوْنَ لَهَا حَقِيقَة، فَكَانَ أقوى شَيْء عِنْدهم فِي الدّلَالَة عَلَى إِثبات هَذِه الْأُمُور مَا تعلقوا بِهِ من الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْأَشْيَاء.
فَأَما مثبتوا النبوات فقد أغناهم اللَّه عز وجل عَن ذَلِك، وكفاهم كلفة الْمُؤْنَة فِي ركُوب هَذِه الطَّرِيقَة المعوجة الَّتِي لَا يُؤمن الْعَنَت عَلَى راكبها، والإِبداع والانقطاع عَلَى سالكها.
وَبَيَان مَا ذهب إِلَيْهِ السّلف من أَئِمَّة الْمُسلمين رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِم فِي الِاسْتِدْلَال عَلَى معرفَة الصَّانِع، وإِثبات توحيده وَصِفَاته، وَسَائِر مَا ادّعى أهل