المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(و) القضاء والقدر - الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق - جـ ١

[السبكي، محمود خطاب]

الفصل: ‌(و) القضاء والقدر

(و) القضاء والقدر

القضاء (لغة) الخلق والأمر والحكم. قال تعالى: "فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها"(12) فصلت. أي خلقهن. وقال تعالى: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه)(23) الإسراء أي أمر (وعرفا) هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، أي وجود الأشياء في أم الكتاب مجملة (والقدر) لغة التقدير وهو جعل كل شيء بمقدار يناسبه بلا تفاوت "وعرفا" جزئيا حكم القضاء وتفاصيله التي تقع فيما لا يزال (1) قال تعالى:(وأن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)(21) الحجر. ومعناه أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة. فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وهو بهذا المعنى يعم القضاء بالمعنى السابق.

(وقال) الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله تعالى العبد على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الأخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من اكتسابات العبد وصدورها عن تقدير من الله تعالى وخلقه لها خيرها وشرها. والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر (2) (ويجب) الإيمان والرضا لقوله تعالى:(وخلق كل شيء فقدره تقديرًا) آية (2) الفرقان. وقوله: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)(49) القمر

(1) الأزل القدم والأزلي القديم أصله يزلي نسبة ليزل من قولهم للقديم لم يزل ثم أبدلت ألياء همزة لأنها أخف (ومالا يزال) زمن وجود الحوادث.

(2)

انظر ص 154 ج 1 شرح مسلم (إثبات القدر).

ص: 136

ولقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث جبريل: "وأن تؤمن بالقدر خيره وشره (1) ".

ولحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، أحرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان". أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه (2){143} .

(هذا) ما عليه أهل السنة والجماعة (فيجب) على المكلف أن يعتقد أن جميع أفعال العباد بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى يريد الكفر من العبد ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه له. فيشاؤه كونا ولا يرضاه دينا وأن كل إنسان ميسر لما خلق له وأن الأعمال بالخواتيم فالسعيد من سعد بقضاء الله وقدره، فيوفقه تعالى للعمل بالشريعة الغراء إلى أن يموت على ذلك. والشقي من شقى بقضاء الله وقدره، فيموت على الكفر والعياذ بالله تعالى.

(قال) على بن أبي طالب رضي الله عنه: كنا في جنازة ببقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى عليه وعلى ىله وسلم فقعد وقعدنا حوله وبيده مخصرة فجعل ينكت بها الأرض ثم قال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة. فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: أعملوا فكل ميسر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل الشقاء. ثم قرأ (فأما من أعطى واتقى

(1) حديث جبريل تقدم رقم 9 صفحة 11.

(2)

انظر ص 172 ج 3 تيسير الوصول (الرضا بالقدر) وص 22 ج 1 - ابن ماجه (القدر).

ص: 137

وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى) الآية. أخرجه الخمسة إلا النسائي (1){144} .

(وعن) جابر رضي الله عنه قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم؟ فيما جفت الأقلام وجرت به المقادير أم فيما يستقبل؟ قال: فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟ قال: أعملوا فكل ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله. أخرجه مسلم (2){145} .

(وعن) سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيبدو للناس وهو من أهل الجنة". أخرجه الشيخان. وزاد البخاري: وإنما الأعمال بالخواتيم (3){146} .

(والأحاديث) والآثار في هذا الباب كثيرة. وفيها رد على القدرية الذين يزعمون أن أفعال العباد مقدرة لهم واقعة منهم استقلالا بواسطة الأقدار والتمكين (وقد) اتفق لشخص منهم أنه رفع رجله بحضرة رجل من أهل السنة وقال: أني رفعت رجلي عن الأرض بقدرتي. فقال له السني: فإذا ارفع رجلك الأخرى فلم يدر له جوابا (وفيها) رد عليهم أيضا في زعمهم أن الله يخلق الخير ولا يخلق

(1) انظر ص 170 ج 3 تيسير الوصول (العمل مع القدر) و (الغرقد) بفتح الغين المعجمة وإسكان الراء. مقبرة أهل المدينة. سميت بذلك لأنها كان فيها غرقد وهو شجر له شوك. و (المخصرة) بكسر فسكون. ما يمسكه الإنسان بيده من عصا ونحوها.

(2)

انظر ص 170 ج 3 تيسير الوصول (العمل مع القدر) و (الغرقد) بفتح الغين المعجمة وإسكان الراء، مقبرة أهل المدينة. سميت بذلك لأنها كان فيها غرقد وهو شجر له شوك. و (المخصرة) بكسر فسكون. ما يمسكه الإنسان بيده من عصا ونحوها.

(3)

انظر ص 333 ج 7 فتح الباري (غزوة خيبر) وص 124 ج 2 نووي مسلم (تحريم قتل الإنسان نفسه- الإيمان).

ص: 138

الشر كالمعاصي والكفر. وهو زعم باطل. إذ لو كان العبد يخلق الشر والمخالفات وهي أكثر وقوعا من الطاعات لكان أكثر ما يجري في الوجود من أفعال العباد لا يكون بخلق الله وإيجاده، بل بخلقهم وإيجادهم وذلك جلى البطلان، لأن الله تعالى هو المنفرد بالخلق والتأثير على وفق علمه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدهم. أخرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي حازم عن عمر. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين أن صح سماع أبي حازم عن ابن عمر (1){147} .

(وشبههم) صلى الله عليه وسلم بالمجوس حيث فرقوا بين أفعال الله عز وجل فجعلوا بعضها له وبعضها لغيره (قال) الخاطبي: إنما جعلهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم مجوسا، لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة. يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنوية.

(وكذلك) القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى والشر إلى غيره. والله خالق الخير والشر جميعا، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته فهما مضافان إليه خلقا وإيجادا، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلا واكتسابا (وفيها) رد أيضا على المعتزلة الذين زعموا أن الله تعالى شاء الإيمان من الكافر فشاء الكافر الكفر. وهو زعم باطل فإنه يلزمه وقوع مشيئة الكافر دون مشيئة الله عز وجل. وهذا من أقبح الاعتقاد، إذ هو مخالف للأدلة القطعية وفيه تعطيل لإرادة الله تعالى،

(1) انظر ص 222 ج 4 سنن أبي داود (في القدر) ولم يسمع أبون حازم من أبن عمر فالحديث منقطع.

ص: 139

وقد قامت الأدلة العقلية والنقلية على وجوب الإرادة لله تعالى، وأنه لا يقع في الكون إلا ما أراده رب العالمين وكيف وهو الذي يقول (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة)(68) القصص. وتقدم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن"(1)(ومنشأ) خطئهم التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا.

(فقالت) الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فهو محبوب مرضي.

(وقالت) القدرية: ليست المعاصي محبوبة ولا مرضية الله تعالى، فليست مقدرة ولا مقضية فهي خارجة عن مشيئته وخلقه (وقد دل) على الفرق بين الإرادة والرضا الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة. قال تعالى (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)(13) سورة السجدة. وقال تعالى (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟ )(99) سورة يونس وقال (وما تشاءون إلا أن يشاء الله، إن الله كان عليما حكيما)(30) سورة الإنسان. وقال (من يشاء)(الله يضلله، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم)(39) سورة الأنعام. وقال (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يردن أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء)(125) سورة الأنعام. وقال (ذو العرش المجيد (15)(فعال لما يريد)(16) سورة البروج وقال (والله لا يحب الفساد)(205) البقرة. وقال (ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم)(7) سورة الزمر.

(1) تقدم بالحديث رقم 12 ص 14، وصدره: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت.

ص: 140

(وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأدت البنات ومنعا وهات. وكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال. أخرجه مسلم (1){148} .

(وقال) ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إن الله تعالى يحب ان تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتي عزائمه" أخرجه أحمد والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان (2){149} .

(وقالت) عائشة رضي الله عنها. فقدت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الفراش فوقعت يدي على بطن قدميه وهو ساجد يقول: "اللهم أني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" أخرجه مسلم والأربعة (3){150} .

(فتأمل) استعاذته صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصفة الرضا من صفة السخط وبفعل المعافاة من فعل العقوبة. فالأول للصفة، والثاني لأثرها المترتب عليها. ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه وتعالى، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره فهو يقول: ما أعوذ منه واقع بمشيئتك وغرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك، هو بمشيئتك وإرادتك إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فأعذني مما أكره وامنعه أن يحل بي، وهو بمشيئتك أيضا. فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك

(1) انظر ص 11 ن 12 ج 11 نووي مسلم (النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة).

(2)

انظر رقم 1879 ص 292 ج 2 فيض القدير شرح الجامع الصغير.

(3)

انظر رقم 1521 ص 139 ج 2 فيض القدير.

ص: 141

(فإن قيل) كيف يريد الله أمرا ولا يرضاه (قيل) أن المراد نوعان: مراد لنفسه ومراد لغيره. (فالمراد) لنفسه مطلوب ومحبوب لذاته وما فيه من الخير. والمراد لغيره قد لا يكون مقصودا لمن يريد ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوره ومرادهن فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث أنه وسيلة إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما. وهذا كدواء الكريه إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتاكل إذا علم أن في قطعة بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه واردته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف بمن لا يخفي عليه خافية. فهو سبحانه يكره الشيء وقد يريده لكونه سببا إلى أمر هو محبوب إليه. (من ذلك) أنه خلق إبليس الذي هو سبب فساد الأعمال والاعتقادات، وسبب لشقاوة كثير من العباد وعملهم بما يغضب الرب سبحانه وتعالى، وهو السعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة الله تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها (منها) أنه يظهر للعباد قدرة الله تعالى على خلق المتضادات المتقابلات. فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي سبب كل خير.

كما ظهرت في خلق الليل والنهار والدواء والدراء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر، وذلك من أدل دليل على كمال قدرته وعزته وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض وجعلها محال تصرفه وتدبيره، فخلو العالم عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفة وتدبير ممتلكته (ومنها) ظهور آثار أسمائه القهرية. مثل القهار، والمنتقم، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والرافع، والمعز، والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال كمالات

ص: 142

لابد من وجود متعلقها ولو كان الجن والأنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء (ومنها) ظهور آثار أسمائه المتضمنة كلأه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء، لتعطلت هذه الحكم والفوائد. وقد أشار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى هذا بقوله: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم. أخرجه مسلم عن الأسباب المفضية على ظهور آثار هذه الأسماء، لتعطلت هذه الحكم والفوائد. وقد أشار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى هذا بقوله: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم. أخرجه مسلم عن أبي هريرة (1){151} .

(ومنها) ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه ولا ينزل في غير منزلته التي قتضيها كمال علمه وتمام حكمته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته وأعلم بمن يصلح لقوبها ويشكر له جميل صنعه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك.

فلو قدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة، ولفاتت مصالح عديدة. ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطيل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب. وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر (ومنها) حصول الطاعات المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت. فإن طاعة الجهاد من أحب أنواع الطاعة، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه الطاعة. وتوابعها من الموالاة الله تعالى والمعاداة فيه، وطاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الله تعالى والتوبة والاستغفار والصبر، والاستعاذة بالله أن يجيره

(1) انظر ص 65 ج 17 نووي مسلم (سقوط الذنوب بالاستغفار).

ص: 143

من عدوه ويعصمه من كيده واذاه إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها.

(هذا) وأعلم أن الله تعالى لم يخلق شرا محضا من جميع الوجوه فإن حكمته تابى ذلك، فلا يمكن في جانبه تعالى أن يريد شيئا يكون فاسدا من كل وجه لا مصلحة في خلقه بوجه ما. فإنه تعالى بيده الخير كله، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير. والشر إنما حصل لعدم النسبة إليه، فلو كان غليه لم يكن شرا وهو من حيث نسبته إليه تعالى خلقا ومشيئة ليس بشر، والشرب الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه. والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير. وبهذا يظهر رد الله تعالى على المشركين بقوله (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا ءاؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا) (148) سورة الأنعام. وإيضاح ذلك أن أسباب الخير ثلاثة: الأبجاد والإعداد والإمداد. فإيجاد الشيء خير وهو إلى الله، وكذلك إعداده وإمداده. فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد، حصل فيه الشر. وهذا يسمى بالتخلية أي أن خلى الله بين العبد وبين نفسه ولم يمده بأسباب الوقاية من الشر وقع فيه.

(فإن قيل) كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه (قيل) لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له. وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه تعالى من محبته لتلك الطاعة، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم)(46) سورة التوبة. أخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو طاعة، فلما كرهه منهم ثبطهم عنه. ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي تترتب على خروجهم مع رسول الله صلى

ص: 144

الله عليه وعلى آله وسلم فقال (لو خرجوا فيكم ما زادكم إلا خبالا) أي فسادا وشرا (ولأوضعوا خلالكم) أي سعوا بينكم بالفساد والشر (بيعونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم) أي قابلون منهم مستجيبون لهم فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه.

(ولا يقال) إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله، فكيف ننكره ونكرهه؟ (لأنا) نقول "أولا" نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة. بل من المقضي ما يرضي به، ومنه ما يسخط ويمقت "ثانيا" هنا أمران: قضاء الله وهو فعل قائم بذات الله تعالى. ومقضي وهو المفعول المنفصل عنه المتعلق بالعبد المنسوب إليه. فالقضاء كله خير وعدل وحكمة نرضى به كله. والمقضي قسمان: منه ما نرضى به، ومنه ما لا نرضى به، فمثلا: قتل النفس له اعتباران "فمن حيث" قدرة الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلا للمقتول ونهاية لعمره نرضى به "ومن حيث" صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله "نسخطه" ولا نرضى به.

(فهذا جملة) ما يحتاج إليه- في القضاء والقدر- من نور الله قلبه من المؤمنين الراسخين في العلم فإن العلم علمان: معروف للخلق، وغير معروف لهم (فالمعروف) علم الشريعة الذي جاءت به الرسل جملة وتفصيلا أصولا وفروعا. فمن أنكره كان من الكافرين (وغير المعروف) علم القدر الذي أخفاه الله عن خلقه ونهاهم عن البحث فيه، فمن أدعى معرفته وترك العمل بظاهر الشريعة اعتمادا على ذلك فهو من الخاسرين (فالمؤمن) الصادق هو الذي يعمل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويفوض علم القضاء والقدر إلى الله عز وجل.

ص: 145