الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبالجملة فكان جمال العصر، مفخر الأفق، وينبوع المعرفة، ومعدن الإفادة، وإذا عدت رجالات المغرب، فضلا عن الأندلس، حسب فيهم صدرا. انتهى. وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذووه أهل الفضل.
وكان رحمه الله تعالى معظما للسنة، عالما عاملا، خاشعا قانتا، قوالا للحق، لا يخاف في الله تعالى لومة لائم. وكان رحمة الله معتنيا بضبط الألفاظ النبوية على اختلاف طرقها، وكتابه " المشارق " أزكى شاهد على ذلك، ولقد كان بعض من لقيته من صلحاء عصرنا وعلمائه يقول: لا أحتاج في كتب الحديث إلاّ للمشارق، فإذا كان عندي، أبالى بما فقدت منها، أو كلاهم هذا معناه. وسنذكر إن شاء الله تعالى بعض ما قيل في كتاب المشارق في محله من هذا الموضوع.
وكان رحمه الله حاضر الجواب حاد الذهن، متوقد الذكاء جامعا للفنون آخذا منها بالحظ الأوفر.
وكان القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله بارع الخط المغربي، وقد وقفت على خطه رحمه الله، فرأيت خطأ رائقا، وكان سريع الوضع، ويدل على ذلك كثرة أوضاعه، وكتب مع ذلك كتب كثيرة بيده.
وكان رحمه الله تعالى حسن العبارة لطيف الإشارة، وتآليفه شاهدة بذلك، وله في الفقه المالكي اليد الطولي، وعليه المعول في حل ألفاظ المدونة وضبط مشكلاته، وتحرير رواياتها، وتسمية رواتها. وتحقيق ذلك أنه جمع بين شرح المعاني وإيضاحها، وضبط الألفاظ، وذكر من رواها من الحفاظ.
صناعة التأليف بالمغرب
ولقد وقف في بعض التعاليق لأحد المتأخرين على كلام في صناعة
التأليف، رأيت أنَّ أجلبه جميعه، لمّا فيه من ذكر بلاغة القاضي عياض ونصه:
وقد كان للقدماء، رضي الله عنهم، في تدريس المدونة اصطلاحان: اصطلاح عراقي، واصطلاح قروي. فأهل العراق جعلوا من مصطلحهم مسائل مدونة كالأساس، وبنو عليها فصول المذهب بالأدلة والقياس، ولم يعرجوا على الكتاب بتصحيح الروايات، ومناقشة الألفاظ، ودأبهم القصد إلى إفراد المسائل، وتحرير الدلائل، ورسم الجدليين، وأهل النظر من الأصوليين. وأما الاصطلاح القروي فهو البحث على ألفاظ الكتاب، وتحقيق ما احتوت عليه بواطن الأبواب، وتصحيح الروايات وبيان وجوه الاحتمالات والتنبيه على ما في الكلام من اضطراب الجواب، واختلاف المقالات، مع ما أنضاف إلى ذلك من تتبع الآثار، وترتيب أساليب الأخبار، وضبط الحروف على حسب ما وقع من السماع، وافق ذلك عوامل الأعراب أو خالفها.
فهذه كانت سرة القوم رضوان الله عليهم، إلى أن عم التكاسل، وصار رسم العلم كالماحل. ويحقق ما قلناه تصرف التونسي في تعاليقه اللطيفة المنزع، واللخمي في تبصرته البارعة الختام والمطلع إلى غير ذلك من تآليف القرويين وتعاليق المحققين، من شيوخ الأفريقيين.
وقد سلك القاضي عياض في تنبيهاته مسلك جمع فيه بين الطريقتين
والمذهبين وذلك لقوة عارضته، نفعه الله بذلك، وأعاد إلينا من بركاته. انتهى.
وقال في هذا التعليق في موضوع آخر ما نصه: وأغلب تآليف المشارقة الإيجاز، لتمكن ملكتهم من التصرف، مثل كتاب ابن الحاجب، في فروعه وفي أصوله، والخونجي في المنطق، وغيرهما، وإن كان الغالب على جل أئمة المشارقة الإطناب، مثل الغزالي والإمام الفخر وغيرهما.
وأما أهل الأندلس فالغالب عليهم فيهقة البلاغة، في حسن رصف الكلام وانتقائه، مثل عبارة القاضي عياض في تآليفه، التي لا تسمح القرائح بالإتيان بمثلها والنسج على منوالها.
وانتهت صناعة التأليف في علماء المغرب، على صناعة أهل المشرق، لشيخ شيوخ العلماء في وقته، ابن البناء الازدء المراكشي، في جميع تصانيفه، أوجب ذلك براءة نسبة من البداوة، وملكنه في التصرف، التي هي نتيجة تحصيله.
ولم يظهر من علماء فاس شيء من التآليف المرتجلة ولا الملخصة، إلاّ ما كان سبيله النسيج بها على ما هي عليه فقط، كما في تأليف المدونة المنسوبة للشيخ أبي اللحسن وهي التي اعتنى بها طلبته، وبنوها على ما قيدوه عنه من فوائد المجلس، وذلك كله في العشرة الرابعة من المائة الثامنة. ثم تلاهم طلبة
الشيخ الجزولي على الرسالة، وتعددت تلك التقاييد أيضاً، ونسبة إلى الشيخ وإنما له فيها ما قيد عنه في المجلس. واختلف نظر الشيخين بحسب تعدد السلكات، فقيد كل طالب ما سمع. فلا يقال في هذه تآليف، لكونها منسوخة من أماكن معزوة.
والعلة في ذلك كون صناعة التعليم، وملكة التلقي، لم تبلغ فاسا، كما هي بمدينة تونس، اتصلت إليهم من الإمام المازري، كما تلقاه عن الشيخ الخمي، وتلقاها اللخمي عن حذاق القرويين، وانتقلت ملكة هذا التعليم إلى الشيخ ابن عبد سلام، مفتي البلاد الإفريقية وأصقاعها، المشهود له برتب التبريز والامامة، واستقرت تلذ الملكة في تلميذه ابن عرفة رحمه الله، وفي الشيخ ابن الإمام التلمساني. ونجب من طلبة ابن الإمام تلميذه الإمام أبو عبد الله الشريف، شارح الجمل وانتهت طريقته لولده أبي يحيى
المفسر العالم. واستقرت أيضاً طريقة ابن الإمام، في تلميذه سعيد بن محمّد العقباني، وانتهى ذلك إلى ولده شيخنا أبي الفضل قاسم العقباني، رحمهم الله جميعا. قال ابن خلدون، ولمن ذكرنا من أهل المائة الثامنة انتهت طريقة التعليم، وملكة التلقي. يعني بذلك الشريف والعقباني رحمهما الله تعالى، قال: لكونهما ألفا التصانيف البعيدة، وزاحما رتبة الاجتهاد من غير منازع.
قلت: وكذلك بلغ رتبة التبريز في تحصيل العلم، كل واحد من ولديهما، الفقيه السيد أبو القاسم بن سعيد، والفقيه الأوحد السيد أبو يحيى الشريف، إذ بلغ درجة الإمامة والفتيا. وأما الإمامة ابن عرفة، فانتفع به جماعة، فكان أصحابه كأصحاب سحنون: أئمة في كل بلد، فمنهم أيضاً من بلغ درجة التأليف ووقع الاتفاق على إمامته، وتقدمه وسمو رتبته، كشيخنا الإمام الحافظ المحصل أبي القاسم بن أحمد البرزلي، مفتي ابلاد الإفريقية، ومؤلف كتاب الأسلة الحاوية للنوازل والفتاوي. ومنهم شيخنا الإمام الحافظ المجتهد، صاحب التصانيف المفيدة، أبو عبد الله محمّد بن مرزوق، وله " المنزع النبيل، في شرح مختصر خليل "، و " شرح التهذيب "، وغير ذلك من المسائل العلمية.
قلت: إنما اقتصرت على ذكر هذين الشيخين الإمامين، لمّا لهما علي من المشيخة، ولشهرتهما بالتأليف، التي تقوم مقام الشاهدة لمّا قلته، حتى نبد عن شبه التعصب.
وأما من نجب من تلاميذة شيخ شيوخنا ابن عرفة، وتمكن من ملكة التعليم، فخلق يطول عددهم، فمنهم من أدركناه، وأخذنا عنه، وأجزنا مروياته، ومنهم من لم ندركه، نفع الله بجميعهم، وأعاد علينا من بركاتهم.
قلت: هنا انتهت ملكة الفقه من علماء القيروان عن المازري، إلى من ذكرنا، ثم إلى من لقينا.
وأما ملكة العلوم النظرية، فهي قاصرة على البلاد المشرقية، ولا عناية لحذاق القرويين والإفريقيين إلاّ بتحقيق الفقه فقط. ولم يزل الحال كذلك إلى أن رحل الفقيه ابن زيتون إلى الشرق، فلقي تلاميذ الفخر بن خطيب، ولازمهم زمانا، حتى تمكن من ملكة التعليم، وقدم إلى تونس، فانتفع به أهلها، وانتهت طريقته النظرية إلى تلميذه ابن عبد السلام المذكور، واستقل تلميذه بن عرفة بعده بتلك الطريقة، وكذلك أبو عيسى موسى ابن الإمام التلمساني المذكور ولهذا تجد أثر العلوم النظرية بتلمستان.
قال الإمام ابن خلدون وغيره من أئمة التاريخ: لم نشاهد في المائة الثامنة من سلك طريق النظار بفاس، بل في جميع هذه الأقطار، لأجل انقطاع ملكة التعليم عنهم، ولم يكن منهم من له عناية بالرحلة،
بل قصرت هممهم على طريق تحصيل القرآن، ودرس التهذيب فقط. نعم أخذوا شيئاً من مبادئ العربية من أهل الأندلس، القادمين عليهم من يبتة وغيرها، باستدعاء ملوك بني مرين. قال: ولهذا لم يتصدر من الفاسيين من يقرئ " الكتاب " كما هو متناول بين أهل الأندلس، مثل ابن أبي الربيع والشلوبين وغيرهما، لوجود ملكة النحو في قطر الأندلس، بسبب رحلة علمائها إلى تلقيه من أربابها بالمشرق، كما ارتحل أعلامهم إلى بغداد في تحصيل الفقه من الابهري، وكذا يحيى بن يحيى عن مالك، وغير واحد وكذلك علوم الحديث وغيره، كرحلة الإمام الحافظ أبي بكر بن العربي.
ولمّا كمل غرض أبي عنان، كبير ملوك بني مرين، من بناء مدرسته بالمتوكلية بفاس، وكل بعيد الصيت في علو الهمة، قال انظروا من يقري بها الفقه، فوقع الاختيار على الشيخ الصرصري الحافظ، ولمّا جلس بها واتسع صيته، وجه إليه أبو عنان المذكور من يسأله في مسائل التهذيب، التي انفرد باتقانها وحفظها، وطالبه بتحقيق ذلك وإتقانه، وحسن تلقيه، ولا أدري المنتخب له: هل هو أبو عيسى موسى ابن أبي الإمام المذكور آنفا، أم السيد الشريف أبو عبد الله شارح " الجمل "، المتقدم الذكر، أو هما معا، فطالباه بتحقيق ما أورده من المسائل عن ظهر قلب، على المشهور من حفظه، فانقطع انقطاعا فاحشا، ولمّا أضجره ذلك نزل عن كرسيه، وانصرف كئيبا، في
غاية القبض، ولمّا اشتهر ذلك عنه وجه إليه أبو عنان الملك المتقدم الذكر، فلما مثل بين يديه آنسة وسكنه، ثم قال له: أنا أمرت بذلك، كي تعلم ما عندك من العلم، وما عند الناس، وتعلم أنَّ دار الغرب في كعبة كل قاصد، فلا يجب أن تتكل على حفظك، وتقتصر على ما حصل عندك، ولا يمنعك ما أنت فيه من التصدي، عن ملاقاة من يرد من العلماء، والتنزل للأخذ عنهم، ولا يقدح ذلك في رتبتك عندنا، إن شاء الله تعالى.
لخصت هذه الحكاية من تاريخ القيسي، فأنظرها.
قلت: وعكس هذا وقع لفقهاء فاس في أواسط المائة الثامنة، لمّا شرق السلطان أبو الحسن رحمه الله، وانتهت به درجة الاستبداد والاستقلال ببلاد إفريقية، فظهر فقهاء المغرب ممن صحبه، على فقهاء تونس، لحفظهم كتاب التهذيب عن ظهر قلب، وزعيم فقهاء المغرب يومئذ الرجل الصالح، أبو عبد الله السطي رحمه الله ونفع به، إلى أن جاءت نوبة الشيخ ابن عبد السلام، وعقد مجلسه بمحضر السلطان المذكور، ومن معه من الفقهاء والنحاة والكتاب والرؤساء، وتوجهت مطالبة فقهاء المغرب له، فكان رحمه الله على ما وصفه به من أرخ الواقع، كأنه بحر تلاطمت أمواجه، فكان يقطعهم واحد بعد آخر، وتلميذه ابن عرفة كذلك، إلى أن قال ولي الله المنصف، أبو عبد الله السطي للسلطان: يا علي، كذا يكون التحصيل، وكذا يقرأ الفقه، ولو لم يكن بتونس إلاّ هذا الإمام لكان بها كل خير! فلا بد من ملازمة هذا لهذا المجلس، حتى ينتفع به أصحابنا، وينتع بطريقه. وذلك هو السبب في التنويه بالشيخ ابن السلام رحمه الله، على أنه كانت رغبته فيما عند الله أن مات.
قلت: وإنما ذكرت هذه القضايا تنشيطا للناظر، وتحميضا للذاكر، ولم نزل نسمع من أئمتنا ومن ذكرنا، في مجالي دروسهم، ما يشبه ما ذكرناه من آثار السلف لمّا في ذلك من تقوية باعث الطالب على كيفية التحصيل والدرك، والجد في إدراك أسبابه، وأخذ العلم من أربابه، والولوج إليه من بابه.
وكان الإمام المازري رحمه الله كثير الحكايات في المجلس، ويقول: هي جند من جنود الله، حتى كان لا يخلي مجالسه منها.
تنبيه: إياك أن تظن القصور بمن تصدى للتقييد على " التهذيب "، من طلبة الشيخ أبي الحسن، وكذا من تلاهم من طلبة الشيخ أبي زيد عبد الرحمن الجزولي، ويقرع سمعك ما أفتى به الشيوخ، ومن له في العلم الرسوخ، أنَّ تقاييد " التهذيب " و " الرسالة " لا يعول عليها في الإقراء، ولا يوثق بشيء منها في الفتيا، وأنَّ من عول عليها في الإقراء يرد المراتب.
فاعلم شرح الله صدرك، إنَّ القوم كانوا أهل صلاح وورع، وجد في طلب الفقه، وإفراط حرص ومثابرة على درس " التهذيب "، وحفظ ما يتعلق به من النصوص فقط، فبنى كل واحد في تقييده على ما سمعه من الشيخ، وما ناسب اجتهاده ونظره ومن تقايد الفقهاء، مثل ابن يونس، واللخمي، والتنبيهات، وابن رشيد واختلف رأيهم في ذلك، فمنهم الموجز، ومنهم المطنب، وباب الفتيا باب احتياط، فلا بد للمفتي من مباشرة الكتب المروية، والأمهات الأصلية، ولا ينبغي له الاقتصار على الواسطة، إذ لا يؤمن من خلل أو تصحيف، لفقد
ملكة التأليف، وإنما الغالب على طباعهم تغفل البداوة، فقدح ذلك في صناعة التصنيف، وكيفية التأليف، والقوم أهل دين متين كما وصفنا، فلا يقدح ذلك في مراتبهم، ولا يثلم مناصبهم.
ووجه ثان: ذكر أهل الاصول في باب الاجتهاد أنَّ مجهول الحال لا تقبل فتياه كالراوي، وإن أضاب كل واحد، ولا يخفى عليك وقوع مثل هذا لأصحاب تلك التقاييد.
ووجه ثالث: مبنى ما أفتى به العلماء من عدم التعويل على شيء منها في الإقراء والفتايا، هو الله اعلم، لمّا اشتملت عليه من ذكر الشيء وضده، على أسلوب واحد، وقد وقفت على ذلك في جل تلك التقاييد، وهو أن المقيد يجمع للخلاف المذهبي ما ليس فيه، بل هو خارج المذهب، وقد وقع ذلك في موضع غير واحد من تلك القاييد، كما نقل بعضهم الخلاف في التنقل في الصحراء قبل صلاة العيد وليس كذلك، بل الخلافة قيما إذا صليت في المسجد، وأما في الصحراء فلم يقل به إلاّ الشافعي. ومثل ذلك ما وقفت عليه في حكم السواك، قال المقيدع كلام الشيخ في باب جمل من الفرائض: واختلف في حكم السواك على قولين: فقيل إنه واجب، وقيل سنة، فأنت ترى هذا لخلاف، ولم يل بوجوبه إلاّ أهل الظاهر، وعملا بصيغة ظاهر الحديث الوارد في ذلك. وكذلك وقفت على الخلاف في غسل الجمعة، فقال المقيد: اختلف فيه: فقيل فرض، وقيل سنة. وقد علمت أيضاً قول أهل الظاهر بوجوبه، عملا بظاهر الحديث. وكذا الغسل: هل هو للجمعة أو لليوم؟ فقال المقيد: اختلف في ذلك على قولين: وقد علمت قول اهخل الظاهر، وأنه لليوم، حتى لو اغتسل بعد الصلاة لأجزأه.
وكذا وقفت على القول ببطلان صلاته، على القول بفريضته، ولم يقل بذلك أهل التصوف. وكذا القول بموجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل، وقد علمت نصوص أهل المذهب في هذه المسائل. ومن في تلك التقاليد ما لا يحصى كثرة لمن تأملها؛ وفيما ذكرنا كفاية، فلعل هذا هو سبب نقد العلماء في مجموع تلك التقاليد. والله اعلم.
تنبيه: أحذر أيّها الناظر، شرح الله صدري وصدرك، أنَّ يقع في نفسك أنَّ عجز هؤلاء السادات عن صناعة التأليف، والحذق في التصنيف، وعدم الاقتدار، على الترجيح والاختيار، وعدم القيام بمواد مدارك المحققين والنظار، يوجب قدحا في مناصبهم، أو وصما في مراتبهم، فتكون ممن أساء الظن بالسالف، وعرض نفسه إلى الهوى في مهاوي التلف، بل أوجب ذلك ما أصلناه وقدمناه، من أنَّ القوم كانوا أهل عمل ودين متين، وجرى على سنن السلف الأقدمين الصالحين العاملين، فشغلهم ما أخذوا فيه من مدينة العمل، وإثقال التقلل والمجاهدة، وتحري الحلال، والزهد والإقلال، عن تتبع مواد التحقيق، إلى فقد الملكة النظرية من هذا القطر، وانقراضها منه منذ زمان إلى عصرنا هذا: وما حكوه من عدم الترتيب، وقلة العزو للأقوال، حال من صرف عنايته لتقييد العلم من حيث هو، ولم يتكلف ذكر مشهور، ولا ما عليه الجمهور، أو يكون اعتمد في تقييد ما قيد على ما سمع من الشيخ في السلكات، فيعذر على هذا ولا يفند. والتقييد المعزو للشيخ أبي الحسن اقل تكلفا لا محالة، إلاّ أنّه لا يخفى ما فيه من ضعف الاختيار، عند التحقيق والاستبصار.
أعاد الله علينا من بركاتهم، ونفعنا بهم.
وما ذكرته في هذا الاستطراد مست الحاجة إليه، كما مست حاجة أئمة الحديث، على جلالتهم وورعهم، إلى تبيين الضعيف والمجرح، وتدوين أخبار الضعفاء، ومن نسب إليهم وهم أو تدليس أو وهن، وهذا لولا مسيس الحاجة، لم ينبغ أنَّ يلتفت إليه، والله الموفق بفضله.
ثم قال هذا العالم في موضع آخر: تنبيه: ولا يعترض على ما وقع للشيخ، من الحكاية التي حدثنا بها شيخنا الإمام البرزلي رحمه الله، قال: لمّا قدم الفقيه القباب، حافظ مدينة فاس، وزعيم فقهائها في عصره، يريد أداء فريضة الحج، فاجتاز بحضرة تونس، فحضرة مجلس شيخنا ابن عرفة، هو ومن كان معه من الفقهاء، فاستطرد الشيخ رحمه الله الكلام إلى إنَّ قال: وكثيرا ما نجد في تقييد الشيخ أبي الحسن: " يؤخذ من هذه المسألة "، فلا أدري صورة ذلك الأخذ ما هو؟ هل هو من طريق الاستقراء، أو الاستنباط، أو القياس، أو المفهوم؛ وكل قسم من هذه الأقسام يفتقر إلى شرط، ولا شيء من ذلك؟ فقال القباب لأصحابه بعد انصرافهم: علمتم ما تحصل بأيدينا من الفقه، وصح عندكم أنَّ الملكة التامة في التحصيل والتصرف، إنّما هذا في قوى أهل تونس ومن يليهم من أهل المشرق، وإنَّ قصارى ما عندنا وعند مشايخنا إنّما هو حفظ المنصوص، وإبقاؤها على ما هي عليه، وأنَّ ملكة القروبين انتقلت إلى الأفريقيين.
فهذا الواقع من الشيخ، ليس هو بالمعارض لمّا وقع في جوابه، من اعتبار المفهوم، إنّما هو بحث في شرط المفهوم، وكيفية الاستنباط خاصة، فأعلم ذلك.
تنبيه: لا يقع في ذهنك قصور الشيخ في قوله: " يؤخذ من هذه المسألة "، وأنّه خفي عليه كيفية الأخذ. فاعلم، أرشدك الله، أنَّ الشيخ أبا الحسن، كان إمام
وقته في فقه المدونة، وهو المستقل برياستها بعد شيخه الفقيه راشد، ما أخذ عنه حتى ظهرت على يديه الكرامات الخارقة، في شفاء أصحاب العلل المزمنة وغير ذلك، ولم ينظر في الفقه حتى أتقن علم الفرائض، وفنون البلاغة، وتلقى ذلك من أربابه، وارتحل، وانتقل إلى تازا، فلازم أهل اللسان، وفرسان المعارف وقتا طويلا، ثم اعتكف على قراءة " التهذيب "، ولازم الفقيه راشدا، واقتصر عليه، وكان الفقيه راشد لا ينفذ بمدينة فاس حكما، ولا جواباً في نازلة، حتى يحضره، ويعتني به، فلم تخط فراسته فيه؛ وكان لا يحجر عليه في القراءة، بل يقرأ من " التهذيب " من أي مكان شاء، وقد صدقت فراسته فيه، فكان في ميزان حسناته يوم القيامة.
واستيفاء التعريف بالشيخ، وذكر محنته بالقضاء، وسبب عزله، وذكر وفاته، يخرجنا عن الاختصار.
انتهى ما مست الحاجة إليه من كلام هذا المتأخر، ونقلت أكثره بلفظه، تبركا بعبارته، التي تلوح عليها إمارات الصالحين، وبالله التوفيق.
ولنذكر كلامنا من هذا المعنى، فنقول: قال الإمام أبو عبد الله الأبي رحمه الله تعالى في شرح مسلم، عند كلامه على قوله) :" أو علم ينتفع به بعده ": كان شيخنا أبو عبد الله ابن عرفة يقول: إنّما تدخل التواليف في ذلك ذا اشتملت على فائدة زائدة، وإلاّ فذلك تخسير للكاغد. ونعني بالفائدة الزائدة على ما في الكتب السابقة عليه، وأما إذا لم يشتمل التأليف إلاّ على نقل ما في الكتب المتقدمة، فهو الذي قال فيه: أنّه تخسير للكاغد، وهكذا كان يقول في مجالس التدريس، وأنّه إذا لم يكون في مجلس التدريس التقاط
زائدة من الشيخ، فلا فائدة في حضور مجلسه، بل الأولى لمن حصلت له معرفة بالإصلاح، والقدرة على فهم ما في الكتب، أنَّ ينقطع لنفسه، ويلازم النظر؛ انتهى.
ونظم في ذلك أبياتا، وهي:
إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتة
…
بتقرير إيضاح لمشكل صورة
وعوز غريب انقل أو حل مقفل
…
أو أشكال أبدته نتيجة فكرة
فدع سعيه وانظر لنفسك واجتهد
…
ولا تتركن فالترك أقبح خلة
وكنت قلت في جواب أبياته هذه:
يمينا يمن أولاك أرفع رتبة
…
وزان بك الدنيا بأحسن زينة
لمجلسك الأحظى الكفيل بكل ما
…
على حسن ما عنه المحاسن جلت
فأبقاك من رقاك للناس رحمه
…
وللدين سيفا قاطعا كل بدعة
وإني في قسمي هذا لبار، فلقد كنت أقيد من زوائد إلقائه، وفوائد إقرائه، على الدول الخمس، التي كانت تقرأ بمجلسه، وهي: التفسير، والحديث، والدول الثلاث التي بالتهذيب، نحو الورقتين كل يوم، مما ليس في كتاب، فالله المسئول أنَّ يقدس روحه، فلقد كان الغاية، وشهادة ذلك ما اشتملت على تواليفه من ذلك، وناهيك بمختصره في الفقه، الذي ما وضع في الإسلام مثله، لضبطه فيه المذهب: مسائل وأقوالا، مع الزيادة المكتملة، والتنبيه على المواضع المشكلة، وتعريف الحقائق الشرعية. انتهى كلام الأبي ورأيت بخط بعض الأكابر ما نصه: المقصود بالتأليف سبعة: شيء لم يسبق إليه فيؤلف، أو شيء ألف ناقصا فيكمل، أو خطأ فيصحح، أو
مشكل فيشرح، أو مطول فيختصر، أو مفترق فيجتمع، أو منثور فيرتب. وقد نظمها بعضهم فقال:
ألا فاعلمن أنَّ التأليف سبعة
…
لكل لبيب في النصيحة خالص
فشرح لإغلاق وتصحيح مخطئ
…
وإبداع حبر مقدم غير ناكص
وترتيب منثور وجمع مفرق
…
وتقصير تطويل وتتميم ناقص
وألفيت بخط شيخ شيخنا، الإمام القاضي سيدي عبد الواحد الونشريشي، رحمه الله، ما نصه: ألفيت بخط والدي، رحمه الله، على طرة من هذا المحل، وأعني كلام الأبي السابق، ما نصه:
قلت: من هنا يعلم أنَّ انطلاق اسم المدرس على المقتصر على نقل تقاييد الرسالة والمدونة، من غير فتش ولا تنزيل، ولا كشف واستظهار بغيرها: مجاز، لا حقيقة؛ وهذا الوصف كاد أنَّ يعم أهل الوقت أو عمهم، فنسأل الله العظيم المغفرة من التطفل، وتعاطي ما ليس في المقدور.
وقال أيضاً: تأمل هاهنا الثناء على شيخ الإسلام، الإمام أبي عبد الله بن عرفة، أسكنه الله دار السلام، وعلى تآليفه، لا سيما مختصره الفقهي، الذي أعجز معقوله ومنقوله الفحول، خلافا لبعض القاصرين من طلبة فاس، فأنهم يقولون: ما يقول شيئاً، يطفئون نور الله، ويحتقرون ما عظم الله، ومستندهم في ذلك بزعمهم حكاية تؤثر عن شيخ المحقق أبي العباس القباب، لا رأس لها ولا ذنب، وحاشاه من ذلك، وما أراهم في هذا إلاّ كما قال الأول:
وكم من غائب قولا صحيحا
…
وآفته من الفهم السقم
ولقد حبس ملوك المغرب، رضوان الله عليهم، بخزانتي القرويين والأندلس، من هذا الديوان المبارك نسخا عديدة، ثم لا يعرج عليها للمطالعة في هذا الوقت أحد من الطلبة الحضرة، شتاء ولا صيفا، فأنا لله وأنا إليه راجعون، بخلاف ما قيد عن الشيخ الجزولي، وأبي الحسن الصغير، فإنك تجدهم يزدحمون عليها في كل زمان، وخصوصا فصل الشتاء، لا يلحق الآخر منها ورقة واحدة، مع كثرة عددها بحيث ذكر، بل تجدهم يتنافسون في اقتنائها، بالأثمان العظيمة المجحفة، ومن ملك منهم المسبع من الجزولي، وتقييد اليحمدي، وحائر مذهب إمام دار الهجرة على التمام، والقائم بأمره. ولقد كان الحسن المغيلي عندهم في أعلى طبقة من الفقه والتفقه، لقيامه على مسبع الجزولي نقلا، ولقد شاهدتهم يتساقطون كالفراش، على نسخة من الجزولي بجزالة القروين، وزعموا أنها بخط أبي الحسن المذكور، وهي مشحونة بالتصحيف، تعمى البصر والبصائر، نور الله قلوبنا بذكره، وعمر ألسنتنا بشكره، ووفقنا لمّا فيه رضاه عنا.
انتهى ما ألفي بخط الشيخ سيدي أحمد الونشرينس، رضي الله عنه. أقول: ولقد احسن بعض الأكابر من طلبة ابن عرفة، رحمه الله تعالى إذ يقول في مدح مختصره المذكور:
إذا ما شئت أنَّ تدعى إماما
…
فخذ في درس مختصر الإمام
تنال به السعادة والمعالي
…
وتضحى ظاهرا بين الأنام
كتاب قد حوى من كل علمٍ
…
كبستان سقي غيث الغمام
فدع عنك السآمة وادرسنه
…
وعن عينيك دع طيب المنام
وحل بدره جيد المعالي
…
تفز بالخلد على أعلي مقام
وما أشار إليه الشيخ الونشريشي من قوله: " ومستندهم في ذلك بزعمهم حكاية تؤثر عن القباب، لا رأس لها ولا ذنب "، أشار به إلى ما يزعمون عن الشيخ القباب، وقد نقلها شيخنا الإمام سيدي أحمد بابا، أبقاه الله في تكميله لديباج ابن فرحون، ونصه: ويقال أنّه لمّا حج اجتمع في تونس بابن عرفة، فأوقفه على ما كتب من مختصره الفرعي، وقد كان شرح في تأليفه، فقال له القباب: ما صنعت شيئاً. فقال له ابن عرفة: ولمه؟ قال: لأنه لا يفهمه المبتدئ، ولا يحتاج إليه المنتهي. فتغير وجه ابن عرفة، ثم ألقى عليه مسائل أجابه عنها القباب.
ويقال إنَّ كلامه هو الحامل لابن عرفة على أنَّ بسط العبارة في أواخر المختصر، وبين الاختصار، والله اعلم. انتهى كلام شيخنا أبقاه الله. قلت: رأيت بخط ابن داود الأندلسي ثم التلمساني، ما نصه: وجدت بخط الرملي ما نصه: حدثنا الشيخ ابن عرفة رضي الله عنه الله عنه، عن الشيخ القباب الفاسي، عن الآبلي، قال: أورد السلطان أبو عثمان على فقهائه الحلة، في قول عائشة رضي الله عنه عنها، في حديث مسلم:" فتوفي رسول الله) ، وكان مما يقرأ: " خمس رضعاتٍ يحرمن ". أنظره في مسلم. قال: يلزم على هذا الخلف في خبرها، رضي الله تعالى عنها، أو عدم حفظ القرآن،