الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلك الثاني: اصطناع أئمة وخطباء موالين للباطل
.
وهؤلاء الأئمة والخطباء قسمان:
القسم الأول: جاهل، وقد يكون حافظا للقرآن الكريم أو كثيرا منه وهو لا يفهم منه شيئا، وقد يكون عاجزا عن تلاوة بعض آيات القرآن تلاوة صحيحة، فإذا خطب الناس وجدته ذا عيّ يلوك لسانه غير قادر على نطق جملة من الخطب المنبرية التي يقرأ منها نطقا صحيحا، وغالب تلك الخطب يكون من الكلام المسجوع الميت الذي لا يمت إلى أوضاع الأمة الحاضرة بصلة.
القسم الثاني: عندهم علم بالقرآن والسنة - في الجملة - وعندهم مقدرة على تبصير الناس وتعليمهم وتتبع الأحداث التي تنزل بهم وما يعانونه من مشكلات، وبيان أسبابها وآثارها، والمخارج من مضايقها، ولكنهم - مع قدرتهم تلك - قد باعوا أنفسهم لأعداء الحق، ونصبوا أنفسهم أبواقا لباطلهم، وكثير منهم من ذوي التقعر في الكلام والتفيهق فيه، تسمعهم يوم الجمعة وهم يجلجلون بأصوات مرتفعة في مكبرات الصوت على منابر جوامع كبيرة في غالب البلدان الإسلامية من شرق الدنيا إلى غربها، تنقل خطبهم في أجهزة الإعلام - المذياع والتلفاز وتنشرها الصحف والمجلات - الموالية لأهل الباطل، وإذا أصغى المصلون الذين ألزمهم الله حضور تلك الخطب وسماعها، إذا أصغوا إلى تلك الخطب، وجدوا أغلبها بعيدة كل البعد عن الموضوعات التي تهمهم في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والتعليمية والإعلامية وغيرها، أو أنها تؤيد الأوضاع الفاسدة في كل تلك المجالات، وتثني على صانعي الفساد من أهل الباطل، وتحرض على أهل الحق وتصفهم بأوصاف منفرة كاذبة جائرة، كل ذلك يقصد به تضليل عقول الناس واستغفالها وقلب الحقائق عليها.
والجيد من أولئك الخطباء من يحاول تنزيه لسانه عن غمط الحق والتحريش على أهله، ويخفف من الثناء على الباطل وأهله، ولكنه قد يبتعد عن الحديث عن مشكلات الأمة النازلة بها، التي هم في أمس الحاجة إلى بيانها توجيههم لحلها والخروج من مضايقها.
فإذا نزلت بالناس مجاعة وفقر - فعم الضرر شعوبهم ما عدا قلة قليلة من ذوي اليسار والغنى، وبخاصة ذوي النفوذ والمناصب الذين استولوا على مرافق الأمة وخيراتها ونهبوها بوسائل وحيل شتى في أوقات سابقة، فأصبحوا يتنعمون بها والناس يموتون جوعا - سمعتَ خطب أولئك الأئمة تثني على الفقر والصبر عليه، ولا تتعرض لترف المترفين وبذخ الظالمين وتحثهم على البذل والعطاء والتعاون والإيثار.
وإذا هجم العدو على بلاد المسلمين فاحتلها وعاث في الأرض فسادا، سمعت أولئك الخطباء وهم يشنون الغارة في خطبهم على غير الحدث الماثل خطره، فيسهبون في ذم بعض التصرفات السيئة التي يمكن تأجيلها - وإن كانت مهمة (1) - وتقديم ما هو أهم منها وأخطر.
(1) كالتدخين مثلا
وإذا استحلت الحرمات واغتصبت المحصنات الغافلات المؤمنات في عقر دار المسلمين ضربوا عن ذلك صفحا، وسمعتهم يتحدثون عن الحيض وأقسامه وكثير من أحكامه المعقدة أمام حشود الرجال الذين يستحل حرماتهم أعداؤهم في عقر دارهم، وهم في أمس الحاجة إلى سماع ما يحثهم على الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال.
وإن أمثال هؤلاء كمثل طبيب يرى مريضين: أحدهما عنده صداع خفيف، والآخر مصاب إصابات خطيرة برصاصات قاتلة، تدعو الضرورة إلى الإسراع بمعالجته، فيتركه ويهتم بمعالجة صاحب الصداع!. (1)
وهكذا يجد المصلون أنفسهم أمام خطباء - كأجهزة الإعلام - يصفون الظلمة بالعدل، والجبناء بالشجاعة، والفساق بالطاعة، أو يجدون أنفسهم أمام خطباء يتحدثون عن موضوعات بعيدة عن حياتهم، أو هي من حياتهم ولكنهم يحتاجون إلى الحديث عما هو أهم وأولى، فلا يجدون ملجأ يلجئون إليه إلا أن يهربوا من أولئك الخطباء وخطبهم، إلى وضع رؤوسهم على أكفهم ليخلدوا إلى النوم حتى تقام الصلاة!
(1) المقصود من هذا أن بعض أولئك الخطباء، وكذلك بعض المفتين والوعاظ، يهملون ما هو ضروري أو أولى بالاهتمام؛ لأنه حدث الساعة، وضرره على الأمة أشد من غيره، ويهتمون في نفس الوقت بما يمكن تأجيله أو تناوله بما يحقق معرفته دون إهمال الضروري أو الأهم، أي إنهم يهولون ما لا يحتاج إلى التهويل ويهملون ما هو مهول فعلا، وليس المقصود إهمال الأحكام التي يحتاج إليها الناس في أي باب من أبواب الشريعة.
وبهذا جعل أهل الباطل منطلقات الحق منطلقات لباطلهم، تلك المنطلقات التي قال الله تعالى فيها:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) .
وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (2) .
(1) التوبة: 18، 19.
(2)
النور: 36، 37.
وليس المراد من ذكر الله وتسبيحه مجرد قول بدون تطبيق لشرعه والدعوة إليه والأمر به والنهي عن الصد عنه، فقد قال تعالى - مبينا أن الجهاد في سبيل الله هو مما يدفع الله به الاعتداء على تلك المساجد التي يذكر فيها اسمه -:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) .
وإن الذين يجعلون مساجد الله التي هي - في الأصل - منطلقات للحق، منطلقات للباطل، لمن أحق الناس دخولا في قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) .
(1) الحج: 39، 40.
(2)
البقرة: 114.
وجعل أعداء الحق وأنصار الباطل هذه المساجد - التي أعدت في الأصل لتكون منطلقات للحق - منطلقات للباطل هو نفس السيرة التي سار عليها المنافقون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم باتخاذهم مسجد الضرار الذي اتخذوه معارضة ومضادة لمساجد المسلمين، وفي طليعتها مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (1) .
والفرق بين من نزلت فيهم الآية وبين أعداء الحق في هذا الزمان من وجهين:
الوجه الأول: أن الذين نزلت فيهم الآية لم يكونوا حكاما للمسلمين، وإنما كانوا يتآمرون في الخفاء؛ لأن قيادة المسلمين كانت بيد الرسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بإحراق ذلك المسجد وأراح المسلمين شر أعدائهم المتآمرين.
(1) التوبة: 107.
أما في هذا الزمان فإن الذين يتخذون مساجد المسلمين ضرارا للإسلام والمسلمين، هم حكام يحاربون الله ورسوله ويفرضون على المسلمين الحكم بغير ما أنزل الله، وفي يدهم القوة والحكم، ولذلك تكون السيطرة على المساجد لهم، ولا يؤم الناس فيها ويقوم بالدعوة والتعليم والخطابة فيها - غالبا - إلا من يواليهم ويضلل عقول الناس أو يخدرها بالباطل، ولا يصدع بالحق الذي يحاربه أولئك الحكام.
الوجه الثاني: أن الذين نزلت فيهم الآية لم يستطيعوا أن يسيطروا على أكثر من مسجد واحد - وكان ذلك بمؤامرة خفية - لم تدم لهم طويلا. أما الذين اتخذوا المساجد منطلقات للباطل في هذا الزمان، فقد استطاعوا أن يسيطروا على غالب مساجد المسلمين، وبخاصة المساجد الكبيرة ذات الشأن في البلدان الإسلامية، لأنهم هم قادة المسلمين وحكامهم، وسيطرتهم عليها مبنية على حق مشروع بقوانين وأنظمة وأجهزة صنعوها لأنفسهم، بحيث تعد تصرفاتهم في تلك المساجد مشروعة وهي الأصل، حسب تلك القوانين والأنظمة، وتعد تصرفات غيرهم فيها - ولو كانت هي الشرعية في الحقيقة - خارجة عن القانون والنظام، يستحق أصحابها العقاب والمساءلة. وبهذا أصبحت مساجد المسلمين - في الغالب - ينطبق عليها قول الشاعر:
حرام على بلابله الدوح
…
حلال للطير من كل جنس
(1)
اتقوا الله ما استطعتم.
(1) ذكرت هنا مثالا واحدا لاتخاذ أهل الباطل منطلقات الحق منطلقات لباطلهم، وهي: المساجد، وهناك منطلقات كثيرة للحق يتخذها أهل الباطل منطلقات لباطلهم، كالقرآن الكريم (أساس جميع منطلقات الحق) الذي يحرفه أعداء الإسلام من المستشرقين والمنصرين، أو علماء السوء الذين اتبعوا علماء أهل الكتاب في اشترائهم بآيات الله ثمنا قليلا.... وقد يكون تحريفه عن طريق تفسير ألفاظه بغير معانيها المرادة، أو عن طريق ترجمته. وكذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي يعمد أهل الباطل إلى الطعن فيما صح منها، أو تحريف معناه، وإلى اختلاق أخبار كاذبة وإسنادها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الله تعالى هيأ لحفظ كتابه وسنة رسوله من يذب عنهما، ويرمي بشهب الحق كل باطل حاول أهله إيصاله إلى عقول الناس بتحريف الوحيين لفظا أو معنى
…
ومع ذلك يجب على أهل الحق من العلماء والمفكرين والخطباء، أن يحرصوا على العمل في المساجد، وعدم التخلي عنها، ومحاولة القيام بما يقدرون عليه من إيصال الحق إلى عقول الناس، سواء بقراءة القرآن في الصلوات، أو بالخطب والمواعظ، أو بالتدريس والتعليم، والإمام الحكيم يستطيع أن يتحين الفرص ويفيد الناس في الحدود المستطاعة، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} .
ولا ينبغي لمن عنده القدرة على إفادة المصلين - ولو قلت - التخلي عن القيام بما يقدر عليه.