الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخبر عن مقتل ابن الأبار
وسياقته الأولية:
كان هذا الحافظ أبو عبد الله بن الأبار من مشيخة أهل بلنسية وكان علامة في الحديث ولسان العرب وبليغا في الترسيل والشعر وكتب عن السيد أبي عبد الله بن حفص بن عبد المؤمن ببلنسية ثم عن ابنه ثم دخل معه دار الحرب حين نزع به ثم كتب عن ابن مردنيش. ولما زحف الطاغية إلى بلنسية ونازلها، بعث زيان بوفد بلنسية وبيعتهم، إلى الأمير أبي زكريا، وكان فيهم ابن الأبار هذا الحافظ، فحضر مجلس السلطان، وأنشد قصيدته على روى السين يستصرخه، فبادر السلطان بإغاثتهم، وشحن الأساطيل بالمدد إليهم، من المال والأقوات والكسا، فوجدهم في عسرة الحصار، إلى أن تغلب الطاغية على بلنسية، ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس، غبطة بإقبال السلطان عليه، فنزل منه بخير مكان، ورشحه لكتب علامته في صدور رسائله ومكتوباته، فكتبها مدة، ثم إن السلطان أراد صرفها لأبى العباس الغسانى، لما كان يحسن كتابتها بالخط المشرقي، وكان آثر عنده من الخط المغربي، فسخط بن الأبار، أنفة من إيثار غيره عليه، وافتات على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه، لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه، وأن يبقى مكان العلامة منه لواضعها. فجاهز بالرد، ووضعها استبدادا وأنفة؛ وعوتب على ذلك، فاستشاط غضبا، ورمى بالقلم، وأنشد متمثلا:
اطلب العز في لظى وذر الذل ولو كان في جنان الخلود
فنمى ذلك إلى السلطان فأمر بلزومه بيته ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عد فيه من عوتب من الكتاب وأنّب وسماه إعتاب الكتاب واستشفع المستنسر بالله فغفر السلطان له وأقل عثرته وأعاده إلى الكتابة ولمّا الأمير أبو زكريا رفعه المستنصر إلى حضور مجلسه مع الطبقة الذين كانوا الأندلس وأهل تونس. وكان في ابن الأبار أنفة وبأو وضيق خلق وكان يزرى على المستنصر في مباحثه ويستقصر مداركه فخشن له صدره مع ما كان يسخط به السلطان من تفضيل الأندلس وولاتها عليه.
وكانت لابن أبى الحسين فيها سعاية لحقد قديم سببه أن ابن الأبار لما قدم في الأسطول من بلنسية نزل ببنزرت وخاطب ابن أبى الحسين بغرض رسالته ووصف أباه في عنوان مكتوبة بالمرحوم ونبه على ذلك فاستضحك وقال إن أبًا لا تعرف حياته من موته لأب خامل ونميت إلى ابن أبى الحسين فأسرها في نفسه ونصب له إلى أن حمل السلطان على إشخاصه إلى بجاية ثم رضى عنه واستقدمه ورجعه إلى مكانه من المجلس وعاد هو إلى مساءة السلطان بنزعاته إلى أن جرى في بعض الأيام ذكر مولد الواثق وساءل عنه السلطان بعض من حضره فاستبهم فغدا عليه ابن الأبار بتاريخ الولادة وطالعها فاتهم بتوقع المكروه للدولة والتربص بها كما كان أعداؤه يشيعون عنه بما كان ينظر في النجوم فتقبض عليه وبعث السلطان إلى داره فرفعت إليه كتبه أجمع وألفى في أثنائها -فيما زعموا- رقعة بأبيات أولها:
طغا بتونس خلف
…
سموه ظلما خليفه
فاستشاط لها السلطان وأمر بامتحانه ثم بقتله فقتل قعصا بالرماح وسط محرم
من سنة ثمان وخمسون، يعني وست مائة. ثم أحرق شاوه، وسيقت مجلدات كتبه، وأوراق سماية ودواوينه، فأحرقت معه.
انتهى كلام ابن خلدون.
والقصيدة السينية التي أشار إليها ابن خلدون، كنت عزمت على ذكرها أوّل تراجم هذا الكتاب، حين ذكرت أمر الجزيرة، وأتيت بقصيدة صالح ابن شريف، فنسيت ذلك، حتى قضى الله به الآن؛ وهي من غرر القصائد الطنانة، وهذا نصها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا
…
إنَّ السبيل إلى منجاتها درسا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست
…
فلم يزل منك عز النصر ملتمسا
وحاش مما نعانيه حشاشتها
…
فطالما ذاقت البلوى صباح مسا
يا للجزيرة أضحى أهلها جزاراً
…
للحوادث وأمسى جدها تعسا
في كل شارقة إلمام بائقة
…
يعود مأتمها عند العدا عرسا
وكل غاربةٍ إجحاف نائبة
…
تثنى الأمان حذار والسرور أسا
تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم
…
ولا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي بلنسة منها وقرطبة
…
ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا
مدائن حلها الإشراك مبتسما
…
جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا
وصيرتها العوادي العابثات بها
…
يستوحش الطرف منها ضعف
فمن دساكر كانت دونها حرما
…
ومن كنائس كانت
يا للمساجد عادت للعدا بيعا
…
وللنداء غدا
لهفي عليها إلى استرجاع فائتها
…
مدارساً للمثاني
وأربعا نمنمت أيدي الربيع لها
…
ما شئت من
…
موشيةٍ وكسا
كانت حدائق للأحداق مونقةً
…
فصوح النضر من أدواحها وكسا
وحال ما حولها من منظر عجب
…
يستجلس الركب أو يستركب الجُلسا
سرعان ما عاث جيش الكفر واحربا
…
عيث البا في مغانيها التي كبسا
وابتز بزتها مما تحيفها
…
تحيف الأسد الضاري لمّا افترسا
فأين عيش جنيناه بها خضراً
…
وأين غصن جنيناه بها سلسا
حمى محاسنها طاغٍ أتيح لها
…
ما نام عن هضمها حينا ولا نعسا
ورج أرجاءها لمّا أجاط بها
…
فغادر الشم من أعلامها خنسا
خلا له الجو فامتدت يداه إلى
…
إدراك ما لم تطأ رجلاه مختلسا
وأكثر الزعم بالتثليث منفردا
…
ولو رأى راية التوحيد ما نبسا
صل حبلها أيها الملى الرحيم فما
…
أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا
وأحي ما طمست منها العداة كما
…
أحييت من دعوة المهدي ما طمسا
أيام سرت لنصر الحق مستبقا
…
وبت من نور ذاك الهدى مقتبسا
وقمت فيها بأمر الله منتصرا
…
كالصارم اهتز أو كالعارض انبجسا
تمحو الذي كتب التجسيم من ظلم
…
والصبح ماحية أنواره الغلسا
وتقضي الملك الجبار مهجته
…
يوم الوغى جهرة لا ترقب الخلسا
هذي رسائلها تدعوك من كثبٍ
…
وأنت أفضل مرجو لمن يئسا
فتك جارية بالنجح راجيةً
…
منك الأمير الرضا والسيد الندسا
..سبحت والريح عاتية
…
كما طلبت بأقصى شدة الفرسا
…
عبد الله الواحد بن أبي
…
حفص مقبلة من تربة القدسا
ملك تقلدت الأملاك طاعته
…
ديناً ودنيا فغشها الرضا لبسا
من كل غادٍ على يمناه متسلما
…
وكل صادٍ إلى نعماه ماتمسا
مؤيد لو رمى نجمها لأثبته
…
ولو دعا أفقا لبى وما احتبسا
تالله إنَّ الذي ترجى السعود له
…
ما جال في خلد يوما ولا هجسا
إمارة يحمل المقدار رايتها
…
ودوللة عزها يستصحب القعسا
يبدي النهار بها من ضوئه شنباً
…
ويطلع الليل من ظلماته لعسا
ماضي العزيمة والأيام قد نكلت
…
طلق المحيا ووجه الدهر قد عبسا
كأنه البدر والعلياء هالته
…
تحف من حوله شهب القنا حرسا
تدبيره وضع الدنيا وما وسعت
…
وعرف معروفه واسى الورى وأسا
قامت على العدل والإحسان دولته
…
وأنشرت من وجود الجود ما رمسا
مبارك هديته بادٍ سكينته
…
ما قام إلاّ إلى حسنى ولا جلسا
قد نور الله بالتقوى بصيرته
…
فما يبالي طروق الخطب ملتبسا
برى العصاة وراش الطائعين فقل
…
في الليث مفترسا والغيث مرتجسا
ولم يغادر على سهل ولا جبل
…
حيا لقاحاً إذا وفيته بخسا
…
أصيد لا تلقي به صيداً
…
ورب أشوس لا تلقي له شوسا
..... والملوك معاً
…
في نبعة أثمرت للمجد ما غرسا
........ وصان صيغته أنْ......
فظل يوطن من أرجائها حرما
…
وبات يوقد من أضوائها قبسا
بشرى لعبد إلى الباب الكريم حدا
…
آماله ومن العذب المعين حسا
كأنما يمتطي واليمين يصحبه
…
من البحار طريقا نحوه يبسا
فاستقبل السعد وضاحا اسرته
…
من صفحة فاض منها النور وانعكسا
وقبل الجود طفاحا غواربه
…
من راحة غاص فيها البحر وانغمسا
يا أيها الملك المنصور أنت لها
…
علياء توسع أعداء الهدى تعسا
وقد تواترت الأنباء أنك من
…
يحيى بقتل ملوك الصفر أندلسا
طهر بلادك منهم إنهم نجس
…
ولا طهارة ما لم نغسل النجسا
تنبيه: " نغسل النجسا " هكذا ثبت بالنون كما رأيته في بعض النسخ العتيقة وهو أصوب مما وقع بخط بعضهم بالتاء لأن مثله لا يصلح للمخاطبات السلطانية ولم يشتهر عند أكثر الناس إلاّ بالتاء والصواب ما قدمته من أنه بالنون والله اعلم.
وأوطئ الفليق الجرار أرضهم
…
حتى يطأطئ رأسا كل من رأسا
وانصر عبيد بأقصى شرقها شرقت
…
عيونهم أدمعا تهمي
هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت
…
داء
وذكر غير واحد أنَّه دخل مرة على المستنصر بالله الحفصي فلما مثل بين يديه آنسه بإقباله أو سؤاله فأنشده الحافظ رحمه الله:
بشرى باشرت الهدى والنورا
…
بلقاني المستنصر المنصورا
فإذا أمير المؤمنين لقيته
…
لم ألق إلاّ نضرة وسرورا
ومن بديع نثره رحمه الله رسالته الحافلة التي كتب بها للمستنصرو هي الرسالة الغريبة مساقا المتلألئة نظما واتساقا التي لم ينسج على منوالها ولم يأت أحد بمثالها يصف وصول الماء إلى تونس ويشير في ذلك إلى إشارات عجيبة تدل على أنَّ قريحته الوقادة لداعي الإجابة مجيبه وهي: الحمد لله حمدا لا نقلله. هذا الزمان الذي كنا نؤمله " بلدة طيبة ورب غفور " ودولة مباركة لمحاسنها سفور.
إلى أبي حفص آلوا فهل جالت النجوم حيث جالوا أو نالت الملوك بعض ما نالوا ملك يشتمل الإقبال وعز يقلقل الأجيال وكرم صريح الانتماء في النماء وشرف سمت ذوائبه على السماء إلى عدل وإحسان هما قوام نوع الإنسان مع رفق واسجاح ضمنا كل فوز ونجاح فقد آضت الظلماء أنوارا وفاضت البركات أنجادا وأغوارا أليس العام ربيعا والعالم جميعا والسعود طالعة والعصور طائلة مصالح الأعمال تحليها وعلى منصات الكمال تجليها فمن ذا أيّها المولى يجاريك إلى مدى أو يباريك في إقدام صادق وندى وآياتك للأبصار هدى وحياتك للكفر ردى بسيرتك عدل الدهر وما جار ولولا نور غرتك ما أنار لقد حسنت بك الأوقات حتى كأنك في فم الزمن ابتسام أعرقت في المجد والعليا وعنيت بالدين فعنت لك الدنيا
أي عنيد أو عميد ما ألقى باليد واتقى في اليوم عاقبة الغد إصفاقا على التعوض بصفحك واسعادك وإشفاقا من التعرض لصفاحك وصعادك تعمر بالحسنات آناءك وتتبع في القربات آباءك بانيا كما بنوا بل زائدا على ما أتوا وباديا من حيث انتهوا:
أناس من التوحيد صيغت نفوسهم
…
فزرهم تر التوحيد شخصا مركبا
ومن ساكبات المزن فيض أكفهم
…
فردهم ترى ماء الغمام وأعذبا
أمجاد أجواد في الحباء بحار وفي الحبا أطواد تقيل أبو زكريا نهج أبي محمّد وأيدا جميعا بأبي حفص المؤيد:
نسب كأن عليه من شمس الضحى
…
نورا ومن فلق الصباح عمودا
أولئك صفوة الأئمة وحفظة الأذمة والقائمون دون الأمة في الحوادث الدلهمة وهذه الدولة المحمدية الخالدية بمكانها الدعوة المهدية إليها انتهت المراشد وعليها التفت المحامد وبها اعتزت حين اعتزت العناصر والمحاتد ومن خصائصها انفعال الوجود ومن مراسمها الإيثار بالموجود والبدار إلى إغاثة الملهوف وإعانة المنجود ما برحت للخيرات إيضاعها وخبها وبالصالحات غرامها وحبها حتى لقد فهمت أسرارها وأودعت أنوارها وكلفت أو كفلت إفشاءها وإظهارها يمينا أنْ يمين الحق به طولي وللآخرة خير لها من الأولى بمولانا أيده الله عز مكانها وخلدت سديدة آثارها شديدة أركانها لا جرم أنَّه الطاهر كالماء الذي جلبه للطهارة والظاهر ولاء ولواء في مصعد الخلافة ومقعد الإمارة بالسعادة الأبدية وجدة وكلفة وما همة إلاّ تجاوز ما أسلفه سلفه فجر من الأرض ينبوعا وجدد للجدوى رسوما عافية وربوعا ساحتها الحرم وهو زمزم قصاده وحجاجه وراحته البحر الخضم غير