الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبويع علي. وأرسل إلى طلحة والزبير للبيعة فتقاعدا. فسلّ مالك الأشتر سيفه وقال لطلحة: والله لتبايعن أو لأضربن به ما بين عينيك. والمتأهلون للإمامة من أهل الشورى بايعوا مكرهين. قال سعد: بايعته واللحى علي. فقال: والله ما هو أحق بها مني بقميصي هذا.
(إمامة علي)
وأما إمامة علي رضي الله عنه فلم يكن لها سبب غير البيعة. ولم يكن الإجماع عليه من كل الأمة، بل كانت الناس معه على ثلاثة أقسام:
قسم له، وقسم عليه،
وقسم لا له ولا عليه.
ثم إن عائشة رضي الله عنها كانت في الحج. فلما قدمت وجدت عثمان
قد قتل، قالت: مصيتموه كما يمص الثوب ثم درتم فقتلتموه. وضربت مخيمها خارجا عن المدينة وقالت: لا أدخل بلدا يقام فيه على أمير المسلمين فيقتل بغير ثبوت حق إلا أن يقتل علي غرماء عثمان. فقال علي: هذا ابتداء أمري، لا أوقع فيه الدماء. وكان المتفق على قتل عثمان مع سوادهم نحوا من عشرين ألفا قد
التموا إلى جملة عسكر علي داخلين فيه. فلما امتنع من قتلهم رحلت تريد البصرة ساخطة من علي، فخرج معها معظم الصحابة تعظيما لها وطلبا لإرضائها. فلم يتحمل علي رضي الله عنه لسخطها ومفارقتها المدينة. فاستشار الحسن للخروج وارءها فأشار إليه أن لا يخرج، قال له: إن المدينة دار الهجرة والخلفاء قبلك لم يفارقوها فاستقام أمرهم. فلم يقبل شوره. وخرج بعسكره لإرضائها. فلم تزل ترحل ويرحل وتنزل وينزل ويتراسلان، وهي تأبى على الرجوع إلا بتعجيل قتل الغرماء وهو يأبى إلا التأخير،
حتى نزل البصرة. فلم ير علي بدا من إجابتها إلى ما تريد، فاتفق معها على قتلهم من الغد. فعرف الغرماء جمع أمرهم على قتل قتلة عثمان، فأجمعوا أمرهم على إيقاع الفتنة وبيتوا ذلك الرأي. فلما كان الغد ركبوا حاملين على عسكر عائشة رضي الله عنها، فرأى طلحة والزبير ومن كان عارفا بالاتفاق حمل طرف من عسكر علي عليهم، قالوا: غدر علي -وكان الاتفاق دخلا- فحملوا دفعا عن أنفسهم. فرأى ذلك علي فقال: كان اتفاق عائشة وطلحة والزبير دخلا، فحمل دفعا عن نفسه. والتحم العسكران ووقعت الفتنة بغير قصد أحد منهم.
ورأى الزبير عليا في لجة الحرب فحمل عليه، وكان علي رضي الله عنه يعرف قول النبي صلى الله عليه وسلم:«بشر قاتل ابن صفية بالنار» فكف علي يده عنه، فلم يزل الزبير حتى خط الرمح في ترقوة علي، فلما رأى عليا لم يرفع يده عليه بل صرف الرمح عنه فقال له علي: أنسيت يا زبير قول النبي صلى الله عليه وسلم لك: "ستحاربه وأنت له ظالم" فلما سمع الزبير ذلك وتذكره حطم رمحه ورجع موليا. فتبعوه فقتلوه. وجرح طلحة في فخذه، فراح إلى وادي السباع، فتبعوه وقتلوه.
فلما قتل طلحة والزبير وهن أصحاب عائشة، وعقر جملها، وكانت في هودجها فبرك، وتباركت الناس عنده وجندلت الأبطال وتطايرت الكفوف دفعا عنها. وعظم على الناس وعلى علي أمرها لكونها واجب أن لا تسأل حاجة إلا من وراء حجاب، وهي حينئذ يطوف بها أعداؤها كالمسبية. فلما رأى علي ذلك وفات الأمر من يده كشف الناس عن الجمل وضرب عليه القبة. واستدعى بأخيها محمد بن أبي بكر فقال: أنت محرمها وما لأحد غيرك حد أن يقرب منها.
فمضى وحط يده على كتفها فقالت: يد من هذه حرقها الله بالنار، قال: يا أختاه نار الدنيا. وكان عاقتبه كما ذكرنا أنه شق بطن حمار وأدخل فيه وأحرق هو والحمار في مصر. ثم جاء غريم الزبير إلى علي فقال: قتلت الزبير.
فقال علي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «بشر قاتل ابن صفية بالنار» فقال: إن قاتلناك قلت أنتم في النار، وإن قاتلنا لك قلت أنتم في النار. ثم اتكأ على سنان رمحه فقتل نفسه. ثم بعد ذلك قعد علي وعائشة وبكيا ندما على ما وقع بينهما. والتم الباقي من العسكرين ورجعوا إلى المدينة.
ثم إن عليا رضي الله عنه لما رجع إلى المدينة استدعى ابنه الحسن واستشاره في عزل معاوية، فلم يشر به. وكان معاوية أميرا على الشام من قبل عثمان ورعيته راضون عنه. فأبى علي إلا عزله. فقال له: إن تكن لم تسمع شوري ولا بد أن تعزله فلا تعجل وابعث له حكما وتوليه على الشام حتى ينقاد لإمامتك ويستقر عقدك وعهدك في عنقه وذمامه بحيث لم يعد يمكنه المخالفة، ثم اعزله، وإن فعلت غير ذلك تتعب. فأبى علي إلا عزل معاوية، فكتب إليه:"من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد فإذا وصل إليك كتابي فأنت معزول". فلما وصل الكتاب إلى معاوية استدعى عمرو بن العاص ودفع إليه الكتاب، فلما قرأه وفهم ما فيه قال: اكتب إليه: "من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب، أما بعد فمن الذي ارتضاك وجعلك أمير المؤمنين حتى يصل عزلك إلي". فلما وصل الجواب إلى علي استدعى الحسن ودفعه إليه. فلما قرأه قال: هذا ما حذرتك منه، خذ الآن من معاوية ومن أهل الشام ما تكره.
وامتد الشر والنزاع بينهما حتى قتل في صفين سبعون ألفا، خمسة وعشرون من أصحاب علي وخمسة وأربعون من أصحاب معاوية. فلما طال الشر بينهما أجمع رأي العسكرين على تحكيم حكمين يتفقان على عزل واحد منهما ويحكم الآخر. فاختار علي من أصحابه أبا موسى الأشعري.
واختار معاوية عمرو بن العاص. فخرج الحكمان من العسكرين إلى خلاء لا أحد فيه غيرهما. وكانت الدهاة من العرب حينئذ خمسة: عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وأبو الأسود الدؤلي والمغيرة بن شعبة وإياس بن معاوية. واختار معاوية عمرو بن العاص.
فدعا عمرو أبا موسى قبل الخوض في بحث النصب والعزل فقال: يا أبا موسى ادن مني لأسارك. فقرب منه ولقاه أذنه، فقوي عزمه على كلامه. (1) فقال عمرو: يا أبا موسى، ما تقول في هذين الاثنين؟ فقال أبو موسى: بل قل أنت. فقال: أنت أكبر مني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند كل أحد، ولا يجوز لي أن أتقدمك. قال: لا بأس في ذلك نحن وحدنا فقل. قال عمرو: إني أرى الإسلام والمسلمين وهنوا بين هذين الاثنين -يعني عليا ومعاوية- كان السيف في أيام الخلفاء قبلها مغمودا عن المسلمين مشهورا على الكافرين، وفي أيام هذين انعكس الأمر، إلا أن معاوية أحلم من علي وأعرف بأمور الخلافة، وقد تولى الشام من الخلفاء والناس عنه راضون، وهو ابن أبي سفيان عم النبي عليه السلام، فإن كان علي صاهره وسبقه إلى الإسلام فمعاوية أسلم هو ووالده، ووالد علي مات كافرا، وكان معاوية كاتب وحيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم اهد قلبه"، وإني أرى خلع علي من الخلافة وإثباتها في معاوية أو في
(1) في طبعة الجناحي هنا: " فامتحن عمرو أبا موسى قبل الخوض في بحث النصب والعزل ليعلم فيه غرة أم لا، فقال: يا أبا موسى ادن مني لأسارك. فلم يقل: نحن في موضع خالي لا معنى للإسرار فيه بل قرب منه ولقاه أذنه، فقوي عزمه على خداعه"
عبد الله بن عباس ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو موسى: هذا هو الرأي. ومال قلب أبي موسى إلى ابن عباس وقلب عمرو إلى معاوية رضي الله عنهم. فرجعوا ووقفوا بين الصفين. وامتدت إليهم العيون والرقاب، وما أحد ملتفتا لا إلى علي ولا إلى معاوية. فقال أبو موسى: يا عمرو تقدم وتكلم. فقال: حاشا لله، أنت كبيري ومخدومي، إن أتقدمك في الخلاء فلا يسعني أن أتقدمك في الملإ.
فتقدم أبو موسى وخطب، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني أرى الإسلام قد وهن والمسلمين قد نقهوا بين علي ومعاوية، كان السيف في أيام الخلفاء قبلهم مشهورا على الكفار مغمودا عن أهل القبلة، وبين هذين انعكس الأمر، أشهدكم علي أن عزلت عليا ومعاوية عن الخلافة وأثبتها في ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس. ثم قعد. فقام عمرو بن العاص وقال بعد حمد الله والثناء عليه: أشهدكم علي أن عزلت عليا عن الخلافة كما عزله صاحبه وأثبتها في معاوية. (1)
(1) في طبعة الجناحي: "فقال أبو موسى: كذبت؛ ما على هذا كان الاتفاق، أنت كالحمار يحمل أسفارا. قال: بل أنت كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهت" وليست الزيادة في طبعة عبد الله منيب.
وقفل العسكران على ذلك، معاوية إلى الشام ينادى أمير المؤمنين، وعلي إلى العراق على الندم والشقاق من أصحابه. وحينئذ انفرد الخوارج عنه وفارقوا عسكره وقالوا: أنت على حكم
المخلوق والله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فإن أشهدت عليك بالتوبة وإلا لم نعد إليك. فقال علي: حاشا لله اعتراف بمعصية بعد طاعة. فبعث إليهم عبد الله بن عباس وناظرهم. فقال علي: لي أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه نزل بني قريظة على حكم سعد
بن معاذ وقتلهم بحكمه. فلم يلتفتوا إلى ذلك. واشتغل علي بقتالهم. وترك قتال معاوية. وكان حرب النهروان حربا مشهورا. فلما طال ذلك الأمر بينهم اجتمع ثلاثة من الخوارج: البرك بن عبد الله
وعمرو بن بكر التميمي وعبد الرحمن بن ملجم، ودار بينهم أن الإسلام والمسلمين قد وهنا بين هذه الثلاثة علي ومعاوية وعمرو بن العاص، ينبغي أن كلا منا يتقبل بواحد منه يقتله ويتقرب إلى الله ويريح المسلمين. فتقبل عمرو بن بكر التميمي بقتل عمرو، وتقبل البرك بن عبد الله بقتل معاوية، وتقبل ابن ملجم بقتل علي رضي الله عنه.
وكان ابن ملجم نكح قطام من الخوارج، فشرطت عليه ثلاثة آلاف دينار وقينة ومهرا وقتل علي، فتقبل بقتل علي. وفي ذلك قال الشاعر:
ولم أر مهرا ساقه متزوج
…
كمثل قطام من فصيح وأعجم
ثلاثة آلاف ومهر وقينة
…
وقتل علي بالحسام المجذم
ثم تواعدوا إلى ليلة تاسع عشرة من شهر رمضان، كل يروح إلى صاحبه يقتله بها. فصاحب عمرو راح إلى مصر، فلم يخرج عمرو إلى الصلاة بل
أخرج مكانه واحدا غيره فقتل. ومعاوية خرج تلك الليلة إلى الصلاة فضربه صاحبه على إليتيه فقدّها بالسيف أربع قطع، فلم يمت بتلك الضربة بل استدعى الطبيب ليلمها له، فقال: هذه لا تلحم إلا بالنار، فقال معاوية: لا طاقة لي بالنار. فداواها حتى اندملت، وهي أربع فلذ على حالها. وكان بعد ذلك يسمى معاوية أبا الألايا. وابن ملجم راح إلى الكوفة فضرب عليا تلك الليلة ضربة كان فيها قتله. وقبض ابن ملجم إلى حين موت علي ثم قتلوه. وكانت مدة خلافته خمس سنين، وعمره ثلاثا وستين سنة، كعمر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ودفن موضع قتله في مسجد الكوفة بين قصر الإمارة وبين القبلة، متشبها بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه جعل قبره موضع فراشه الذي مات عليه. وكذلك سائر الأنبياء تكون قبورهم كما نقل.