الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال بعض الشيوخ: إنْ كان استناد ابن المسيب في إبايته من البيعة للوليد حديث: " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما "، فإنما الحديث في البيعة للخليفتين، يفرق الثاني جماعة الأمل، ويشق العصا. وإنْ كان النهي في غير هذا الحديث، فهو أعلم بما استند إليه، قال: وأما امتناعه من البيعة لابن الزبير، فإنَّ البيعة حينئذ كانت انعقدت لبني امية في الشام، وكان مذهب ابن المسيب كمذهب الأكثر، في منع القيام على من انعقدت له البيعة ثم ظهر فسقه. وانظر هذا مع قول مالك: ابن الزبير أحق بها من مروان وابنه عبد الملك.
انتهى ما ألفيته على هذا المحل بخط الشيخ العلامة الوانشريشي.
ووجدت أيضاً بخطه ما نصه:
تنبيهات
الأول - ولد أبو محمّد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي، لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب. وتوفي بالمدينة، قال يحيى بن سعيد: سنة إحدى أو اثنتين وتسعين؛ وقال الواقدي: سنة أربع وتسعين؛ وكان يقال لهذه السنة الفقهاء، لكثرة من مات منهم؛ وقال المدائني ويحيى بن معين: سنة خمس ومائة.
الثاني - قال غير واحد: عمال عبد الملك بن مروان: الحجاج بالعراق، وأخوه محمّد في اليمن، والمهلب بخراسان، وهشام بن إسماعيل بالمدينة، وابنه عبد الله بمصر، وموسى بن نصير بالمغرب، ومحمّد بن قلان بالجزيرة.
قال ابن خلكان: وكل واحد من هؤلاء ظلوم غشوم.
الثالث - هشام بن إسماعيل المذكور هنا هو ثالث آباء أبي هشام،
محمّد بن سلمة لبفقيه المدني، صاحب مالك. قال الشيرازي: وكان مالك إذا دخل على الرشيد دخل رجلين من بني مخزوم: المغيرة عن يمينه وابن مسلمة عن يساره.
وهشام هذا هو الذي نسب إليه مدينة هشام المذكور في الوضوء والظهار والذي يذكر عنه ذكر عهدة الرقيق في خطبته وانظر شدة إنكار ابن العربي اعتبار مدينة في آية الظهار في أحكامه تطالع. انتهى ما ألفيت بخط الوانشريش.
وقد سنح لي أنْ ما ذكره الشيخ ابن غازي عن ابن رشد من أنَّ طرد سعيد بن المسيب عمر بن عبد العزيز إنما كان في خلافته لا يتم إلاّ على الول بأن وفاته أعني سعيدا كانت على رأس المائة أو بعدها وأما على قول الأكثر إنَّه بعد التسعين بسنة أو سنتين أو أربع فلا يصح قطعا فتديره.
ومن العجائب إغفال الشيخين: ابن غازي والوانشريشي له. وإلى الله منتهى العلم.
ولنرجع إلى تكميل كلام الشيخ ابن غازي في التأليف المذكور ونصه: أما برد فليس عند معظم قدركم أكثر من أنَّه مولى سعيد كما أنَّ زيد بن حارثة وسفينة وأبا رافع وشقران: مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلال بن رباح مولى أبي بكر ويرفأ مولى عمر بن الخطاب وحمران مولى عثمان بن عفان ونافع مولى ابن عمر وكريب وعكرمة البربري موليا ابن عباس مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهم. وقد صرح بذلك الحافظ أبو نعيم قائلا في ترجمة سعيد من الحلية عن برد مولى سعيد ابن المسيب: ما نوي للصلاة منذ أربعين سنة إلاّ وسعيد في المسجد. انتهى.
ولم أجد عند أبي جعف العقيلي ولا عند أبي يحيى الباجي ولا عند ابن أبي أحد عشر الذي جمع بينهم من اسمه برد وذلك والله أعلم لأحد وجهين: إما أنَّه لم يتكلم فيخ أحد بجرح أو لكونه لا رواية له. ولا يعترض هذا بوقوعه في سند الحلية المتقدم إذ ليس بمرفوع. وقد ذكروا بعض من اسمه بريد وبريدة لوقوعهما في أسانيد المرفوع وتكلم بعض الأئمة فيهما ببعض الجرح وبالله العصمة لا رب غيره.
وأبو عبد الله بن أبي أحد عشر المذكر: هو من أهل المرية وقد عده صاحب بغية الراغب في أشياخه وعرف به تعريف كافيا.
2 -
وأما أبو طالب فليس عند معظم منصبكم في شأن غير ما تضمنته الصحاح من قوله آخر كلامه عند الموت: " على ملة عبد المطلب " وحديث الضحضاح الذي يغلي منه دماغه وقوله: " لولا أنْ تعيرني النساء على المغازل لأقررت بها عينك " وما نزل فيه من قوله تعالى:) ما كان للنبي والذين آمنوا أنْ يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (وقوله سبحانه:) إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء (وقوله جل وعلى في أحد التأويلين: " وهم ينهون عنه وينأون عنه ". وأنشد في في تفسيرها الثعلبي والزمخشري له يخاطب رسول ليس صلى الله عليه وسلم:
والله لن يصلوا إليك بجمهم
…
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
…
وابشر بذاك وقر منه عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح
…
ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا لا محال أنَّه
…
من خير أدينا البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة
…
لوجتني سمحا بذاك مبينا
وقد فسر اللطيب في فتوح الغيب غريبها.
وبحسب ما تقرر من حاله أورد علماؤنا القاضي أو الفضل عياض وغيره السؤال على قوله عليه السلام: " لعله تنفعه شفاعتي " مع قوله تعالى:) فما تنفعهم شفاعة الشافعين (وانفصلوا عنه بما في كريم علم سيدنا.
وأما عبد المطلب الذي قلده من أهل الفترة وللقاضي أبي بكر بن العربي في كتاب الناسخ والمنسوخ كلام مليح على أهل الفترة عند قوله تعالى:) إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عيهم ولا هم يحزنون (.
وقد حدث محبكم غير واحد عن الشيخ سيدي أبي محمّد عبد الله العبدوسي أنَّه كان يلهج بحديث وقف عليه في بعض الكتب غير واحد عن الشيخ سيدي أبي محمّد أنَّ الله عز وجل بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه حتى آمنا به صلى الله عليه وسلم إكراها لنبيه عليه السلام وكان العبدوسي يستحسنه ويسر به كثيرا.
وقد أنشدني بعض أصحابنا للنميري السلوى:
وإنَّ ابن طلاع روى أنَّ أحمدا
…
رأى أبويه بعد ذوق المنية
فأحياهما رب العباد فآمنا
…
به ثم عادا مكرمين لتربة
وقدره عليه السلام أوسع من هذا كله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وعظم:
لو ناسبت قدره آياته عظما
…
أحيا اسمه حين يدعى دارس الرعم
وأما قول المسعودي في أبي طالب فما استفاده محبكم إلاّ من كتبكم أبقى الله لنا بركاتنا.
قال جامع هذا الموضوع عبيد الله أحمد بن محمّد المقري وفقه الله: وجدت على هذا المحل من كلام الشيخ ابن غازي في الطرة بخط الإمام سيدي أحمد الوانشريشي رحمه الله ما نصه: قال القاضي أبو عبد الله محمّد بن خلفة الوشتاتي المعروف بالأبي في إكمال الإكمال ما نصه: السهيلي: ورأيت في بعض كتب المسعودي: وقيل إنَّه مات مؤمنا. ولا يصح لم تقدم من الآي والأحاديث.
ولا يحتج لذلك بما في السير من قول العباس: " والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته بها يا رسول " لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم اسمعها. ولو أنَّ العباس شهد بذلك بعد إسلامه قبلت شهادته لأن العدل إذا قال: سمعت وقال الأعدل: لم اسمع أخذ بقول من أثبت لأن عدم السماع قد يكون لسبب. فإن قلت: قد ذكرت أنَّ السير تدل على أنَّه كان مصدقا بقلبه وقدمت الخلاف في صحته إيمان من صدق بقلبه ولم ينطق بلسانه فهل يدخل في إيمانه ذلك الخلاف؟ قلت: لا يدخل لأنه صرح بالنقيض في قوله هو: " على ملة عبد المطلب ".
انتهى ما ألفيت بخط الوانشريشي.
ولنرجع إلى تتميم كلام ابن غازي.
3 -
قال رحمه الله: وأما أبو العباس العشاب الذي عرف بابن طلحة
فلا يعرف مجل سيادتكم إلاّ من كلام ابن عرفة وكأنه مؤرخ.
قال أحمد المقري وفقه الله: ألفيت على طرة هذا المحل بخط سيدي أحمد الوانشريشي رحمه الله ما نصه: لت أبو العباس العشاب المعروف بابن طلحة في كتاب الطلاق وقد وهم فيه وعرف في الترجمة مواقع الشهادات بابن الخبازي النحوي: هو أحمد بن محمّد بن إبراهيم المرادي المعروف بالعشاب. قال ابن مرزوق الخطيب في فهرسة شيوخه: هو من أعظم من لقيت بثغر الإسكندرية وأكثرهم تحصيلا قرأت عليه بعض موطأ الإمام وكتاب الشفا في التعريف بحقوق المصطفى وكتاب التيسير وكتاب التفسير من تأليفه جمع فيه بين تفسير ابن عطية وتفسير الزمخشري وقرأت عليه أوائل الكتب الستة بأسانيده فيها. ويحمل عن أعلام منهم أبو القاسم بن البراء والشيخ العارف أبو العباس أحمد بن عثمان بن أحمد بن عجلان القيسي الإشبيلي وأبو عمر عثمان بن سفيان المعروف بابن الشقي وأبو محمّد عبد الله بن محمّد بن أحمد الواعظ المعروف بابن الحجام وأبو العباس بن الغماز وعبد الحميد بن أبي البركات بن أبي الدنيا الصدفي وأبو القاسم بن زيتون وأبو علي بن عبيل.
انتهى ما ألفيت في هذا المحل بخط الشيخ سيدي أحمد الوانشريشي.
ولنرجع إلى تكميل كلام ابن غازي.
قال رحمه الله: نعم ابن طلحة الذي عرف به: هو شيخ محمود الأعرج الزمخشري قرأ عليه كتاب سيبويه بمكة شرفها الله تعالى سمعت ذلك من شيخنا الأستاذ سيدي أبي عبد الله الكبير برد الله تعالى ضريحه وقد عرف
صاحب الخريدة الزمخشري وهو بخزانة جامع الأندلس. وفي اعتقاد محبكم أنَّ ابن طلحة هذا النحوي خلاف الفقيه صاحب المدخل وأنَّ حظه من مسألة الاستثناء اللسان دون الفقه. فإن صح عند سيدنا أنَّه هو فليفدنا به متطولا مأجورا مشكورا.
قال أحمد المقري وفقه الله: وجدت على طرة هذا المحل بخط سيدي أحمد الوانشريشي رحمه الله ما نصه:
قلت: بل هو هو وهو عبد الله بن طلحة بن محمّد عبد الله اليابري نزل إشبيلية أبو بكر وأبو محمّد الأول أشهرهما. روى عن جماعة من الأعلام نزل مكة شرفها الله وكان من أهل المعرفة بالفقه وأصوله ماهرا في النحو حافظا للتفسير قائما عليه ذاكرا للقصص المتعلقة به وذلك الغالب عليه وحلق به للعامة تنثال على مجلسه. وله مصنفات منها في التفسير كتاب كبير ومنها في الفقه وأصوله وشرح صدر رسالة الشيخ أبي محمّد ومنها رد على ابن حزم ومنها كتاب في الفقه على مذهب مالك سماه سيف الإسلام ومنها كتاب سمها المدخل إلى هذا المتاب واستوطن مصر وقتا ثم رحل إلى مكة فجاور فيها إلى أنْ توفي بها رحمه الله. وكان حيا سنة ست عشرة وخمس مائة وكانت له معرفة تامة بكتاب سيبويه وبسببه ارتحل إليه الزمخشري من خوارزم لقراءته عليه. انتهى.
من كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك.
وذكر الشيخ أبو حيان في باب القسم أنَّ الزمخشري رحل من خوارزم إلى مكة قبل العشرين والخمس مائة لقراءة كتاب سيبويه على رجل من أصحابنا وما أهل الأندلس يعرف بابي بكر بن طلحة اليابري وكان مجاورا بها عالما
بالكتاب وغيره وله تصانيف تقرأ عليه.
قلت: وتوفي فخر خوارزم أبو القاسم محمود سنة ثمان وثلاثين وخمي مائة. وقطعت إحدى رجليه بسبب الثلج ولم يكن لريبة والله اعلم.
انتهى ما وجد بخط الشيخ الوانشريشي على هذا المحل.
ولنرجع لكلام الإمام ابن غازي.
قال رحمه الله: وثم ابن طلحة آخر وهو مخاطب أحد بني رغبوش بقصيدة مديحية زائة الروى هائية الوصل حسبما ذكر ابن عبد الملك في تكلمته.
4 -
وأما الآبلي المصري فلا إخالة طرق اسمه سمعي إلاّ من جهتكم فإنكم ذكرتموه لي في غير هذا الوقت وقد سألت الفقيه المحقق سيدي أبا عبد الله الغوري ليلة عن ضبط باء الآبلي الذكي الرحال: أبالضم أو بالكسر فكأنه ترجح فيه ثم مال إلى الضم.
5 -
وأما رجال أهل السنة والمعتزلة فلا علم لمحبكم هل صنف فيهم أم لا. نعم ربما سمعت أو رأيت بعض حكاياتهم في المناظرة كمناظرة الشافعي حفصا الفرد بعد ما أنشده الشافعي يتوعده متمثلا:
ستعلم يا يزيد إذا التقينا
…
بشط الزاباي فتى أكون
وذكرهم أبو نعيم في الحلية ومناظرة القاضي أبي بكر الطيب الباقلاني ابن المؤدب إذ أخرج ابن المؤدب فولا فرمى به يعرض بالباقلاني فأخرج
الباقلاني سوطا فرمى به يعرض بابن المؤدب والحكاية ظريفة ذكرها صاحب بغية الراغب في ترجمة أبي عبد الله البغدادي.
قال أحمد المقري وفقه الله: وجدت بخط الوانشريشي بطرة هذا المحل ما نصه: أبو عبد الله هذا هو أبو بكر بن مجاهد والله أعلم. انتهى.
ولنرجع إلى كرم ابن غازي: قال رحمه الله ما نصه: قال قال فنا خسرو يوما لوزرائه: هؤلاء المثبنة أما لهم ناصر؟ فقال له القاضي قاضي الجماعة بشر بن الحسين: ليس لهم ناصر وإنما هم قوم رعاع أتباع حشوية لا يعرفون النظر وإنما هم أصحاب روايات وأخبار والمعتزلة هم فرسان المناظر والجدل. فقال فنا خسرو: محال أنْ يكون مذهب قد طبق الأرض وليس له ناصر. فقال له بشر بن الحسين: سمعت أنَّ رجلين بالبصرة أحدهما شيخ والآخر شاب فأما الشيخ فهو أبو بكر محمّد بن مجاهد وأما الشاب فهو أبو بكر بن الطيب. فأرسل إليهما الأمير فنا خسرو وخمسة آلاف درهم فضة طيبة. فقال أبو بكر بن مجاهد هؤلاء قوم ظلمة فسقة لا يحل لي أنْ أطأ بسطهم وليس غرضهم منا إلاّ أنْ يقال إنَّ مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر ولو كان ذلك الله تعالى لكانت أموره جارية على السداد وأنا لأحضر عند قوم هذه الصفة. قال أبو بكر بن الطيب فقلت له هكذا قال عبد الله ابن كلاب والحارث بن أسد المحاسبي: إنَّ المأمون ظالم فسق ولا نحضر مجالسه حتى سيق أحمد بن حنبل إلى طرسوس ولمّا مات المأمون ضربه المعتصم
بالسياط ولو نصروه لكان أولى لأن الرجل كان الرجل كان يدعى أنَّ أهل السنة ليست لهم حجة على قولهم وإنما غراضهم رياسة العامة ودفن الحق ولو مضوا إلى المعتصم وبينوا له أنَّ الذي يدعى زور وبهتان لأرتدع المعتصم ولكن أسلموا أحمد بن حنبل لابن أبي داود القاضي فجرى على أحمد ما جرى وهم ينظرون. وكذلك أنت سلكت مسلكهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد بن حنبل وهنأ خارج.
فقال له ابن مجاهد: إذا شرح الله لك صدرك لذلك فافعل.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: فخرجت إلى شيراز فلما دخلت المدينة استقبلني ابن الخفيف في جماعة من الصوفية وأهل السنة فلما جلسنا في موضع كان ابن خفيف يدارس فيه أصحابه اللمع للشيخ أبي الحسن الأشعري قال له القاضي أبو بكر: تماد على التدريس كما كنت فقال له ابن خفيف: أصلحك الله إنما أنا بمنزلة المتيم عند عدم الماء فإذا وجد الماء فلا حاجة إلى التيمم. فقال له القاضي: جزاك الله خيرا وما أنت بمتيمم بل لك وافر من هذا العلو وأنت على الحق والله ينصرك.
قال القاضي أبو بكر: قلت: متى الدخول إلى فنا خسرو؟ فقال لي: يوم الجمعة لا يحجب عنه صاحب طيلسان. فدخلت والناس قد أجمعوا والملك قاعد على سرير ملكه والناس صفوف على يسار الملك وفوق الكل قاضي القضاة بشر بن الحسين وكان يدخل مع الوزراء في وزاراتهم ويصغي الملك إلى رأيه في أمر الدولة.
قال القاضي أبو بكر: فلما رأيت ذلك كرهت أنْ أتقدم على الناس وأتخطى رقابهم من غير أنْ أرفع ولم تدعني نفسي أنْ اقعد في أخريات الناس
وكان عن يمين الملك المجلس خاليا ولا يقعد هناك إلاّ ملك أو وزير عظيم المنزلة فمضيت وقعدت عن يمينه بحذاء قاضي القاضاة فوجدوا من ذلك وفزعوا واضربوا لأن كان عندهم من الجنايات العظام وما كان في المجلس من يعرفني إلاّ رجل واحد فقال للقاضي: أطال الله بقاء سيدنا هذا هو الرجل الذي طلبه الملك مولانا. فقال قاضي القضاة: أطال الله بقاء مولانا هذا هو الرجل الذي كتبت فيه وهو لسان المثبتة فنظر إلى الغلمان بين يديه والحجاب فطاروا من بين يديه ثم قال لهم: اذكروا له مسألة. وكان في المجلس رئيس البغداديين وهو الأحدب وما كان زمانه أفصح منه ولا أعلم منه عندهم فأما البصريون فحضر منهم خلق كثير أقدمهم أبو إسحاق النصيبي. فقال الأحدب لتلاميذه: سلوه: هل لله تعالى أنْ يكلف الخلق ما لا يطيقونه أو ليس له ذلك؟ فقال الرجل للقاضي: هل لله تعالى أنْ يكلف الخلق ما لا يطيقونه أو ليس له ذلك؟ فقال له القاضي أبو بكر: إنْ أردت بالتكليف القول المجرد فالقول المجرد قد توجه لأن الله تعالى قال:) قل كونوا حجارة أو حديدا (ونحن لا نقدر أنْ نكون حجارة ولا حديدا وقال تعالى) أنبئوني بأسماء هؤلاء إنْ كنتم صادقين (فطلبهم بما لا يلمون وقال تعالى) ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (وهذا كله أمر بما لا يقدر عليه الخلق وإنْ أردت التكليف الذي نعرفه وهو ما يصح فعله وتركه فالكلام متناقض وسؤالك فاسد.
فاخذ الأحد الكلام وقال: أيها الرجل أنت سئلت عن كلام مفهوم
فطرحه في الاحتمالات وليس ذلك بجواب والجواب - إذا سئلت: هذا لله تعالى أنْ يكلف الخلق ما لا يطيقون - أنْ تقول: نعم له أنْ يكلف أو ليس له أنْ يكلف. فعدلت عن الجواب إلى ما ليس بجواب وهذا اضطراب شديد.
قال القاضي: فلما لم يوقرني ولم يخاطبني بما يليق قلت له: أيها الرجل أنت عائم ورجلاك في الماء إني طرحت الكلام في الاحتمالات فلم تعدل أنت إلاّ لعجز أو لعي فإن كان معك كلام في المسألة وإلاّ تكلم في غيرها.
فال الملك للأحدب: هذا قد بين الاحتمالات وتلا عليك الآيات. ثم إني جمعتكم إلاّ لنستفيد ولا لمّا لا يليق بالعلماء. ثم التفت إلى وقال لي: تكلم على المسألة فقالت: ما لا يطاق على ضربين: أحدهما يطاق للعجز منه والآخر لا يطاق للاشتغال عنه بضده كما يقال: فلان لا يطيق التصرف لاشتغاله بالكتابة وما أشبه ذلك وهذا سبيل الكافر: إنَّه لا يطيق الإيمان لا لأنّه عاجز عن الإيمان لكنه لا يطيقه لاشتغاله بضده الذي هو الكفر فهذا يجوز تكليفه بما لا يطاق.
وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه ولو ورد لكان صوليا وقد أثنى الله تعالى على من سأله ألاّ يكلفه ما لا طاقة له به لأن الله تعالى له أنْ يفعل في ملكه ما يريد.
ثم تجاوز الأحدب إلى غيره من الكلام ومال الملك إلى قول القاضي أبي بكر.
قال القاضي: ثم سألني النصيبى عن مسألة الرؤية: هذا يرى الباري سبحانه بالعين؟ وهل تجوز الرؤية عليه أو تستحيل؟ وقال: كل شيء يرى
بالعين فيجب أنْ يكون في مقابلة العين. فالتفت الملك إلى القاضي أبي بكر وقال له: تكلم أيّها الشيخ في المسألة.
فقال القاضي: لو كان الشيء يرى بالعين لوجب أنْ يكون في مقابلة العين على ما قال ولكن لا يرى الشيء بالعين. فتعجب الملك من ذلك والتفت إلى قاضي القضاة فقال: إذا لم يرى الشيء بالعين فبأي شيء يرى؟ فقال: يسأله الملك. فقال: أيّها الشيخ فبأي شيء يرى إذا لم يرى بالعين؟ فقال أبو بكر يرى بالإدراك الذي في العين. ولو كل شيء يرى بالعين لكان يجب أنْ نرى كل عين قائمة وقد علمنا أنَّ الأجهر عينه قائمة ولا يرى شيئاً.
فزاد الملك تعجبا وقال للنصيبي: تكلم. فقال النصيبي: إني لم أعلم أنَّه يقول هذا ولا بنيت إلاّ على ما نعرف وظننت أنَّه يسلم أنْ الشيء يرى بالعين. فغضب الملك وقال: ما أنت مثل الرجل لأنك بنيت المسألة على الظن. ثم التفت إليَّ وقال: تكلم. فقلت: العين لا ترى وإنما ترى الأشياء بالإدراك الذي يحدثه الله تعالى فيها وهو البصر إلاّ ترى أنَّ المحتضر يرى الملائكة ونحن لا نراهم؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى جبريل عليه السلام ولا يراه من يحضره؟ والملائكة يرى بعضهم بعضا ولا نراهم نحن؟ والدليل على جواز رؤية الباري تعالى أنَّه ليس فيها قلب للحقائق ولا إفساد للأدلة ولا إلحاق صفة نقص بالقدير تعالى فوجب أنْ يكون كسائر الموجودات لأنّه تعالى موجود والشيء إنّما يرى لأنّه موجود لأنَّ المرئي لم يكن مرئيا لأنّه جنس لانا نرى سائر الأجناس المختلفة ولا لقيام معنى بالمرئى لانا نرى الأعراض التي لا تحتمل المعاني وقد ثبت بالنص
وجوب رؤية الحق سبحانه في الدار الآخرة. ثم طول الكلام.
قال ولم يزل فنا خسرو يتقرب إليه وينزل عن سريره ملكه حتى صار بين يديه لمّا استعذب من كلامه.
فلما فرغ من المسألة قيل للفارابي صاحب المنطق: تكلم معه فتلجلج في كلامه واقشعر وقال: إنما أنا صاحب إصطرلاب ما قدر هؤلاء وهم فرسان الكلام: الأحدب وبرغوث وغيرهم على جدالة.
فخرج القاضي أبو بكر وأمر الملك بإنزاله والجراية عليه وقال: والله ما كنت إلاّ مفكرا بأي لون من القتل أقتله إذا لم يستحق مكانه وأما الآن فقد ظهر لي أنَّه أحق بمكاني هذا ولكني مبتلى بالملك. انتهى.
والمراد بالمثبتة هنا: أهل السنة والزمخشري يسميهم المجبرة وقع له ذلك وفي أماكن من الكشاف منها في تفسير قوله تعالى:) قل لا يستوي الخبيث والطيب (وفي وقوله سبحانه:) وقال الشيطان لمّا قضى الأمر (. ولصاحب " الانتصاف من الكشاف " ولصاحب فتوح الغيب في الرد عليه عند تفسير الآيتين كلام حسن ينبغي الوقوف عليه. وسمى أهل السنة المجبرة لاعتقاده قرب مذهبهم من مذهب الجبرية لا سيما وقد قال بعض أئمة أهل السنة: " وبالجبر أقول والله المستعان ".
وقد حدثنا شيخنا الأستاذ سيدي أبو عبد الله الكبير عن شيخه أبي عبد الله العكرمي وكان لسنا أنَّه كان كثيرا ما يقول: إمامان عظيمان قالا بالجبر من أئمتنا: القاضي أبو بكر بن العربي والفخر بن الخطيب كما أنَّ إمامين عظيمين من أئمتنا نسب إليهما القول بالجهة وهما أبو محمّد بن أبي زيد وأبو عمر بن عبد البر وجنح لذلك ابن المرابط في تفسير البخاري وهو ديوان كبير بخزانة جزيرة الأندلس.
ثم عند محبكم تردد في أبي بكر بن مجاهد هذا هو شيخ أئمة الإقراء الذي يعتمد عليه أبو عمرو الداني في إيجاز البيان وفي التمهيد كثيرا. وقال فيه الجعبري إنَّه المسبع الأول. صنف كتاب السبعة على رأس الثلاث مائة. وقال أبو علي الأهوازي: هو الذي أخرج يعقوب من السبعة وجعل الكستنائي مكانه. وهو الذي قال له الشبلي: أين تجد في القرآن العزيز أنَّ الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فقال: لا أدري. فأشار إلى قوله تعالى:) قل فلم يعذبكم بذنوبكم (حسبما بسطه القاضي أبو الفضل عياض في ترجمة الشبلي من المدارك. وفي ظنى أنَّ اسم المقرئ موسى وقد سمى هذا هاهنا محمّدا فلسيدنا الفضل في تحقيق ذلك لنا في كتاب طبقات القراء لأبي
عمرو الداني ومن تعريف الجعبري الذي ختم به شرح القصيد وهما بخزانة جامع القرويين عمره الله تعالى.
لله در على بن المدني حيث قال: أشد التصحيف في أسماء الرجال. ولا شك أنَّ هذا موضع لبس كابني وابني زياد ممن اتحد اسمه وتعدد مسماه وكالأبهرى والصالحي في عكسه.
ورحم الله الفقيه الشيخ سيدي أبا محمّد عبد الله العبدوسي فقد حدثني عنه التقة أنَّه كان يمثل هذا المعرض الذي نحن بصدده بقضية القاضي أبي بكر ابن العربي فإن كثيرا من الناس ينكرون أنْ يكون هو المدفون خارج باب المحروق ويقولون إنما هو مدفون خارج باب الجيسة واغتروا في ذلك بظواهر التواريخ. وذلك أنْ القاضي أبا الفضل عياض ذكر في الغنية أنه دفن خارج باب الجيسة قال: وجوابه أنَّ باب المحروق لم يكن فتح في ذلك الوقت وإنما فتح على رأس ست مائة سنة فكان ذلك الخارج كله ينسب لباب الجيسة ثم يدفع في صدر هذا الجواب ما في بعض هذه التواريخ أنه دفن على مقربة من حارة الجذامي. قال: وجوابه أنَّ الجذامي كانوا هناك قديما حتى تضرر أهل فاس بسكناهم على رأس مائهم فنقلوا إلى موضعهم اليوم.
ثم يرد على هذا أنا نجد عند باب الجيسة إلى جنب حارة الجذمى قبر رجل يسمى بابن العربي يقصده الناس بالزيارة كثيرا فلعله هو. قال: وجوابه أنَّ ذلك رجل آخر يدعى أيضاً بابن العربي كان موقتا في القرويين.
قلت: ويزاد فيه إنَّ الفقيه هو أبو بكر وهذا الذي خارج باب المحروق اشتهر بابي يحيى. وجوابه إنهما كنيتان مترادفتان على مسمى واحد وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
وقد هذى محبكم هنا وهجر وأهدى التمر لأهل هجر وجلب العنبر إلى البحر الأخضر فلكم الفضل في الإغضاء والتجاوز والإمضاء.
وكتب في أوائل ذي الحجة الحرام خاتم عام سبعة وثمانين وتسع مائة عرفنا الله خيره ووقانا ضيره والسلام الكريم يخص مقامكم العلي ومنصبكم السمي وأهليكم وذويكم ومن هو منكم وفيكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
انتهى التأليف العجيب للشيخ العلامة أبي عبد الله بن غازي رحمه الله ووجدت في آخره ما نصه: الحمد لله وكذلك يسلم على كريم مقامكم خديمكم أحمد بن محمّد بن غازي قاصدا بتوالي كتبه التبرك بكم ملتمسا منكم الدعاء أفاض الله علينا من بركاتكم ونفعنا بمحبتكم بجاه النبي عليه السلام. انتهى.
وأوردت جميعه لمّا قدمته والله تعالى المنجد المعين.
قلت: وقد وقفت على كلام لبعض الأقدمين " ينفي الاحتمال " في أمر ابن العربي المذكور ونصه: توفي ابن العربي منصرفه من مراكش بموضع
يعرف بأغلان على مسيرة يوم من فاس غربا منها فاحتمل فينا إلى فاس في اليوم الثاني من موته وذلك يوم الأحد السابع من ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمس مائة ودفن بأعلى مدينة فاس خارج القصبة بتربة القائد مضفر وصلى عليه صاحبه أبو الحكم بن حجاج رحمه الله. انتهى.
وقدمنا عن ابن بشكوال أنه توفي في ربيع الآخر من هذه السنة فالله اعلم.
وقد ذكر بعض من شرح الشفا أنَّ ابن العربي توفي سنة أثنتين وأربعين. قلت: وهو غير صحيح إن شاء الله تعالى وإنما الصحيح ما قدمته.
ومن صلابة الإمام أبي بكر بن العربي رحمه الله أنَّه حكم في زامر بثقب أشتداق حسبما نقله صاحب المعيار وغيره.
ومن بديع نظمه رحمه الله:
أتتني نؤنبي بالبكا
…
فأهلا بها وبتأنيبها
تقول وفي نفسها حسرة
…
أتبكي بعين تراني بها
فقلت إذا استحسنت غيركم
…
أمرت جفوني بتعذيبها
وقال رحمه الله: دخل علي ابن صارة وبين يدي نار قد علاها رماد فقلت: لتقل في هذا فقال:
شابت نواصي النار بعد سوادها
…
وتسترت عنا بثوب رماد
ثم قال لي ابن صارة: أجز فقلت:
شابت كما شبنا وزال شبابنا
…
فكأنما كنا على ميعاد
وحكى غير واحد أنَّ أبا بكر بن العربي رحمه الله بينما هو جالس في محل درسه إذ دخل شاب من الملثمين وبيده رمح فهزه فقال القاضي أبو بكر رحمه الله:
يهز على الرمح ضبي مهفهف
…
لعوب بألباب البرية عابث
فلو كان رمحا واحدا لاتقيته
…
ولكنه رمح وثاني وثالث
وقد اختلف حذاق الأندلس من أهل الأدب في معنى الرمح الثاني والثالث وأكثرهم يقول: هما القد واللخظ والله اعلم.
ولمّا ذكر الإمام ابن العربي المذكور رحمه الله في كتاب قانون التأويل ركوبه البحر في رحلته من إفريقية قال:
وقد سبق في علم الله أنْ يعظم علينا البحر بزوله ويغرقنا في هوله فخرجنا من البحر خروج الميت من القبر وانتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كعب بن سليم ونحن من السغب على عطب ومن العرى في أقبح زي قد قذف البحر زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها ودسمت الأدهان وبردها وجلدها فاحتزمناها أزرا واشتملناها لفعا تمجنا الأبصار وتخذلنا الأنصار فعطف أميرهم علينا فأوينا إليه فآوانا وأطعمنا الله تعالى على يديه وسقانا وأكرم مثوانا وكسانا بأمر حقير ضعيف وفن من العلم ظريف.
وشرحه: أنا لمّا وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاه فعل السامد اللاه فدنوت منه في تلك الأطمار وسمح لي بياذقه إذ كنت من الصغر في
حدّثني يسمح فيه للأغمار ووقفت بأزائهم أنظر إلى تصرفهم من ورائهم إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خلس بطالة مع غلبة الصبوة والجهالة فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من صحابه فلمحوني شزرا وعظمت في أعينهم بعد أنْ كنت نزرا وتقدم إلى الأمير من نقل إليه الكلام فاستدعاني فدنوت منه وسألني: هل لي بما فيه بصر؟ فقلت لي فيه بعض نظر سيبدو لك ويظهر حرك تلك القطعة ففعل وعارضه صاحبه فأمرته أنْ يحرك أخرى وما زالت الحركة بينهم كذلك تترى حتى هزمهم الأمير وانقطع التديبر فقال: ما أنت بصغير. وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشدا:
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه
…
وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي
فقال: لعن الله أبا الطيب أو يشك الرب؟ فقال له في الحال: ليس كما ظن صاحبك أيّها الأمير إنما أراد بالرب ها هنا الصاحب. يقول: ألذ الهوى ما كان المحب فيه من الوصال وبلوغ الغرض من الآمال على ريب فهو في وقته كله على رجاء لمّا يؤمله وتقاة لمّا يقطع به كما قال:
إذا لم يكن في الحب سخطا ولا رضا
…
فأين حلاوة الرسائل والكتب
وأخذنا نظيفالى ذلك من الأغراض في طرفي الإبارم والانتقاض ما حرك منهم إلى جهتي داعي الانتهاض وأقبلوا يعجبون مني ويسألونني كم سني ويستكشفونني عني فبقرت لهم حديثي وذكرت لهم نجيثي وأعلمت الأمير بأن أبي معي فاستدعاه وقمنا الثلاثة إلى مثواه فخلع علينا خلعه وأسبل علينا أدمعه وجاء كل خوان بأفنان الألوان.
ثم قال بعد المبالغة في وصف ما نالهم من إكرامه:
فانظر إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل اقرب مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب كيف أنقذانا من العطب؟ وهذا الذي يرشدكم إنْ غفلتم إلى الطلب.
وسرنا حتى انتهينا إلى ديار مصر. انتهى مختصرا.
والزوال العجب ونجيث الخبر: ما ظهر من قبيحه يقال: بدا نجيث القوم: إذا ظهر سرهم الذي كانوا يخفونه. قالها الجوهري.
إفادة: قال الإمام غازي رحمه الله: في هذه الرحلة لقي ابن العربي شيخه ذانشمند الأكبر وهو إسماعيل الطوسي ودانشمند الأصغر وهو أبو حامد الغزالي الطوسي. ومعنى ذامنشد بلغة الفرس عالم العلماء وكان شيخنا الأستاذ أبو عبد الله الصغير يحكي أنا عن شيخه أبي محمّد عبد الله العبدوسي أنَّه بلغه الفرس يفخمون ميم دانشمند والله تعالى اعلم.
قال ابن العربي في قانون التأويل: ورد علينا دانشمند يعني الغزالي فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية معرضا عن الدنيا مقبلا على الله تعالى فمشينا إليه وعرضنا أمنيتنا عليه وقلنا له: أنت ضالتنا التي كنا ننشد وإمامنا به نسترشد. فلقيناه لقاء المعرفة وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة وتحققنا أنَّ الذي نقل إلينا من الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم ولو رآه علي بن العباس لمّا قال:
إذا ما مدحت امرأ غائبا
…
فلا تغل في مدحه واقصد
فإنك إنْ تغلُ تغل الظنو
…
ن فيه إلى الأمد الأبعد
فيصغر من حيث عظمته
…
لمفضل المغيب على المشهد
انتهى.
وقال بعض من عرف به، أعنى بابن العربي رحمه الله، ما نصه: علم الاعلام، الطاهر الأثواب، الباهر الألباب، الذي أنسى ذكاء إياس، وترك التقليد للقياس، وانتج الفرع من الأصل، وغدا في يد الإسلام أمضى من النصل، سقى الله به الأندلس، بعد ما أجدبت من المعارف، ومدينة عليها منه الظل الوارف، فكساها رونق نبله، وسقاها ريق وبله، وكان أبوه أبو محمّد بإشبيلية المأمون لابن أبي داود، ولاه الولايات الشريفة، وبواه المراتب المنيفه، فلما أقفزت حمص من ملكهم وخلت، وألقتهم منها وتخلت، رحل به إلى المشرق، وحل فيه محل الخائف الفرق، فجال في أكنافه، وأجال قداح الرجاء في استقبال العز واستئنافه، فلم يسترد ذاهبا، ولم يجد كمعتمد باذلا زاهيا، فعاد إلى الرواية والسماع، وما استفاد من إجالة تلك الأطماع، وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوح، وفي روض الشباب زهر ما صوح، فألزمه مجالس العلم رائحا وغاديا، ولازمه سائقا إليها وحاديا، حتى استقرت به مجالسه، واطردت له مقياسه، فجد في طلبه، واستجد به أبوه منخرق أربه،
ثم أدرك حمامه، ووراته هناك رجامه، وبقي أبو بكر متفرد، وللطلب متجردا، حتى أصبح في العلم وحيداً، ولم تجد عنه الرياسة محيدا، فكر إلى الأندلس، فحلها والنفوس إليه متطلعه، ولأنبائه متسمعه، فناهيك من حظوة لقي، ومن غزة سقى، ومن رفعة سما إليها ورقي، وحسبك من مفاخر قلدها، ومن محاسن أنس أثبتها فيها وخلدها.
وقد أثبت من بديع نظمه ما يهز أعطافا، وترده الأوهام نطافا. فمن ذلك قوله يتشوق إلى بغداد، ويخاطب أهل الوداد:
أمنك سرى والليل يخدع بالفجر
…
خيال حبيب قد حوى قصب الفخر
جلا ظلم الظلماء مشرق نوره
…
ولم يخبط الظلماء بالأنجم الزهر
ولم يرض بالأرض البسيطة مسحبا
…
فسار على الجوزاء إلى فلك يجرى
وحث مطايا قد مطاها بعزة
…
فأوطأها قسرا على قنة النسر
فصارت ثقالا بالجلالة فوقها
…
وسارت عجالا تتقي ألم الرجر
وجرت على ذيل المجرة ذيلها
…
فمن ثم يبدو ما هناك لمن يسري
ومرت على الجرباء توضع فوقها
…
فآثارها ما مرت به كلف البدر
وسافت أريج الخلد من جنة العلى
…
فدع عنك رملا بالأنيعم يستذري
فما حذرت قيسا ولا خيل عامر
…
ولا أضمرت خوفاً لقاء بني ضمر
سقى الله مصرا والعراق وأهلها
…
وبغداد والشامين منهل القطر
انتهى.
وما أقربه من نفس الفتح، صاحب القلائد والمطمح، ولعل هذا من كلامه في المطمح. والله اعلم.
وقد طال الكلام، ولكن لا يلحقنا في مثله الملام.
ومن تآليف الإمام أبي بكر بن العربي المذكور، كتاب " القبس، في شرح موطأ مالك بن انس " وكتاب " ترتيب المسالك، في شرح موطأ مالك "، وكتاب " أنوار الفجر " في تسعين سفراً، وكتاب " أحكام القرآن "، وكتاب " عارضة الأحوذي بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة، وفتح الواو، وكسر الذال المعجمة، وآخره ياء مشددة على الترمذي "، وكتاب " مراقي الزلف "، وكتاب " الخلافيات "، وكتاب " نواهي الدواهي "، وكتاب " سراج المردين "، وكتاب المشكلين ": مشكل القرآن والسنة، وكتاب " الناسخ والمنسوخ في القرآن "، وكتاب " قانون التأويل "، وكتاب " النيران في الصحيحين "، وكتاب " سراج المهتدين "، وكتاب " الأمد الأقصى، بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا:، وكتاب غيره الكلام على " مشكل حديث السبحات والحجاب "، وكتاب " العقد الاكبر، للقاب الأصغر "، و " تبيين الصحيح، في تعيين الذبيح "، و " تفضيل التفضيل،
بين التحميد والتهليل "، ورسالة " الكافي، في أنَّ دليل على النافي "، وكتاب " السباعيات "، وكتاب " المسلسلات "، وكتاب " التوسط في المعرفة بصحة الاعتقاد، والرد على من خالف أهل السنة من ذوي البدع والإلحاد "، وكتاب " شرح غريب الرسالة "، وكتاب " الإنصاف "، وكتاب " ملجئة المتفقهين، إلى معرفة غوامض النحويين ".
ورأيت في بعض المجاميع ما نصه: قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: قال علماء الحديث: ما من رجل يطلب الحديث إلاّ كان على وجهه نضرة، لقول النبي) :" نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها ". الحديث.
قال: وهذا دعاء منه عليه السلام لحمالة علمه، ولا بد بفضل الله من نيل بركته.
وإلى هذه النضرة أشار أبو العباس العزفي رحمه الله بقوله:
أهل الحديث عصابة الحق
…
فازوا بدعوة سيد الخلق
فوجوههم زهر منضرة
…
لألاؤها كتألق البرق
يا ليلتي معهم فيدركني
…
ما أدركوا بها من السبق
انتهى.
ومن أشياخ القاضي عياض رحمه الله.
القاضي أبو عبد الله بن حمدين التغلبي، وهو محمّد بن على بن محمّد بن عبد العزيز بن أحمد التغلبي، بمثناه من فوق، وغين معجمة، منسوب لتغلب بكسر اللام وفتحها.
ولد سنة تسع وثلاثين وأربع مائة؛ ومات يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم سنة ثمان وخمس مائة؛ ودفن يوم الجمعة بعد صلاة العصر: وقال في حقه صاحب القلائد: حامي ذمار الدين وعاضده، وقاطع ضرر المعتدين وخاضده، ملك للعلوم زماماً، وجعل العكوف عليها لزاما، فحيا رسمها، وأعلى اسمها، وخاصمت الملحدين منه ألسن لد، وتهدلت به على العالمين أغصن ملد، وكف أيدي الظالمين، فلم تكن لهم استطالة؛ وأرهف خواطر المجتهدين، فلم تسنح لهم بطالة؛ فأصبح أهل مصره بين دارس علم، ولابس حلم، وآيس ظلم؛ ناهيك من رجل كثير الرعى لأهل المعارف، مؤو من بره إلى ظل وارف؛ أعم الورى منه، وأعظم خلق الله منه؛ وأقام وأدنى وأبعد، وأنحس وأسعد؛ فتقلصت به الظلال وفاءت، وحسنت به الأيام وساءت؛ واعمل للضرر والنفع لسانه ويده، وشغل بالرفع والوضع يومه وغده، وعمر بهما فكره وخلده؛ حتى هد الجبال الشوامخ، واجتث الأصول الرواسخ.
وما أدار ابن الحاج من خلافة سنة تسع وتسعين ما أدار، واتفق هو ومن واطاه على ما فسخته الأقدار، واستشير في الخلع فما أساغه، واريغ ضيره فلم يكن فيمتن راغه، وعوض على الحمام فما هابه، ووالي في نقض ما أبرموه جيئته وذهابه، وسمح في ذلك بنفسه، وقنع من غده بذكر أمسه. فلما أنجلت ظلماؤه، وتحلت بنجوم ظفره سماؤه، أغرى بالمطالبين اهتضامه
وحيفه، وسرى إليهم مكره سرى قيس لحمل وحذيفه، وأعلن لمن أسر إغراء ولم ينظر بالمكروه نظراءه، فأخمل منهم أعلاما، وأورث نفس الدين منهم آلاما، وألبسهم ما شاء ذما من الناس وملاما، فدجت مطالع شموسهم، وخلت مواضع تدريسهم، فأصبحوا ملتحفين بالمهانة، ومتسوفين إلى الإهانة، يروغهم الرواح والغدو، ويحسبون كل صيحة عليهم هم العدو، ويذعرهم طروق النوم للأجفان، وينكرهم الثابت العرفان، فقد فقدوا حبوراً، وعادت منازلهم قبوراً، إلى أنَّ نفس بعد أحوال، وخلا أفقهم من تلك الأهوال، فتشنقوا ريح الحياة، وأشرقوا من تلك الظلمات، بعد أنَّ أحال البؤس نعيمهم، وأخذ الحمام زعيمهم.
وكان رحمه الله متضح طريق الهدى، منفسح الميدان في العلم والندي، مع أدب كالبحر الزاخر، ونثر كالدر الفاخر، وقد أثبت منه ما تعذب مقاطفه، وتلين معاطفه. فمن ذلك فضل راجع به ابن شماخ: عمر بابك، وأخضب جنابك، وطاوعك زمانك، ونعم أوانك
وسقي ديارك غير مفسدها
…
صوب الربيع وديمة تهمى
فما درج لسبيله من كنت سلالة سلسله، ووارث معرسه ومقيله، وما خام
وضرع، فخر رمى عن وتر قوسك ونزع، ولم يهلك هالك، ترك مثل مالك، فتركت المهاد، وألفت السهاد، وتقيلت الآباء والأجداد، فأسرجت في ميدان الحمد براقا، أتخذ الريح خافية وساقا، فأحتل من شعاب المجد صعقا، أثار به نقعا، ودوم في أفق السماء، تدويم فرخ الماء، حتى كأنه على قمة الرأس ابن ماء، فحق لباهر فضلك أنَّ يطول فيقول:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
…
وبنفسي فخرت لا بجدودي
أو يتنزل فيتمثل:
لسان واحسبنا كرمت
…
يوما على الأحساب نتكل
تبني كما كانت أوائلنا
…
تبني ونفعل مثل ما فعلوا
كم متعاط شأو طلقك، سولت له نفسه شق غبارك، واقفاء منهاج آثارك فما أدرك، وطلح بغيره وبرك. وفي فصل منها: بيننا وسائل، أحكمتها الأوائل، ما هي بالأنكاث، والوشائج الرث من دونها عهد، جناه شهد، أرج عرف النسيم، مشرف جبين الأديم، رائق رقعه الجلباب، مقتبل رداء الشباب، كالصباح المنجاب، تروق أساريره، وتلقاك قبل اللقاء تباشيره.
ورثناهن عن آباء صدقٍ
…
ونورها إذا متنا بنينا
ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض الفقيه الإمام الحافظ أبو بكر بن عطية رحمه الله.
قال صاحب القلائد في حقه:
شيخ العلم وحامل لوائه، وحافظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وكوكب سمائه، شرح الله لتحفظه صدره، وطاول به عمره، مع كونه في كل علم وافر النصيب مياسراً بالمعلى والرقيب، رحل إلى المشرق لأداء الفض، لابس برد من العمر الغض، فروى وقيد، ولقي العلماء وأسند، وأبقى تلك المآثر وخلد. نشأ في نبتة كريمة وأرزمة من الشرف غير مرومة لم يزل فيها على وجه الزمان أعلام علم، وأرباب مجد ضخم، قد قيدت مآثرهم الكتب، وأطلعتهم التواريخ كالشهب، وما برح الفقيه أبو بكر يتسنم كواهل المعارف وغواربها، ويقيد شوارد المعاني وغرائبها، لاستضلاعه بالأدب الذي أحكم أصولاه وفروعه، وعمر برهة من شبيبته ربوعه، وبرز فيه تبريز الجواد المستولي على الأمد، وجلى عن نفسه به كما جلى الصقال عن النصل الفرد، وشاهد ذلك ما أثبته من نظمه الذي يروق جملة وتفصيلاً، ويقوم على قوة العارضة دليلاً.
فمن ذلك قوله يحذر من خلطاء الزمان وينبه على التحفظ من الإنسان قال:
كم بذئب صائدً مستأنساً
…
وإذا أبصرت إنساناً ففر
إنما الإنسان بحر ماله
…
ساحل فاحذره إياك الغرر
واجعل الناس كشخص واحدً
…
ثم كن من ذلك الشخص حذر
وله في الزهد:
أيها المطرود من باب الرضا
…
كم يراك الله تلهو معرضا
كم إلى كم أنت في جهل الصبا
…
قد مضى عمر الصبا وانقرضا
قم إذا الليل دجت ظلمته
…
واستلذ الجفن إنَّ يغمضا
فضع الخد على الأرض ونح
…
واقرع السن على ما قد مضى
وقال في هذا المعنى:
قلبي يا قلبي المعنى
…
كم أما أدعى فلا أجيب
كم أتمادى على ضلال
…
لا أرعوي لا ولا أنيب
ويلاه من سوء ما دهاني
…
يتوب غيري ولا أتوب
وا أسفا كيف برء دائي
…
دائي كما شاءه الطبيب
لو كنت أدنو لكنت أشكو
…
ما أنا من بابه قريب
أبعدني منه سوء فعلي
…
وهكذا يبعد المريب
ما لي قدر وأي قدر
…
لمن أخلت به الذنوب
وله في المعنى أيضاً:
لا تجعلن رمضان شهر فكاهة
…
تلهيك فيه من القبيح فنونه
واعلم بأنك لا تنال قبوله
…
حتى تكون تصومه وتصونه
وله في مثل ذلك:
إذا لم يكن في السمع مني تصاون
…
وفي بصري غض وفي مقولي صمت
فحظي إذن صومي الجوع والظمأ
…
وأنْ قلت إني صمت يومي فما صمت
وله المعنى الأول:
جفوت أنساناً كنت آلف وصلهم
…
وما في الجفا عند الضرورة من باس
بلوت فلم أحمد وأصبحت آيسا
…
ولا شيء أشفى للنفوس من الياس
فلا عذلوني في انقباضي فإنني
…
رأيت جمع الشر في خلطة الناس
وله يعاتب بعض أخوانه:
وكنت أظن أنَّ الجبال رضوى
…
يزول وأنْ ودت لا يزول
ولكن الأمور لها اضطراب
…
وأحوال ابن آدم تستحيل
فإن يك بيننا وصل جميل
…
وإلاّ فليكن هجر طويل
وأما شعره الذي اقتدحه من مرخ الشباب وعفاره وكلامه الذي وشحه بمآرب الغزل وأوطاره فإنه أنسى إلى ما تناساه وتركه حين كساه العلم والورع من ملابسه ما كساه. فما وقع من ذلك قوله:
كيف السلو ولي حبيب هاجر
…
قاسي الفؤاد يسومني تعذيبا
لمّا درى أنَّ الخيال مواصلي
…
جهل السهاد على الجفون رقيبا
وله أيضاً رحمه الله:
يا من عهودي لديك ترعى
…
أنا على عهدك الوثيق
إنْ شئت أنْ تسمعي غرامي
…
من مخبر عالم صدوق
فاستخبري قلبك المعنى
…
يخبرك عن قلبي المشوق
انتهى.
ومن أشياخ القاضي أبي الفضل عياض رحمه الله: الشيخ الإمام النحوي الأديب اللغوي أبو عبد الله بن محمّد بن السيد
بكسر السين البطليوسي بفتح الموحدة والطاء المهملة والتحتانية وسكون اللام والواو نزيل بلنسية.
قال السيوطي في الطبقات: كان عالما باللغات والآداب متبحرا فيها انتصب لإقراء علم النحو وجتمع إليه الناس وله يد في العلوم القديمة. ذكره في قلائد العقيان وبالغ في وصفه.
وكان لابن الحاج صاحب قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس صورة: رحمون وعزون وحسون فأولع بهم وقال فيهم:
أخفيت سقمي حتى كاد يخفيني
…
وهمت في حب عزون فعزوني
ثم أرحموني برحمون فإنَّ ظمئت
…
نفسي إلى ريق حسون فحسوني
ثم خاف على نفسه فخرج من قرطبة.
صنف: شرح أديب الكتاب شرح الموطأ شرح سقط الزند شرح ديوان المتنبي إصلاح الخلل الواقع في الجمل الحلل في شرح أبيات الجمل المثلث المسائل المنثور في النحو وله كتاب " التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في رأيهم واعتقادهم " وهو كتاب عظيم. لم يصنف مثله وغير ذلك. ولد سنة أربع وأربعين وأربع مائة ومات في رجب سنة إحدى وعشرين وخمس مائة ببلنسية.