المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(ب) مشتملات اليوم الآخر - الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق - جـ ١

[السبكي، محمود خطاب]

الفصل: ‌(ب) مشتملات اليوم الآخر

بالماء فيحملهم فيلقيهم في البحر، ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم (الحديث) أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه (1){83} .

والأحاديث في ذلك كثيرة. وفيما ذكر مقنع لمن عقل. والله ولى التوفيق.

(ب) مشتملات اليوم الآخر

يشتمل أمورا، المذكور منها اثنا عشر:

1 -

البعث: وهو إحياء الموتى. قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (104) الأنبياء. وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (27) الروم. وأهون أى هين. وقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (79) يس.

(وعن) كعب بن مالك رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " انما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه ". أخرجه مالك وأحمد والنسائى وابن ماجه والبيهقى بسند صحيح (2){84} .

(1) انظر ص 268 ج 2 - ابن ماجه (خروج يأجوج ومأجوج). وجبتها، أى قيامها. ويجأرون، أى يرفعون أصواتهم ويستغيثون. (فتنتن) مثلث التاء الثانية من باب قرب وضرب وتعب. وتنسف: أى تفتت. و (الأديم) الجلد المدبوغ.

(2)

انظر ص 85 ج 7 - الفتح الربانى وص 223 ج 3 تيسير الوصول (النفخ في الصور والنشور). و (النسمة) الروح. (يعلق) بضم اللام أى يأكل.

ص: 100

(وعن) أبى رزين العقيلى قال: " قلت يا رسول الله كيف يعيد لالله الخلق وما آية ذلك؟ فقال: اما مررت بوادى قومك جدبا. ثم مررت به يهتز خضرا؟ قلت نعم. قال: فتلك آية الله في خلقه. كذلك يحيى الله الموتى ". أخرجه أحمد وأبو الحسن رزين بن معاوية والطبرانى (1){85} .

والمعنى: أما مررت بوادى قومك حال خلوه من النبات ثم مررت به بعد أن أخضر بالنبات؟ كذلك يحيى الله الموتى يوم القيامة.

2 -

الحشر: وهو سوق الناس إلى مكان الحساب فتجتمع الوفود في هذا اليوم المشهود ليسأل كل عن عمله {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ (2)} وقال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (3)

وقال: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} (4).

(وعن) ابن عباس رضى الله عنهما قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يأيها الناس انكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا "(كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا أنا كنا فاعلين) ألا وأن أول

(1) أنظر ص 11 ج 4 مسند أحمد (حديث أبى رزين العقيلى). وص 223 ج 3 تيسير الوصول.

(2)

الزلزلة: 7، 8.

(3)

الطور: 21. و (رهين) أى مرهون بعمله. فان وفق للأعمال الصالحة نجا والا وقع في الردى.

(4)

العاديات: 9 و 10. و (بعثر ما في القبور) اى أثير وأخرج من كان فيها من الموتى. (وحصل ما في الصدور) أى بين وأظهر ما كان كامنا في القلوب من الايمان وغيره.

ص: 101

الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ألا وانه سيجاء برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال. فأقول: يا رب أصحابى. فيقال انك لا تدرى ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم .. إلى قوله العزيز الحكيم " قال " فيقال لى انهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول سحقا سحقا ". أخرجه الشيخان والنسائى والترمذى (1){86} .

(وعن) ابى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنف مشاة، وصنف ركبان. وصنف وجوههم، قيل يا رسول الله: كيف يمشون على وجوههم قال: أن الذى أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم. أما انهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذى (2){87} .

3 -

الحساب: وهو توقيف الله تعالى عباده قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم أقوالا وأفعالا واعتقادات تفصيلا بعد أخذهم كتبهم إلا من استثنى. وكيفية التوقيف أمر غيبى. والناس فيه متفاوتون (فمنهم) من يحاسب حسابا يسيرا يعرض

(1) انظر ص 198 ج 8 فتح البارى (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم .. ) وص 293 ج 3 تحفة الأحوذى. وصدره: يحشر الناس. و (غرلا) بضم فسكون أى غرلا غير مختونين. أى كما بدأ الله تعالى الخلق في بطون امهاتهم حفاة عراة كذلك يعيدهم يوم القيامة. و (العبد الصالح) سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام (وانهم لم يزالوا الخ) بيانه لقوله (ما أحدثوا بعدك) والمراد بهم أصحاب الكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين كفروا ببدعتهم. وقيل المراد المنافقون والمرتدون.

(2)

انظر ص 224 ج 3 تيسير الوصول. (الحشر). و (الحدب) بفتحتين ما ارتفع من الأرض.

ص: 102

عمله عليه. فيطلعه الله على سيئاته سرا بحيث لايطلع عليها أحد ثم يعفو عنه ويأمر به إلى الجنة (ومنهم) من يناقش الحساب. بأن يسأل عن كل جزئية ويطالب بالعذر والحجة، فلا يجد عذرا ولاحجة فيهلك مع الهالكين. ويأمر الله تعالى مناديا ينادى عليه بسيئات أعماله، فيفتضح بين الخلائق (فعليك) أيها العاقل أن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب، وتبادر بالأعمال الصالحة قبل الفوات، وتصل ما بينك وبين ربك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتؤمن بالحساب وتستعد له.

قال الله تعالى {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (47) الأنبياء. وقال {وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (49) الكهف. وقال {أَلَا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ} (62) الأنعام. وقال {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} (14) الإسراء.

(وعن) أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شئ منه فليتحلله منه اليوم من قبل ألا يكون دينار ولادرهم. أن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته. وان لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " أخرجه أحمد والبخارى والترمذى (1){88} .

(وعنه) رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه ووعلى آله وسلم: " لتؤدن الحقوق الى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء،

(1) ص 224 ج 3 تيسير الوصول (الحساب).

ص: 103

ويسأل الحجر لم انكلب على الحجر ولم نكأ الرجل الرجل؟ قال: وكنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة وهو لا يعرفه فيقول: كنت ترانى على الخطا وعلى المنكر ولا تنهانى " أخرجه مسلم والترمذى ورزين (1){89} .

(وعن) عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى عليه وسلم " من نوقش الحساب عذب. فقلت أليس يقول الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (2)}؟ فقال إنما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك ". أخرجه الشيخان والترمذى وأبو داود (3){90} .

(وعن) أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " ان أول ما يحاسب به العبد يومك القيامة من عمله صلاته. فان صلحت فقد أفلح وأنجح. وان فسدت فقد خاب وخسر. فان انتقص من فريضته شئ، قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدى من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة. ثم يكون سائر عمله على ذلك ". أخرجه النسائى وابن ماجه والترمذى وقال: هذا حديث حسن غريب (4){91} .

(وعن) أبى برزة الأسلمى رضى الله عنه قال. قال: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم

(1) انظر ص 225 ج 3 تيسير (الحساب). والجلحاء التى لا قرن لها وبقال ذكأ الرجل الرجل إذا جرحه.

(2)

الانشقاق 8، 9.

(3)

انظر ص 225 ج 3 تيسير الوصول (الحساب).

(4)

انظر ص 81 ج 1 مجتبى (المحاسبة على الصلاة). وص 224 ج 1 - ابن ماجه (أول ما يحاسب به العبد الصلاة).

ص: 104

ابلاه؟ " أخرجه الترمذى وقال: هذا حديث حسن صحيح والطبرانى وأبو نعيم فى الحلية (1){92} .

(وعن) أبى سعيد وأبى هريرة رضى الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله تعالى لهع: ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا وسخرت للك الأنعام والحرث وتركتك ترأس وترتع؟ أكنت تظن أنك ملاقى يومك هذا؟ فيقول لا. فيقول له اليوم أنساك كما نسيتنى ". أخرجه الترمذى وقال: هذا حديث صحيح غريب (2){93} .

هذا (واعلم) أنه سيشهد على العاصى أحد عشر شاهدا فى هذا اليوم المشهود: اللسان، والأيدى، والأرجل، والسمع، والبصر، والجلد، والأرض، والليل، والنهار، والحفظة الكرام، والمال. قال تعالى:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (24) النور. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (19) فصلت. وقال: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} (3).

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فقال: " أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسول

(1) انظر ص 225 ج 3 تيسير الوصول (الحساب).

(2)

انظر ص 225 ج 3 تيسير الوصول (الحساب). ووالرؤس التقدم على القوم بأن يصير رئيسهم. وترتع من الرتع وهو التنعم. و (أنساك) أى أتركك فى العذب.

(3)

سورة ق: 21. و (سائق) ملك يسوقها الى المحشر (وشهيد) عليها بما عملت قاله عثمان بن عفان فيما رواه الحاكم وابن المنذر.

ص: 105

أعلم. قال: فان أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، أن تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا. قال فهذه أخبارها ". أخرجه أحمد والترمذى وصححه (1){94} .

(وعن) الحارث بن يزيد قال: سمعت ربيعة الجرشى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " تحفظوا من الأرض فانها أمكم، وانه ليس من أحد عامل عليها خيرا أو شرا الا وهى مخبرة ". أخرجه الطبرانى (2){95} .

(وعن) أنس رضى الله عنه قال: " ضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: من مخاطبة العبد ربه فيقول يا رب ألم تجربنى من الظلم؟ يقول: بلى، فيقول: أنى لا أجيز اليوم على نفسى شاهدا الا منى. فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا والكرام الكاتبين شهودا. فيختم على فيه ويقول لأركانه: انطقى فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل " أخرجه مسلم (3){96} .

وفى الحديث " ما من يوم يأتى على ابن آدم الا ينادى فيه: يا ابن آدم أنا خلق جديد وانا فيما تعمل عليك شهيد فاعمل خيرا أشهد لك به غدا فانى لو مضيت لن ترانى أبدا، ويقول الليل مثل ذلك ". أخرجه أبو نعيم (4){97} .

(وعن) أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم

(1) انظر ص 183 ج 1 تيسير الوصول (سورة الزلزلة) وص 333 ج 18 - الفتح الربانى.

(2)

رقم 3260 ص 234 ج 3 فيض القدير شرح الجامع الصغير.

(3)

انظر ص 229 ج 3 تيسير الوصول (الحساب).

(4)

لم نقف على هذا الحديث بهذا اللفظ.

ص: 106

قال " ان هذا المال خضر حلو، ونعم هو لم أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل، وانه من يأخذه بغير حقه كان كالذى يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدا يوم القيامة " أخرجه مسلم (1){98} .

(والحكمة) فى ذلك أن يعلم المرء أن لا ظلم فى ذلك اليوم، واظهار مراتب أصحاب الكمال، فيزدادون سرورا على سرورهم، واظهار فضائح أصحاب الشمال فيزدادون حسرة وندامة. نسال الله السلامة.

4 -

الميزان: وهو ذو كفتين ولسان (كالميزان المعهود) توزن فيه أعمال من يحاسب بقدرة الله تعالى دفعة واحدة. والصنج مثاقيل الذر والخردل، تحقيقا لاظهار تمام العدل. قال تعالى {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (47) الأنبياء. وقال {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (9) الأعراف وقال {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ} (11) القارعة.

(وقالت) عائشة رضى الله عنها ذكرت النار فبكيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قلت: ذكر النار فبكيت. فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما فى ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا. عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الكتاب حين يقال " هاؤم اقرءوا كتابيه " حتى يعلم أين يقع كتابه، أفى يمينه أم فى شماله

(1) هذا عجز الحديث بص 144 ج 7 نووى مسلم (التحذير من الاغترار بزينة الدنيا).

ص: 107

أم من وراء ظهره؟ وعند الصراط اذا وضع بين ظهرى جهنم حتى يجوز " أخرجه أبو داود (1){99} .

(وعن) ابن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ان الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتى على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر. فيقول: أتنكر من هذا شيئا؟ فيقول لا يارب فيقول: أظلمك كتبتى الحافظون؟ فيقول: لا يارب فيقول أفلك عذر أو حسنة؟ فيقول. لا يارب: فيقول الله عز وجل: بلى ان لك عندنا حسنة، وانه لا ظلم عليك اليوم. فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله. فيقول: احضر وزنك فيقول: يارب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: انك لن تظلم. فتوضع السجلات فى كفة والبطاقة فى كفة. فطاشت السجلات وثقلت البطاقة. ولا يثقل مع اسم الله تعالى شئ ". أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذى وقال: هذا حديث حسن غريب والبيهقى والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم (2){100} .

(وقالت) عائشة رضى الله عنها: جاء رجل فقال يا رسول الله: إن لى مملوكين يكذبوننى ويخونوننى ويعصوننى وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وكذبوك وعصوك، وعقابك إياهم، فان كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا، لا لك ولا عليك. وان كان عقابك إياهم دون ذبوبهم، كان فضلا لك

(1) انظر ص 231 ج 3 تيسير الوصول (الحوض والميزان).

(2)

انظر ص 213 ج 2 مسند أحمد. وص 367 ج 3 تحفة الأحوذى (فيمن يموت وهو يشهد أن لا اله الا الله).

ص: 108

وان كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم. اقتص لهم منك اللفضل. قال فتنحى الرجل يبكى ويهتف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما تقرأ كتب الله عز وجل {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (47) الأنبياء. فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجدلى ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم. أشهدكم أنهم كلهم أحرار " أخرجه أحمد والترمذى وقال: حديث غريب (1){101}

(وعن) أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان الى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله عظيم " أخرجه أحمد والشيخان والترمذى وابن ماجه (2){102}

(ومما) تقدم يعلم أنه يوزن عمل كل من يحاسب حتى من لا حسنة له ليزداد خزيا على رءوس الأشهاد. وبالوزن يظهر العدل فى العذاب والعفو عن الآثام.

5 -

الصراط: وهو جسر ممدود على ظهر جهنم يمر عليه الأولون والآخرون كل بحسب عمله. فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح العاصف، وناس كالجواد، وناس هرولة، وناس حبوا، وناس زحفا، وناس يتساقطون فى النار. وعلى جوانبه كلاليب لا يعلم عددها الا الله تخطف بعض الخلائق. قال تعالى:{وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياًّ} (3).

(1) انظر ص 147 ج 4 تحفة الاحوذى (سورة الأنبياء).

(2)

انظر ص 32 ج 2 تيسير الوصول (الاستغفار والتسبيح) وص 220 ج 2 - ابن ماجه.

(3)

سورة مريم 72، 72. ونذر الظالمين أى نتركهم فى جهنم جاثين على ركبهم - فجثى بكسر أوله جمع جاث.

ص: 109

(قال) ابن مسعود: " الصراط على جهنم مثل حد السيف. فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم. ثم يمرون والملائكة يقولون: اللهم سلم سلم " أخرجه ابن جرير (1){11} .

(وقال) السدى: سألت مرة الهمدانى عن قوله تعالى (وان منكم الا واردها) فحدثنى عن ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم فأولهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب المسرع ثم كشد الرجل ثم كمشية. أخرجه الترمذى وحسنة (2){103} .

ولشدة الهول حينئذ يقول المؤمنون: رب سلم سلم. (روى) المغيرة بن شعبة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " شعار المؤمنين على الصراط يوم القيامة: رب سلم سلم".أخرجه الترمذى والحاكم وصححاه (3){104} .

(وعن) ابن مسعود رضى الله عنه فى قوله تعالى: (يسعى نورهم بين أيديهم) قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط. منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم. وأدناهم نورا: من نوره فى ابهامه يتقد مرة ويطفأ مرة ". أخرجه ابن ابى حاتم وابن جرير (4){12} .

(1) انظر ص 83 ج 16 جامع البيان (وان منكم الا واردها).

(2)

انظر ص 145 ج 4 تحفة الأحوذى (سورة مريم) و (الحضر) ضم فسكون العدو الشديد. و (الشد) العدو.

(3)

رقم 4884 ص 161 ج 4 فيض القدير شرح الجامع الصغير.

(4)

انظر ص 227 ج 8 تفسير ابن كثير (سورة الحديد).

ص: 110

6 -

الحوض: يجب الايمان بأن لكل رسول حوضا يرده الطائعون من أمته، وأن حوض النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكبرها وأعظمها. طوله مسيرة شهر، مربع الشكل. له ميزابان يصبان فيه من الكوثر. ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل. كيزانه أكثر من نجوم السماء. ومن شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا ظمأ ألم. ولم دخل النار يعذب بغير العطش. ويكون شربه منه أو من غيره كالتسنيم (1) بعد ذلك لمجرد اللذة. يرده الخيار، وهم المؤمنون بالنبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الآخذون بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وكل من تعامل بالربا، أو جار فى الأحكام، أو أعان ظالما، أو جاوز حدا من حدود الله تعالى.

(وما ذكر) ثابت بأحاديث مشهورة تفيد التواتر المعنوى (منها) حديث سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " ان لكل نبى حوضا، وانهم يتباهون أيهم أكثر واردة. وانى أرجو أن أكون أكثرهم واردة ". أخرجه الترمذى وقال حديث حسن غريب، وفيه سعيد بن بشير ضعيف (2){105} .

(وحديث) ابن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " حوضى مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من يشرب منه فلا يظمأ أبدا ". أخرجه الشيخان (3){106} .

(1) قال تعالى (ومزاجه من تسنيم (27)(عينا يشرب بها المقربون)(28) المطففين و (التسنيم) أرفع شراب الجنة.

(2)

انظر ص 230 ج 3 تيسير الوصول (الحوض

).

(3)

انظر ص 377 ج 11 فتح البارى. وص 55 ج 15 نووى مسلم (الحوض).

ص: 111

(وقال) أنس رضى الله عنه: بينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فى المسجد، اذ أغفى اغفاءة ثم رفع رأسه صاحكا. فقيل: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت على سورة آنفا فقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم، انا أعطيناك الكوثر) حتى ختما، قال: اتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله اعلم، قال: انه نهر وعدنيه ربى عز وجل عليه خير كثير. وهو حوض ترد عليه أمتى يوم القيامة. آنيته عدد نجوم السماء فيختلج العبد منهم فأقول: ربى انه من أمتى. فيقول: ما تدرى ما أحدث بعدك ". أخرجه أحمد والخمسة (1){107} .

(فائدة) صحح الغزالى أن الحوض قبل الصرط. وكذا القرطبى وقال: المعنى يقتضيه، فان الناس يخرجون من قبورهم عطاشا فناسب تقديم الحوض، وأيضا فان من جاز الصراط لا يتأتى طرده عن الحوض فقد كلمت نجاته.

(ورجح) القاضى عياض انه بعد الصراط، وأن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار. ويؤيده من جهة المعنى أن الصراط يسقط منه يسقط من المؤمنين ويخدش فيه من يخدش، ووقوع ذلك للمؤمن بعد شربه من الحوض بعيد فناسب تقديم الصراط حتى اذا خلص من خلص شرب من الحوض. وقيل: يشهد له ما تقدم من ان للحوض ميزابين يصبان فيه من الكوثر. ولو كان قبل الصراط لحالت النار بينه وبين وصول ماء الكوثر اليه، ولكن وصول ذلك ممكن. والله على كل شئ قدير (ويمكن) الجمع بأن يكون الشرب

(1) انظر ص 183 ج 1 تيسير الوصول (سورة الكوثر) وص 33 ج 18 - الفتح الربانى. (وأغفى) أى نام نومه. ولا يقال غفا. (فيختلج) مبنى للمفعول أى يجتذب ويقطع.

ص: 112

من الحوض قبل الصراط لقوم، وبعده لآخرين بحسب ما عليهم من الذنوب حتى يهذبوا منها على الصراط.

هذا، ولم يقم دليل صريح على شئ مما ذكر. فالواجب اعتقاده هو أن النبى صلى الله عليه وسلم حوضا تعدجد أو اتحد، تقدم على الصراط أو تاخير. ولا يضرنا جهل ذلك. وقد جاء فى رواية لأحمد عن الحسن عن أنس أن فيه من الأباريق أكثر من عدد نجوم السماء (1). وهذا إشارة إلى غاية الكثرة. والله الموفق.

7 -

الكوثر: قيل: هو الحوض. والخبار فيه مشهورة. والمعروف المستفيض عند السلف والخلف أنه نهر فى الجنة أعطاه الله النبى صلى الله عليه وسلم.

(روى) ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "الكوثر نهر فى الجنة، حافتاه الذهب (2)، والماء يجرى على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل ". أخرجه أحمد والبخارى والترمذى، وقال: هذا حديث حسن صحيح (3){108} .

(وعن) أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " دخلت الجنة فاذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدى الى ما يجرى فيه الماء، فاذا مسك أذفر، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذى أعطاكه الله عز وجل ". أخرجه أحمد ومسلم والنسائى والترمذى ،وكذا البخارى بلفظ: لما عرج بالنبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم الى السماء قال:

(1) انظر ص 379 ج 11 فتح البارى (باب فى الحوض).

(2)

حافتاه جانباه.

(3)

انظر ص 337 ج 18 - الفتح الربانى. وص 219 ج 4 تحفة الأحوذى (سورة الكوثر).

ص: 113

أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ محوف، فقلت: ما هذ 1 ايا جبريل؟ قال: هذا الكوثر (1){109} .

(وعنه) أيضا أن رجلا قال: يا رسول الله، ما الكوثر؟ قال: هو نهر فى الجنة أعطانيه ربى، جلهو أشد بياضا من اللبن واحلى من العسل، فيه طيور أعناقها كاعناق الجزر. قال عمر: يا رسول الله، انها لناعمة. قال: أكلتها أنعم منها يا عمر. أخرجه أحمد والترمذى وحسنه ابن جرير (2){110} .

(وقال) ابن العباس ومجاهد: الكوثر الخير الكثير فى الدنيا والآخرة. ذكره ابن جرير {13} وقال: هذا التفسير يعم النهر وغيره، لأن الكوثر من الكثرة. وقال عطاء بن السائب: قال لى محارب بن دثار: ما قال سعيد بن جبير فى الكوثر؟ قلت: حدثنا عن ابن عباس أنه قال: هو الخير الكثير. فقال: صدق والله أنه للخير الكثير (3).

8 -

الشفاعة: وهى لغة الوسيلة والطلب، وعرفا سؤال الخير للغير. وهى تكون من الأنبياء والعلماء والعاملين والشهداء والصالحين.

(روى) عثمان بن عفان رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم

(1) انظر ص 338 ج 18 - الفتح الربانى. مختصر. وص 219 ج 4 تحفة الاحوذى. وص 517 ج 8 فتح البارى (سورة الكوثر)(وأذفر). أى بين الذفر - بفتحتين: وهو كل ريح ذكية طيب أو نتن.

(2)

انظر ص 329 ج 3 تحفة الأحوذى (صفة طير الجنة) وص 209 ج 30 جامع البيان (سورة الكوثر) و (الجزر) بضمتين جمع جزور: وهو الواحد من الابل ذكرا كان أو أنثى.

(3)

انظر ص 208 ج 30 جامع البيان.

ص: 114

قال: " يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ". أخرجه ابن ماجه (1){111} .

يشفع كل لأهل الكبائر على قدر منزلته عند الله تعالى. ولايلهم أحد ممن ذكر الشفاعة فى اخراج أحد من النار الا بعد انقضاء المدة المحتمة عند الله تعالى.

(والحق) أن الشفاعة من باب القضاء المعلق فنفعها ظاهرى.

هذا، واعلم أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو أول فاتح لباب الشفاعة يفتحه بالشفاعة فى فصل القضاء. وهى الشفاعة العظمى المختصة به يغبطه بها الأولون والآخرون: وهى المقام المحمود المشار إليه بقوله تعالى {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مُّحْمُوداً} (79) الإسراء.

(قال) أبو هريرة رضى الله عنه: سئل النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن المقام خالمحمود فى الآية. فقال: " هو المقام الذى أشفع لأمتى فيه " أخرجه أحمد والترمذى وحسنة (2){112} .

(وعن) ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " ان الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن. فبينما هم كذلك، استغاثوا بآدم فيقول: لست بصاحب ذلك ثم بموسى فيقول كذلك ثم بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فيشفع ليقضى بين الخلق، فيمشى حتى يأخذ بحلقه

(1) انظر ص 303 ج 2 - ابن ماجه (الشفاعة).

(2)

انظر ص 195 ج 18 - الفتح الربانى. وص 137 ج 4 تحفة الاحوذى (ومن سورة بنى إسرائيل).

ص: 115

باب الجنة. فيومئذ يبعثة الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم " أخرجه البخارى وابن جرير (1){113} .

(وعن) أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " لكل نبى دعوة مستجابة فتجعل كل نبى دعوته وانى أختبئ دعوتى شفاعة لأمتى يوم القيامة فهى نائلة ان شاء الله تعالى من مات من أمتى لا يشرك بالله شيئا " اخرجه مالك والشيخان والترمذى وابن ماجه (2){114} .

(وعن) جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى " أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود والترمذى وقال: غريب، وزاد: قال جابر: " من لم يكن من أهل الكبائر فماله وللشفاعة "(3){115} .

(وعن) أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى اللهعليه وعلى آله وسلم قال: " انا سيد الناس يوم القيامة هل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين فى صعيد واحد فينظرهم الناظر ويسمعهم الداعى وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. فيقول الناس ألا ترون الى ما أنتم فيه؟ ألا تنظرون من يشفع لكم اللا ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض: عليكم بآدم، فيأتونه فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك ال

(1) انظر ص 217 ج 3 فتح البارى (من سأل الناس تكثرا - الزكاة).

(2)

انظر ص 231 ج 3 تيسير الوصول (الشفاعة) وص 301 ج 2 - ابن ماجه.

(3)

انظر ص 232 ج 3 تيسير الوصول (الشفاعة). وص 302 ج 2 - ابن ماجه. وأما حديث " لا تنال شفاعتى أهل الكبائر من أمتى " فموضوع.

ص: 116

له بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسنكك الجنة. اشفع لنا الى ربك. ألا ترى الى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول آدم عليه السلام: ان ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله (1). وأنه نهانى عن الشجرة فعصيته (2) نفسى نفسى نفسى، اذهبوا الى غيرى، اذهبوا الى نوح. فيأتون نوحا عليه السلام فيقولون: يا نوح انت اول الرسل الى أهل الأرض، وقد سماك الله عبد شكورا (3)،

اشفع لنا الى ربك، ألا ترى الى ما نحن فيه؟ فيقول: ان ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وانى قد كانت لى دعوة دعوتها على قومى (4) نفسى نفسى نفسى، اذهبوا الى غيرى اذهبوا الى ابراهيم عليه السلام. فيأتون ابراهيم عليه السلام فيقولون: أنت نبى الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا الى ربك، ألا ترى الى ما نحن فيه؟ فيقول: ان ربى قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله. وانى قد كنت كذبت ثلاث كذبات (5) فذكرها، نفسى نفسى نفسى،

(1)(من روحه) الإضافة لتعظيم المضاف أى أن الله تعالى نفخ فى آدم روحا خلقها بلا أب ولا أم. والمراد بغضب الله تعالى لازمة وهو إيصال العقوبة إلى المستحق.

(2)

" فعصيته " تقدم أن مثل هذا مخالفة وقعت قبل النبوة سهوا. قال الله تعالى (فنسى ولم نجد له عزما) غير أن الأمر عظم لدية نظرا لعلو فعد نفسه عاصيا من باب " حسنات الأبرار سيئات المقربين ". فالعصيات صورى لا حقيقى لأن العصيان ملابسة الكبيرة قصدا والقصد هنا منتف لقوله " فنسى ".

(3)

قال الله تعالى (ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا) آية 3 .. الإسراء ..

(4)

يرد أن له دعوة واحدة محققة الاجابة وقد استوفاها بدعائه على قومه فى الدنيا بقوله (رب لاتذر على الأرض من الكافرين ديارا) أى (أحدا) بعض آية 26 - نوح.

(5)

كذبات: اى فى الصورة لا فى الحقيقة لتنزه الرسل عن الكذب والمخلفات، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: أنى سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله فى شأن سارة: هى أختى، وهى من المعاريض. والمعاريض ذكر لفظ يفهم منه السامع خلاف ما يريده المتكلم.

ص: 117

اذهبوا الى غيرى، اذهبوا الى موسى عليه السلام. فيأتون موسى عليه السلام فيقولون أنت رسول الله، فضلك برسالته وبكلامه على الناس (1) اشفع لنا الى ربك، ألا ترى الى ما نحن فيه؟ فيقول: ان ربى قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله. وانى قتلت نفسا (2) لم أومر بقتلها نفسى نفسى نفسى، اذهبوا الى غيرى، اذهبوا الى عيسى عليه السلام.

فيأتون عيسى عليه السلام فيقولون: أنت رسول الله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه، وكلمت الناس فى المهد (3) اشفع لنا الى ربك، ألا ترى الى ما نحن فيه؟ فيقول: ان ربى قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله. (ولم يذكر ذنبا)(4) نفسى نفسى نفسى، اذهبوا الى غيرى، أذهبوا الى محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم. فيأتوننى فيقولون: أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر (5)، اشفع لنا الى ربك، ألا ترى الى ما نحن فيه؟ فأنطلق الى تحت العرش فأقع ساجدا لربى، ثم يفتح الله على من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلى. ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه، وأشفع تشفع، فأرفع رأسى فأقول: أمتى يارب،

(1)(على الناس) أى أهل زمانه (والكليم) وصف غالب عليه كالحبيب لنبينا صلى الله عليه وسلم وان شارك الكليم فى التكليم والخليل فى الخلة على وجه أكمل وأعلى.

(2)

(قتلت) قال تعالى فى آية 15 - القصص " فوكزه موسى فقضى عليه " استعظمه لكونه لم يؤمر به ومثله لا يقدح فى العصمة لأنه خطأ.

(3)

(وكلمته): اى وجد عيسى عليه السلام بقوله تعالى " كن " لا بتوسط ما يجرى مجرى الزوجين، وسمى روحا لأنه حدث عن نفخة جبريل فى درع مريم بأمر الله تعالى.

(4)

(ولم يذكر ذنبا) فى رواية احمد والنسائى. أنى اتخذت الها من دون الله. " اتخذت " مبنى للمجهول.

(5)

المراد بالذنب: ما فرط من خلاف الأولى بالنسبة إلى مقامه صلى الله عليه وسلم وليس بذنب حقيقة لمنافاته العصمة.

ص: 118

أمتى يارب (1)،

فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم منن الباب الأيمن من أبواب الجنة. وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب. ثم قال: والذى نفسى بيده ان ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة ةهجر. أو كما بين مكحة وبصرى " أخرجه أحمد والشيخان والترمذى (2){116} .

فعلى المكلف أن يعتقد أن نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم شافع مقبول الشفاعة، وانه أول شافع وأول من يقضى بين أمته. وأنه أول من يجوز على الصراط بأمته.

(روى) أبو هريرة أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " انا سيد

(1)(ان قيل) أن الحديث فى الشفاعة العظمى وهى عامة فكيف يخصها بقوله: (أمتى)؟ (فالجواب) ان فيه حذفا تقد=يره أنه أذن له فى الشفاعة العظمى فشفع. ثم خص أمته بشفاعة أخرى. يدل عليه ما فى حديث حذيفة وابى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: يجمع الله الناس

(الحديث) وفيه .. فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذن له (يعنى فى الشافعة) وترسل المانة والرحم (لعظم امرهما تصوران مشخصتين كما يريد الله) فتقومان جنبتى (بفتحات: أى جانبى) الصراط يمينا وشمالا فيمر أو لهم كالبرق ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرجال - بالجيم: جمع رجل. وفى رواية بالحاء المهملة: جمع رحل. وشدها: جريها البالغ - تجرى بهم أعمالهم. ونبيكم قائم على الطراط يقول: رب قائم سلم سلم (الحديث) أخرجه مسلم. ص 70 ج 3 نووى. وبهذا يتصل الحديث لأن الشفاعة التى لجأ اليه الناس فيها هى الشفاعة العظمى ثم حلت الشفاعة فى أمته فقال صلى الله عليه وسلم " أمتى أمتى ".

(2)

انظر ص 276 ج 8 فتح البارى (ذرية من حملنا مع نوح - سورة بنى إسرائيل) وص 232 ج 3 تيسير الوصول (الشفاعة)(من حديث أنس وكذا عند أحمد ص 116 ج 3 مسند أحمد وهجر) بفتحتين: بلد قرب المدنية (وبصرى) بضم فسكون: بلد بالشام. والمراد تقرير اتساع ما بين جانبى أبواب الجنة لا تقديره على التحقيق.

ص: 119

ولد آدم يوم القيامة، أول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع " أخرجه مسلم وأبو داود (1){117} .

(وللنبى) صلى الله عليه وعلى آله وسلم شفاعات أخرى (منها) ادخال قوم من آمته الجنة بغير حساب. (ومنها) أنه يشفع فى أقوام قد أمر بهم الى النار فيردون عنها (ومنها) اخراج الموحدين من النار. ويشفع لقوم فى رفع درجاتهم، ولمن مات بالحرمين مؤمنا، ولمن سأل له الوسيلة بعد اجابة المؤذن (2)، ولعمه ابى طالب فى اخراجه من غمرات النار الى ضحضاح يصل الى كعبيه.

(روى) أبو سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من نالر يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه. أخرجه مسلم (3){118} .

(9)

النار: وهى دار العذاب ومخلوقة الآن فيها الزقوم والغسلين والمهل (4) ومقامع من حديد. ومن أنواع العذاب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بلال انسان. جاء بهال الكتاب والسنة. قال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا

(1) انظر ص 37 ج 15 نووى مسلم (تفصيله صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق).

(2)

انظر الحديث رقم 218 ص 77 ج 2 - الدين الخالص طبعه ثانية. (الصلاة على النبى).

(3)

انظر 85 ج 3 نووى مسلم (شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم لأبى طالب).

(4)

(الزقوم) شجرة من أخبث الشجر المر بتهامة تنبت فى أصل الجحيم طلعها كرءوس الحيات اذا أكل أهل النار منه يغلى فى بطونهم كغلى الحميم. قال تعالى " أنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم (64) - طلعهاغ كانه رءوس الشياطين " 65 - الصافات و (الغسلين) صديد أهل النار، او شجر فيها (والمهل) ماء عكر كدردى الزيت الأسود يغلى فى البطون كغلى الحميم. وقيل: هو النحاس المذاب.

ص: 120

لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} (29) الكهف. وقال: (هذان خصمان اختصموا فى ربهم، فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم، يصهر به ما فى بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد)(1).

وقال: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (24) البقرة. وقال: {وَبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} (91) الشعراء.

(وعن) أبى هريرة رضى الله عنه أنم النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ناركم هذه التى توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله. قال: " فإنها فضلت بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها " أخرجه مالك والشيخان والترمذى، وقال: حسن صحيح (2){121} .

(وعن) الحسن عن عتبة بن غزوان أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " ان الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوى فيها سبعين عاما.

(1) الحج: 19 و 20 و (الحميم) الماء البالغ نهاية الحرارة يذاب به أحشاؤهم وشحومهم. (روى) أبو هريرة مرفوعا " أن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما فى جوفه حتى يبلغ قدميه وهو الصهر .. ثم يعاد كما كان " أخرجه ابن جرير والترمذى وقال: حسن صحيح غريب (119) انظر ص 565 ج 5 تفسير ابن كثير (هذان خصمان). و (المقامع) سياط من حديد. (روى) أبو سعيد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لو أن مقمعا من حديد وضع فى الأرض فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض " أخرجه أحمد (20) انظر ص 566 ج 5 تفسير ابن كثير.

(2)

انظر ص 238 ج 3 تيسير الوصول (صفة النار).

ص: 121

ما تفضى إلى قرارها، وقال: وكان عمر رضى الله عنه يقول: أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد، وأن قعرها بعيد، وأن مقامها حديد " أخرجه الترمذى وقال: لا نعرف للحسن سماعا من عتبة (1){122} .

(وعن) ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " لو أن قطرة من الزقوم قطرات فى دار الدنيا، لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه " أخرجه أحمد والنسائى وابن ماجه والحاكم والترمذى وقال حسن صحيح (2){123} .

(وعن) أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إنى وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله الها آخر، وبالمصورين " أخرجه الترمذى وقال حسن صحيح غريب (3){124} .

(وعن) النعمان بن بشير أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " أن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراً كان من نار، يغلى منهما دماغه كما يغلى المرجل، ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا، وأنه لأهونهم عذابا " أخرجه الشيخان والترمذى (4){125} .

(وعن) أبى الدرداء رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:

(1) انظر ص 238 ج 3 تيسير الوصول (صفة النار).

(2)

انظر ص 238 ج 3 تيسير الوصول (صفة النار).

(3)

انظر ص 239 منه. و (عنق) بضمتين: أى قطعة. و (الجبار) القهار المتكبر (والعنيد) الحائد من الحق كالمعاند له.

(4)

انظر ص 86 ج 3 نووى مسلم (شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم لأبى طالب) وص 243 ج 3 تيسير الوصول (أهل النار).

ص: 122

" يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع. فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذى غصة، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص فى الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب، فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوهم شوت وجوههم، فإذا دخلت بطونهم قطعت ما فى بطونهم فيقولون: أدعوا خزنة جهنم يخففون عنا، فيدعونهم، فيقولون: ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات. قالوا: بلى قالوا: فادعوا وما دعاء الكافرين إلا فى ضلال. فيقولون ادعوا مالكا فيقولون: يا مالك ليقض علينا ربك. فيجيبهم أنكم ماكثون. فيقولون: نبئت أن بين دعائهم وبين اجابة مالك إياهم ألف عام فيقولون: ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم، فيقولون: ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون. قال: فيجيبهم (اخسئوا فيها ولا تكلمون) قال: فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك يأخذون فى الزفير والشهيق ويدعون بالحسرة والويل، والثبور " أخرجه البيهقى والترمذى وقال: والناس لا يرفعون هذا الحديث (1){126} .

(ولهذه) الأدلة أجمعت الأمة. على أن النار موجودة الآن والحقيقة ممكنة فلا وجه للعدول عنها. هذا، واعلم انه لا يخلد فى النار موحد، ولو ارتكب الكبائر، وفاء بوعده تعالى بقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (48) النساء. وقوله: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا

(1) انظر ص 44 ج 3 تحفة الأحوذى (صفة طعام أهل النار) و (الضريع) نبت بالحجاز له شوك (ويجيزون) من الأجازة بالزاى أى بسيغون من الاساغة (والكلاليب) جمع كلوب بفتح فشد حديدة لها شعب يعلق بها اللحم. و (اخسئوا) أى اسكتوا سكوت ذل وهوان (والزفير) اخراج النفس بشدة (والشهيق) رده. و (لا يرفعون) بل برونه موقوفا على أبى الدرداء وهو فى حكم المرفوع.

ص: 123

يره) " واحتمال " دخوله الجنة أولا جزاء لمال عمله من الخير. ثم يدخل النار عقابا لما عمله من الشر " يبطله " قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (48) الحجر وقوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الغُرُورِ} (185) آل عمران. فهذا يدل على أن استيفاء الأجر بالنسبة لمن يدخل النار لا يكون الا بعد الخروج منها. (وأدل) منه حديث أبى سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان فى قلبه مثقال حبة من خردل من ايمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون فى نهر الحياة. فينبتون كما تنبت الحبة فى جانب السيل. ألم تر أنها صفراء ملتوية " أخرجه الشيخان والنسائى (1){127}

(وحديث) أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم قال " يخرج من النار من قال لا اله الا الله وفى قلبه وزن شعيرة من خير. ويخرج من النار من قال لا اله الا الله وفى قلبه وزن برة من خير. ويخرج من النار من قال لا اله الا الله وفى قلبه وزن ذرة من خير " أخرجه أحمد والشيخان والنسائى وابن ماجه والترمذى وقال: حسن صحيح (2){128} .

(1) انظر ص 55 ج 1 فتح البارى (تفاضل أهل الايمان فى الأعمال) وص 35 ج 3 نووى مسلم وصدره: يدخل الله أهل الجنة الجنة (أخراج الموحدين من النار) و (نهر الحياة) نهر يحيا به من انغمس فيه.

(2)

انظر ص 77 ج 3 فتح البارى (زيادة الايمان ونقصانه) وص 59 ج 3 نووى مسلم (الشفاعة) وص 346 ج 3 تحفة الأحوذى. و (يخرج) بفتح أوله وضم الراء ويروى بالعكس ويؤيده ما فى رواية الترمذى " اخرجوا ".

ص: 124

10 -

الجنة وهى دار الثواب، والنعيم المقيم. فيها الحور العين، والولدان، ولحم الطير، والفواكه، والأنهار الجارية من الماء واللبن والعسل والخمر، والسرر، والحرير، والذهب، وما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. جاء بها الكتاب والسنة. قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} (1). وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} (90) الشعراء. أى قربت لهم بحيث يشاهدونا فى الموقف. ويعرفون ما فيها فتحصل لهم البهجة والسرور. وقال: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فان الجنة هى المأوى} (2) وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (123) آل عمران.

(وعن) أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله تعالى: " أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولآ أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ". قال أبو هريرة: اقرءوا ان شئتم: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) أخرجه الشيخان والترمذى وابن ماجه وزاد البخارى فى رواية: وقال محمد ابن كعب: انهم أخفوا لله عملا فأخفى لهم ثوابا. فلو قدموا عليه، أقر تلك العين (3){129} .

(وعنه) قال: قلت يا رسول الله: الجنة ما بناؤها؟ قال لبنه من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت. وترابها الزعفران.

(1) الكهف: 107 و 108. و (الفردوس) وسط الجنة وأعلاها (والنزل) المنزل أو ما يهيأ للضيف. و (لا يبغون عنها حولا) أى لا يطلبون عنها تحولا وانتقالا الى غيرها.

(2)

النازعات: 40 و 41 (ومقام الرب) الوقوف للحساب.

(3)

انظر ص 235 ج 3 تيسير الوصول. وص 305 ج 2 - ابن ماجه (صفة الجنة).

ص: 125

من يدخلها ينعم ولا يبؤس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى

ثيابهم، ولا يفنى شبابهم (الحديث) أخرجه أحمد والدرامى والبزار وابن حبان والترمذى (1){130} .

(وعنه) أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ان أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة للبدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب درى فى السماء اضاءة لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الالوة أزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم. ستون ذراعا فى السماء. أخرجه أحمد والشيخان والترمذى وابن ماجه (2){131} .

(وعن) ابى سعيد الخرى أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: المؤمن اذا اشتهى الولد فى الجنة كان حمله ووضعه وسنة فى ساعة كما يشتهى. أخرجه أحمد وابن ماجه والدرامى والترمذى وقال: حسن غريب (3){132} .

وقد اختلف أهل العلم فى هذا. فقال بعضهم: فى الجنة جماع ولا يكون

(1) ص 333 ج 2 سنن الدرامى (بناء الجنة) وص 323، 324 ج 3 تحفة الأحوذى (صفة الجنة ونعيمها) و (الملاط) بكسر الميم: الطين يصلح به الحائط (ولا يبؤس) أى لا يحزن يقال بؤس يبؤس بالضم فيهما: اذا اشتد حزنه، ويقال بئس كسمع أشتدت حاجته.

(2)

انظر ص 240 ج 3 تيسير الوصول (أهل الجنة) وص 306 ج 2 - ابن ماجه (صفة الجنة) و (الرشح) العرق (والمجامر) جمع مجمرة بكسر فسكون: وهو ما يوضح فيه النار والبخور. (والألوة) بفتح الهمزة وضمها وبضم اللام وتشديد الواو: العود الذى يتبخر به. والظاهر أنها تفوح بغير نار. فان الجنة لا نار فيها.

(3)

انظر ص 338 ج 3 تحفة الاحوذى (ما لأهل الجنة من الكرامة) وص 337 ج 2 سنن الدرامى (ولد أهل الجنة) وص 308 ج 2 - ابن ماجه (صفة الجنة)(وسنة) أى كمال سنة وهو 30 سنة.

ص: 126

ولد (وقال) محمد يعنى البخارى. وقد روى عن أبى رزين العقيلى عن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " أن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد ".

(وعن) أسامة بن زيد أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال ذات يوم لأصحابه: ألا مشمر للجنة؟ فان الجنة لا خطر لها هى ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانه تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، حلل كثيرة فى مقام أبدا فى حبرة ونضرة فى دور عالية سليمة بهية، قالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله. قال قولوا إن شاء الله. ثم ذكر الجهاد وحض عليه. أخرجه ابن ماجه وابن حبان (1){133} .

(وعن) سعيد بن المسيب أنه لقى أبا هريرة فقال أبو هريرة: أسأل الله أن يجمع بينى وبينك فى سوق الجنة قال سعيد: أو فيها سوق؟ قال: نعم. أخبرنى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم، فيؤذن لهم فى مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا. فيزورون الله عز وجل. ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة، فتوضع لهم نابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم- وما فيهم دنئ- على كثبان المسك والكافور، ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم

(1) انظر ص 306 ج 2 - ابن ماجه (صفة الجنة) و (لا خطر) بخاء معجمة وطاء مهملة مفتوحين (لها) أى لا مثل لها. و (تهتز) أى تتحرك بهبوب الريح. وهو من باب التشبيه البليغ: أى هى كالريحانة فى الاهتزاز. وكالزوجة الجميلة. أو الكلام على التقدير. والمعنى: الجنة فيها النور والأزواج الحسان الى غير ذلك. و (مقام) بفتح الميم وضمها: أى خالدين فيها أبدا. و (الحبرة) بفتح الحاء وسكون الباء: النعمة وسعة العيش (والنضرة) البهجة والحسن.

ص: 127

مجلسا. قال أبو هريرة: قلت يا رسول الله: هل نرى ربنا؟ قال نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا لا. قال كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم عز وجل. ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله عز وجل محاضرة حتى أنه يقول للرجل منكم: ألا تذكر يا فلان يوم عملت كذا وكذا؟ يذكره بعض غدارته في الدنيا (1) فيقول يا رب أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى فبسعة مغفرتب بلغت منزلتك هذه.

فبينما هم كذلك غشيتهم سحابة من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط. ثم يقول: قولوا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم قال: فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة. فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب قال. فيحمل لنا ما اشتهينا، ليس يباع فيها شيء ولا يشتري. وفي ذلك السوق يلقي أهل الجنة بعضهم بعضا. فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقي من هو دونه- وما فيهم دنئ- فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل عليه ما هو أحسن منه وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها. ثم ننصرف إلى منازلنا، فتتلقانا أزواجنا فيقلن: مرحبا وأهلا لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فراقتنا عليه. فنقول: أنا جالسنا اليوم ربنا الجبار عز وجل ويحقنا أن ننقلب بمثل

(1) المراد بالسوق مكان يجتمعون فيه فقي كل مقدار أسبوع. وليس هناك أسبوع حقيقة، لفقد الشمس والنهار والليل (فيزورون الله .. الخ) هو من المتشابه المصروف عن ظاهره باتفاق السلف والخلف لقوله تعالى "ليس كمثله شيء" و (أدناهم) أي أقلهم منزلة بالنسبة إلى غيره. و (كثبان) بضم فسكون جمع كثيب. وهو ما اجتمع من الرمل كالتل. و (هل تتمارون) أي هل تشكون؟ والمراد أن المؤمنين يرون الله تعالى في الجنة رؤية لا شك فيها من غير كيفية ولا انحصار ولا مقابلة ولا يعلم حقيقتها إلا الله عز وجل (والمراد بالمحاضرة) كشف الحجاب عن أهل الجنة كلهم للرؤية بدون واسطة. وهو من المتشابه أيضا. (غدرات) بفتحات- جمع غدرة: أي يذكره بعض معاصيه في الدنيا.

ص: 128

ما انقلبنا. أخرجه ابن ماجه والترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وفيه عبد الحميد كاتب الأوزاعي مختلف فيه وبقية رجاله ثقات (1){134} .

(وعن) أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنان وسبعون زوجة. وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء. أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد "لكن أخرجه ابن حبان من حديث ابن وهب وهو من الأعلام الثقات الأثبات" عن عمرو ابن الحارث (2){135} .

(وعن) ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "أخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة. وتسفعه النار (3) مرة. فإذا جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الله الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله تعالى شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول: يارب أدنني من هذه الشجرة لأستظل بها وأشرب من مائها. فيقول الله: يا بن آدم لعلي أن أعطيتكها تسألني غيرها. فيقول: لا يارب، ويعاهده ألا يسأله غيرها.

(1) انظر ص 307 ج 2 - ابن ماجه (صفة الجنة) وص 231 ج 2 تحفة الأحوذي (سوق الجنة)(فيروعه) أي فيعجبه، مضارع راعه الشيء: أعجبه و (بتخيل) مبنى للفاعل: أي يظهر عليه أن لباسه أحسن من لباس صاحبه (وبحقنا .. ) أي بحق ننا أن نرجع بمثل ما رجعنا حيث كنا في كرامة ربنا.

(2)

انظر ص 338 ج 3 تحفة الأحوذي (مالأدنى أهل الجنة من الكرامة) و (الجابية) بكسر الباء وتخفيف الياء: قربة قرب دمش.

(3)

تسعفه: أي تلفحه لفحا يسيرا يغير لون البشرة.

ص: 129

وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها، ويشرب من مائها. ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى. فيقول: يا رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها. فيقول: يابن آدم: ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ لعلي أن أدنيتك منها تسألني غيرها. فيعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه. فيدنيه منها فيستظل بظلها، ويشرب من مائها. ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين. فيقول: يا رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها. لا أسألك غيرها. فيقول: يا بن آدم ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب هذه لا أسألك غيرها وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها. فإذا أدنى منها سمع أصوات أهل الجنة، فيقول أي رب أدخلني الجنة. فيقول: يا بن آدم ما يصريني منك أيرضيك أن أعطيتك قدر الدنيا ومثلها معها؟ فيقول: يا رب أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألوني مم ضحكت؟ فقيل مم تضحك؟ فقال هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى ىله وسلم فقيل مم تضحك؟ فقال من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول أني لا أستهزئ بك، ولكني على ما أشاء قادر". أخرجه أحمد ومسلم (1) {

136}.

(وعن) أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "ما منكم من أحد إلإ له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار. فإذا مات فدخل

(1) انظر ص 246 ج 3 تيسير الوصول. (.ما اشتركتا- الجنة والنار- فيه) و (ما يصريني) بضم ففتح فشد الراء. أي ما الذي يرضيك ويقطع مسألتك من التصرية، وهي الجمع والقطع. ومنه المصراة التي جمع لبنها وقطع حلبها.

ص: 130

النار ورث أهل الجنة منزله. فذلك قوله تعالى: (أولئك هم الوارثون). أخرجه ابن ماجه (1){137} .

11 -

الخلود: يجب على كل مكلف أن يعتقد أن الجنة والنار خالدتان وأهلهما مخلدون لا يفنون. وهذا ثابت بالكتاب والسنة واجماع الأمة. قال الله تعالى: "إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشى ربه) (2).

(وعن) ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى ىله وسلم قال: "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، جئ بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة لا موت، يأهل النار لا موت. فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم. ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم". أخرجه أحمد والشيخان واللفظ للبخاري. وفي رواية "خلود فلا موت (3) "{138} .

(1) انظر ص 308 ج 2 - ابن ماجه (صفة الجنة).

(2)

سورة البينة آية 6 إلى 8. و (جنات عدن) أي دار إقامة رضي الله عنهم بطاعتهم أياه (ورضوا عنه) بما أعطاهمو من الثواب والنعيم المقيم.

(3)

انظر ص 333 ج 11 فتح الباري (صفة الجنة والنار) و"ذبح الموت" كناية عن اليأس من مفارقة الحالتين في الجنة والنار والخلود فيهما. ويحتمل أن يكون الذبح على حقيقته لحديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يؤتي بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد: يأهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه. ثم ينادي: يأهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه. فيذبح ثم يقول يأهل الجنة خلومد فلا موت. ويأهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ "وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة" وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا. وهم لا يؤمنون أخرجه البخاري {139} انظر ص 299 ج 8 فتح الباري (وأنذرهم يوم الحسرة).

(قال) القرطبي: الحكمة في كون الكبش أملح. أن بجمع بين صفتي أهل الجنة والنار السواد والبياض.

ص: 131

12 -

رؤية الله تعالى: أعلم أن أهل السنة أجمعوا على أن رؤية الله تعالى ممكنة عقلا واجبة نقلا واقعة في الآخرة للمؤمنين دون الكافرين بلا كيف ولا انحصار. فيرى سبحانه وتعالى لا في مكان ولا جهة من مقابلة أو اتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائي وبين الله تعالى. فإن الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه ولا يشترط فيها اتصال الأشعة ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك. فلا يلزم من رؤيته تعالى إثبات جهة له. بل يراه المؤمنون لا في جهة كما يعلمونه لا في جهة (وقد) تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ذلك. قال الله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة)(1) وقال: (كلا أنهم عن ربهم يؤمئذ لمحجوبون)(2).

(وقال) جرير بن عبد الله: نظر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون فلي رؤيته. فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم ثرأ: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل

(1) سورة القيامة آية 22 و 23 أي وجوه المؤمنين يوم القيامة حسنة مضيئة ناظرة إلى ربها بلا جهة ولا كيفية.

(2)

سورة المطففين آية 15 - أي أن الكفار ممنوعون عن رؤية الله تعالى.

ص: 132

الغروب. أخرجه السبعة إلا النسائي (1){140} .

(وعن) صهيب أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئا أزيدكم؟ قال فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم. ثم تلا: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) أخرجه مسلم والترمذي (2){141} .

(وأما)(رؤيته تعالى في الدنيا فهي ممكنة، ولذا طلبها سيدنا موسى عليه السلام، فعلق الله تعالى حصولها له على استقرار الجبل حين يتجلى الله تعالى عليه، فلم يستقر الجبل حينئذ ولم تحصل له عليه السلام مع إمكانها كما أشير إلى ذلك بقوله تعالى: "قال رب أرني أنظر إليك، قال لن تراني، ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلي ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين)(3)

(1) انظر ص 247 ج 3 تيسير الوصول (رؤية الله تعالى) وص 360 ج 4 مسند أحمد و (لا تضامون) بضم أوله وتخفيف الميم. أي لا ينالكم ضيم ولا ظلم في رؤيته. أو بتشديد الميم. أي لا ينضم بعضكم إلى بعض. كما يكون ذلك عند رؤية الشيء الخفي. ومرجع التشبيه بالقمر إلى الوضوح لا للجسمية ولا للجهة ولا للإضاءة، لأن هذا كله مستحيل. بل المعنى أنكم ترون ربكم رؤية لإخفاء ولا شك فيها كرؤيتكم القمبر ليلة تمامه.

(2)

انظر ص 247 ج 3 تيسير الوصول (رؤية الله تعالى)(فيكشف الحجاب) أي عن أهل الجنة لا عن الله فإنه تعالى لا يحجبه شيء. و (للذين أحسنو) لأنفسهم بالإيمان والعمل الصالح. و (الحسنى) الجنة. والزيادة نظر أهل الجنة إلى الله تعالى.

(3)

سورة الأعراف آية 143 علق الله رؤيته على جائز وهو استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز. وفي هذا رد على من زعم أن (لن) تفيد تابيد النفي. فالرؤية مستحيلة.

ص: 133

ولم تقع إلا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسرى به على الراجح (روى) ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسرى به، والشجرة الملعونة في القرآن، قال: هي شجرة الزقوم. أخرجه البخاري والترمذي (1){142} .

وبالرؤية قال ابن عباس وأبو هريرة وأحمد وأبو الحسن الأشعري وجماعة. وأنكرتها عائشة رضي الله عنها. قال مسروق: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت:(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار){103} الأنعام. ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب. ثم قرأت (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) من آية (34) لقمان. ومن حدثك أنه كتم شيئا من الوحي فقد كذب. ثم قرأت: (يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)(الآية 67 المائدة). ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين. أخرجه الشيخان والترمذي (2){14} .

(والمختار) ما ذهب إليه ابن عباس والجمهور: والحجج في هذه المسألة كثيرة ولكنا لا نتمسك إلا بالأقوى منها وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما ومن وافقه.

(1) انظر ص 137 ج 1 تيسير الوصول (سورة بني إسرائيل).

(2)

انظر ص 247 ج 3 تيسير الوصول (رؤية الله) و (قف) بفتح القاف وشد الفاء أي قام شعر رأسي وبدني فزعا.

ص: 134

والأصل في الباب حديث ابن عباس حبر الأمة، والمرجع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة وراسله، هل رأى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربه؟ فأخبره أنه رآه (ولا يقدح) في هذا أثر عائشة رضي الله عنها، لأنها لم تخبر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول لم أر ربي. وإنما ذكرت متأوله لقول الله تعالى:(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا، أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا){51} الشورى. ولقول الله تعالى: (لا تدركه الأبصار). (والصحابي) إذا قال قولا وخالفه غيره منهم، لم يكن قوله حجة. فإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية، وجب المصير إلى إثباتها، فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسماع ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد ثم أنه أثبت شيئا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي. (فالحاصل) أن الراجح عند أكثر العلماء أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء لما تقدم. ثم أن عائشة رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث ولو كان معها فيه حديث لذكرته. وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات (فأما احتجاجها) بآية "لا تدركه الأبصار""فجوابه" أن الإدراك هو الحاطة. والله لا يحاط به، ولا يلزم من نفى الإحاطة نفي الرؤية بلا إحاطة "وأما احتجاجها" بآية (وما كان لبشر أن يكمه الله إلا وحيا)"فجوابه" أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية. فيجوز حصول الرؤية بلا كلام، أو أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة (1). وكل ما تقدم أخبر به الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والعقل يجوزه. فيجب الإيمان به من غير بحث في حقيقته. ومن أخل بشيء مما ذكر، فيسري جزاء تفريطه يوم الحساب، والعرض على رب الأرباب.

(1) انظر ص 5 ج 3 شرح مسلم للنووي المطبعة المصرية (إثبات رؤية الله تعالى).

ص: 135