الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفس الكلام الدال عليه الأصوات والحروف كان كفرا.
(أن المعاصي واقعة بإرادة إبليس والعبد لا بإرادة الله)
ومنها أن المعاصي واقعة بإرادة إبليس والعبد، لا بإرادة الله تعالى وقدره. محتجين بحجتين:
الأولى: قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}
والجواب من وجوه:
الأول: أن ليس معنى الآية ما قصدوه من أن الحسنة من الله والسيئة منك، فإن المراد بالحسنة الأشياء المرضية في الدنيا من الغنيمة والظفر
ونحوه، والمراد بالسيئة الأشياء الكريهة من القتل والجرح ونحوه، لأنه تعالى قال:{مَا أَصَابَكَ} ولو أراد ذلك قال: "ما أصبت".
الثاني: إن كان هذا الذي فسروه الرافضة هو الذي قصده القائلون قبلُ بقولهم: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} فقد رد الله عليهم بقوله عقبه: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
الثالث: أن الله تعالى وبخ قائل القول الأول وجعلهم على قولهم هذا كالبهائم بقوله: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} وإذا جعل القول الآخر على ما فسروه فهو الأول بعينه فقد صدقهم الله تعالى، ويلزم من ذلك تناقض القرآن، وهو منزه عن التناقض، فامتنع قصدهم.
الرابع: أن الكلام من أوله إلى آخره خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى قوله الرافضة يثبت تجويز السيئة عليه صلى الله عليه وسلم وهو معصوم، فتنافيا.
الخامس: أن معنى القول الآخر وهو {مَا أَصَابَكَ} منع دعوى القول الأول وهو: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ} وبيان الحديث الموبخ عليه وهو قوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا .. } أي فمال هؤلاء القوم لا يفهمون هذا الحديث، أي هو الذي ما أصابك إلى آخره وهو كله من عند الله، ويؤيده ذلك قوله تعالى بعد:{وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} أي إنما أرسلناك رسولا لهم لتبشر وتنذر لا لتكون بيدك الحسنة والسيئة من خير وشر، فهو كقوله تعالى:{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} وأمثال.
السادس: أن القرآن مملوء من الآيات الدالة على أن الأشياء من خير وشر واقعة بإرادته، كقوله تعالى:{ولو شاء الله ما فعلوه} {ولو شاء الله ما اقتتلوا} {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} {ومن يضلل الله فلا
هادي له} {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} وأمثال ذلك فوق مائة آية، بل حصره مشق من كثرته. فكيف أهملوه الرافضة وتمسكوا بشبهة لفظ واحد في آية واحدة وفسروه على قدر هواهم، وقد بينا فساده. وهلا تمسكوا بالكثير المقطوع الدلالة وأولوا هذه الشبهة القليلة المظنونة الدلالة. وما هذا إلا انتقام من الله تعالى لهم، أضلهم عن الهدى حيث نسبوا إليه شركية البشر في الإرادة وشركية الشيطان كما سيأتي.
الحجة الثانية: قولهم إن الله تعالى يعذب على المعصية، فلو كانت بإرادته كان التعذيب عليها ظلما.
والجواب من وجوه:
الأول: أن الله تعالى عالم بوقوع المعصية وقادر على منع إبليس عن حمل العاصي على المعصية وعن وقوع المعصية من العاصي اتفاقا، فإذا لم يمنعها دل على إرادته.
الثاني: أن الظلم عبارة عن تصرف في ملك الغير بغير إذنه، والله تعالى لا يجد لغيره ملكا، فهو متصرف في ملك غير معارض في ملكه.
الثالث: أن السيد الخالق كما إذا أشقى أحد عبديه في الخدمة من احتطاب واحتراف وخشن العيش وأنعم على الآخر منهما لا يكون ظلما، كان ذلك في الخالق أولى.
الرابع: أن السلطان إذا نادى في مملكته وبين رعيته: من قتل قتلته، ثم قال لواحد منهم: أريد منك قتل فلان، فقتله، كان له قتله به ولم يكن ذلك ظلما بالاتفاق. فكيف يكون ظلما بالنسبة إلى السلطان المالك.
الخامس: قوله تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وفي ذلك كفاية عن كل دليل.
السادس: أن [نقول] في المخلوق إن السلطان إذا فعل ما ينكره الخلق لا يمكن أحد يعارضه لقوته، وهو غير حكيم؛ كيف يعارض الخالق الذي كل أفعاله واقعة على وفق الحكمة، وهذا أقوى الأقوياء.
السابع: أن الأغلب في الكون اليوم وقوع المعاصي على الطاعات. فإذا كان إبليس متصرفا في الأغلب منه كان متصرفا في الأكثر من العالم وكان للبارئ الجزء الأقل منه، وهذا لو كان لرئيس قرية مثله لم يرض بذلك واستنكف منه، فكيف بملك الممالك والملوك ومالكها.
الثامن: أن المعاصي إذا كانت واقعة بإرادة الشيطان وجب كفر المعتقد ذلك لإثبات الربوبية لغير الله تعالى. ونضرب لذلك مثلا في قتل الحسين رضي الله عنه، وكل معصية مثله، فنقول: إن الله تعالى أراد حياة الحسين رضي الله عنه وأراد الشيطان قتله، فتنازعت إرادة الله وإرادة الشيطان فيه،
وقد قتل وكمل مراد الشيطان دون مراد الله تعالى. وحينئذ فيلزم إثبات الربوبية للشيطان دونه تعالى، لأنه على هذا التقدير الأقوى فيستحق الربوبية دون العاجز. فتعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا.
التاسع: لا خلاف أن الله تعالى خلق إبليس مريدا لخلقه غير مكره عليه وهو عالم بما يصدر منه. وإبليس من أكبر العصاة. فلا دليل أظهر منه على أن المعاصي واقعة بقدر الله تعالى وإرادته.
العاشر: أن الطاعة والمعصية تتعلق بموافقة الأمر ومخالفته لا بموافقة الإرادة ومخالفتها، كما قال الله تعالى:{أفعصيت أمري} ولم يقل: "أفعصيت إرادتي"، وقال تعالى:{لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} ولم يقل: "يعصون ما أراد منهم ويفعلون ما يراد منهم". فإذا خالف الإنسان الأمر ووافق الإرادة في المعصية استحق العذاب لمخالفة الأمر، ولا لوم على المعاقب لموافقة العاصي إرادته. فانتفى الظلم لما عرفت من معنى القرآن في الآيتين المذكورتين.
قالوا: كيف يؤمر بما لا يراد، وهو عبث.
قلنا: بحسب عقولكم الفاسدة، لأن مثل ذلك واقع من الله تعالى