الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الطلاق
أي في بيان الأحكام التي تتعلق بالطلاق وما يشتمل فيه من أركانه وأنواعه وألفاظه من صريح وغيره. وهو على قسمين: مباح ومحظور، فالمباح ما أذن فيه الشارع، والمحظور ما حظر عنه لأنه أبغض الحلال إلى الله كما في الحديث، لكن تعتريه الأحكام، تارة يكون واجباً، وتارة يكون حراماً، وتارة يكون مندوباً، وتارة يكون مكروهاً. قال الصاوي: فكما أن تلك الأحكام تعرض للنكاح كذلك تعرض للطلاق إلا أن الأصل في النكاح الندب، وفي الطلاق خلاف الأولى أو الكراهة اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " الاثنتان في العبد كالثلاث في الحر، وهو بائن، فتبين غير المدخول بها بواحدة، كالمختلعة، إلا أن يزيد أو يرسل أكثر في الفور فيلزم " ابتدأ رحمه الله في عدد الطلاق بالنهاية في كل زوج، يعني أن الغاية للعبد في الطلاق طلقتان، إذا طلق العبد زوجته اثنتين فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، سواء كانت حرة أو أمة مسلمة، أو كتابية، كما إذا طلق الحر زوجته ثلاثاً فقد بانت عنه وبلغ الغاية التي لا مزيد فيها، سواء أوقع الثلاث في كلمة واحدة، أو متفرقة، وسواء كانت حرة أو أمة، مسلمة أو كتابية، كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها، فتحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً بحسبما تقدم في المبتوتة. وأما غير المدخول بها فتبين بطلقة واحدة بينونة صغرى، كالمختلعة إلا أن يزيد على واحدة، أو ينوي الأكثر فيلزمه ما نوى. قال في الرسالة: والتي لم يدخل بها يطلقها متى شاء، والواحدة تبينها. والثلاث تحرمها إلا بعد زوج. ومن قال لزوجته أنت طالق فهي واحدة حتى ينوي أكثر من ذلك. ومن قال لزوجته أنت طالق البتة فهي ثلاث دخل بها أو لم يدخل
بها، وينوى في التي لم يدخل بها. وقال أيضاً: ومن طلق امرأته ثلاثاً لم تحل له بملك ولا نكاح حتى تنكح زوجاً غيره. وطلاق الثلاث في كلمة واحدة بدعة، ويلزم إن وقع. وطلاق السنة مباح اهـ وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله:" ورجعى وهو إيقاع ما دون نهايته بمدخول بها بغير عوض، وهي زوجة ما دامت في عدتها، فله ارتجاعها، ويصح بالقول كراجعتك، وبالفعل كقصده بالاستمتاع " يعني أن الطلاق الرجعي هو طلاق السنة المأذون فيه، وهو إيقاع ما دون الثلاث في مدخول بها بغير أخذ شيء من العوض، وهي في
حكم الزوجة التي في العصمة في لزوم النفقة والكسوة والسكنى ولحوق الطلاق لها إلا في الاستمتاع والخلوة والأكل معها بلا نية مراجعتها بذلك فلا يجوز حتى ينوي المراجعة، وله أن يراجعها إن شاء ما لم تنقض العدة. قال في الرسالة: وطلاق السنة مباح، وهو أن يطلقها في طهر لم يقربها فيه طلقة ثم لا يتبعها طلاقاً حتى تنقضي العدة وله الرجعة في التي تحيض ما لم تدخل في الحيضة الثالثة في الحرة، أو الثانية في الأمة اهـ. وفي أقرب المسالك: والسني واحدة كاملة بطهر لم يمس فيه بلا عدة وإلا فبدعي اهـ. قوله ويصح بالقول إلخ، قلت والأكمل مع النية كما قال أبو الحسن الأزهري في مقدمته ونصه: والرجعة تكون بالنية مع القول، أو بالنية دون القول، فإن نوى في نفسه أنه راجعها فقد صحت رجعته فيما بينه وبين الله تعالى، ولو انفرد اللفظ دون النية لما صحت له الرجعة بذلك فيما بينه وبين الله تعالى، والوطء بدون النية لا يكون رجعة والوطء حرام اهـ. وفي قرة العين: مسألة إذا وطئ زوجته الرجعية ولم ينو الرجعة فهذا الوطء حرام ويستبرئها منه، ولا يلزمه صداق ولا حد، وإن حملت من هذا الوطء يلحق به الولد نظراً لقول ابن وهب إن الوطء مجرداً عن النية رجعة اهـ. ويندب الإشهاد على الرجعة، فلو راجعها بغير شهود صحت كما في أقرب المسالك وغيره اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وتبين بإنقضائها ويقبل قولها فيما يمكن صدقها فيه "
لقول مالك في المدونة: إذا ادعت عدتها قد انقضت في مقدار ما تنقضي فيه العدة صدقت. وفيها أيضاً: إذا طلق الرجل امرأته وقد حاضت الحيضة الثالة لم يكن له عليها رجعة ولا يتوارثان ولم يكن بينهما شيء اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " فلو تزوجت فأقام بينة برجعتها قبل انقضائها فاتت بالدخول لا بالعقد " يعني تبين المرأة بانقضاء عدتها وتفوت بدخول الزوج الثاني وتصدق في انقضاء العدة فإذا ادعى زوجها عدم الانقضاء وادعت هي انقضاءها فالقول قولها، ولو تزوجت وأقام بينة أنه راجعها قبل تمام العدة فلا تقبل دعواه بذلك إذا كانت دعواه بعد الدخول لا قبله. وعبارة ابن جزي في القوانين: إذا ادعى بعد العدة أنه راجع في العدة لم يصدق إلا أن يكون خلا بها أو بات معها في العدة اهـ. وقد عقد ابن رشد للمسألة فصلاً في المقدمات قال: فإن ادعى بعد العدة
أنه راجعها في العدة بقول أو نية لم يصدق في ذلك إلا أن يعلم أنه كان يخلو بها في العدة أو يبيت معها فيصدق أن خلوته بها ومبيته معها إنما كان لمراجعته إياها، وكذلك إذا وطئها في العدة وقال إنه أراد بوطئها الرجعة فيصدق في ذلك. وهذا هو معنى قولهم: إن الوطء رجعة إذا أراد به الرجعة، أي إنه يصدق في إرادة
الرجعة بها اهـ. قال خليل مشبهاً في عدم صحة الرجعة: كدعواه لها بعدها. قال الصاوي في حاشيته على أقرب المسالك: حاصله أن الزوج إذا ادعى بعد انقضاء العدة أنه كان راجع زوجته في العدة غير بينة ولا مصدق مما يأتي فإنه لا يصدق في ذلك وقد بانت منه ولو كانت الزوجة صدقته على ذلك، والموضوع أن الخلوة عملت بينهما لكن يؤاخذ بمقتضى دعواه وهي أنها زوجة فيجب لها ما يجب للزوجة، وكذا تؤاخذ بمقتضى إقرارها إن صدقته ولا يمكن واحد منهما من صاحبه اهـ انظر باقي المفاهيم في شراحه.
قال رحمه الله تعالى: " ثم السني منه طلقة في طهر لم يمس فيه ولا تالياً لحيض طلق
فيه ثم لا يتبعها طلاقاً حتى تنقضي عدتها " يعني أنه لا يسمى طلاقاً سنياً إلا إذا كملت فيه شروط خمسة، وقد تقدم الكلام في هذه الجملة عند قوله ورجعي، وهو إيقاع ما دون نهايته، لكن نزيدك هنا بياناً شافياً إن شاء الله تعالى.
اعلم أنه لا يقع سنياً إلا بخمسة شروط: الأول أن يكون واحداً فالأكثر من واحد لا يسمى سنياً. الثاني أن يكون في طهر لم يمس فيه، فالطلاق في الحيض أو النفاس أو في الطهر الذي مسها فيه لا يسمى سنياً، وكذلك في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلق فيه لا يسمى سنياً قال الدردير: وإنما طلب منه عدم طلاقها في الطهر الذي يلي الحيض الذي طلق فيه لأن الارتجاع جعل للصلح، وهو إنما يتم بالوطء بعد الحيض فقد مسها في ذلك الطهر، فإذا حاضت منع الطلاق، فإذا طهرت فله الطلاق قبل الوطء اهـ. الشرط الثالث أن يكون كاملاً لا بعض الطلاق كنصف طلقة فإنه لا يسمى سنياً. الرابع ألا تكون المرأة معتدة عدة الطلاق الرجعي وإن أتبعها طلاقاً في عدتها فإن هذا الطلاق الثاني لا يسمى سنياً. الخامس أن يوقعه على جملة المرأة لا على بعضها كيدها فإن طلق البعض فإنه يسري في جميعها طلقة كاملة. فإن انتفت هذه الشروط أو شيء منها فلا يسمى سنياً بل بدعياً، وإليه أشار خليل بقوله: طلاق السنة واحدة بطهر لم يمس فيه بلا عدة وإلا فبدعي اهـ.
ثم قال رحمه الله تعالى: " والبدعي إرسال الثلاث دفعة " أي إيقاع الطلاق دفعة في كلمة واحدة، بأن قال طلقتك ثلاثاً وهو بدعي. والبدعي إما مكروه وإما حرام. قال الدردير في أقرب المسالك: وكره إن كان بغير حيض ونفاس وإلا منع ووقع، وإن طلبته أو خالعت. والإجماع على لزوم الثلاث إذا أوقعها في لفظ واحد، نقله ابن عبد البر وغيره من الأئمة باختصار.
قال رحمه الله تعالى عاطفاً على البدعي: " والطلاق في طهر المسيس " يعني
من البدعي
الطلاق في الطهر الذي مسها فيه لأنه خلاف السني كما تقدم. قال رحمه الله تعالى: " أو في الحيض فيجبر على ارتجاعها " يعني إيقاع الطلاق في دم الحيض ممنوع ويؤمر بارتجاع الزوجة في عصمته ولو جبراً. قال في أقرب المسالك: وأجبر على الرجعة لآخر العدة وإن لم تقم بحقها، فإن أبى هدد بالسجن، ثم سجن، ثم ضرب بمجلس، فإن أبى ارتجع الحاكم. قال الصاوي في حاشيته عليه: فإن ارتجع الحاكم قبل فعل شيء من هذه الأمور صح إن علم أنه لا يرتجع مع فعلها وإلا لم يصح. والظاهر وجوب الترتيب وأنه إن فعلها كلها من غير ترتيب ثم ارتجع مع إباء المطلق صحت الرجعة قطعاً اهـ. وجاز بارتجاع الحاكم الوطء والتوارث، والأحب إمساكها حتى تطهر فتحيض فتطهر، ثم إن شاء طلق قبل أن يمسها ليكون سنياً اهـ الدردير.
وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: " وإمساكها حتى تطهر من الثانية " يعني كما في الخرشي أن من طلق زوجته في حال حيضها أو نفاسها وراجعها أو أبى أن يراجعها فأجبره الحاكم على رجعتها وألزمه إياها ثم أراد طلاقها فإنه يستحب له أن يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلقها قبل أن يمسها، وإنما أمر أن لا يطلقها في الطهر الذي يلي الحيض المطلق فيه لأنه جعل للإصلاح وهو لا يكون إلا بالوطء وبالوطء يكره له الطلاق فيمسكها حتى تحيض أخرى ثم تطهر اهـ ومثله في المواق.
قال رحمه الله تعالى: " ولا إجبار في الطهر بينهما كطهر المسيس وعار عنهما كالصغيرة واليائسة وظاهرة الحمل وغير المدخول بها " يعني فإن طلق في الطهر الذي بين حيضتين فلا يجبر على ارتجاعها. قال المواق: فإن طلق في الطهر التالي للحيضة التي طلقها فيها كره له ذلك ولم يجبر على الرجعة. قال ابن رشد: وإن ارتجاعها كذلك ولم يصبها كان مضماراً آثماً اهـ. وكذلك لا جبر إن طلقها في طهر المسيس مع الكراهة كما تقدم. والتي لا تحيض كالصغيرة واليائسة يطلقها متى شاء. وكذا ظاهرة الحمل وغير المدخول
بها كما في الرسالة: قال ابن رشد: أجمع العلماء على أن المطلق للسنة في المدخول بها وهو الذي يطلق امرأته في طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة، وأن المطلق في الحيض أو الطهر الذي مسها فيه غير مطلق للسنة وإنما أجمعوا على هذا لما ثبت من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر أن تطلق لها النساء " اهـ اللفظ للبخاري.
قال رحمه الله تعالى: " ثم صريحه ما يتضمنه لفظه وإطلاقه واحدة إلا أن ينوي أكثر، فإن أدعى إرادة طلاق الولادة أو من وثاق وقف على قرينة الحال " يعني أن الطلاق ينقسم إلى صريح وكناية وغيره. أما الصريح ما فيه لفظ الطلاق، نحو أنت طالق أو مطلقة فيلزم به الطلاق، ولا يفتقر إلى نية لأنه صريح ومطلقها واحدة إلا أن ينوي أكثر فيلزمه ما نوى. فإن ادعى عدم إرادة الطلاق فلا تقبل منه إلا بقرينة الحال. قال ابن جزي في القوانين: وأما ألفاظ الطلاق فهي أربعة أنواع: النوع الأول صريح وهو ما فيه لفظ الطلاق، كقوله طالق، أو طالقة، أو مطلقة، أو قد طلقتك، أو طلقت مني لزمه الطلاق بهذا كله، ولا يفتقر إلى نية، وإن ادعى أنه لم يرد الطلاق لم يقبل منه ذلك إلا إن اقترنت بقرينة تدل على صدق دعواه مثل أن تسأله أن يطلقها من وثاق فيقول أنت طالق، وألحق الشافعي بالصريح لفظ التسريح والفراق اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وكنايته ظاهرة كخلية وبرية وبائن وبتة وبتلة وحرام وحبلك على غاربك والمشهور أنها ثلاث في المدخول بها لا تقبل إرادة دونها ولا عدم إرادة الطلاق " يعني كما في القوانين. الكناية الظاهرة وهي التي جرت العادة أن يطلق بها في الشرع أو في اللغة كلفظ التسريح والفراق، وكقوله أنت بائن،
أو بتة، أو بتلة وما أشبه ذلك فحكم هذا كحكم الصريح. وقال الشافعي: يرجع إلى ما نواه ويصدق في نيته اهـ. قال العلامة الشيخ محمد عليش في الفتاوى: وأما الكناية فهي على قسمين: ظاهرة ومحتملة، فالظاهرة ما هو في العرف طلاق مثل سرحتك وفارقتك وأنت حرام، وبتة، وبتلة، وبائن، وحبلك على غاربك، وكالميتة والدم، ووهبتك، ورددتك إلى أهلك، وغير ذلك فيقضى عليه في ذلك بالطلاق، ولا تقبل دعواه أنه لم يرد بها الطلاق. واختلف ماذا يلزمه في هذه الكنايات الظاهرة من أنواع الطلاق؟ فقيل يلزمه فيها الثلاث على كل حال. وقيل يلزمه الثلاث في المدخول بها وينوى في غير المدخول بها، فإن قال إنه أراد البتة فله نيته وهو المشهور. وقيل يلزمه واحدة بائنة على كل حال. وقيل رجعية في المدخول بها وبائنة في غير المدخول بها. وقيل ثلاث في المدخول بها وواحدة في غير المدخول بها اهـ. وقد علمت من الأقوال ما هو المشهور كما نص عليه المصنف فتأمل.
قال رحمه الله تعالى: " ويلزم في غيرها ما نواه كالخلع " يعني يلزم ما نواه فيما ليس بكناية ظاهرة كالخلع لأنه طلقة، لكن ليس فيه ألفاظ الصريح ولا ألفاظ الكناية الظاهرة، وشبه به للزوم الطلاق. وإذا خالعته فالخلع واقع على ما نواه من
عدد الطلاق واحداً فأكثر، وإن لم ينو به شيئاً لزمه طلقة. قال في الرسالة: والخلع طلقة لا رجعة فيها، وإن لم يسم طلاقاً إذا أعطته شيئاً فخلعها به من نفسه كما سيأتي. وأما الكناية غير الظاهرة فهي كناية خفية، وتسمى محتملة ففيها ما نواه من طلاق وغيره كما سيأتي للمصنف. قال ابن جزي: الكناية المحتملة كقوله: الحقي بأهلك، واذهبي، وابعدي عني، وما أشبه ذلك فهذا لا يلزمه الطلاق إلا إن نواه، وإن قال إنه لم ينو الطلاق قبل قوله في ذلك اهـ. قال في العزية: وأما المحتملة فمثل اذهبي، وانصرفي، وأنت حرة، والحقي بأهلك، ولست لي بامرأة، ولا نكاح بيني وبينك ونحو ذلك مما ليس بطلاق في العرف فله نيته في ذلك، وهو
مصدق إن ادعى أنه لم يرد بذلك طلاقاً، ولا يحكم عليه في ذلك إلا بما نواه. وفيها أيضاً: والمحتملة مثل اذهبي وانصرفي فتقبل دعواه في نفيه وعدده، فإذا ادعى أنه أراد الطلاق فالمشهور أنه يكون طلاقاً اهـ كما سينص على جميع ذلك.
قال رحمه الله تعالى: " وقوله الحلال عليه حرام يلزمه به " أي يلزمه ثلاثاً في المدخول بها وغيرها، إلا أن يستثني زوجته في ذلك كما قال رحمه الله تعالى:" إلا أن يحاشيها لفظاً أو نية " قال في الرسالة: ومن حرم على نفسه شيئاً مما أحل الله له فلا شيء عليه إلا في زوجته فإنها تحرم عليه إلا بعد زوج اهـ. قال الجزيري في الفقه: أما إذا قال الحلال علي حرام، أو حرام علي ما أحل لي، أو ما أرجع إليه حرام فإنه إذا نوى إخراج زوجته واستثناءها من المحرم عليه فإنه يصح ولا تحرم عليه، وإلا حرمت لأن قوله الحلال علي حرام يشمل جميع ما أحله الله له، وهو لا يملك إلا تحريم زوجته، فإذا نواه حرمت، وإلا فلا. وإذا قال لها: الحرام حلال ولم يقل علي، أو قال حرام علي أو علي حرام ولم يقل أنت، أو قال يا حرام فإنه إذا نوى إخراج امرأته من الحرام فلا يلزمه شيء، وإن نوى إدخالها كان كناية صريحة يلزم بها الثلاث في المدخول بها وغيرها إن لم ينو في غير المدخول بها عدداً، انظر شرح الخليل. وتقدم قول المصنف في الأيمان: ويلغى تحريم الحلال إلا في الزوجة والأمة فيلزمه الطلاق والعتق فراجعه إن شئت.
قال رحمه الله تعالى: " والمشهور أن السراح والفراق كناية، وقيل صريح " يعني أن المشهور في المذهب في لفظ السراح والفراق كناية ظاهرة كما قال ابن جزي وغيره، لكن تلك الألفاظ التي هي الكناية الظاهرة ينبغي أن يعتبر فيها بعرف القوم في أي زمان ومكان في تنفيذ الطلاق بها عند القضاء أو الفتيا. قال العدوي في حاشية الخرشي:
فائدة: قال القرافي في فروقه ما معناه: إن نحو هذه الألفاظ من برية،
وخلية، وحبلك على غاربك، ورددتك، إنما كان لعرف سابق، وأما الآن فلا يحل للمفتي أن يفتي
بها إلا لمن عرف معناها وإلا كانت من الكنايات الخفية، فلا نجد أحداً اليوم يطلق امرأته بخلية ولا برية. والحاصل أنه لا يحل للمفتي أن يفتي فيها بالطلاق حتى يعلم العرف في ذلك البلد اهـ. ومثله في الصاوي. ونقل عن القوافي أيضاً مثله. ونصه: لا يحل للمفتي أن يفتي في الطلاق بالحرام بما هو مسطور في الكتب عن مالك حتى يعلم أنه من أهل بلد ذلك العرف الذي يترتب عليه الفتيا، فإن كان بلداً آخر أفتاه باعتبار حال بلده، وقد غفل عن هذا كثير من الفقهاء فأفتوا بما للمتقدمين وقد زالت تلك العوائد فكانوا مخطئين خارقين للإجماع، فإن المفتي بالحكم المبني على مدرك بعد زوال مدركه خلاف الإجماع اهـ نقله المواق في شرحه للمختصر. وقد حرر ذلك العلامة الجزيري في الفقه بقوله: هذا ويشترط في وقوع الطلاق بهذه الألفاظ كلها أن يكون العرف جارياً على أن يطلق الناس بها. أما إذا كانوا لا يطلقون بهذه العبارات فإنها لا تكون كناية ظاهرة، بل تكون من الكنايات الخفية التي لا يقع بها إلا بالنية. ومثل هذه الألفاظ: حبلك على غاربك التي يقع بها الثلاث في المدخول بها وغيرها، فإنه إذا لم يكن عرف الناس جارياً على التطليق بها كما في زمننا فلا يقع بها طلاق إلا بالنية، فإذا نوى واحدة لزمته، وهكذا كما تقدم. وقد قال المحققون من المالكية: لا يحل للمفتي أن يفتي في الطلاق وغيره من الأحكام المبنية على العوائد والعرف كالمنافع في الإجارة والوصايا والنذور والأيمان إلا بعد أن يعلم عرف أهل البلد أو القبيلة في ذلك الأمر. وبهذا تعلم أن معظم الكنايات الظاهرة التي قال المالكية إنه يقع بها الثلاث في المدخول بها بدون نظر إلى نية هي من الكنايات الخفية في زمننا، لأنه لا يطلق بها أحد اهـ.
ثم قال رحمه الله تعالى: " ومحتملة كاذهبي، واعزبي، وآخرجي، وانصرفي، واعتدي، وألحقي بأهلك، فيقبل ما أراده " إن هذه الجملة معطوفة على قوله ثم صريحة
وكنايته، يعني كما تقدم أن هذه من الكناية الخفية التي تقبل نيته فيما أراد بتلك الألفاظ. والحاصل أن حكم الكناية الخفية يتبع النية، فإن لم تكن له نية أصلاً أو نوى عدم الطلاق فإنه لا يلزمه بها شيء، وإن نوى الطلاق لزمه، فإن نوى واحدة لزمته واحدة، وإن نوى أكثر لزمه الأكثر كما تقدم.
قال رحمه الله تعالى: " ولو سألته الطلاق فأجابها بلفظ أو إشارة مفهمة لزمه ككتبه وإنفاذه " يعني لو سألته الطلاق فقال لها لك ما طلبت لزمه ما نوى، أو قال أنت طالق لزمه، أو أشار لها بإصبع أو أصابع أو بغيرها مما يفهم أنه أراد الطلاق
لزمه ما أشار، أو كتب كتاباً وأرسل إليها فوصل لزمه ما كتب. قال الدردير في أقرب المسالك: ولزم بالإشارة المفهمة وبمجرد إرساله وكتابته عازماً، وإلا فبإخراجه عازماً، أو وصوله لا بكلام نفسي أو فعل إلا أن يكون عادتهم اهـ. ومثله في المختصر، قال الشارح من المدونة، قال مالك: من قال لرجل أخبر زوجتي بطلاقها أو أرسل إليها بذلك رسولاً وقع الطلاق حين قوله للرسول، بلغها الرسول أو لم يبلغها ذلك وكتمها. وإن كان ليشاور نفسه ثم بدا له فذلك له، ولا يلزمه طلاق. قال ابن القاسم: ولو أخرج الكتاب من يده عازماً وقد كتبه غبر عازم لزمه حين أخرجه من يده، وإن كان أخرجه غبر عازم فله رده ما لم يبلغها، فإن بلغها لزمه اهـ المواق. وعبارة صاحب العزية أنه قال: وأما ما يقوم مقام اللفظ فأنواع: منها الإشارة المفهمة وهي معتبرة من الأخرس في الطلاق قلت: روى الباجي: إشارة السليم بالطلاق برأسه أو بيده كلفظه لقوله تعالى: {ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً} {آل عمران: 41} كما في المواق. ثم قال: ومنها كتابة الطلاق من القادر على النطق، فإن كتب الكتاب بالطلاق وهو عازم على الطلاق وقع عليه ما كتبه، وإن كتبه غير عازم فله رده ما لم يبلغ المرأة فيلزمه، ولو عقد الطلاق بقلبه جازماً من غير تردد ففي وقوع الطلاق عليه بمجرد ذلك روايتان اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ويسري بإضافته إلى أبعاضها ويكمل مبعضه " يعني إذا طلق الزوج بعض زوجته كيدها أو شيء من جسدها متصل بها كشعر فإن الطلاق يسري إلى جميعها، أو أوقع بعض الطلاق كنصفه أو ثلثه فإنه يكمل عليه طلقة كاملة. قال الدردير في أقرب المسالك: ولزم واحدة في ربع طلقة أو ثلثي طلقة أو نصفي طلقة أو ثلث وربع طلقة أو ربع ونصف طلقة واثنتان (أي ولزم) اثنتان في ثلث طلقة وربع طلقة أو ربع طلقة ونصف طلقة، والطلاق كله إلا نصفه، وواحدة في اثنتين إن قصد الحساب وإلا فثلاث إلخ، فقد وضح الجزيري في ذلك بقوله: وإذا جزأ عدد الطلاق كما إذا قال لها أنت طالق نصف طلقة أو جزء طلقة لزمه طلاق كامل، ولو قال لها أنت طالق نصف طلقتين لزمته طلقة واحدة لأن نصف الطلقتين طلقة كاملة ومثله ذلك ما إذا قال لها أنت طالق نصفي طلقة فإنه يقع به واحدة لأن النصفين طلقة كاملة فإذا زادت الأجزاء عن طلقة لزمه طلقتنا أو أكثر بحسب زيادة الأجزاء فإذا قال لها أنت طالق نصف وثلثا طلقة لزمه طلقتنا لأن النصف والثلثين أكثر من الواحدة، ومثل ذلك ما إذا قال لها أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة لأن ثلاثة أنصاف طلقة تشتمل على طلقة ونصف فيقع بها اثنتان لأن
الجزء يقع به واحدة كاملة، وكذا إذا قال لها أنت طالق أربعه أثلاث طلقة لأن أربعة أثلاث تشتمل على واحدة وثلث وهكذا اهـ. انظر باقي الأمثلة في الفقه على المذاهب. وقد تقدم لنا بعض هذه المسألة في الطلاق البدعي وهي من المحظورة لأنها يؤدب فاعلها. قال خليل: وأدب المجزئ كمطلق جزء وإن كيد اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " والشك في عدده يلزم أكثره على المشهور " يعني كما في القوانين لابن جزي: وإن تيقن الطلاق وشك في العدد لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره لأنها تحتمل ثلاثاً خلافاً لهما اهـ. قال خليل: وإن شك أطلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً لم تحل إلا بعد زوج، وصدق إن ذكر في العدة، ثم إن تزوجها وطلقها فكذلك إلا أن
يبت اهـ. قال المواق: نص المدونة: من لم يدر كم طلق أواحدة أم أثنتين أم ثلاثاً فهي ثلاث، فإن ذكر في العدة أنها أقل فله الرجعة، وإن ذكر ذلك بعد كان خاطباً من الخطاب ويصدق في ذلك، وإن بقي على شكه حتى تزوجها بعد زوج ثم طلقها واحدة أو أثنتين لم تحل له إلا بعد زوج، وكذلك بعد ثان وثالث مائة زوج، إلا أن يبت طلاقها وهي تحته في أي نكاح كان فتكون إن رجعت إليه على ملك مبتدأ اهـ. قال الصاوي: تنبيه إن شك أطلق زوجته طلقة طلقة واحدة أو أثنتين أو ثلاثاً لم تحل له إلا بعد زوج لاحتمال كونه ثلاثاً، ثم إن تزوجها بعد زوج وطلقها طلقة أو اثنتين فلا تحل له إلا بعد زوج لاحتمال أن يكون المشكوك فيه اثنتين وهذه ثالثة، ثم إن تزوجها بعد زوج وطلقها لا تحل له إلا بعد زوج لاحتمال أن يكون المشكوك فيه واحدة وهاتان اثنتان محققتان، ثم إن تزوجها بعد زوج وطلقها ثالثة لم تحل له إلا بعد زوج لاحتمال أن يكون المشكوك فيه ثلاثاً وقد تحقق بعدها ثلاث وهكذا لغير نهاية إلا أن يبت طلاقها كأن يقول أنت طالق ثلاثاً، أو إن لم يكن طلاقي عليك ثلاثاً فقد أوقعت عليك تكملة الثلاث فينقطع الدور وتحل له بعد زوج، وتسمى هذه المسألة الدولابية لدوران الشك فيها كما في خليل وشراحه اهـ. وإلى هذه المسألة أشار رحمه الله تعالى بقوله:" وكلما عادت إليه بعد زوج وطلقها واحدة لم تحل له إلا بمحلل إلا أن يرسل الثلاث دفعة " فتحصل أنها إذا كانت في عصمته وأبت طلاقها ثلاثاً ثم تزوجها بعد زوج فتحل له بعصمة جديدة كاملة، فتبين أنه كلما بت طلاقها، ولم يكن معه شك في وقوع الثلاث فإنها تحل له بعد زوج بعصمة جديدة، وثبت أن شروط الدور في هذه المسألة عدم زوال شكه وعدم بت طلاقها، فإذا زال شكه وأبت طلاقها لم يكن في المسألة إشكال ولا دوران. قال في جواهر الإكليل: إلا أن يبت الزوج الشاك طلاقها حقيقة بأن يطلقها ثلاثاً أو حكماً بأن
يقول لها: إن لم تكوني مطلقة ثلاثاً طلقتك ما يكملها وهي في عصمته فينقطع الدوران وتحل له بعد زوج بعصمة كاملة اهـ. ومثله في حاشية الخرشي.
قال رحمه الله تعالى: " وقيل تحل بعد ثلاثة أنكحة " هذا مقابل المشهور فتأمل. ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا يهدم الثاني ما دون الثلاث " يعني أن الزوج الثاني لا يهدم طلاق الزوج الأول ما لم يكن ثلاثاً. والمعنى لا يهدم طلقة ولا طلقتين. قال ابن جزي في القوانين: من طلق طلقة واحدة أو اثنتين فنكحها زوج غيره ودخل بها ثم نكحها الأول بني على ما كان من عدد الطلقات، فلو طلقها ثلاثاً ثم نكحها بعد زوج غيره استأنف عدد الطلقات كنكاح جديد، لأن الزوج الثاني لا يهدم ما دون الثلاث، ويهدم الثلاث. وقال أبو حنيفة: يهدم مطلقاً اهـ. وحاصل فقه المسألة ـ كما هو مشهور المذهب - أن الزوج الثاني لا يهدم ما دون الغاية من الطلاق، فإذا طلق رجل زوجته المدخول بها طلقة واحدة فله مراجعتها بدون عقد وبدون رضاها ما دامت في العدة كما تقدم في الرجعية، وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها فقد بانت عنه وله تزوجها بعقد جديد، وإن لم يتزوجها فتزوجت بغيره ثم طلقها الغير أو مات عنها فتزوجها الأول ثم طلقها ثانياً حسب عليه طلاقه الأول ولو كان بين طلقتين مدة طويلة وله مراجعتها إن شاء كذلك ما دامت في العدة، فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها فقد بانت عنه فله تزوجها أيضاً بعقد جديد، فإن تزوجت بغيره وطلقها الغير أو مات عنها وتزوجها الأول، ثم إن طلقها طلاقاً ثالثاً قد تمت العصمة وليس له مراجعة فتحرم عليه إلا بعد زوج. وذلك هو معنى قولهم. لا يهدم الثاني ما دون الثلاث. وأما لو طلقها ثلاثاً في أول مرة لكانت بائنة بينونة كبرى فليس له فيها مراجعة حتى تنكح زوجاً غيره بشروطه كما في الآية. ثم إن تزوجها بعد زوج فترجع إليه بعصمة كاملة جديدة وهكذا.
ثم قال رحمه الله تعالى: " فمن طلق زوجته مبهمة لزمه في الجميع " يعني فمن طلق زوجة من زوجاته مبهمة ولم يعينها لزمه طلاق الجميع. قال الدردير: ولو شك هل طلق واحدة أي من نسائه أو أكثر فالجميع، أي يطلقن عليه كأن قال: إحداكن طالق ولم ينو
معينة أو عينها ونسيها، فالجميع على المشهور. قال الصاوي: مسألة لو كان لرجل أربع زوجات رأى إحداهن مشرفة من طاقة فقال لها: إن لم أطلقك فصواحباتك طوالق فردت رأسها ولم يعرفها بعينها وأنكرت كل واحدة منهن أن تكون هي المشرفة فيلزمه طلاق الأربع، كما أفتى به ابن عرفة. والصواب ما أفتى به تلميذه الأبي، أن له أن يمسك واحدة ويلزمه طلاق ما عداها، لأنه إن كانت التي أمسكها هي المشرفة فقد طلق صواحباتها وإن كانت المشرفة
إحدى الثلاث اللاتي طلقهن فلا حنث في التي تحته كذا في الحطاب. وأما لو قال: المشرفة طالق وجهلت طلق الأربع قطعاً، كما في البدر القرافي اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " فلو كانت أجنبية فادعى إرادة الأجنبية لزمه " يعني إذا علق الطلاق على أجنبية بأن طلقها فادعى إرادة إن تزوجها فهي طالق لزمه الطلاق بوقوع العقد على المذهب، وعليه نصف المهر، فإن دخل بها جهلاً لزمه جميعه. قال في أقرب المسالك مشبهاً بلزوم التعليق: كقوله لأجنبية: إن فعلت فأنت طالق ونوى بعد نكاحها، أو قال عند خطبتها هي طال تطلق عقبه وعليه النصف، وتكرر إن قال كلما تزوجتك إلا بعد ثلاث مرات، فإن تزوجها ثلاث مرات لزمه النصف في كل مرة، فإن عقد عليها بعد ذلك قبل زوج لم يلزمه شيء، لأن عقده لم يصادف محلاً اهـ. انظر شراح خليل.
قال رحمه الله تعالى: " فلو نادى معينة فأجابته غيرها فقال أنت طالق يظنها المناداة لزمه فيهما " يعني إذا نادى زوجته المعينة فأجابته زوجته الأخرى فطلقها يظن أنها المناداة لزمه طلاقهما مطلقاً على ما مشى عليه المصنف، وهو كذلك، لكنه على التفصيل قال خليل عاطفاً على عدم اللزوم: أو قال لمن اسمها طالق يا طالق، وقبل منه في طارق التفات لسانه، أو قال يا حفصة فأجابته عمرة فطلقها، فالمدعوة وطلقتا مع البينة. قال الخرشي قوله يا حفصة إلخ يعني أن من له زوجتان إحداهما اسمها حفصة والأخرى اسمها عمرة فقال:
يا حفصة فأجابته عمرة فأوقع الطلاق عليها وقال لها: أنت طالق يظنها حفصة، فإنه لا يخلو حاله من أنه يكون على لفظ بينة أو لا، فإن لم تكن عليه بينة بل جاء مستفتياً فإن حفصة تطلق فقط وهي المدعوة، وإن كان على لفظه بينة فإنهما يطلقان معاً حفصة بقصده وعمرة بلفظه اهـ. قال الصاوي:
تنبيه: لا يلزمه شيء لا في الفتوى ولا في القضاء لو قال لمن اسمها طالق: يا طالق، وقبل منه في طارق التفات لسانه في الفتوى دون القضاء، أو قال يا حفصة فأجابته عمرة فقال لها: أنت طالق يظنها حفصة فتطلق حفصة في الفتوى والقضاء، وأما المجيبة فتطلق في القضاء دون الفتيا اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ولا لغو في يمين الطلاق، ولو حلف على فعل شيء وطلق قبله ثم عادت إليه عاد اليمين ما بقى طلقة من النكاح الأول " يعني لا يدخل لغو في يمين طلاق، كما لا يدخل في العتق، لو علق طلاق زوجته على فعل شيء كدخول البيت وطلقها رجعياً قبل الفعل ثم راجعها ولو بعد زوج عاد اليمين ما بقي من هذه العصمة شيء لأن نكاح الأجنبي لا يهدد العصمة السابقة ما بقي
منها شيء كما تقدم. أما لو أبانها بالثلاثثم تزوجها بعد زوج ففعلت المحلوف عليه لم يحنث لأن العصمة المعلق فيها قد زالت بالكلية ولو كانت يمينه بأداة تكرار، قاله الدردير. وقال أيضاً في أقرب المسالك: واعتبر في ولايته عليه حال النفوذ فلو فعلت المحلوف عليه حال بينونتها لم يلزم، فلو نكحها ففعلته حنث إن بقي له من العصمة المعلق فيها شيء اهـ. ومثله في المختصر. وقوله: على فعل شيء سواء كان فعلها أو فعل غيرها. قال الدردير: وكذا من حلف على فعل غيرها كدخول زيد أو دخوله هو فدخل حال بينونتها لم يلزم الطلاق لأنهم اعتبروا في نفوذ الطلاق أن تكون هي في ولايته، وإلا فلا يلزمه شيء. قال ابن القاسم: من حلف لغريمه بالطلاق الثلاث ليقضينه حقه وقت كذا فقبل مجيء الوقت طلقها طلاق الخلع لخوفه من مجيء الوقت وهو معدم أو قصد عدم القضاء في الوقت لا يلزمه الثلاث، ثم بعد ذلك يعقد عليها برضاها بربع دينار اهـ. انظر شراح خليل.
قال رحمه الله تعالى: " ثم المطلق المسلم المكلف المتعقل المختار " يعني أن للمطلق شروطاً أربعة. قال ابن جزي: فأما المطلق فله أربعة شروط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والطوع. يعني أنه لا يصح طلاق الكافر كما لا يصح نكاحه، وكذا لا يصح طلاق المجنون ولا طلاق الصبي غير البالغ، وللوصي أن يطلق زوجة الصبي لمصلحة، وكذلك لا يلزم طلاق المكره بشيء مؤلم كالضرب الشديد. وقد ذكرنا في بدر الزوجين ما حاصله واعلم أن الصبي لا يوقع الطلاق بنفسه، وإن وقع منه لم يصح، وكذلك المجنون المطبق، والسكران بالحلال، ولا يصح طلاقهما، وكذا المكره لا يصح طلاقه مطلقاً. وسئل مالك عن طلاق المجنون هل يجوز؟ قال إذا طلق في حال يختنق فيه فطلاقه غير جائز، وإذا طلق إذا انكشف عنه فطلاقه جائز. وسئل عنه أيضاً عن طلاق المعتوه، قال: لا يجوز طلاقه على حال لأن المعتوه إنما هو مطبق عليه ذهاب العقل، والمعتوه والمجنون والمطبق شيء واحد. وسئل ابن القاسم أيجوز طلاق الصبي في قول مالك: قال: قال لي مالك: لا يجوز طلاق الصبي حتى يحتلم اهـ المدونة. وأما السفيه الضعيف العقل فطلاقه جائز نافذ، وكذلك من سكر بحرام اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وإشارة الأخرس به كالنطق " يعني أن الإشارة من الأخرس كنطقه، وتقدم من قول المصنف وإشارة مفهمة لزمه. وقال بعض شراح المدونة: وأما الأخرس فطلاقه جائز اتفاقاً لأنه قادر على الإشارة والكتابة، فإن أشار بما يفهم أو كتب كتاب الطلاق فإنه يلزمه ما نواه وتحمل على ذلك اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ولو ثبت بشهادة عدلين وأختلفا في عدده فقال
أحدهما ثلاثاً والآخر اثنتين أو واحدة لزم ما اتفقا عليه " هذه المسألة لها احتمالان: الأول: يحتمل أن يكون الاختلاف من الزوجين فيكون الحكم كما قال خليل في الخلع: والقول قوله إن اختلفا في العدد، أي في عدد الطلاق كما في شراحه. والثاني: يحتمل أن يكون الاختلاف
من الشاهدين العدلين فيكون المعنى حينئذ إذا طلق رجل زوجته وشهد عليه بذلك عدلان، ثم إنهما اختلفا بينهما في عدد الطلاق قال أحدهما: ثلاثاً وقال الآخر: طلقها اثنتين أو واحدة فيلزم الزوج ما اتفقا عليه وهو الاثنتان على هذا المثال أو واحدة على آخر والأحوط الأخذ بالثلاث. وفي تبصرة القاضي ابن فرحون المدني نحو هذا المعنى، وهي لو شهد هؤلاء الأربعة عليه بلفظة واحدة في مجلس واحد فشهد اثنان أنه قال امرأته طالق ثلاثاً، وقال الأخران بل إنما قال امرأته طالق واحدة أخذ بقول الذين شهدوا على الثلاث، ولا يلتفت إلى خلافهم إذا كانا عدلين اهـ. انظر نظائرها في الباب الحادي والثلاثين من التبصرة.
قال رحمه الله تعالى: " ولو أبانها مريضاً لزمه وورثته وإن مات بعد العدة أو تزوجت " يعني كما في الرسالة، ونصها ولو طلق المريض امرأته لزمه ذلك، وكان لها الميراث منه إن مات في مرضه ذلك أي الذي طلق فيه معاملة له بنقيض قصده، وسواء كانت مدخولاً بها أم لا. قال خليل: ونفذ خلع المريض وورثته دونه، إلى أن قال: ولو تزوجت غيره وورثت أزواجاً وإن في عصمة. وأما لو صح من مرضه صحة بينة ثم مات فلا ميراث لها، كما أن المرأة لو ماتت في زمن مرضه لم يرثها اهـ مع طرف من النفراوي.
ولما أنهى الكلام على الطلاق غير المعلق ولا مقيد بشيء انتقل يتكلم على بيان أحكام التعليق فيه والتنجيز وعدمه وغير ذلك مما يأتي بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى، فقال رحمه الله تعالى:
فَصْلٌ
أي فيما يتعلق ببيان التعليق في الطلاق. قال ابن جزي: والطلاق على نوعين: معجل ومعلق، فالمعجل ينفذ في الحين، وأما المعلق فهو الذي يعلق إلى زمن مستقبل أو وقوع صفة أو شرط، وهو على سبعى أقسام. ثم قال: الأول وعدها سبعة، وذكرها وأمثلتها انظره إن شئت.
قال رحمه الله تعالى: " ينجز بتعليقه على متحتم كطلوع الفجر والشمس ورأس الشهر وهو المشهور في غالب الوقوع كطهر الحائض وعكسه " يعني ينجز
الطلاق إن علقه على شيء محقق الوقوع كطلوع الفجر، أو بزوغ الشمس، أو مجيء رأس الشهر أو السنة أو طهر الحائض وعكسه، هذا لغير آيسة فيقع حالاً حين التعليق لتحقق المعلق عليه غالباً. قال في أقرب المسالك: ونجز في الحال إن علق بمستقبل محقق عقلاً كإن تحيز الجرم، أو إن لم أجمع بين الضدين أو عادة يبلغه عمرهما عادة كبعد سنة، أو يوم موتي، أو قبله بساعة أو إن أمطرت السماء، أو إن لم أمس السماء، أو إن قمت في كل ما لا صبر عنه اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ولو علقه على موته أو موتها فروايتان باللزوم منجزاً أو نفيه " والمشهور من الروايتين اللزوم منجزاً. قال في الجواهر: أو قال: أنت طالق يوم موتي أو موتك فينجز عليه حين قوله: وكذا قبل موتي أو موتك بيوم أو شهر فينجز عليه وقت تعليقه لأنه أشبه نكاح المتعة في جعل حلها إلى وقت يبلغه عمرهما ظاهراً اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " كتعليقه على مشيئة من لا مشيئة له " يعني هذا التشبيه مفرع من قوله: فروايتان باللزوم منجزاً أو نفيه، وتقدم أن المشهور تنجيزه. قال ابن جزي في القوانين: فإن علقه بمشيئة من لا مشيئة له كالبهائم والجمادات فيقع الطلاق في الحين لأنه يعد هازلاً اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ويتنجز بمشيئة الله تعالى " يعني أن من علق طلاق زوجته بمشيئة الله تعالى ينجز عليه الطلاق. قال ابن جزي: الخامس أن يعلقه بمشيئة الله تعالى فيقول: أنت طالق إن شاء الله تعالى فيقع الطلاق ولا ينفع هذا الاستثناء خلاقاً لهما اهـ. قوله لا ينفع إلخ ومثله في الصاوي. ونصه: ولأن مشيئة الله تعالى لا تنفع في غير اليمين بالله كما مر في باب
اليمين. ثم قال: وقد تبع المصنف خليلاً، إلى أن قال: فمحصل الجواب أنه لا يمكن الاطلاع على ذات الله في الدنيا، ولا على تعلق إرادته لأن قدر الله لا اطلاع لأحد عليه ما دامت الدنيا اهـ. فراجعه إن شئت.
ثم قال رحمه الله تعالى: " ويصح استثناء أكثره وأقله لا المستغرق " يعني يصح استثناء أكثر الطلاق كما يصح استثناء أقله. أما الأكثر نحو قوله: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين فيلزمه واحدة، أو قال أنت طالق اثنتين إلا واحدة فكذلك، ومثله أنت طالق إلا نصف أو إلا ربع أو إلا ثلث فيلزمه طلقة واحدة كما تقدم. وأما المستغرق فلا يصح منه الاستثناء.
قال المصنف رحمه الله تعالى " وقوله أنت طالق أربعاً إلا ثلاثاً مستغرقاً " فيلزمه الثلاث على الأرجح باعتبار اللفظ على ما زاد على الثلاث. قال في أقرب
المسالك: واعتبر ما زاد على الثلاث. وقال خليل: وفي إلغاء ما زاد على الثلاث واعتباره قولان: قال الخرشي: يعني أن ما زاد على الثلاث هل يلغى فلا يستثنى منه لأنه معدوم شرعاً، أو هو معتبر فيصح الاستثناء منه، وإن كان معدوماً شرعاً لأنه موجود لفظاً، فإذا قال لها أنت طالق خمساً إلا اثنتين فإن اعتبر ما زاد على الثلاث فيلزمه الطلاق الثلاث لأنه أخرج من الخمس اثنتين وإن لم يعتبر ما زاد على الثلاث فيلزمه طلقة واحدة، فكأنه قال انت طالق ثلاثاً إلا اثنتين، والقولان لسحنون، ورجع للقول باعتبار، واستظهره ابن رشد وابن عبد السلام وتبعه المؤلف يعني خليلاً ومنه يعلم أرجحيته اهـ. ومثله في الإكليل. وقال الدردير: فمن قال أنت طالق أربعاً إلا اثنتين لزمه اثنتان باعتبار لفظه الزائد على الثلاث، أو قال أنت طالق أربعاً إلا ثلاثاً لزمه واحدة كذلك أي باعتبار لفظه الزائد على الثلاث، ومن قال أنت طالق خمساً إلا ثلاثاً لزمه اثنتان باعتبار لفظه الزائد على الثلاث، ومثله من قال أنت طالق ستاً إلا أربعاً لزمه اثنتان كذلك، هذا في جميع الأمثلة الأربعة باعتبار الزائد على
الثلاث. وقيل لا يعتبر الزائد على الثلاث لأنه معدوم شرعاً فهو كالمعدوم حساً، فيلزمه في المثال الأول واحدة أي طلقة واحدة، وفي المثال الثاني ثلاثة، أي وفي المثال فيلزمه طلاق ثلاث لأنه كان استثنى ثلاثاً من ثلاث فيلغى الاستثناء للاستغراق، وكذا في المثال الثالث والرابع أي فيلزمه ثلاثة اهـ. مع زيادة إيضاح. وأما شروط الاستثناء فقد تقدم في باب الأيمان. قال الدردير هنا: وصح الاستثناء بإلا وأخواتها ولو سراً إن اتصل وقصد ولم يستغرق اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ولو علقة في امرأة على نكاحها للزم بالعقد وله نكاحها إلا أن يقول كلما ولو عم لم يلزمه " يعني إن قال كلما تزوجتك فأنت طالق فيقع الطلاق بمجرد عقده إلا بعد ثلاث مرات قبل زوج فلا ينعقد كما تقدم لنا الكلام في هذه المسألة عند قوله: فلو كانت أجنبية فادعى إرادة الأجنبية لزمه إلخ فراجعه إن شئت. أما قوله ولو عم لم يلزمه قال خليل: لا إن عم النساء أو أبقى قليلاً ككل امرأة أتزوجها إلا تفويضاً أو من قرية صغيرة أو حتى أنظرها فعمي أي لم يلزمه الطلاق في جميع ذلك وعبارة الدردير أنه قال: إلا إذا عم النساء في تعليقه كأن قال كل امرأة أتزوجها أو إن دخلت الدار فكل امرأة أتزوجها فهي طالق ثم دخل فلا يلزمه شيء للحرج والمشقة بالتضييق والأمر إذا ضاق اتسع أو أبقى قليلاً من النساء ككل امرأم أتزوجها فهي طالق أو إن فعلت كذا فكل امرأة أتزوجها طالق إلا من قرية كذا وهي أي القرية صغيرة قال أبو الحسن والصغيرة هي التي لا يجد فيها ما يتزوج بها أي ما شأنها ذلك لصغرها بخلاف الكبيرة كالقاهرة أو إلا
تفويضاً لأن نكاح التفويض قليل جداً بالنسبة لنكاح التسمية إلى آخر ما قال في أمثلته فراجعه إن شئت وأشار رحمه الله تعالى في ذلك بقوله: " بخلاف تعليقه بقبيلة أو بلد أو نوع بعينه " أي فيلزمه الطلاق إن تزوج من تلك القبيلة أو ما عطف عليها لجواز تزوجه من غيرها ولما أنهى الكلام على التعليق في الطلاق انتقل يتكلم على أحكام الخلع،
وهو طلاق بعوض غالباً. ويسمى خلعاً وفداء وبراءة. قال بعض المحققين: الخلع لغة الإزالة والإبانة، من خلع الرجل ثوبه أزاله وأبانه عنه. والزوجان كل منهما لباس لصاحبه. قال تعالى:{هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} {البقرة: 187} فإذا فارقها كأنه نزعها عنه. ولما كان في نظير عوض ناسبه أن يسمى بهذا الاسمأكثر من غيره. اهـ والخلع يتنازل به عن الحقوق اللازمة بين الزوجين، وحكمه الجواز كما يأتي في بعض الشراح. قال رحمه الله تعالى:
فَصْلٌ
أي في بيان ما يتعلق بأحكام الخلع، وشروطه كشروط دافع العوض وغيره. قال الله تعالى:{فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت} {البقرة: 229} وثبت من حديث حبيبة بنت سهل الأنصاري أنها اختلعت من زوجها ثابت بكل ما أصدقها، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الموطأ والصحيحين.
قال رحمه الله تعالى: " الخلع طلاق بعوضتبذله هي أو غيرها فيلزم " يعني أن الخلع طلاق يلزم بدفع العوض سواء كان الدافع زوجة أو غيرها كالولي، بشرط أن يكون الدافع حراً رشيداً مكلفاً غير محجور عليه، وبشرط ويشتد أن تكون الزوجة غير مظلومة وإلا رجعت به وبانت عنه. قال في الرسالة: والخلع طلقة لا رجعة فيها وإن لم يسم طلاقاً إذا أعطته شيئاً فخلعها به من نفسه. وفيها أيضاً وللمرأة أن تفتدى من زوجها بجميع صداقها أو أقل أو أكثر إذا لم يكن عن ضرر بها، فإن كان عن ضرر بها رجعت بما أعطته ولزمه الخلع اهـ. وإليه أشار رحمه الله تعالى بقوله: " ويجب دفع العوض إلا أن تبذله لتتخلص من شره فيحرم قبضه ويلزم رده ط يعني يجب دفع ما اتفقا عليه من المال إن لم يكن عن ضرر بها كما في الرسالة. وقال في أقرب المسالك: وشرط باذله الرشد وإلا رد
المال وبانت ما لم يعلق بكإن تم لي أو صحت براءتك فطالق اهـ. قال النفراوي: ومثل دفع العوض لو وقع من المرأة إبراء ولو جهلت ما أبرأت منه، ولا يتوقف على حكم حاكم، وكذا لا يتوقف على كون العوض من الزوجة بل ولو من وليها أو أجنبي، لكن لا يستقر ملك الزوج عليه إلا إذا كان دافعه رشيداً، لا إن كان دافعه سفيهاً أو صغيراً أو رقيقاً فلا يستقر ملكه عليه وإن وقع الطلاق بائناً اهـ. ومثله في الشرنوبي على العزبة.
قال رحمه الله تعالى: " ويصح على الصداق وأكثر وأقل " يعني يصح الخلع بقدر ما أعطاها من الصداق أو أكثر أو أقا منه كما تقدم. قال مالك: لا بأس بأن تفتدي المرأة من زوجها بأكثر مما أعطاها اهـ. وقال أيضاً: من قال لرجل طلق امرأتك ولك ألف درهم ففعل لزم الألف ذلك الرجل اهـ المدونة.
قال رحمه الله تعالى: " وعلى المجهول والغرر، فإن سلم فهو له وإلا لزم الطلاق دونه كالمحرم " يعني أنه يجوز الخلع على الشيء المجهول وعلى الغرر، كما إذا خالعته على ما في هذه الصورة فإذا هي فارغة أو فيها غير متمول، أو على ما في بطن هذه الأمة فيصح الخلع بذلك، فإن سلم الذي وقع به الخلع فهو له وإلا لزم الطلاق البائن دون العوض. وكذا يقع الخلع دون العوض إن وقع بما لا يجوز تملكه لمسلم كالخمر والخنزير. قال ابن جزي: ولا يجوز الخلع إلا بثلاثة شروط: الأول: أن يكون المبذول للرجل مما يصح تملكه وبيعه، تحرزاً من الخمر والخنزير وشبه ذلك، ويجوز بالمجهول والغرر خلافاً لهما إلخ. قال الدردير عاطفاً على الجائزات: وبالغرر كجنين وآبق وغير موصوف، وله الوسط منه. قال الخرشي: يعني أنه يجوز للمرأة أن تخالع زوجها بما في بطن أمتها، ومثله الآبق والشارد والثمرة التي لم يبد صلاحها، وبحيوان وعوض غير موصوف، أو بأجل مجهول، وللزوج عليها الوسط من جنس ما وقعت المخالعة به لا من وسط ما يخالع به الناس، ولا يراعى في ذلك حال المرأة. وإذا انفش الحمل الذي وقع الخلع عليه فلا شيء للزوج لأنه
مجوز لذلك والطلاق بائن. وكذلك يصح الخلع على نفقة حمل إن كان، يعني يجوز للمرأة أن تخالع زوجها على أن تنفق هي على نفسها مدة حملها إن كان بها حمل، فإن أعسرت أنفق هو عليها ويرجع إن أيسرت، ويجوز الخلع بالإنفاق على ولدها منه أو ما تلده مدة الرضاع أو أكثر، ولا تسقط به نفقة الحمل على الأصح لأنهما حقان كالعكس، وكذلك يجوز الخلع على أن تنفق على الزوج أو غيره وإن مع الإرضاع مدة معينة. وكذا يجوز اجتماع الخلع مع البيع وغيره، بخلاف اجتماعه مع النكاح فإنه لا يجوز كما تقدم اهـ مع إيضاح.
قال رحمه الله تعالى: " ومن المريضة إلى قدر ميراثه وقيل قدر ثلثها " يعني يصح الخلع من المريضة إلى قدر ما يرثه منها. وقيل قدر ثلث مالها يوم موتها لا يوم الخلع، فيوقف جميع ما خالعت به إلى موتها لينظر هل هو قدر إرثه أو أقل فيأخذه وما زاد فيرده. قال في أقرب المسالك: ولا يجوز خلع المريضة إن زاد على إرثه منها ورد الزائد، واعتبر يوم موتها ولا توارث اهـ. انظر بقية الأمثلة التي يجوز أن تخلعه بها في المطولات هناك زيادة على ما أتينا به والله أعلم.
ولما أنهى الكلام على ما يتعلق بالخلع انتقل يتكلم على أحكام التفويض بالطلاق وهو التمليك والتخيير والتوكيل فقال رحمه الله تعالى:
فَصْلٌ
أي في بيان تفويض الطلاق للمرأة تمليكاً وتخييراً أو توكيلاً نيابة عن الزوج وفي كل من هذه الأنواع الثلاثة أحكام وشروط وتفصيل كما يأتي. قال العلامة الشيخ عبد الرحمن الجزيري في الفقه: والفرق بين التوكيل وبين التخيير والتمليك أن الوكيل يعمل على سبيل النيابة عن موكله والمملك والمخير يفعلان عن نفسهما لأنهما قد ملكا
ما كان الزوج يملكه. والفرق بين التخيير والتمليك أن التخيير يجعل للمخيرة الحق في إنشاء الطلاق الثلاث وإن لم ينو الزوج بها الثلاث سواء جعله بيد الزوجة أو غيرها، أما التمليك فإنه يجعل للغير الحق في ثلاث راجحاً، ولكن يخص ما دون الثلاث بالنية، فإذا ملك الزوج امرأته الطلاق فطلقت نفسها اثنتين أو ثلاثاً وقال: نويت تمليكها واحدة فإنه يسمع منه بالشرائط الآتية. وأما إذا خيرها وكانت مدخولاً بها فطلقت نفسها ثلاثاً وقال إنني نويت واحدة أو ثنتين فلا يسمع قوله اهـ بتصرف. وبدأ بالتمليك فقال رحمه الله تعالى: " يفوض إلى المرأم طلاقها تمليكاً " يعني كما قال الدردير في أقرب المسالك، ونصه: وللزوج تفويض الطلاق لها أو لغيرها توكيلاً وتمليكاً وتخييراً، فإن وكل نحو وكلتك أو جعلته أو فوضته لك توكيلاً فله العزل إلا لتعلق حقها، وإذا تعلق لها حق فليس له حينئذ عزلها. ثم قال: والتفويض كالجنس تحته ثلاثة أنواع: التوكيل، والتخيير، والتمليك. فالتوكيل جعل إنشاء الطلاق لغيره باقياً منع الزوج منه كما قال ابن عرفة، أي لأن الموكل له عزل وكيله متى شاء، أي قبل إيقاع الفعل لأن الوكيل يفعل ما وكل فيه نيابة عن موكله. والتخيير جعل إنشاء الطلاق ثلاثاً صريحاً أو حكما حقاً لغيره، مثال الحكمي اختارني أو اختاري نفسك، والتمليك جعل إنشائه حقاً لغيره راجحاً في الثلاث، ومن صيغه جعلت أمرك وطلاقك بيدك. انظر ما نقلهبعضهم عن القرافي من تغيير الأحكام بتغيير العرف فهو وجيه كما تقدم.
قال رحمه الله تعالى: " فإن أجابت بقبول أو رد عمل عليه " يعني أن المملكة والمخيرة إذا أجابت بجواب صريح في الطلاق فإنه يعمل به. قال في المتيطية: فإذا لفظ بالتمليك فلا تخلو المملكة من أن تجيب الطلاق في واحدة، أو في البتات، أو بلفظ يدل عليه، أو بجواب يحتمل أن تريد به بعض الطلاق أو كله أو شيئاً غيره أو تسكت عنهفأما إجابتها بصريح الطلاق الثلاث أو بلفظ يدل عليه مثل أن تقول قبلت نفسي،
أو اخترتها، أو أبنتها، أو حرمتها فينفذ عليه إن سكت
أو أنكره ولم يدع نية، ولا تحل له أبداً إلا بعد زوج، ولا يلتفت إلى قولها إنها أرادت به واحدة، وأما إجابتها بلفظ يشكل فلا يدرى أرادت به الطلاق كله أو بعضه أو لم ترد به شيئاً فإنها تسأل، وكذلك إن قالت ـ وهي غير مدخول بها _: خليت سبيلك فإنها تسأل كم أرادت اهـ قاله الحطاب نقلاً عن المتيطية. وأما الرد كذلك يعتبر فيه بقولها أو فعلها فيعمل به سواء كانت المملكة أو المخيرة، كقولها رددت إليه ما جعلته لي أو لا أقبله. 2 قال في أقرب المسالك: وعمل بجوابها الصريح في اختيار الطلاق ورده، كأن تقول طلقت نفسي، أو تقول في رد الطلاق: اخترتك زوجاً ورددت لك ما ملكتني، وقبل تفسيرها برد أو طلاق أو إبقاء لما هي عليه من تمليك أو تخيير فيحال بينهما وتوقف حتى تجيب بصريح وإلا أسقطه الحاكم.
قال رحمه الله تعالى: " وإظهارها بالسرور اختيار وتمكينها رد " يعني أن إظهار السرور يدل على اختيارها الطلاق، كما أن تمكينها نفسها له يدل على ردها والحال أنها عالمة بالتخيير أو التمليك وإن لم يطأ بالفعل، لا إن كانت غير عالمة بما جعله لها، وأما جهل الحكم بإن لم تعلم أن التمكين مسقط لحقها فلا ينفعها، ومثلها الأجنبي فلو ملك أو خير أجنبياً فقال شأنك بها أو خلي بينه وبينها طائعاً فرد. فظهر أن تمكينها له اختياراً رد، كما أن إظهارها السرور اختيار اهـ دردير بتصرف.
قال رحمه الله تعالى: " فإن أوقعت واحدة فلا مقال له، وإن طلقت ثلاثاً فله إنكارها على الفور بشرط إرادة الطلاق وما دون الثلاث وإلا لزم ما أوقعت " يعني كما قال خليل: وناكر مخيرة لم تدخل، ومملكة مطلقاً إن زادتا على الواحدة إن نواها وبادر وحلف إن دخل وإلا فعند الارتجاع اهـ. قال الخرشي: يعني أن الزوج إذا
فوض الطلاق لزوجته على سبيل التخيير قبل الدخول بها فأوقعت أكثر من طلقة فإن له أن يناكرها فيما زاد عليها، بأن يول لها ما أردت إلا طلقة واحدة، وأما بعد البناء فليس له مناكرتها كما يشير إليه بقوله الآتي ولا نكرة له إن دخل في تخيير مطلق. وأما المملكة فله أن يناكرها قبل الدخول وبعده إذا زادت على طلقة اهـ. وقوله في تخيير مطلق أما لو جعل لها عدداً مقيداً كاثنتين في المدخول بها، أو الواحدة في غيرها فلا تحكم إلا بما جعله لها. وعبارة شارح الرسالة أنه قال: فالمملكة لا تخلو حالها من أمرين لأنها إما أن تطلق واحدة أو زيادة عليها، ففي الواحدة لا مناكرة له، وفيما زاد عليها له المناكرة بشروط خمسة، وهي أن ينكر حين سماعه من غير سكت ولا إهمال، وأن يقر بأنه أراد بتمليكه الطلاق، وأن تكون مناكرته في عدده، وأن يدعي أنه نوى واحدة أو اثنتين في حال تمليكه، وأن يكون تمليكه طوعاً، وإن لم يتم هذه الشروط أو بعضها لزمه ما أوقعته المرأة كما ذكر المصتف اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " فإن تفرقا قبل إجابتها أو أبهمت الجواب فله مرافعتها لتجبر على الطلاق أو الإسقاط، فإن أبت أسقطه الحاكم " قال في الرسالة: والمملكة والمخيرة لهما أن يقضيا ما دامتا في المجلس. قال النفراوي أي في المجلس الذي وقع فيه التخيير أو التمليك ما لم توقف أو توطأ فإن تفرقا بأبدانهما من غير قضاء بعد التمكن من الاختيار أو أوقفها قاض أو وطئت أو طال المجلس بحيث خرجا عما كانا فيه سقط ما بيدهما إلا أن يهرب الزوج مريداً قطع ما بيدهما قبل مضي زمان تختار في مثله ولم تختر فإنه لا يسقط خيارها. وما ذكره هو قول مالك الأول الذي رجع عنه وأخذ به ابن القاسم. قال المتيطي: وما أخذ به ابن القاسم به القضاء، وعليه جمهور أصحاب الإمام، والمرجوع إليه أنهما باقيان على ما جعل لهما ما لم يوقفا عند قاض، أو يحصل من الزوج تمكين ولو حصل مفارقة وخروج من المجلس، ومشى عليه العلامة خليل حيث
قال: ورجع مالك إلى بقائهما بيدها في المطلق ما لم توقف أو توطأ. وأخذ ابن القاسم بالسقوط. والحاصل أنهما قولان للإمام والمعتمد منهما المرجوع عنه، وجرى عليه صاحب الرسالة لأن الإمام رجع إليه آخر أمره واستمر عليه إلى أن مات، وإن كان كلام العلامة خليل موهماً عدم الرجوع إليه اهـ. النفراوي، ونحوه في الفقه للعلامة الجزيري، ونصه: هل يسقط حقها إذا قامت من المجلس أو لا؟ خلاف، فبعضهم يقول إذا خيرها تخييراً مطلقاً غير مقيد بالزمان، أو ملكها تمليكاً مطلقاً لا يبقى خيارها أو تمليكها إلا في المجلس الذي خيرها فيه. بحيث لو تفرقا بطل، على أنه إذا لم يتفرقا في المجلس ولكن مضى زمن يمكنها أن تختار فيه ولم تفعل سقط خيارها، وكذا إذا بقيا في المجلس ولكن فعلت ما يدل على الإعراض بطل خيارها، وهو الراجح. وبعضهم يقول لا يبطل تخييرها ولا تمليكها وإن طال الزمن أو تفرقا من المجلس اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " أو تخييراً فاختيارها نفسها مدخولاً بها ثلاث ولا مناكرة له فإن أوقعت دونها لم يلزم، وغير المدخول بها اختيارها واحدة، فإن زادت فله مناكرتها ولو نص على عدد لغا الزائد " يعني أن المخيرة لا تخلو إما أن تخير في العدد أو في النفس، فإن خيرت في العدد فليس لها أن تختار زيادة على ما جعل لها، وإن خيرت في النفس فإن قالت واحدة أو اثنتين لم يكن لها ذلك وبطل خيارها، وإن قالت اخترت نفسي كان ثلاثاً ولا يقبل منها إن فسرته بما دون ذلك. وفي المقدمات: وأما إن قالت أنا طالق فلا تسأل في تخيير ولا تمليك، وتكون واحدة تلزم في التمليك للزوج أن يناكرها اهـ. هذا معنى قول صاحب
الرسالة: وليس لها في التخيير أن تقضي إلا بالثلاث ثم لا نكرة له فيها اهـ. وقد تقدم الكلام في غير المدخول بها عند قول خليل: وناكر مخيرة لم تدخل ومملكة مطلقاً إن زادتا على الواحدة. وأما قوله رحمه الله تعالى:
ولو نص على عدد إلخ يعني كما في الخرشي أن الزوج إذا قال لها: اختاري تطليقتين أو قال لها: اختاري في تطليقتين فاختارت طلقة واحدة فإنه يبطل ما قضت به ويستمر ما جعله لها بيدها كما في الشرح الصغير، وهو مطابق للنقل وما في تت من أنه يبطل ما بيدها ففيه نظر اهـ. وقال الحطاب: مفهوم قوله إن قضت بواحدة أنها لو قضت بأكثر مما عين لها لا يبطل ما لها من التخيير، وهو كذلك إلا أنه لا يلزمه ما عينه ويلغى ما زادته. وقال التتائي في شرحه لهذا المحل: كما إذا قال اختاري تطليقتين أو في تطليقتين فطلقت ثلاثاً ألغي الزائد، ولو قضت بواحدة بطل خيارها اهـ. وقال سيدي الشيخ أحمد زروق في شرحه لهذا المحل أيضاً: كما لو قال اختاري طلقة أو طلقتين فطلقت ثلاثاً ألغي الزائد والله أعلم اهـ. قال الدسوقي: والحاصل أنه إذا قال لها اختاري طلقة فطلقت نفسها أكثر فلا يمين عليه ويلزمه طلقة ويبطل الزائد. وإذا قال لها اختاري تطليقتين فقضت بواحدة بطل ما قضت به مع بقائها على ما جعله لها من التخيير. وأما إذا قال لها ملكتك طلقتين وثلاثاً فقضت بواحدة فلا يبطل ما قضت به. قوله: وبطل ما قضت به أي لا ما جعله لها من الاختيار فإنه مستمر بيدها لأنها لم تخرج هنا عن اختيار ما جعله لها بالكلية بخلاف ما سبق في قوله: وإن قالت واحدة إلخ. وما ذكره الدردير من بطلان ما قضت به فقط تبع فيه عبق. والذي في طفي أن الصواب بطلان ما بيدها إذا قضت بواحدة في اختياري تطليقتين أو في تطليقتين، كالتخيير المطلق إذا قضت فيه بدون الثلاث بعد البناء كما يأتي: قال بن ولم أر ما قاله عبق وهو تابع لشيخه عج اهـ. قوله: لزمه الواحدة أي وبطل الزائد. قوله: وبطل في المطلق إلخ يعني أنه إذا خيرها تخييراً مطلقاً أي عارياً عن التقيد بعدد فأوقعت واحدة أو أثنتين فإن خيارها يبطل ويصير الزوج منها كما كان قبل القول لها على المشهور بشروط ثلاثة: أن يكون تخييرها بعد الدخول بها، وأن لا يرضى الزوج بما قضت به، وأن
لا يتقدم لها ما يتم الثلاث، فإن كان التخيير قبل الدخول وقضت بواحدة لزمت، أو كان بعد الدخول ورضي بما قضت به، أو تقدم لها ما يكمل الثلاث لزم ما قضت به اهـ.
ثم قال رحمه الله تعالى: " أو توكيلاً وله عزلها ما لم تطلق " هذا معطوف على التمليك المتقدم في أول الفصل، يعني يفوض الزوج إلى المرأة طلاقها تمليكاً أو تخييراً أو توكيلاً، وله عزلها إن فوضها على الطلاق توكيلاً لأن للموكل عزل
وكيله متى شاء من زوجة وغيرها قبل إيقاع ما أمر به، إلا لتعلق حق فليس له حينئذ عزلها، كما لو شرط لها أنه إن تزوج عليها فقد فوض لها أمرها أو أمر الداخلة عليها توكيلاً، لأن الحق وهو رفع الضرر عنها قد تعلق لها فليس له عزلها عنه، كما ليس له العزل عن كل وكيل غير الزوجة إذا تعلق له حق في التوكيل اهـ. قاله الدردير وغيره.
ولما أنهى الكلام على التفويض في الطلاق انتقل يتكلم على الإيلاء وأحكامه من ضرب الأجل وشروط الفيئة وغير ذلك مما يتعلق بالمولي وأحكامه، فقال رحمه الله تعالى:
فَصْلٌ
أي في بيان ما يتعلق بأحكام الإيلاء، وهو الامتناع من فعل الشيئ أو تركه باليمين. وقيل مطلق الامتناع، ثم استعمل فيما كان الامتناع منه بيمين. وفي بعض التقاييد الإيلاء بالمد الحلف، وهو مصدر، يقال: إلى بالمد يولي إيلاء، وألى وائتلى أي حلف. والألية بكسر اللام وتشديد الياء، والألوة بفتح الهمزة وضمها وكسرها واللام ساكنة فيهن: اليمين اهـ. قال الله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءو فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} {البقرة: 226، 227} قال مالك في الموطأ: ومن حلف أن لا يطأ امرأته يوماً أو شهراً ثم مكث حتى ينقضي أكثر من الأربعة أشهر فلا
يكون ذلك إيلاء، وإنما يوقف في الإيلاء من حلف على أكثر من الأربعة أشهر، فأما من حلف أن لا يطأ امرأته أربعة أشهر أو أدنى من ذلك فلا أرى عليه إيلاء لأنه إذا دخل الأجل الذي يوقف عنده خرج من يمينه ولم يكن عليه وقف اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " الإيلاء الشرعي الحلف بيمين يلزم بالحنث حكم على ترك وطء زوجته زيادة على أربعة أشهر " يعني الإيلاء الشرعي الذي يعتبر شرعاً هو الحلف بترك وطء الزوجة أكثر من مدة أربعة أشهر للحر، وأكثر من مدة شهرين للعبد، فإذا حلف بترك الوطء في تلك المدة لزمه الحكم بالحنث وطولب بالفيئة عما حلف عليه، فإن فاء فذلك، وإلا فلها رفعه للحاكم الشرعي ليضرب له أجل الإيلاء أربعة أشهر من يوم الحلف، فإن تم الأجل طولب بالفيئة أو الطلاق كما في الحديث. قال ابن رشد في المقدملت: الإيلاء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يكون مولياً من يوم حلف، وقسم لا يكون فيه مولياً إلا من يوم ترفعه امرأته إلى السلطان أو من يقوم مقامه من صلحاء البلد عند فقده وتوقفه، وقسم اختلف
فيه فقيل أنه مول من يوم ترفعه إلى السلطان، فأما الذي يكون فيه مولياً من يوم حلف فهو الذي يحلف على ترك الوطء، فأما الذي لا يكون فيه مولياً إلا من يوم ترفعه فهو الذي يحلف بطلاق امرأنه أن يفعل فعلاً كدخول الدار مثلاً. وأما المختلف فيه فهو الإيلاء الذي يدخل الظهار، انظر تفصيل ذلك في المقدمات كما نقلناه في بدر الزوجين فراجعه إن شئت.
قال رحمه الله تعالى: " فلها مرافعته ليؤجل تمام أربعة أشهر منذ الحلف، فإن فاء وإلا لم يلزمه طلاق بل يوقفه ليأمره بالفيئة أو الطلاق إن اختارته، فإن أبى طلق عليه طلقة رجعية، فإن فاء بعد ارتجاعها، وإلا بانت بانقضاء العدة ". وفي نسخة فلها مراجعته بالجيم، والصواب بالفاء من المرافعة لا من المراجعة، يعني فللزوجة
رفع أمرها إلى الحاكم ليأمره بالفيئة، وتحصل بمغيب الحفشة في قبل الثيب، وافتضاض البكر على وجه مباح وإن لم يفئ أجله تمام أربعة أشهر من يوم الحلف وهو أجل الإيلاء، فإذا تم الأجل أمره أيضاً بالفيئة أو الطلاق، وإن أبى طلق عليه طلقة رجعية إن شاءت المرأة، ثم إن فاء بعد الطلاق وقبل انقضاء العدة له ارتجاعها وتبين عنه بانقضاء العدة. قال في الرسالة: وكل حالف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر فهو مول، ولا يقع عليه الطلاق إلا بعد أجل الإيلاء وهو أربعة أشهر للحر وشهران للعبد حتى يوقفه السلطان اهـ. قال الشارح: قوله حتى يوقفه السلطان أو القاضي ويأمره بالفيئة وهي الرجوع إلى الوطء الذي حلف على تركه فإن وطئ فلا إشكال، وإن وعد به أمهل، واختبر المرة بعد المرة باجتهاد الحاكم، فإن لم يطأ طلق عليه، كما لو لم يعد بالوطء بأن قال بلفظه لا أطأ ولا يتلوم له، فإن ادعى الوطء صدق بيمينه، فإن نكل حلفت المرأة أنه لم يطأ ويطلق عليه الحاكم إن شاءت المرأة بأن يأمرها بطلاقها، فإن لم يطلقها فهل يطلق الحاكم أو يأمرها به ثم يحكم قولان. وتقع عليه رجعية ولو حكم به الحاكم لما اشتهر في المذهب من أن الطلاق على المولي والمعسر بالنفقة رجعي. وفهم مما قررنا أن الطلاق لا يقع على المولي بمجرد انقضاء الأجل المضروب، وأن الحق للمرأة في البقاء والفراق ولو صغيرة أو سفيهة فلها إسقاط حقها في الوطء إلا أن تكون الزوجة أمة يتوقع حملها فلا بد من رضى سيدها عند إرادتها البقاء لأن له حقاً في الولد اهـ. النفراوي. وما ذكره النفراوي من قوله: إن الطلاق لا يقع على المولي بمجرد انقضاء الأجل المضروب وهو كذلك، كما نص المنصف من قوله فإن فاء وإلا لم يلزمه طلاق إلخ. هذا خلاف ما في شرح التسولي على العاصمية، ونصه: ويقع الطلاق إذا انقضى الأجل فيقال له: إما أن تفيء وإلا طلقت، فإن
قال: لا أفيء طلق عليه الحاكم بلا تلوم، وفي عبد الباقي: بعد تلوم، فظهر أنه لا يقع بمجرد انقضاء الأجل إلا بعد التلوم والأمر بالفيئة وإن لم يمتثل فحينئذ يطلق عليه إن شاءت المرأة طلقة رجعية فتأمل.
قال العدوي في حاشية الخرشي نقلاً عن عب: ومن طولب بالفيئة بعد الأجل وأمر بها طلق إن قال: لا أطأ بعد تلوم، فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم أو صالحو البلد إن لم يكن حاكم قاله في الشامل اهـ.
ثم قال رحمه الله تعالى: " وفي تارك الوطء ضراراً روايتان بتأجيله منذ المرافعة وأمره بالفرقة " يعني أن كل من ترك الوطء من غير عذر فإنه ملحق بالمولي هو ما في ابن الحاجب، وهو قول لمالك. والمشهور خلافه، وأنه يطلق عليه بالاجتهاد. قال خليل: واجتهد وطلق في لأعزلن، أو لا أبيتن، أو ترك الوطء ضرراً وإن غائباً أو سرمد العبادة بلا أجل على الأصح اهـ. أي إنه يطلق عليه بلا ضرب أجل الإيلاء، وسواء كان التارك للوطء ضرراً حاضراً أو غائباً. قال التسولي: فإن ترك الوطء مع القدرة عليه تتضرر به الزوجة قصد به ضررها أم لا، وهي مصدقة في تضررها بترط وطئه، كما تصدق أنها خشيت الزنا بترك وطئه إذ كل ذلك لا يعلم إلا منها. وقد علمت أن هذا الحكم جارٍ في الحاضر والغائب وتقدم لنا شيء من هذا في المفقود فراجعه إن شئت اهـ. بحذف.
ولما أنهى الكلام على الإيلاء انتقل يتكلم على ما يتعلق بالظهار وأحكامه فقال رحمه الله تعالى:
فَصْلٌ
في الظهار، أي فيما يتعلق ببيان أحكام الظهار من الأركان والشروط، وما يلزم المظاهرة من الكفارة وغيرها مما يتعلق بذلك. والظهار هو تشبيه الرجل المكلف من تحل له من النساء بمن تحرم عليه تحريماً مؤبداً بنسب أو رضاع أو مصاهرة أو لعان وغير ذلك. وحكمه الحرمة لأنه من الكبائر، لأن الله تعالى سماه منكراً من القول وزوراً وهما حرام إجماعاً.
قال رحمه الله تعالى:
" الظهار تشبيه مباحة بمؤبدة التحريم تشبيه الجملة بالجملة أو البعض بالبعض أو البعض بالجملة ذكر الظهر أو غيره " يعني أن حقيقة الظهار هو تشبيه من يباح وطؤها بمن تحرم عليه تحريماً مؤبداً كالأم والبنت والأخت، سواء كان التشبيه في جملتها أو بعضها كأنت علي كظهر أمي، أو يدك علي كيد بنتي أو أختي أو غيرهن ممن يحرمن عليه. قال ابن جزي في القوانين:
وأركانه أربعة: المظاهر، والمظاهر منها، واللفظ، والمشبه به. فأما المظاهر فكل زوج مسلم عاقل بالغ، وأما المظاهر منها فامرأة المظاهر حرة كانت أو أمة، مسلمة أو كتابية، وعلى المذهب يلزمها الظهار في السرية، وأما اللفظ فقسمان: صريح وكناية، فاصريح ما تضمن ذكر الظهر كقوله: أنت علي كظهر أمي. والكناية ما لم تتضمن ذكر الظهر كقوله: أنت علي كأمي أو كفخذها أو بعض أعضائها والحكم فيها سواء. وأما المشبه به فهي الأم ويلحق بها كل محرمة على التأبيد بنسب أو رضاع أو صهر اهـ. بتصرف.
قال رحمه الله تعالى: " والتشبيه بالأجنبية ظهار عند مالك طلاق عند غيره " يعني أن الرجل يلزمه الظهار بتشبيه زوجته بالأجنبية. فمن قال لزوجته أنت علي كظهر فلانة الأجنبية فإن نوى الظهار لزمه، وإن نوى الطلاق لزمه الثلاث في المدخول بها، وكذا غير المدخول بها ما لم ينو الأقل، فإن قال أنه نوى بقوله: أنت كفلانة الأجنبية الظهار صدق ديانة ويلزمه الظهار فقط في الفتوى، أما في القضاء فإنه يلزمه الظهار والطلاق الثلاث في المدخول بها وفي غيرها، إلا أنه يعامل بنيته في غير المدخول بها إن ادعى أنه نوى أقل من الثلاث، فإذا قضى القاضي بطلاقها ثلاثاً ثم بعد انقضاء العدة تزوجت غيره وعادت له بعقد جديد فإنه لا يحل له وطؤها حتى يخرج كفارة الظهار اهـ. جزيري، قال خليل: وكنايته كأمي أو أنت أمي إلا لقصد الكرامة أو كظهر أجنبية ونوى فيها في الطلاق فالبتات، كأنت كفلانة الأجنبية إلا أن ينويه مستفتٍ اهـ. والفرق بين الصريح من
الظهار وكناياته فيما يوجبه الحكم أن كنايات الظهار إن ادعى أنه أراد به الطلاق صدق إن أتى مستفتياً أو كان قد حضرته البينة، وأن صريح الظهار لا يصدق إن ادعى أنه أراد به الطلاق إذا حضرت البينة، ويؤخذ من الطلاق مما أقر به ومن الظهار بما لفظ به فلا يكون له إليها سبيل وإن تزوجها بعد زوج حتى يكفر كفارة الظهار. وقيل: إنه يكون ظهاراً على كل حال ولا يكون طلاقاً اهـ. ابن رشد، ومثله في الخرشي.
قال رحمه الله تعالى: " وقوله ظهرك كظهر ابني أو غلامي ظهار، فيحرم به الاستمتاع حتى يُكفر " يعني إذا قال الزوج لزوجته أو السيد لأمته ظهرك كظهر ابني أو غلامي وقصد الظهار فإنه يلزمه، فيحرم عليه الاستمتاع بالمظاهر منها بوطء أو مقدماته حتى يكفر. قال الدردير في أقرب المسالك مشبهاً بلزوم البتات: كأنت كفلانة الأجنبية، أو أنت كابني أو غلامي أو غلام زيد، أو ككل شيء حرمه الكتاب، نحو أنت كالخمر، أو كالميتة، أو كالدم، أو لحم الخنزير فيلزمه في ذلك كله البتات، إلا أن ينوي في غير مدخول بها الأقل، والموضوع أنه لم يذكر لفظ
ظهر ولا مؤبدة تحريم، وإلا كان ظهاراً إذا لم ينو به الطلاق كما تقدم، فتكون هذه من كناية الطلاق لا الظهار. قال ابن رشد في المقدمات: صريحه عند ابن القاسم وأشهب وروايته عن مالك أن يذكر الظهر في ذات محرم، وكنايته عند ابن القاسم أن لا يذكر الظهر في ذات محرم، وأن يذكر الظهر في غير ذات محرم قاله الحطاب. وقال في المدونة: وإن قال لها أنت كفلانة الأجنبية ولم يذكر الظهر فهو البتات، أي لم ينو به الظهار فإنه يصدق في الفتيا لا في القضاء كما يدل عليه كلام ابن يونس، فإن لم يكن له نية فبتات. وقال ابن رشد: ولو قال كأبي أو غلامي ولم يسم الظهر لم يكن ظهاراً عند ابن القاسم، حكاه ابن حبيب من رواية أصبغ عنه، وتقدم في الطلاق أنه إن دل البساط على عدم إرادة الطلاق لم يلزمه شيء. وقال الصاوي في الحاشية: تنبيه: لو قال الرجل لامرأته إن وطئتك وطئت أمي، أو لا أعود
لمسك حتى أمس أمي، أو لا أراجعك حتى أراجع أمي، فلا شيء عليه ما لم ينو شيئاً فيؤاخذ بما نواه اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وهي " أي كفارة الظهار " مشروطة بالعود وهو العزم على الوطء، وقيل مع الإمساك " يعني كما في أقرب المسالك: وتجب الكفارة بالعود وهو العزم على وطئها، ولا تجزئ قبله، وتتقرر بالوطء فتسقط إن لم يطأ بطلاقها وموتها ولو أخرج بعضها قبل الطلاق بطل وإن أتمها بعده، فإن تزوجها لم يقربها حتى يكفر اهـ. قال ابن رشد في المقدمات: وقد اختلف في العودة الموجبة على المظاهر الكفارة على ستة أقوال: أحدها: إرادة الوطء والإجماع عليه وهو قول مالك في موطئه أنه إذا أراد الوطء وأجمع عليه فقد وجبت عليه الكفارة وإن مات أو طلقها، والثاني: أنها إرادة الوطء والإجماع عليه مع استدامة العصمة، فمتى انفرد أحدهما دون الآخر لم تجب الكفارة فإن أجمع على الوطء ثم قطع العصمة بطلاق فلم يستدمها، أو انقطعت بموت سقطت الكفارة، وإن كان قد عمل بعضها سقط عنه سائرها، وكذلك إن استدام العصمة ولم يرد الوطء ولا أجمع عليه لم تجب الكفارة، بل لا تجزئه إن فعلها وهو غير عازم على الوطء ولا مجمع عليه. هذا قول مالك في المدونة وعليه جماعة أصحابه، وهو أصح الأقاويل، ولذا اقتصرنا عليه. انظر المقدمات إن شئت.
ثم ذكر رحمه الله تعالى كيفية الكفارة بأنواعها الثلاثة فقال:
" وهي " أي الكفارة المذكورة مرتبة كما قال رحمه الله تعالى: " مرتبة فيعتق رقبة صفتها ما تقدم " أي في كفارة الصيام، فيعتق رقبة مؤمنة كاملة الرق غير معيبة
أي سليمة من العيوب ولا مستحقة العتق بوجه. أو يصوم شهرين متتابعين، فإن قطع لعذر بنى وإلا استأنف. أو يطعم ستين مسكيناً مداً مداً والعدد شرط. انتهى ما ذكره المصنف هناك. وتقدم لنا الكلام في مقدار المد في كتاب الزكاة فراجعه إن شئت.
قال رحمه الله تعالى: " فإن لم يجد صيام شهرين متتابعين، فإن قطع ولو بالاستمتاع بها ليلاً استأنف إلا أن يجد الرقبة فتلزمه، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً على ما قدمناه " أي في كفارة الصيام، إلا أن كفارة الصيام هي على التخييرو أما هنا في الظهار فعلى الترتيب كما هي مقررة. قال أبو محمد في الرسالة: ومن تظاهر من امرأته فلا يطؤها حتى يكفر بعتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب ليس فيها شرك ولا طرف من حرية، فإن لم يجد صيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً مدين لكل مسكين ولا يطؤها في ليل أو نهار حتى تنقضي الكفارة، فإن فعل ذلك فليتب إلى الله عز وجل فإن كان وطؤه بعد أن فعل بعض الكفارة بإطعام أو صوم فليبتدئها ولا بأس بعتق الأعور في الظهار وولد الزنا، ويجزَى الصغير، ومن صلى وصام أحب إلينا اهـ. انظر النفراوي. وقول صاحب الرسالة مدين لكل مسكين خلاف المشهور، والمشهور كما قال ابن الحاجب وخليل وهو مذهب المدونة أن الواجب لكل مسكين مد بمد هشام وهو قدر مد وثلثين من أمداده صلى الله عليه وسلم. ويمكن الجواب عن صاحب الرسالة فيقال: إنه بنى كلامه على القول بأن مد هشام قدر مدين من أمداده صلى الله عليه وسلم، لأن بعض الشيوخ قال: شاهدت بالمدينة مد هشام وحققته فوجدته قدر مدين من أمداده صلى الله عليه وسلم. نقل ذلك خليل في التوضيح اهـ. النفراوي.
قال رحمه الله تعالى: " ولا يجزئ التلفيق ولا يكفر العبد بالعتق " يعني أنه تقدم الكلام لنا في التلفيق وكفارة العبد. وقال النفراوي في الفواكه: علم من كلام المصنف كغيره أن كفارة الظهار كغيرها لا تصح ملفقة كصوم شهر وإطعام ثلاثين مسكيناً. وعلم من كلامه أيضاً ومن نص القرآن أنها من ثلاثة أنواع، لكن في حق الحر. وأما العبد فلا يكفر إلا بالصوم. قال خليل: وتعين لذي الرق ولمن طولب بالفيئة وقد التزم عتق من يملكه لعشر سنين. ومعلوم أنه إنما يصوم إذا قدر على ذلك ولم يكن صومه
يضر بسيده من جهة خدمته إن كان عبد خدمة، أو من جهة خراجه إن كان عبد خراج، وإلا أخر الصوم حتى يقوى عليه ويأذن له، وإن أذن له السيد في الإطعام جاز له التكفير به اهـ. وتقدم في الأيمان قول المصنف ويكفر العبد بالصيام فراجعه إن شئت.
قال رحمه الله تعالى: " ويصح تعليقه على النكاح فإذا عقد لم يجز له الاستمتاع بها حتى يكفر " يعني أن الأجنبية يلحقها الظهار كما يلحقها الطلاق عند
مالك إذا علق ذلك على تزويجها، فإذا قال للأجنبية أنت علي كظهر أمي وقصد به إن تزوج بها أو نوى بذلك فإنه لزمه الظهار بمجرد العقد وتحرم عليه حتى يكفر كفارة الظهار. وفي الموطأ عن مالك بإسناده عن سعيد بن عمرو بن سليم الزرقي أنه سأل القاسم بن محمد عن رجل طلق امرأة إن هو تزوجها، فقال القاسم بن محمد: إن رجلاً جعل امرأة عليه كظهر أمه إن هو تزوجها فأمره عمر بن الخطاب إن هو تزوجها أن لا يقربها حتى يكفر كفارة المظاهر اهـ. وقال في المدونة في الرجل يقول في المرأة إن تزوجها فهي طالق، وهي علي كظهر أمي: إنه إن تزوجها وقع عليه الطلاق والظهار جميعاً، فإن تزوجها بعد ذلك لم يقربها حتى يكفر كفارة الظهار، لإن الطلاق والظهار وقعا جميعاً معاً اهـ.
ولما أنهى الكلام على الظهار وأحكامه انتقل يتكلم على اللعان وما يتعلق به من الأحكام فقال رحمه الله تعالى:
فَصْلٌ
أي في بيان ما يتعلق بأحكام اللعان، وكيفية الشهادات فيه. واللعان هو لغة: الإبعاد والطرد، وشرعاً: هو حلف الزوج على زنا زوجته أو نفي حملها اللازم له. والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع. وأما الكتاب فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ
يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6 - 9] وأما السنة فَلِمَا ثبت في الحديث في شأن عويمر بن أشقر، وقيل: ابن أبيض العجلاني مع زوجته خولة بنت قيس الأنصاري، ولما ثبت من حديث أنس بن مالك قال: إن أول لعان كان في الإسلام أن هلال بن أمية قذف شريك ابن السحماء بامرأته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:«أربعة شهداء وإلا حد في ظهرك» يردد ذلك عليه مراراً. . . الحديث. رواه النسائي ومسلم وأبو داود اهـ. وأما الإجماع، فقد أجمعت الأمة على أن الرجل إذا رأى زوجته تزني، أو نفى عنه حملها ولم تكن عنده بينة واشتكى أحدهما إلى القاضي فإنهما يتلاعنان.
قال رحمه الله تعالى: " اللعان يثبت بين كل زوجين مسلمين بالقذف برؤية الزنا أو بنفي النسب " يعني كما في الرسالة: واللعان بين كل زوجين في نفي حمل يدعى قبله الاستبراء أو رؤية الزنا كالمرود في المكحلة. واختُلف في القذف. وإذا افترقا باللعان لم يتناكحا أبداً. ويبدأ الزوج فيلتعن أربع شهادات بالله، ثم يخمس
باللعنة. ثم تلتعن هي أربعاً أيضاً وتخمس بالغضب كما ذكر الله سبحانه وتعالى. وإن نكلت هي رجمت إن كانت حرة محصنة بوطء تقدم من هذا الزوج أو زوج غيره، وإلا جلدت مائة جلدة، وإن نكل الزوج جلد حد القذف ثمانين، ولحق به الولد اهـ. ولكيفية الشهادات أشار رحمه الله تعالى قال:" فيبدأ الرجل فيقول أربعاً أشهد بالله لقد رأيتها تزني وإني لمن الصادقين وهل يلزمه الوصف كالشهود قولان. ويخمس بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فينتفي عنه الحد والولد " يعني البادي من الزوجين باللعان الزوج في رؤية الزنا ونفي الحمل. وهل يلزمه في الرؤية أن يصف كيفيتها، كما
يلزم ذلك على الشهود قولان. قال الدردير: ولا بد من الرؤية. وقال الصاوي: أي وإن لم يصفها كالبينة. هذا هو المشهور. وقيل: لا يلاعن إلا إذا وصف الرؤية بأن يقول كالمرود في المكحلة. وقد ذكر ابن عرفة الطريقتين وصدر بعدم الاشتراط، وعبر عنه الآبي بالمشهور.
ثم اعلم أنه بتمام لعان الزوج يجب ثلاثة أحكام: أحدهما سقوط نسب الولد. والثاني درء الحد عن الزوج. والثالث رجوعه على المرأة إلا أن تلاعن.
وقال رحمه الله تعالى: " ثم تشهد هي أربع شهادات بالله ما زنيت وإنه لمن الكاذبين، وتخمس بأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " يعني وبتمام لعانها أيضاً ترتب ثالثة أحكام: الأول درء الحد عنها. والثاني فسخ النكاح. والثالث تأبيد حرمتها عليه. وإليه أشار رحمه الله بقوله: " فينتفي الحد ويثبت الفرقة وتحرم أبداً " فحاصل ذلك أن أحكام اللعان، أي ثمرته المترتبة ستة، ثلاثة مترتبة على لعان الزوج كما تقدم: الأول رفع عنه إن كانت الزوجة حرة مسلمة، أو رفع الأدب عنه في الأمة والذمية. والثاني إيجاب الحد أو الأدب على المرأة إن نكلت بعد لعانه. والثالث قطع نسبه من حمل ظاهر أو سيظهر. وثلاثة مترتبة على لعانها: الأول تأبيد تحريمها عليه. والثاني ثبوت فسخ النكاح. والثالث رفع الحد عنها كما تقدم. نقله الصاوي وغيره اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ولا يبدل اللعن بالغضب " يعني أنه لا يجوز تبديل لفظ اللعن والغضب في اللعان، بل لا يجزئ للرجل إن بدل لفظ اللعن في الخامسة بالغضب، وكذا المرأة لا يجزئها إن بدلت لفظ الغضب في الخامسة باللعنة. ومثلهما لفظ أشهد. قال خليل: ووجب أشهد واللعن والغضب. هذه الألفاظ الثلاثة شرط في صحة اللعان. قال: إنما تعين اللعن في خامسة الرجل، والغضب في خامسة المرأة لأن الرجل مبعد لأهله وهي
الزوجة، ولولده الذي نفاه باللعان، فناسب ذلك، لأن اللعن معناه البعد. والمرأة مغضبة لزوجها ولأهلها
ولربها فناسب ذلك التعبير بالغضب اهـ. ومثله في الصاوي: وعبارة الخرشي أنه قال يعني أنه يجب على كل واحد من المتلاعنين أن يقول في كل يمين أشهد بالله، فلو أبدله بأحلف أو أقسم ونحوه لم يجزه، وكذلك يتعين لفظ اللعن في خامسة الرجل لأنه مبعد لأهله ولولده فناسب ذلك، لأن اللعن معناه البعد. ويتعين لفظ الغضب في خامسة المرأة لأنها مغضبة لزوجها ولأهلها ولربها فناسبها ذلك. ولا يجزئ لو أبدل الرجل اللعنة بالغضب أو المرأة الغضب باللعنة اهـ. وعبارة النفراوي أنه قال: لم يذكر حكم أشهد، حكمه الوجوب في حق الناطق، فلا يكفي أحلف ولا أقسم كما يجب لفظ اللعن في خامسة الرجل والغضب في خامسة المرأة اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وليكن بمشهد من المؤمنين بموضع يُعظم " وفي الحطاب: قال القرطبي في سورة النور: اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء: عدد الألفاظ وهي أربع شهادات، والمكان وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلد، إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدون تعظيمه، إن كانا يهوديين فالكنيسة، أو مجوسيين فبيت النار، وإن كان لا دين لهما مثل الوثنيين ففي مجلس حُكمه. والوقت وذلك بعد صلاة العصر. والجمع وذلك بأن يكون هناك أربعة أنفس فصاعداً. فاللفظ وجمع الناس مشروطان. والزمان والمكان مستحبان اهـ. وفي شرح الرسالة: ويجب أن يكون اللعان بحضرة جماعة من الناس أقلهم أربعة، وأن يكون في أشرف أمكنة البلد وهو المسجد إن كانت الزوجة مسلمة، وإن كانت ذمية فتلاعن في كنيستها، وذكر الخرشي عن تقرير أن كونه بأشرف البلد حق لله تعالى، فلو امتنع من ذلك يعد نكولاً. ويستحب تخويفهما قبل الشروع في اللعان بأن يقال
لكل منهما تُبْ إلى الله واعلم أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فإن أحدكما كاذب بلا شك اهـ بتصرف.
قال رحمه الله تعالى: " وأيهما نكل حُد وأقر لكن حد الزوج يقف على كونها يحد قاذفها " يعني أي واحد من المتلاعنين نكل عن اللعان يحد فإن التعن الزوج ونكلت رجمت بشروط آتية، وإن كان الناكل الزوج والتعنت الزوجة فإنه يحد حد القذف بشروط آتية وأقر نكاحهما. وتقدم كلام صاحب الرسالة من قوله: وإن نكلت هي رجمت إن كانت حرة محصنة بوطء تقدم من هذا الزوج أو زوج غيره. ويشترط أيضاً أن تكون كبيرة بالغة عاقلة، وأن تكون ممن يمكن حملها. فلا تحد الصغيرة بل لا يلاعنها إذ لو أقرت بالزنا لم يلزمها شيء. قال
النفراوي: وشرطه إطاقة الزوجة ولو كتابية وغير مدخول بها، لكن البالغة تلاعن كالزوج والمطيقة إنما يلاعن زوجها دونها، وغير المطيقة لا لعان على واحد منهما ولا حد على الزوج لعدم لحوق المعرة اهـ. ويشترط في الكبيرة الناكلة ألا ترجع إلى الحلف، فإن رجعت فلها ذلك كالتي تقر على نفسها بالزنا ثم ترجع عنه فيسقط الحد عنها، بخلاف الزوج إذا نكل ثم أراد أن يرجع فلا يمكن من ذلك على المشهور. ويشترط في حق الزوج ألا يكون صبياً ولو كانت الزوجة بالغة بل لا يلزمه لعان، وإنما يؤدب وإن ظهر بها حمل ينتفي عنه بغير لعان، وعليها الحد. ويشترط في حق الزوج الناكل ألا تكون الزوجة أمة أو ذمية، فإن كانت كذلك فلا حد على الحر المسلم في نكوله، لقول مالك في المدونة: أما الكافرة والأمة فإنه لا يجلد قاذفهما اهـ. وتقدم أنه يلاعن الزوج الحر المسلم ليدفع عن نفسه الأدب إذا رمى زوجته الأمة أو الذمية بالزنا ونفى الحمل بشروط متقدمة. قال مالك في الموطأ: والعبد بمنزلة الحر في قذفه ولعانه يجري محرى الحر في ملاعنته، غير أنه ليس على من قذف
مملوكة حد. والأمة المسلمة والحرة النصرانية واليهودية تلاعن الحر المسلم إذا تزوج إحداهن فأصابها، وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه:{والذين يرمون أزواجهم} [النور: 6] فهن من الأزواج وعلى هذا الأمر عندنا اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ويشترط للنفي الاستبراء وعدم الوطء بعده، ويلتعن هو دونها " يعني يشترط في لعان نفي الحمل أن يدعي استبراء الزوجة قبل ظهور الحمل وعدم الوطء بعده. قال النفراوي: يصح اللعان لنفي حمل بشرط أن يدعَى قبله استبراء ولو بحيضة، ومثل الاستبراء دعواه عدم وطئها بعد وضعها الحمل الأول الذي قبل هذا المنفي، والحال أن بين الوضعين ما يقطع الثاني عن الأول وهو ستة أشهر فأكثر. ويدعى قبله الاستبراء إلى أنه لا يجوز لأحد نفي حمل زوجته لأن الولد للفراش إلا إذا اعتمد على أمر قوي، وأما مجرد شكه في أنه ليس منه مع استمراره على وطئها فلا يحل له نفيه مع إمكان كونه منه، ولا يصح لعانه، ولا يجوز له أن يعتمد في نفيه على عزله ولا عدم مشابهته له، ولا سواده مع كونه أبيض، ولا على كونه كان يطؤها بين فخذيها حيث كان ينزل ولا على وطء بغير إنزال حيث وطئ قبله ولم يبل حتى وطئها لاحتمال بقاء المني في قصبة الذكر اهـ. ثم إنه إذا ادعى الاستبراء وعدم الوطء بعده والتعن فلا يلحق به ما أتت به من ولد إذا كان بين استبرائه ووضعها ستة أشهر، وأما إن كان في أقل من ذلك فإنه يلحق بالفراش ويحمل على وجود الولد في بطنها حال استبرائها لأن الحامل تحيض عند مالك. والشرطان المتقدمان في نفي الحمل بالرؤية، وأما إذا
كان في نفي حمل ظاهر بشهادة امرأتين فيشترط تعجيل اللعان من غير تأخير لوضع الحمل. قال خليل: بلعان معجل كالزنا. وقال بعد ذلك: وإن وطئ أو أخر بعد علمه بوضع أو حمل بلا عذر امتنع اهـ. وأما قول المصنف ويشترط للنفي الاستبراء وعدم الوطء أي إذا استبرأها ولم يطأها وأتت بولد كامل لستة أشهر من يوم الاستبراء فيعتمد في نفيه على استبرائها
كما تقدم، ويلاعن وإن لم يدَّع الرؤية. قال عياض: وهو المشهور، ولا ينتفي الولد بغير لعان. ولا بد من لعان الزوج، وإن نكل حد لقذفه، وإن مات الولد الذي رماها به أو الحمل الذي رماها به. وفائدة اللعان حينئذ سقوط الحد عنه اهـ الخرشي وغيره. وتقدم قوله: فإن ادعت ولادته وادعى التقاطه فالقول قولها، فراجعه إن شئت.
قال رحمه الله تعالى: " فإن وطئ بعده حد للقذف ولحقه كاعترافه به في ادعاء الرؤية للزنا " يعني فإن وطئ بعد الاستبراء ثم نفى الولد باللعان فإنه يحد للقذف ويلحق به الولد، كما لو اعترف في قذفها بالزنا فإنه يحد كذلك. قال خليل: وحد بعدها، أي بعد العدة كاستلحاق الولد أي الملاعن فيه. قال الآبي في الجواهر: فيحد لاعترافه بالقذف. ولا يتعدد حده بتعدد الأولاد المستلحقين بعد لعانه فيهم سواء استلحقهم دفعة أو واحداً بعد واحد، ولو بعد حده للأول لأنه قذف واحد، إلا أن تزني الملاعنة قبل الاستلحاق فحينئذ لا يحد لاستلحاقه لزوال عفتها اهـ بحذف.
قال رحمه الله تعالى: " ولو أكذب نفسه أو استلحقه لحق به وحد ولم تحل " يعني أن الزوج إذا أكذب نفسه بعد اللعان أو قبله، أو استلحق الولد فإنه يلحق به وحد للقذف، فإن كان ذلك قبل أن يلتعن أحدهما فلا لعان ولا فراق، وإن كان بعد تمام لعانهما ثبت الحد والفرقة ولم تحل له أبداً. قال مالك في الموطأ: السنة عندنا أن المتلاعنين لا يتناكحان أبداً، وإن أكذب نفسه جلد الحد وألحق به الولد ولم ترجع إليه أبداً، وعلى هذا السنة عندنا التي لا شك فيها ولا اختلاف. وقال أيضاً في الرجل يلاعن امرأته فينزع ويكذب نفسه بعد يمين أو يمينين ما لم يلتعن في الخامسة أنه إذا نزع قبل أن يلتعن جلد الحد ولم يفرق بينهما اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ويلاعن زوجته الأمة والكتابية لنفي النسب " يعني للزوج أن يلاعن زوجته الأمة أي المملوكة لغيره، وكذلك له أن يلاعن زوجته الحرة
الكتابية لنفي النسب. وتقدم قول مالك أنه قال: والأمة المسلمة والحرة النصرانية واليهودية تلاعن الحر المسلم اهـ. وقال في الحرة التي قذفها زوجها: إنه يلتعن لأن هذا القاذف لهذه الحرة فلا بد من اللعان، وهو في الأمة والمشركة لا
يكون قاذفاً ولا يلتعن إذا قذفها إلا أن يدعي رؤية أو ينفي حملاً باسبراء يدعيه فيقول: أنا ألتعن خوفاً من أن أموت فيلحقني الولد، فهذا الذي يلتعن إذا كانت امرأته أمة أو من أهل الكتاب أو ينفي من حملها إن له أن يلتعن إن أراد أن يلتعن ويحقق قولهعليها لم أمنعه من ذلك، لأن الله تبارك وتعالى قال:{فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} [النور: 6] وإن لم يرد ذلك ذلك لم يكن عليه شيء لأنه لا حد عليه في قذفه إياها اهـ المدونة.
قال رحمه الله تعالى: " وفي القذف بالزنا قولان " يعني أنه اختلف أهل المذهب في اللعان وعدمه في القذف بمجرد دعوى الرؤية بالزنا لا تيقن كأن يقول: إنها زن، أو أنت زنيت، أو زانية. قال في الرسالة: واختلف في اللعان في القذف. وقال خليل: وفي حده بمجرد القذف أو لعانه خلاف. قال الخرشي: يعني أنه إذا قال لزوجته أنت زنيت فقط، أو قال لها: يا زانية فقط ولم يقيد ذلك برؤية زنا ولا بنفي حمل هل يحد ولا يمكن من اللعان، أو يلاعن ولا حد عليه للقذف لعموم آية اللعان، وهي قوله تعالى:{والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} [النور: 6] فلم يذكر فيها رؤية زنا ولا نفي حمل ولا ولد قاله ابن نافع وبعض كبار المتأخرين، والقولان في المدونة اهـ. قال ابن القاسم: يلاعن، والأكثر يحد فقط. قال المصنف: والمشهور الالتعان بمجرد القذف كما يأتي عن قريب اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ويصح من الأعمى لنفي النسب ومن الأخرس إذا فهم منه " يعني أن الأعمى له أن يلاعن زوجته في نفي النسب إذا تيقن وتحقق بأي طريق من طرق العلم بذلك. قال العدوي: فالأعمى يلاعن حتى لرؤية الزنا حيث تيقنه بحس أو
جس، ولا يشترط في وصفه أن يقول كالشهود: رأيت فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة كما تقدم اهـ. وأما الأخرس إذا كان يعقل الإشارة ويفهم الخطاب أو الكتابة ويعلم ما يقوله فإنه يصح لعانه وقذفه عند الأئمة الثلاثة خلافاً لأبي حنيفة. ذكره في كتاب الرحمة. قال خليل: وأشار الأخرس أو كتب سواء كان ذكراً أو أنثى فإنه يشير بما يدل عليه إن كان يحسن الكتابة، وإلا يشير بما يدل على الشهادة باللعان. ويكرر الإشارة أو الكتابة أربعاً كاللفظ على الظاهر اهـ بتصرف.
قال رحمه الله تعالى: " والمشهور الالتعان لمجرد القذف. والله أعلم " يعني أن المشهور من أقوال أهل المذهب الالتعان بمجرد القذف لعموم الآية كما هو قول ابن القاسم في المدونة والله أعلم.
ولما أنهى الكلام على ما يتعلق باللعان وأحكامه انتقل يتكلم على أحكام العدة والاستبراء وما يتعلق بهما من وضع الحمل وبيان الأقراء فقال:
كتاب العدة والاستبراء
أي في بيان ما يتعلق بأحكام العدة والاستبراء، وحكم عدة الحامل والمتوفى عنها زوجها، وحكم عدة الطلاق واللواتي يعتددن بالأقراء أو بالشهور أو السنة. وهو باب مهم عظيم الشأن، مسائله بها يكون صلاح الإنسان في دينه ودنياه، نسأل الله التوفيق إنه ولي ذلك.
والعدة تربص المرأة زماناً معلوماً قدره الشارع علامة على براءة الرحم غالباً، لفسخ النكاح أو موت الزوج أو طلاقه أو فقده. وحكمها الوجوب لقوله تعالى:{ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} [البقرة: 235] والإجماع على ذلك. وأنواعها ثلاثة: أقراء، وشهور، ووضع حمل. وابتدأ رحمه الله تعالى بحكم الحامل فقال:" الحامل يبرئها وضع الحمل ما كان، وضعته مخلقاً أو غير مخلق " يعني أن عدة الحامل وضع حملها سواء في الوفاة أو الطلاق، لقوله تعالى:{وأولات الحمل أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4] قال في الرسالة: وعدة الحامل في وفاة أو طلاق وضع حملها، كانت حرة أو أمة أو كتابية. ويشترط في انقضاء العدة أن ينفصل الولد كله بعد الطلاق أو الموت ولو بلحظة، فلو نزل بعضه وبقي بعض ولو الثلث فلا تنقضي عدتها إلا بانفصاله عنها. قال خليل: وعدة الحامل وضع حملها كله. ويشترط أن يكون الحمل من اعتدت منه، أو يحتمل أن يكون منه كالمتلاعن فيه. وأما المنفي قطعاً كولد الزنا، وما تضعه المعتدة من وفاة الصبي الذي لا يولد له فإن العدة لا تنقضي بوضعه، بل لا بد من ثلاثة قروء، وتعد في الطلاق نفاسها حيضة، وعليها في الوفاة أقصى الأجلين، وهو المتأخر من الوضع أو تمام الأربعة أشهر وعشر في الحرة، أو الشهرين والخمس ليلا في الزوجة الأمة اهـ النفراوي بحذف.
قال رحمه الله تعالى: " وتعتد الحرة الحائل للوفاة أربعة أشهر وعشراً ولو بكراً أو صغيرة أو يائسة " يعني أن عدة الحرة الحائل وهي غير الحامل إذا مات زوجها أربعة أشهر وعشر ولو كانت بكراً أو صغيرة أو يائسة، سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها، مسلمة أو كتابية، لعموم قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم
ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة: 234] الآية. قال في الرسالة: وعدة الحرة من الوفاة أربعة أشهر وعشر، كانت صغيرة أو كبيرة، دخل بها أو لم يدخل، مسلمة كانت أو كتابية اهـ. قال النفراوي: والحاصل أن غير المدخول بها ومثلها المأمونة الحمل إما لصغرها أو يأسها أو كون الزوج لا يولد له تحل بمجرد فراغ الأربعة أشهر وعشر، وكذا غير مأمونة الحمل، ولكن تتم الأربعة أشهر وعشراً قبل مجيء زمن حيضتها، أو لا تتم قبل زمن حيضتها ولكن أتاها الحيض فيها أو تأخر لرضاع. وأما إن تأخر لمرض أو لغير علة، أو استحيضت ولم تتميز فلا بد من الحيضة أو تمام تسعة أشهر تحل، إلا أن تظهر ريبة بعد التسعة فمكث أقصى الأجلين اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وعلى المدخول بها حيضة إلا أن تكون عادة طهرها أكثر من الشهور فتقتصر عليها " يعني لازم على المدخول بها وهي حائل إذا توفي زوجها تربص حيضة في أثناء أربعة أشهر وعشر إلا أن تكون عادتها لا تأتيها إلا بعد أربعة أشهر فتقتصر على أربعة أشهر وعشرة أيام إن لم ترتب وقالت النساء ليس بها حمل فتحل للأزواج. قال ابن جزي: فرع يشترط في المذهب في التي دخل بها وهي في سن الحيض أن تحيض في العدة من الوفاة ولو حيضة واحدة، فإن لم تحض فهي مرتابة فينظر إن كان ارتفاع حيضتها لعذر أو عادة حلت بانقضاء العدة اتفاقاً، وإن كان لغير عذر لم تحل حتى تحيض أو تكمل تسعة أشهر. وقال أشهب وسحنون: تحل بانقضاء العدة وإن لم تحض وفاقاً لهما، وإن كانت تحس شيئاً في بطنها قعدت أكثر من مدة الحمل اهـ. وعبارة
الجزيري في الفقه أنه قال: يشترط لانقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وهي غير حامل بانقضاء أربعة أشهر وعشرٍ شروط أي خمسة، إلى أن قال: والحاصل أن المدخول بها إن توفي عنها زوجها فإنه ينظر أولاً لعادتها في الحيض فإن كانت لا تأتيها الحيضة في مدة أربعة أشهر وعشرة أيام بأن كانت تحيض كل خمسة أشهر مرة وتوفي زوجها وهي في أول طهر انقضت عدتها بأربعة أشهر وعشرة أيام بشرط ألا ترتاب في براءة رحمها، بأن تشعر بحمل أو ترتاب النساء التي تراها، فإن ارتابت فإن عدتها لا تنقضي، فيجب عايها أن تنتظر تسعة أشهر أو حيضة واحدة فتحل للأزواج بأقربهما، فإن لم يزل الارتياب مكثت أقصى مدة الحمل وهي خمس سنين على الراجح: وقيل أربع سنين. وقيل غير ذلك. وأما إن كانت تأتيها الحيضة في أثناء أربعة أشهر وعشرة أيام، فإن
حاضت فيها ولو مرة فإن عدتها تنقضي بانقضاء مدة أربعة أشهر وعشر، وإن لم تحض لسبب مجهول أو لمرض على الراجح فإن عدتها لا تنقضي حتى تحيض، وإلا انتظرت تسعة أشهر، فإن لم تحض وارتابت في الحمل أو ارتاب النساء انتظرت حتى تزول الريبة أو تمضي خمس سنين، وهي أقصى مدة الحمل اهـ بحذف واقتصار.
قال رحمه الله تعالى: " والأمة بشهرين وخمسٍ " أي من الليالي بأيامها. يعني تعتد الأمة من وفاة زوجها بشهرين وخمس ليال ما لم ترتب الكبيرة ذات الحيض بتأخيره عن وقته فتقعد حتى تذهب الريبة اهـ. هذا وتستوي الحرة والأمة في الريبة فتمكث حتى تذهب الريبة إما بحيضة أو بتمام مضي التسعة أشهر. هذا حكم المرتابة بتأخير الحيض في مدخول بها إذا تأخرت حيضتها عن عادتها وكان زوجها ممن يولد له، وأما لو كانت ريبتها بجس بطن فإنها تمكث أقصى أمد الحمل كما تقدم.
قال رحمه الله تعالى: " والكتابية تحت المسلم كالمسلمة " يعني أن الكتابية
إذا كانت تحت المسلم فحكمها حكم المسلمة إذا توفي عنها زوجها فإنها تجبر على أربعة أشهر وعشر ولو لم يدخل بها حيث كانت حرة، وعلى الشهرين وخمس ليال إن كانت رقيقة، هذا هو المشهور. قال المواق من المدونة: طلاق المسلم لزوجته الكتابية كطلاق الحرة المسلمة وتجبر على العدة منه إذا بنى بها طلق أو مات عنها، وإن مات ذمي بعد البناء فلا ينكحها مسلم إلا بعد ثلاث حيض استبراء، وإن مات عنها الذمي أو طلقها قبل البناء فلا عدة عليها وينكحها المسلم إن أحب مكانه اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وقيل بل تُستبرأ بثلاث حيض إن كانت مدخولاً بها وإلا فلا شيء عليها " يعني أن الكتابية إذا توفي عنها زوجها المسلم وأراد أن يتزوجها مسلم غيره فإنها تعتد بثلاث حيض إن كان مدخولاً بها، وإن لم تكن مدخولاً بها لا عدة عليها لكن المشهور ما تقدم من أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر إن أراد المسلم تزوَّج بها أو الكتابي وتحاكموا إلينا. قال الخرشي: يعني أن الذمية الحرة غير الحامل تحت ذمي مات أو طلق وأراد مسلم أن يتزوجها أو تحاكموا إلينا فإن كان دخل بها حلت للمسلم بثلاثة أقراء، وإن لم يكن دخل بها حلت مكانها من غير شيء إجراء لنكاح الكفار مجرى المتفق على فساده. واحترز بقوله: تحت ذمي عما لو كانت تحت مسلم فإنها تجبر على أربعة أشهر وعشر من وفاته دخل بها أم لا، وعلى ثلاثة أقراء من طلاقه إن دخل بها، إما لعموم قوله تعالى: {والذين
يتوفون منكم} وإما لأنه حكم بين مسلم وكافر، وما هذا شأنه يغلب فيه المسلم اهـ. وعبارة الجزيري أنه قال: ثانيها أي ثاني الشروط أن يكون مسلماً، فإذا كان ذمياً تحته ذمية مات عنها وأراد مسلم أن يتزوجها فإن عدتها تكون ثلاثة أشهر إن كانت آيسة من الحيض، وثلاثة أطهار إن لم تكن، وكذا إذا أراد أن يتزوج بها غير مسلم وترافعا إلينا لنقضي بينهما في ذلك، هذا إذا كانت مدخولاً بها وإلا فلا عدة عليها أصلاً اهـ فتحصَّل أن في عدة الكتابية من وفاة زوجها قولين إما بإتمام
أربعة أشهر وعشر جبراً لعموم الآية إن كان المتوفى عنها مسلماً سواء دخل بها أم لا، أراد أن يتزوج بها المسلم أم لا، وإما بثلاثة أقراء إن كان المتوفى عنها ذمياً ودخل بها وأراد المسلم أن يتزوج بها فإنها تحل له بثلاثة أقراء على قول، وللذمي ذلك إن ترافعا إلينا فإن لم يدخل بها فلا عدة عليها أصلاً فتأمل اهـ. وقال في الرسالة: وتجبر الحرة الكتابية على العدة من المسلم في الوفاة والطلاق. قال النفراوي: فتتربص في الوفاة أربعة أشهر وعشراً. وفي الطلاق ثلاثة أقراء أو أشهر إن كانت صغيرة تطيق الوطء أو كبيرة لا تحيض. ومفهوم المسلم أنه لو كان زوجها كافراً لا يكون حكمها كذلك. والحكم أنها إن أراد مسلم أن يتزوجها لا بد لها من ثلاثة أقراء ولو في الوفاة حيث كانت مدخولاً بها، أو ثلاثة أشهر إن كانت صغيرة أو كبيرة وإن لم يكن دخل بها فلا عدة عليها اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وتستبرأ أم الولد لموت سيدها بحيضة وتعتد لموت زوجها قبله كالأمة وبعده كالحرة " يعني أن أم الولد تستبرئ بحيضة الموت سيدها، وتعتد كعدة الأمة شهرين وخمس ليال لموت زوجها قبل موت سيدها، وتعتد كالحرة لموت زوجها بعد موت السيد أربعة أشهر وعشراً، ولها الميراث من زوجها لأنها بمجرد موت سيدها صارت حرة. قال في المدونة: وعدة أم الولد من وفاة سيدها أو عتقه إياها حيضة، فإن قعدت عن الحيض فثلاثة أشهر اهـ ومثله في الموطأ.
قال رحمه الله تعالى: " وتنتقل الرجعية لموت زوجها إلى عدة الوفاة كالأمة المطلقة يموت زوجها بعد عتقها في العدة " يعني أن المطلقة طلاقاً رجعياً تنتقل إلى عدة الوفاة إذا توفي المطلق وهي في عدة منه فإنها تنتقل إلى عدة الوفاة، بخلاف البائن. ومثلها الأمة المطلقة يموت زوجها بعد عتقها وهي في عدة الطلاق فإنها تنتقل عن عدة الطلاق إلى عدة الوفاة. قال الخرشي: لأن الناقل عند مالك هو ما أوجب عدة أخرى، والعتق لا يوجب عدة أخرى، ولهذا لو مات زوج المطلقة طلاقاً رجعياً في أثناء عدتها
انتقلت إلى عدة الوفاة حرة أو أمة كما مر لأن الموت يوجب عدة وكذا لو طلقت الأمة رجعياً ثم أعتقها سيدها ثم مات الزوج قبل انقضاء
عدتها انتقلت لعدة الحرة أربعة أشهر وعشلأن الموجب وهو الموت لما نقلها صادفها حرة فتعتد عدة الحرة للوفاة بعد أن كانت عدتها قرأين، وسواء تقدمت لها حيضة أو لا. ولو كان الزوج مات قبل عتقها فإنها تعتد عدة الأمة لأن الموت لما نقلها لم يصادفها حرة وإنما صادفها أمة لكنها تنتقل عن حيضتين إلى شهرين وخمس ليال اهـ قال ابن جزي في القوانين: وإن طلقت الأمة ثم أعتقت في عدتها بنت على عدة الأمة. وقال الشافعي: تنتقل إلى عدة الحرة اهـ. فظهر لك أن العتق لا يوجب الانتقال من عدة الطلاق إلى عدة أخرى إلا بموت الزوج في عدة طلاقه عند مالك لا بعتقها. قال خليل: ولا ينقل العتق لعدة الحرة. قال الخرشي: يعني أن الزوج إذا طلق زوجته الأمة طلاقاً رجعياً أو مات عنها ثم إنها عتقت في أثناء العدة فإنها لا تنتقل عن عدة الطلاق التي هي قرءان، ولا عن عدة الوفاة التي هي شهران وخمس ليال إلى عدة الحرة التي هي ثلاثة أقراء في الطلاق وأربعة أشهر وعشر في الوفاة إلى آخر ما قررناه فتأمل اهـ وفي الموطأ قال مالك: الأمر عندنا في طلاق العبد الأمة إذا طلقها وهي أمة ثم عتقت بعد فعدتها عدة الأمة لا يغير عدتها عتقها كانت له عليها رجعة لا تنتقل عدتها. قال مالك: ومثل ذلك الحد يقع على العبد ثم يعتق بعد أن يقع عليه الحد فإنما حده حد عبد. قال: والحر يطلق الأمة ثلاثاً وتعتد بحيضتين، والعبد يطلق الحرة تطليقتين وتعتد ثلاثة قروء اهـ.
ثم ينتقل يتكلم على الإحداد فقال رحمه الله تعالى: " وعلى المتوفى عنها الإحداد مدة العدة وهو الامتناع من الطيب والتزين بالحلي والثياب والكحل والحناء " يعني أن الإحداد هو اجتناب المرأة المتوفى عنها زوجها الزينة، فيجب عليها ترك ما تتزين به من يوم الموت سواء كانت كبيرة أو صغيرة، حرة أو أمة، مسلمة أو كتابية. قال في
الرسالة: والإحداد ألا تقرب المعتدة من الوفاة شيئاً من الزينة بحلي أو كحل أو غيره، وتجتنب الصباغ كله إلا الأسود، وتجتنب الطيب كله ولا تختضب بحناء اهـ. أي يجب عليها ترك جميع ذلك من يوم يموت زوجها إلى انقضاء عدتها سواء كانت عدتها وضع حمل أو أربعة أشهر وعشراً، أو كانت مرتابة. قال العدوي: وإن ارتابت فعليها الإحداد حتى تنقضي الريبة وإن بلغت إلى خمس سنين اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ولا تنتقل من منزل الوفاة إلا أن تخاف عورة فتلازم الثاني " يعني كما قال صاحب الرسالة: ولا تخرج من بيتها في طلاق أو وفاة حتى تتم العدة إلا أن يخرجها رب الدار، ولم يقبل من الكراء ما يشبه كراء المثل فلتخرج وتقيم بالموضع الذي تنتقل إليه حتى تنقضي العدة اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وهي أحق بالسكنى من الورثة والغرماء " يعني أن المتوفى عنها زوجها هي أحق بالسكنى من الورثة في بيت الميت، كما أنها أحق بذلك من الغرماء. قال مالك في المدونة: لا نفقة لها في مال الميت، ولها السكنى إن كانت الدار للميت وإن كان عليه دين والدار دار الميت كانت أحق بالسكنى من الغرماء، وتباع للغرماء وتشترط السكنى على المشتري، وهذا قول مالك وإن كانت داراً بكراء فنقد الزوج الكراء فهي أحق بالسكنى اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ولا تخرج إلا لضرورة ولا تبيت بغيره ولا نفقة لها وإن كانت حاملاً " يعني أن المعتدة مطلقاً سواء عدة الوفاة أو عدة الطلاق لا تخرج من منزلها إلا لضرورة، ولا تبيت إلا في بيتها كما في المدونة. والمعنى أي لا تخرج إلى سفر ولو لحج أو زيارة أو تجارة أو تهنئة أو تعزية إلا لضرورة، أما خروجها في حوائجها التي لا بد منها كتحصيل قوت أو ماء ونحوهما فجائز مع الأمن في ذلك الوقت. قال اللخمي: لا بأس أن تخرج قبل الفجر وترجع قبل الغروب. قال بعض العلماء: كلام
اللخمي هو اللائق بعرف الزمان فالمدار على الوقت الذي ينشر فيه الناس لئلا يطمع فيها أهل الفساد اهـ الدردير. وقوله رحمه الله تعالى: " ولا نفقة لها وإن كانت حاملاً " يعني لا نفقة للزوجة في مال زوجها المتوفى عنها وإن حاملاً لانقضائها بموته وصيرورة التركة للورثة وهي منهم. قال في الرسالة: ولا نفقة لكل معتدة من وفاة ولها السكنى إن كانت الدار للميت إلخ كما تقدم. وسئل جابر بن عبد الله عن المرأة الحامل يتوفى عنها زوجها هل لها من نفقة قال لا حسبها ميراثها. وقال ابن شهاب: نفقتها على نفسها في ميراثها كانت حاملاً أو غير حامل اهـ المدونة.
قال رحمه الله تعالى: " ونفقة الطفل من ماله فإن لم يكن له مال أو لم يقبل ثدي غيرها لزمها إرضاعه " يعني أن نفقة الطفل تكون من ماله سواء كان أبوه حياً أم لا فإن كان أبوه حياً ولم يكن للطفل مال وجب على أبيه إنفاقه وإرضاعه ولو بأجرة من الأب. قال في الرسالة: وللمطلقة رضاع ولدها على أبيه ولها أن تأخذ أجرة رضاعها إن شاءت وإن لم يكن للأب مال وللطفل مال فأجرة الرضاع والنفقة في ماله ولو بأجرة تأخذها أمه أو غيرها إن كان يقبل غيرها، وإلا لزم على الأم إرضاعه وأخذها أجرة، وإن لم يكن للطفل مال مع عدم قبوله غير أمه لزمها إرضاعه مجاناً. قال العلامة محمد عليش في الفتاوى نقلاً عن ابن سلمون: وإن مات الأب فإنها ترضعه بأجرة تأخذها من مال الطفل، فإن لم يكن له مال لزمها إرضاعه باطلاً أي مجاناً. هذا في من مات أبوه، ثم قال: وإذا أبت الأم إرضاعه وأرادت دفعه إلى أبيه فإنه لا يؤمر بأخذه حتى يجد من ترضعه اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وأما المطلقة فلا عدة قبل البناء " يعني أن المطلقة قبل البناء فلا عدة عليها لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن
وسرحوهن سراحاً جميلاً} [الأحزاب: 49] المراد بالنكاح هنا مجرد العقد، فإذا عقد على امرأة ولو كانت أمة أو كتابية ثم طلقها قبل البناء ولو طال بين العقد والطلاق فإنها لا عدة عليها ولها المتعة بشرط عدم تسمية الصداق. قال الصاوي في سورة الأحزاب: فالمطلقة قبل الدخول إن سمي لها صداق فلا متعة لها ولا عدة عليها، وإن لم يسم لها صداق بأن نكحت تفويضاً فلا عدة عليها ولها المتعة إما وجوباً كما هو عند الشافعي أو ندباً كما هو عند مالك اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وتعتد الحرة المدخول بها بثلاثة أطهار، وإن طلقها في آخر طهر أو مسها فيه ولو كتابية " يعني أن الحرة المدخول بها عدتها ثلاثة أطهار، وإن كان طلاقها في آخر طهر أو مسها فيه ولو كانت كتابية. قال ابن جزي في القوانين: وعلى المذهب إذا طلقها في طهر كان بقية الطهر قرءاً كاملاً ولو كان لحظة فتعتد به ثم بقرءين بعده، فذلك ثلاثة قروء، فإذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد تمت عدتها، وإن طلقها في حيض لم تحل حتى تدخل في الحيضة الرابعة من الحيضة التي طلقت فيها اهـ. وفي الرسالة: وعدة الحرة المطلقة ثلاثة قروء كانت مسلمة أو كتابية. قال النفراوي: وتحل لغير المطلِّق بأول الحيضة الثالثة إن طلقت في طهر أو الرابعة إن طلقت في حيض أو نفاس، ولكن يستحب لها ألا تتعجل بالعقد بمجرد رؤية الدم الثالث أو الرابع، بل حتى يمضي يوم أو بعضه لعدم الاكتفاء في العدة بأقل من ذلك اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " والأمة بطهرين " يعني وتعتد الأمة بقرءين. قال في الرسالة: والأمة ومن فيها بقية رق قرءان، كان الزوج في جميعهن حراً أو عبداً. قوله في جميعهن أي الحرة والأمة القن ومن فيها بقية رق، كان الزوج لواحدة منهن حراً أو عبداً، لما هو مقرر من أن العبرة في العدة بالمرأة وفي الطلاق بالزوج، والفرق واضح لأن العدة من المرأة والطلاق من الزوج. وفي الموطأ عن مالك أن سعيد بن المسيب كان يقول الطلاق للرجال والعدة للنساء اهـ وقد تقدم الكلام في الأمة والكتابية فراجعه إن شئت.
قال رحمه الله تعالى: " واليائسة والتي لم تحض بثلاثة أشهر فإن طلقها في بعض شهر أكملته ثلاثين من الرابع وفي بعض يوم تلغيه " يعني أما اليائسة والتي لم تحض لصغر فإنهما تكملان ثلاثة أشهر بالأهلة، فإن طلقتا في بعض شهر أكملتاه ثلاثين من الشهر الرابع. وأما إن وقع الطلاق في بعض يوم فإنهما تلغيان بقية اليوم
الذي وقع فيه الطلاق كغيرهما وتبتدئان باليوم الذي بعد يوم الطلاق إن وقع الطلاق بعد الفجر وإلا حسب به كما هو مقرر في المذهب. وإن حاضت التي عمرها دون خمسين سنة في أثناء الأشهر الثلاثة اعتدت بالأقراء كما تقدم كالصغيرة التي يمكن حيضها إذا رأت دماً قبل تمام الأشهر فتعتد بالأقراء كانت حرة أو أمة لكن الحرة تكمل ثلاثة قروء والأمة تحل بقرءين. وأما بنت سبعين سنة فأكثر فليس دمها بحيض قطعاً ولا حاجة فيها إلى سؤال النساء فتعتد بالأشهر الثلاثة. قال في الرسالة: فإن كانت ممن لم تحض أو ممن قد يئست من المحيض فعدتها ثلاثة أشهر في الحرة المسلمة وفي الأمة. قال شارحها: وهذا ما لم تحض في أثناء العدة، وأما لو حاضت فيها ولو لم يبق من الأشهر إلا يوم واحد فإنها تعتد بالأقراء، هذا في الصغيرة التي يمكن أن تحيض اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " والمرتابة بتسعة أشهر فإن حاضت في أثنائها انتظرت الثانية والثالثة كذلك، وإلا استأنفت ثلاثة أشهر، فإن حاضت فكذلك، وإلا حلت " قال ابن جزي في القوانين: وأما المرتابة وهي التي ارتفعت حيضتها، فإن ارتفعت بغير سبب من حمل ولا رضاع ولا مرض فإنها تمكث تسعة أشهر، وهي مدة الحمل غالباً، فإن لم تحض فيها اعتدت بعدها ثلاثة أشهر فكمل لها سنة ثم حلت، وإن حاضت في خلال الأشهر التسعة حسبت ما مضى قرءاً ثم انتظرت القرء الثاني لإتمام تسعة أشهر أيضاً، فإن حاضت حسبت قرءاً آخر وكذلك في الثالث، ولو حاضت قبل تمام سنة ولو بساعة حسبت كل ما مضى قرءاً ثم استأنفت تسعة أشهر، ثم اعتدت بثلاثة بعدها،
وإن حاضت بعد السنة لم تعتبر لأن عدتها قد انقضت بالسنة اهـ. هذا وقد تقدم الكلام على المرتابة عند قوله: وعلى المدخول بها حيضة إلا أن تكون عادة طهرها أكثر من الشهور فتقتصر عليها فراجعه إن شئت.
قال رحمه الله تعالى: " فإن ارتفع برضاع لم تستبرأ إلا بأقراء وبمرض كالمرضع وقيل كالمرتابة " يعني أن التي ارتفعت حيضتها إما أن ترتفع بسبب رضاع أو بمرض وإما بلا سبب، فإن ارتفعت برضاع فتنتظر ثلاثة أقراء بعد فطام ولدها أو موته، فإن كان ارتفاعها بمرض فكذلك أي كالمرضع تعتد بالأقراء. وقيل كالمرتابة فتعتد بأقرب من أحد الأمرين إما ثلاثة قروء وإما سنة البيضاء. قال ابن جزي في القوانين: ولو ارتفع حيضها لرضاع انتظرت الحيض وإن طال الزمان ولا تجزئها الأشهر، وإن ارتفع حيضها لمرض ففيها روايتان إحداهما أنها كالتي ارتفع حيضها بغير سبب، والأخرى أنها كالمرضع اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " والمستحاضة إن كانت مميزة عملت عليه وإلا فسنة "
يعنى كما في المسألة، وعدة المستحاضة أو الأمة المعنى أن عدة الحرة المستحاضة والأمة المستحاضة في الطلاق سنة. قال النفراوي بشرط عدم التمييز، ومثلهما في الاعتداد بسنة من تأخر حيضها بغير سبب أو لمرض. قال خليل: وإن لم تميز أو تأخر بلا سبب أو مرضت تربصت تسعة أشهر ثم اعتدت بثلاثة، فعلم أن كل السنة ليست بعدة، بل تسعة استبراء وثلاثة أشهر عدة، وإن كان المصنف أطلة على كل السنة عدة. وأما إذا ميزت فإنها تعتد بالأقراء لا بالأشهر لأن الدم المميز بعد طهر تام يعد حيضاً قال خليل: والمميز بعد طهر تم حيض كما قدمنا اهـ قال ابن جزي: وأما المستحاضة فإن كانت غير مميزة بين دم الحيض والاستحاضة فهي كالمرتابة تقيم تسعة أشهر استبراء وثلاثة عدة، وإن كانت مميزة ففيها روايتان إحداهما أنها كغير المميزة والأخرى أن تعمل على التمييز فتعتد بالأقراء اهـ.
وتقدم لنا في الحج أحكام المستحاضة إحرامها وطوافها واغتسالها وما تفعل في جميع نسكها مما ينبغي لها في ذلك فراجعه إن شئت.
قال رحمه الله تعالى: " ومن بلغها موت زوجها أو طلاقه فعدتها منذ الموت والطلاق لا البلوغ " يعني أن ابتداء العدة يكون من يوم الموت أو الطلاق. قال في المدونة: وإذا بلغها موت زوجها فعدتها من يوم مات، فإن لم يبلغها ذلك حتى انقضت عدتها فلا إحداد وقد حلت، وكذلك إن طلقت وهو غائب فعدتها من يوم الطلاق إذا أقامت على الطلاق بينة وإن لم تكن على ذلك بينة إلا أنه لما قدم قال: كنت طلقتها فالعدة من يوم إقراره ولا رجعة له في ذلك فيما دون الثلاث. إذا تمت العدة من يوم دعواه، وترثه في العدة من يوم دعواه المؤتنفه ولا يرثها، وإن كان الطلاق بتاً لم يتوارثا بحال ولا يرجع عليها بما أنفقت من ماله بعد طلاقه قبل علمها لأنه قد فرط. قال ابن يونس وأما المتوفى عنها فإنها ترد ما أنفقت من ماله بعد وفاته لأن ماله صار لورثته فليس لها أن تختص منه بشيء دونهم اهـ نقله الحطاب. ومثله في المواق عند قول خليل: وإن انقضت على دعواه وورثته فيها إلخ.
ثم قال رحمه الله تعالى: " وللمبتوتة السكنى، وللحامل نفقتها حتى تضع ولا يثبت بدعواها حتى يظهر فتجعل لها النفقة، فإن انفش فله الرجوع وأكثر مدة الحمل أربع سنين " يعني أن المبتوتة لها السكنى حتى تنقضي عدتها. قال في الرسالة: والسكنى لكل مطلقة مدخول بها. قال الله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} [الطلاق: 6] قال مالك: يعني المطلقات اللائي قد بن من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن فكل بائن من زوجها وليست حاملاً فلها
السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة، لأنها بائن منه ولا يتوارثان ولا رجعة له عليها. قال: وإن كانت حاملاً فلها النفقة
والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها اهـ المدونة. وأما الحامل فلا خلاف في نفقتها وسكناها للآية المتقدمة، ولقوله تعالى:{وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن} [الطلاق: 6] هذا في المطلقة، وأما في الموت فقد تقدم أن لزوجته السكنى ولا نفقة لها وإن حاملاً فتنبه. ولا يرتب في حمل المطلقة إلا بعد ثبوته، وإن لم يثبت فلا شيء لها إن كان الطلاق بائناً، فإن أخذت من نفقة الحمل شيئاً قبل ظهوره فثبت عدمه فإنه يرجع عليها. قال خليل مشبهاً بها في رد ما أخذ: كانفشاش الحمل. قال الحطاب: يعني أن من طلق زوجته فادعت أنها حامل فأنفق عليها ثم ظهر انفشاش الحمل، فإنه يرجع عليها بالنفقة وتردها، وسواء أنفق الرجل من أول الحمل ظاناً أنها تلزمه أو ظهر الحمل فألزم الإنفاق. وقال الخرشي: وهذا هو الراجح، وسواء أخذته بحكم أم لا انظر الحطاب اهـ. وأما قوله: وأكثر مدة الحمل أربع سنين وتقدم الخلاف فيه بين الأربع والخمس. قال خليل: وهل أربعاً أو خمس؟ خلاف. قال ابن جزي: ومن ارتابت بالحمل لثقل بطنها أو تحركه لم تحل حتى تنقضي مدة الحمل وهي خمسة أعوام في المشهور. وقيل أربعة وفاقاً للشافعي. وقيل سبعة. وقال أبو حنيفة عامان اهـ. وبذلك تعرف أن فيه اختلاف العلماء. قال ابن عاصم في تحفة الحكام مبيناً فيما اشتهر في المذهب:
وخمسة الأعوام أقصى الحمل
…
وستة الأشهر في الأقل
اهـ. ولما أنهى الكلام على مسائل العدة انتقل يتكلم على الاستبراء فقال رحمه الله تعالى:
فَصْلٌ
أي في بيان ما يتعلق بالاستبراء من الحكام بتجدد الملك في الأمة. قال رحمه الله تعالى: " تجديد الملك يوجب الاستبراء " يعني أن الاستبراء واجب على الإمام كوجوب العدة على الحرائر لحفظ الأنساب، وذلك بانتقال الملك إما ببيع أو إرث
أو سبي أو هبة أو صدقة أو غير ذلك. وهو كشف عن حال الرحم ليعلم المالك الثاني هل هي بريئة من الحمل أو مشغولة به. قال ابن رشد في المقدمات: استبراء الإماء في البيع واجب لحفظ النسب، فوجب على من انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو بأي وجه من وجوه الملك ولم يعلم براءة رحمها ألا يطأها حتى يستبرئها رفيعة كانت أو وضيعة اهـ. وما ذكره ابن رشد من قوله لا يطأها حتى يستبرئها أصله قوله عليه الصلاة والسلام في سبايا أوطاس:(لا توطأ حامل حتى تضع حملها، ولا ذات حمل حتى تحيض) اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " الحامل بالوضع، وذات القرء بالأقراء، واليائسة
بثلاثة أشهر، والمرتابة بتسعة، والمملوكة في عدة بانقضائها إلا من تتيقن براءتها " يعني أن استبراء الأمة الحالم وضع حملها كله كما تقدم في العدة، وتستوي الحرة والأمة في انقضاء العدة والاستبراء بالوضع بشروطه المتقدمة. وأما ذات القرء فينقضي استبراؤها بحيضة في انتقال الملك، والحرة بثلاثة قروء إلا في الزنا واللعان والردة فبحيضة فقط. قال الناظم:
والحرة استبراؤها كالعدة
…
لا في لعان أو زنا أو ردة
فإنها في كل ذي تستبرا
…
بحيضة فقط كفيت الضرا
ويشترط في انقضاء المدة بحيضة لغير المستثنى منهن عدم الارتياب، فإن ارتابت فبتسعة أشهر سواء كانت حرة أو أمة. رواه ابن وهب عن مالك. ونقل عنه أيضاً أن الأمة إذا مضى لها ثلاثة أشهر ودعيت لها القوابل فقلن لا حمل بها فإن استبراءها قد انقضى وأن لسيدها أن يطأها. قال أشهب: هذا أحب إلي لأن رحمها يبرأ بثلاثة أشهر كما يبرأ بتسعة أشهر لأن الحمل يتبين في ثلاثة أشهر، وذلك الذي حمل كثيراً من أهل العلم على أن جعل استبراء الأمة إذا كانت لا تحيض أو قد يئست من المحيض ثلاثة أشهر، وكذا الحكم في من استثنى إن نابت ولم تحض فيكتفي منها بثلاثة أشهر اهـ المدونة بطرف
من شراحها. وأما قوله: والمملوكة الخ قال مالك في المدونة: من ابتاع أمة وهي في سنتها من وفاة أو طلاق فلا يجردها لينظر منها عند البيع ولا يتلذذ منها بشيء إن ابتاعها حتى تنقضي عدتها، وأخذ به ابن نافع اهـ، وأما اليائسة سواء كانت أم ولد أو غيرها في انتقال الملك فثلاثة أشهر، وكذلك التي تأخرت حيضتها عن عادتها بلا سبب أو بسبب رضاع أو مرض أو استحيضت ولم تميز فإنها تمكث ثلاثة أشهر من يوم انتقال الملك، وينظر لها النساء ولو واحدة، فإن لم ترتب حلت، وإن ارتابت بجس بطن فتمكث تسعة أشهر، فإن زالت الريبة حلت وإلا مكثت أقصى أمد الحمل اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ومن وطئ أمة لم يبعها حتى يستبرئها، فإن اتفقا على استبراء واحد جاز " يعني لا يجوز لمن وطئ أمته أن يببعها قبل أن يستبرئها مخافة أن تكون حاملاً منه فترد به. وأما إن كانت عند رجل أمين وقد حاضت عنده ثم اشتراها من سيدها جاز له وطؤها. قال في الرسالة: ومن هي في حيازته وقد حاضت عنده، ثم إنه اشتراها فلا استبراء عليها إن لم تكن تخرج اهـ. وعبارة المدونة: قال مالك: لو أن رجلاً اشترى جارية فوضعها فكانت على يدي رجل لتستبرئ له فحاضت فسأله الذي وضعت على يديه أن يوليه إياها ولم تخرج من يديه كان ذلك له استبراء في شرائه يطؤها ويجزئه الاستبراء عنده اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " فلو ردها لفساد عقد أو خيار استحب للبائع استبراؤها " يعني أن المشتري لو رد الأمة إلى بائعها لأجل فساد البيع أو ردها في بيع الخيار فيستحب للبائع أن يستبرئها قبل وطئها، هذا ما لم يغب المشتري عليها وإلا وجب على البائع استبراؤها. قال خليل: ويستحسن إن غاب عليها مشتر بخيار له، وتؤولت على الوجوب أيضاً. قال المواق في المدونة: من ابتاع جارية بخيار واختار الرد من له الخيار فلا استبراء على البائع لأن البيع لم يتم فيها، وإن أحب البائع أن يسبرئ التي غاب
عليها المشتري وكان الخيار له خاصة فذلك حسن، إذ لو وطئها المبتاع كان ذلك مختاراً وإن كان منهياً عنه اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وبإقالة يجب استبراؤها " وهي رد المبيع للبائع ورد الثمن للمشتري على وجه المعروف بمثل ما وقع فيه البيع. قال الدردير: والإقالة بيع إلا في طعام المعاوضة والشفعة والمرابحة ستأتي في البيوع. والمعنى: إذا رد المشتري الأمة للبائع وجب عليه استبراؤها بحيضة.
قال رحمه الله تعالى: " فإن باعها قبل استبرائها فوطئها المشتري كذلك فأتت بولد لأكثر من ستة أشهر حكم فيه بالقافة " يعني أن من باع الأمة قبل أن يستبرئها فوطئها المشتري ولم يستبرئها أيضاً فأتت بولد لأكثر من ستة أشهر من وطء المشتري فالحكم فيه ما حكمته القافة كما في المدونة. وقد أجاد ابن رشد وأطنب في شرحها فقال في المقدمات: فصل فإن اشترى الرجل أمة فوطئها قبل أن يستبرئها فعليه العقوبة الموجعة مع طرح الشهادة، فإن حملت فماتت قبل أن تضع وقد كان البائع وطئها في ذلك الطهر فمصيبتها منه كان موتها لأقل من ستة أشهر من يوم وطئها المشتري أو لأكثر منها ما بينها وبين ما يلحق به الأنساب من الأول، وإن لم يكن البائع وطئها في ذلك الطهر فمصيبتها من المبتاع. قال: فإن لم تمت ووضعت فلا يخلو وضعها من أن يكون لأقل من ستة أشهر أو لأكثر منها، فإن كان لأقل من ستة أشهر والبائع مقر بالوطء في ذلك الطهر فالولد ولده والأمة أم ولد له، سقطاً كان الولد أو تماماً، حياً كان أو ميتاً وأما إن كان البائع منكراً للوطء في ذلك الطهر فالولد ولد الأمة لا والد له، والمشتري بالخيار إن شاء أن يأخذها وإن شاء أن يتركها، لأن ذلك عيب فيها. وهذا إذا ولد حياً أو ميتاً تام الخلقة لا يشبه أن يكون من المشتري. وأما إن وضعته سقطاً يشبه أن يكون من المشتري فهو منه وهي أم ولد له، وأما إن أتت به لستة أشهر فصاعداً أو مقدار نقصانها
بالأهلة والبائع مقر بالوطء في ذلك الطهر فلا يخلو ذلك من وجهين أحدهما أن تكون وضعته حياً والثاني أن تكون وضعته ميتاً أو سقطاً فأما إن كانت وضعته حياً فإنه
تدعى له القافة فمن ألحقوه به منهما لحق به، وكانت الأمة أم ولد له، وهذا إذا لم يدعيا الولد وأما إن ادعياه جميعاً فإن الأمة تكون معتقة منهما جميعاً ويرجع المشتري بنصف الثمن على البائع، وأما إن كان ميتاً أو سقطاً ففي ذلك اختلاف.
روى أصبغ عن ابن القاسم أنه من المبتاع وأن الأمة أم ولد له. قال يحيى بن سعيد في المدونة: يعتق عليهما جميعاً. والأظهر أن يلحق بالبائع وتكون الأمة أم ولد له. وأما إن كان البائع منكراً للوطء فالأمة أم ولد للمبتاع وولدها لاحق به. وقد قيل إن الولد للأول والأمة أم ولد منه إن ولدته حياً لأكثر من ستة أشهر ولا تدعى له القافة لأن فراش الأول صحيح وفراش الثاني فاسد. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) وأجمعوا لهذا الحديث أن الزوجين إذا وطئا في طهر واحد أن الولد للأول، وإن أتت به لستة أشهر لصحة فراشه. ولا فرق بين الموضعين اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ولستة من وطء الأول يلحق به " هذه الجملة من تمام التي قبلها. قوله ولستة الخ وفي نسخة أخرى ولسنة بالنون الموحدة وهي تصحيف من بعض النساخ. والمعنى: إن أتت بولد لستة أشهر من وطء الأول وهو البائع يلحق الولد به، ولو أتت به لأكثر من ستة أشهر لصحة فراشه، وإليه أشار ابن رشد بقوله: وقد قيل إن الولد للأول والأمة أم الولد منه إن ولدته حياً لأكثر من ستة أشهر، ولا تدعى له القافة لأن فراش الأول صحيح، وفراش الثاني فاسد إلى أخر ما تقدم. وفي عبارة من المدونة أيضاً: لو أن رجلين وطئا أمة بملك اليمين في طهر واحد، أو تزوج رجلان امرأة في طهر واحد وطئها أحدهما بعد صاحبه ثم تزوجها الثاني وهو يجهل أن لها زوجاً فجاءت بولد فقال ابن القاسم: أما إذا كان ذلك في ملك اليمين فإن مالكاً قال يدعى لها القافة
قال: وأما في النكاح فإذا اجتمعا عليها في طهر واحد فالولد للأول لأنه بلغني عن مالك أنه سئل عن امرأة طلقها زوجها فتزوجت في عدتها قبل أن تحيض فدخل بها زوجها الثاني فوطئها واستمر بها الحمل فوضعت قال: قال مالك: الولد للأول، وإن كان تزوجها بعد حيضة أو حيضتين من عدتها فالولد للآخر إن كانت ولدته لتمام ستة أشهر من يوم دخل بها الآخر، فإن كانت ولدته لأقل من ستة أشهر فهو للأول اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ولا يحكم بالقائف في ولد زوجة ولا ميت ولا اعتبار بشبه غير الأب " يعني أنه لا يدعي القائف في ولد امرأة متزوجة لأنه ولد على فراش أبيه، وهو ثابت النسب، ومثله الذي ولدته التي في العصمة بعد وفاة زوجها فلا يدعى له القائف لأنه يلحق بفراش الميت ولا يعتبر بشبه غير أبيه لأنه
ظن، وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً. قال خليل في باب اللعان: ولا يعتمد فيه على عزل ولا مشابهة لغيره وإن بسواد اهـ. وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أواق؟ قال: نعم، قال: فأنى كان ذلك؟ قال: أراه عرق نزعه، قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق) اهـ. قال ابن عبد السلام: ففهم الأئمة من هذا الحديث أن المشابهة لا يعتمد عليها في اللعان، وأنها لا تصلح مظنة في ذلك ولا علة اهـ.
ولما أنهى الكلام على الاستبراء في الإماء وما يتعلق بذلك انتقل يتكلم على النفقات وما يتعلق بها ممن تلزمه، وعلى من ينفق عليه فقال رحمه الله تعالى:
فَصْلٌ
أي في بيان النفقة. وتقدم بعض الكلام فيها عند قول المصنف: وتلزم النفقة بالدخول، أي بالزوجة، والمراد بالنفقة هنا نفقة غير الزوجة من، كأبوين والأولاد الصغار الذين لا مال لهم بأن كانوا فقراء فيجب على الولد الموسر إنفاق والديه، وكذلك يجب على الأب الموسر أن ينفق على أولاده. وبدأ بنفقة الوالدين اهتماماً بشأنهما فقال رحمه الله تعالى:" تلزم الموسر نفقة أبويه المعدمين العاجزين عن الكسب ولو كافرين " قال ابن جزي: ولا يشترط عجزهما عن الكسب. يعني ومتى كانا فقيرين وجب الإنفاق عليهما. قال أبو محمد في الرسالة بعد أن ذكر نفقة الزوجة: وعلى أبويه الفقيرين. قال خليل في المختصر: وبالقرابة على الموسر نفقة الوالدين المعسرين سواء كانا مسلمين أو كافرين، وسواء ذلك الشخص ذكراً أو أنثى صغيراً أو كبيراً لأن النفقة من باب خطاب الوضع. قال النفراوي: والضابط أن المطالب بالنفقة إن كان زوجاً اشترط بلوغه ويساره كما تقدم، وإن كان قريباً أو مالكاً لا يشترط فيه بلوغه اهـ. وفي القوانين لابن جزي: إنما تجب على الإنسان نفقة أبويه وأولاده بعد أن يكون له مقدار نفقة نفسه. ولا يباع عليه عبده ولا عقاره في ذلك إذا لم يكن فيها فضل عن حاجته ولا يلزمه الكسب لأجل نفقتهم اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وإعفاف الأب ونفقة زوجته وزوج الأم إن أعسر لا إن تزوجته عديماً " قوله: وإعفاف الأب معطوف على نفقة أبويه. يعني يلزم الولد الموسر إعفاف أبيه المعدم بزوجة، كما لزمه نفقتها ونفقة زوج الأم إذا كانت متزوجة بمعسر وهو موسر. ولا نفقتها عن ولدها ما دام زوجها معسراً. وتقدم نص المدونة عند قول المصنف: ويثبت خيارها بعسرين لا إن تزوجته عالمة
بفقره، فراجعه إن شئت. قال
النفراوي في الفواكه: كما يلزم الولد الموسر نفقة أبويه الفقيرين يلزمه نفقة خادمهما. كذا يلزمه إعفاف أبيه بزوجة فلا يلزمه شراء أمة ولا أكثر من زوجة إلا إذا لم تعفه زوجة. قال: وإذا تعددت زوجة الأب لم يلزمه إلا نفقة زوجة واحدة يختارها الأب، إلا أن تكون إحداهن أمه فينفق عليها دون غيرها. قال خليل: ولا تتعدد إن كانت إحداهما أمه على ظاهرها، بل ينفق على أمه فقط حيث كانت تعفه وإلا تعددت على الولد: الأم ينفق عليها بالقرابة والأخرى بالزوجية، فلو لم يقدر إلا على الإنفاق على واحدة فالزوجية، والقول للأب فيمن ينفق عليها الواحدة حيث لم تكن إحداهما أمه وطلب الأب النفقة على من نفقتها أكثر وإلا تعينت الأم ولو كانت غنية، لأن النفقة هنا للزوجية لا للقرابة اهـ بحذف.
قال رحمه الله تعالى: " وصغار الأولاد الفقراء، الذكر حتى يبلغ صحيحاً عاقلاً، والأنثى حتى تلزم الزوج ولا تعود بخلوها إلا أن تكون صغيرة " يعني يلزم على الأب الموسر نفقة أولاده الصغار الذين لا مال لهم. قال أبو محمد في الرسالة عاطفاً على نفقة الأبوين الفقيرين: وعلى صغار ولده الذين لا مال لهم، على الذكور حتى يحتلموا ولا زمانة لهم، وعلى الإناث حتى ينكحن ويدخل بهن أزواجهن، ولا نفقة لمن سوى هؤلاء من الأقارب اهـ. قال ابن جزي فيمن تلزم لهم النفقة: أولاد الصلب تجب نفقتهم على والدهم بشرطين: أن يكونوا صغاراً، وألا يكون لهم مال. ويستمر وجوب النفقة على الذكر إلى البلوغ، وعلى الأنثى إلى دخول الزوج بها، فإن بلغ الذكر صحيحاً سقطت نفقته عن الأب، وإن بلغ مجنوناً أو أعمى أو مريضاً بزمانة يمتنع الكسب معها لم تسقط نفقته بالبلوغ على المشهور، بل تستمر. وقيل تنتهي إلى البلوغ كالصحيح، ولو بلغ صحيحاً فسقطت نفقته ثم طرأ عليه ما ذكر لم تعد النفقة خلافاً لابن الماجشون وإن طلقت البنت بعد سقوط نفقتها لم تعد على الأب إلا إن عادت وهي غير بالغة كما في المدونة اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ونفقة الأرقاء كفايتهم بالمعروف أو بيعهم أو عتقهم، ولا يكلفون من العمل ما لا يطيقون " يعني يلزم السيد نفقة عبيده بقدر كفايتهم بالمعروف كما يلزم عليه أكفانهم إذا ماتوا، فإن لم يقدر على الإنفاق عليهم أمر بالبيع أو العتق، وإن فعل فذاك، وإلا بيع عليه ولا يكلف عليهم من العمل ما لا يطيقون كما ورد في الموطأ. وفي البخاري عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) الحديث. قال تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] قال في الرسالة: يترفق بالمملوك ولا يكلف من العمل ما لا يطيق. قال ابن جزي: وعلى السيد النفقة على عبيده ذكرانهم وإناثهم بقدر الكفاية على حسب العوائد فإن لم ينفق على عبده بيع عليه اهـ. وفي أقرب المسالك: ويجب على المالك نفقة رقيقه ودوابه، وإلا أخرج عن ملكه كتكليفه من العمل ما لا يطيق إن تكرر اهـ. قال خليل: إنما تجب نفقة رقيقه ودابته إن لم تكن مرعى وإلا بيع اهـ. وإليه أشار الناظم رحمه الله تعالى بقوله في أسهل المسالك:
أنفق على الرقيق والدواب
…
إن لم يكن مرعى على الإيجاب
ومن أبى قهراً عليه فليبع
…
كحمل أو تكليف ما لم يستطع
وينفق الأب على الابن إلى
…
بلوغه حراً بكسب عقلاً
ولدخول الزوج بالأنثى كما
…
يدعى له مطيقة محتلما
والأبوان المعسران ينفق
…
عليهما الابن بيسر يرفق
وزوجة لبالغ إن مكنت
…
مطيقة لا مشرف أو أشرفت
ولو لحج سافرت أو مرضت
…
أو حبسته أو له قد حبست اهـ
وقد تقدم جميع ذلك فراجعه إن شئت.
قال رحمه الله تعالى: " وعلوفة الدواب أو رعيها أو بيعها فإن أبى بيع عليه " يعني كما قال الصاوي: إن نفقة الدابة إذا لم تكن مرعى واجبة ويقضى بها، لأن تركها منكر خلافاً لقول ابن رشد القائل يؤمر من غير قضاء، لكن القضاء بالنفقة أو البيع أو الذبح فيما يذبح هو أصوب. قاله بعضهم، كما نقله زروق على الرسالة. وفي الحطاب قال أبو عمر: ويجبر الرجل على أن يعلف دابته أو يرعاها إن كان في رعيها ما يكفيها، أو يبيعها أو يذبح ما يجوز ذبحه، ولا يترك يعذبها بالجوع، قلت: ولازم هذا القضاء عليه لأنه منكر وتغيير المنكر واجب القضاء به، وهذا أصوب من قول ابن رشد اهـ.
ثم قال رحمه الله تعالى: " ولا تلزم الأم نفقة ولدها ولو يتيماً، وعليها إرضاعه ما دامت زوجة أبيه " يعني أن الأم لا تلزمها نفقة ولدها، وعليها إرضاعه ما دامت زوجة لأبيه. وتقدم الكلام في هذه المسألة عند قوله: ونفقة الطفل من ماله، فإن لم يكن له مال أو لم يقبل ثدي غيرها لزمها إرضاعه، فراجعه في كتاب العدة إن شئت.
قال رحمه الله تعالى: " فإن كانت لا ترضع لشرف أو مرض أو قلة لبن فعلى الأب إلا لفقره أو لا يقبل ثدي غيرها فيلزمها " يعني أن المرأة إن كانت شريفة لا ترضع ولدها لشرفها، أو هي مريضة لا قدرة لها على الإرضاع، أو لقلة لبنها فواجب على الأب أن يأتي له بمرضعه ترضعه ولو بأجرة إلا إذا كان الأب فقيراً ولا مال للطفل أو لا يقبل ثدي غير أمه فيلزم الأم إرضاعه على حسب ما يأتي من الخلاف. قال العلامة الشعراني في الميزان: ومن ذلك قول الأئمة الثلاثة أن الأم لا تجبر على إرضاع ولدها بعد سقيه اللبن إذا وجد غيرها، مع قول مالك: إنها تجبر ما دامت في زوجية أبيه إلا أن يكون
مثلها لا يرضع لشرف أو عذر أو يسار اهـ. وفي الفتاوى للشيخ محمد عليش نقلاً عن ابن سلمون: ويلزم الأم إرضاع ولدها إلا أن تكون مريضة أو غير ذات لبن أو شريفة لا يرضع مثلها فيكون على الأب أن يأتي لها بمن يرضعه اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " أما المطلقة فلا يلزمها إلا أن لا يجد من ترضعه أو لا يقبل ثدي غيرها فإن استأجر له فأمه أحق " قال ابن سلمون: فإن طلقها الأب فإنه يؤدي لها أجرة الرضاع على قدر حاله في العسر واليسر، فإن لم ترض بما فرض لها كان للأب أخذه يدفعه لمن ترضعه، فإن لم يقبل غيرها أو كان الأب معسراً لا يقدر على أجرة كان عليها إرضاعه باطلاً، وإن كان موسراً ووجد من ترضعه بأقل من الأجرة المفروضة عليه فهل عليه أخذه أم لا في ذلك قولان اهـ. يعني كما تقدم فإن كانت الأم مطلقة فلا يلزمها إرضاعه لخروجها عن عصمة الزوج أبي الولد إلا إن لا يجد الأب من لا ترضع له ولده، أو لا يقبل ثدي غير أمه فتجبر وعليها إرضاعه بأجرة من مال الولد إن كان له مال، أو من مال الأب كذلك، أو من بيت مال المسلمين إن كان. قال ابن سلمون: وإن مات الأب فإنها ترضعه بأجرة تأخذها من مال الطفل، فإن لم يكن له مال لزمها إرضاعه باطلاً كما تقدم اهـ. قال في الرسالة: وللمطلقة إرضاع ولدها على أبيه، ولها أن تأخذ أجرة رضاعه إن شاءت اهـ انظر جواهر المعاني في جواب الثالث من السؤالات الواردة للشيخ أبي الفيض أحمد بن محمد التجاني عليه رضى الرحماني أنه قد أطال الإنكار وأطنب فيمن استثنى الشريفة في عدم إرضاعها ولدها لشرفها، وقد نقلنا جوابه برمته إلى كتابنا بدر الزوجين فراجعه إن شئت والله الموفق للصواب.
ثم انتقل رحمه الله تعالى يتكلم عن الحضانة فقال: " وهي أحق بحضانته ما لم تنكح ويدخل بها ولو أمة أو مستولدة " يعني أن الأم أحق بحضانة ولدها بعد الطلاق أو الموت ما لم تتزوج، فإن تزوجت ودخل بها الزوج سقط حقها من
الحضانة.
والحضانة حفظ الولد والقيام بمؤونته ومصالحه إلى أن يستغني عنها بالبلوغ أو يدخل بزوجته، وكذا الأنثى وحتى يدخل الزوج بها. وهي فرض على الكفاية لا يحل أن يترك الطفل بغير كفالة، فإذا قام به قائم سقط عن الباقين وإلا فهم عاصون الله ورسوله ويعاقبون في ترك القيام بها اهـ العدوي. والمعنى: الأم أحق بحضانة ولدها ولو كانت أمة أو مستولدة ما لم تنكح. قال خليل: ولو أمة عتق ولدها أو أم ولد اهـ. هذا إشارة لما في المدونة من قول مالك: إذا أعتق ولد الأمة وزوجها حر فطلقها فهي أحق بحضانة ولدها إلا أن تباع فتظعن إلى غير بلد الأب فالأب أحق به أو يريد الأب انتقالاً عن بلد الأم فله أخذه. والعتق نص على المتوهم وأولى إن لم يعتق، وكذا أم الولد هي أحق بحضانة ولدها من زوجها بعد طلاقها، وكذا ولد الأمة أو أم الولد من سيدهما فلهما حضانته إذا عتقا أو مات سيدهما، لكن يشترط في استحقاق الأمة حضانة ابنها من زوجها أن لا يتسررها السيد أي لا يتخذها للوطء لأن تسرر السيد بمنزلة دخول الزوج الأجنبي بالحاضنة اهـ ومثله في الخرشي.
قال رحمه الله تعالى: " واختلف في الكتابية " يعني هل لها حق في حضانة ولدها الذي ولد على فراش أبيه المسلم أم لا؟ المشهور أن لها حضانة ولدها بعد فراق زوجها بموت أو طلاق، ولا يشترط الإسلام في الحاضن. قال خليل: لا إسلام، وضمت إن خيف للمسلمين، وإن مجوسية أسلم زوجها. قال الخرشي: يعني أن الحاضن لا يشترط أم يكون مسلماً، بل يصح أن يكون كافراً. قال في المدونة: وللذمية إذا طلقت أو المجوسية يسلم زوجها وتأبى هي من الإسلام فيفرق بينهما ولهما من الحضانة ما للمسلمة إن كانت كل واحدة منهما في حرز وتمنع أن تغذيهم بخمر أو خنزير، وإن خيف أن تفعل معهم ذلك ضمت إلى ناس من المسلمين، ولا ينتزعون منها إلا أن تبلغ الجارية وتكون عندها في غير حرز اهـ ومثله في المواق. وفي المدونة أيضاً: اليهودية والنصرانية والمجوسية في هذا سواء مثل المسلمة اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ولا تعود لخلوها كتركه مقتاً " والضمير في ولا تعود عائد إلى الحضانة، وفي خلوها عائد إلى الأم ومن انتقل الحق إليه بعدها. والمقت البغض. قال في المصباح: مقته مقتاً من باب قتل أبغضه أشد البغض عن أمر قبيح. والمعنى لا تعود الحضانة لمن ردها بغضاً سواء كانت أماً أو غيرها. وفي نسخة كتركه وقتاً أي زمناً أو أياماً كشهرين مثلاً، وعن مالك فيمن تأيمت وتركت أولادها أشهراً ثم قيل لها أنت أحق بهم فقالت ما علمت، قال الشأن في هذا
قريب. وقد تجهل السنة اهـ المواق. وما تقدم من معنى المقت هو الأصح لأن المقت بمعنى البغض يقع على المرأة ناشئاً من حرارة فراق زوجها حتى تبغض ولده. وفي الحطاب نقلاً عن ابن القاسم عن مالك أنه قال في امرأة طلقها زوجها، وله منها ولد فردته عليه استثقالاً له ثم طلبته لم يكن ذلك لها. قال ابن رشد: وهذا كما قال إنها إذا ردته إليه استثقالاً له فليس لها أن تأخذه لأنها أسقطت حقها في حضانته إلا على القول بأن الحضانة من حق المحضون، وهو قول ابن الماجشون. قلت: وما نقل عن مالك هو المشهور كما في الدردير ومثله في القوانين.
قال رحمه الله تعالى: " لا لضرورة " يعني إن كان سقوط الحضانة لضرورة ثم زالت فإن الحضانة تعود. وعبارة الخرشي أي إلا أن يكون السقوط لعذر كمرض لا تقدر معه على القيام بالمحضون أو عدم لبن أو حج الفرض أو سافر زوجها بها غير طائعة أو رجع الولي من سفر النقلة فلها أخذه ممن هو بيده بعد زوال هذه الأعذار؛ بأن صحت أو رجعت من سفرها أو عاد لبنها بقرب زوالها إلا أن تتركه بعد السنة ونحوها فلا تأخذه ممن هو بيده إلا بعد موته وانتقاله إلى غيره اهـ. وقال اللخمي: وكذلك ما لم يألف الولد من هو عندها ويشق عليه نقله من عندها اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ثم أمها الخالة، ثم أم الأب، ثم الأخت، ثم العمة، ثم بنت الأخ فإن عدمن فعصباته " هذا الترتيب هكذا بالاختصار مثله
لابن جزي في القوانين. وأما عبارة العلامة الجزيري في الفقه: قال المالكية يستحق الحضانة أقارب الصغير من إناث وذكور على الترتيب الآتي ذكره. قال فأحق الناس به أمه ثم أمها يعني جدته لأمه وإن علت، ثم الخالة الشقيقة، ثم الخالة لأم، ثم خالة الأم، ثم عمة الأم، ثم أم الأب، ثم أم أمه، وأم أبيه، والقربى منهن تقدم على البعدى، والتي من جهة أمه تقدم على التي من جهة أبيه. ثم بعد الجدة من جهة الأب تنتقل الحضانة إلى الأب، ثم إلى الأخت، ثم إلى عمة الصغير أخت أبيه، ثم إلى عمة أبيه أخت جده، ثم إلى خالة أبيه، ثم بنت الأخ الشقيق، ثم لأم ثم لأب، ثم إلى بنت الأخت كذلك. وإن اجتمع هؤلاء يقدم منهن الأصلح للحضانة. وبعضهم رجح تقديم بنات الأخ على بنات الأخت. ثم بعد هؤلاء تنتقل الحضانة إلى الوصي سواء كان ذكراً أو أنثى، ثم لأخ الصغير، ثم ابن الأخ ويقدم عليه الجد من جهة الأم، ثم العم ثم ابنه. ويقدم الأقرب على الأبعد. ثم المعتق أو عصبته نسباً اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ويشترط في الحاضنة خلوها أو كونها زوجة لولي الطفل أو محرمه " قال الجزيري في الفقه: يشترط في الحاضن ذكراً كان أو أنثى شروط: الأول: العقل فلا حضانة لمجنون ولو يفيق في بعض الأحيان، ولا لمن به
خفة عقل وطيش. الثاني: القدرة على القيام بشأن المحضون لا حضانة للعاجز كامرأة بلغت من الشيخوخة أو رجل هرم إلا يكون عندهما من يمكنه القيام بالحضانة تحت إشرافهما، ومثلهما الأعمى والأصم والأخرس والمريض والمقعد. الثالث: أن يكون للحاضن مكان يمكن حفظ البنت فيه التي بلغت حد الشهوة من الفساد، فإذا كان في جهة غير مأمونة فإن حضانته تسقط. الرابع: الأمانة في الدين فلا حضانة لفاسق يشرب الخمر ومشتهر بالزنا ونحو ذلك. الخامس: أن يكون الحاضن مصاب بمرض معد يخشى على الطفل منه كجذام وبرص. السادس: أن يكون الحاضن رشيداً فلا حضانة لسفيه مبذر لئلا يتلف مال المحضون إن كان له مال.
الشرط السابع: الخلو عن زوج دخل بها إلا إذا تزوجت بمحرم أو علم من له حق الحضانة بعدها بتزوجها وسكت مدة عام بلا عذر فإن حضانته تسقط بذلك. وتقدم أنه لا يشترط أن يكون الحاضن مسلماً، ويشترط إن كان ذكراً أن يكون عنده من يحضن الطفل من الإناث كزوجة أو سرية أو خادمة ولا يصح أن يحضن غير محرم بنتاً مطيقة للوطء كابن عمها إلا إذا تزوج بأمها ولو كان مأموناً اهـ مع حذف.
قال رحمه الله تعالى: " والوصي أحق بحضانة الذكر من عصبته فأما الأنثى فإن كان مأموناً وله أهل وإلا فلا " يعني كما قال الخرشي: أن مرتبة الوصي في الحضانة مقدمة على مرتبة العصبة في الإناث الصغار وفي الذكور مطلقاً، وله حضانة الإناث الكبار ذوات المحارم، فإن لم يكن ذوات محارم فهل له حق في حضانتهن خلاف إلى أن قال: فإن ظهرت فيه أمارات الشفقة فهو أحق وإلا فلا اهـ. قال المواق نقلاً عن اللخمي: الوصي مقدم على سائر العصبة والموالي. وفي المدونة: الوصي أحق بالولد إذا نكحت الأم وليس له جدة ولا خالة. وقال ابن المواز: لا يأخذ الوصي الأنثى إذ ليس بينه وبينها محرم. وقد قال مالك: كونها مع زوج أمها أحب إلي من أن تجعل عند وصيها، لأن زوج أمها محرم لها بخلاف الوصي اهـ بحذف. وبعبارة: إن كان المحضون ذكراً فللوصي حضانته فإن كان أنثى لا تطيق الوطء فكذلك، وإن كان المحضون أنثى مطيقاً للوطء والوصي ذكر فشرط استحقاقه الحضانه كونه محرماً لها بنسب أو صهر أو رضاع، وإلا فليس له حضانة. قاله عبد السميع في الجواهر اهـ. فتحصل أن شرط حضانة الوصي الذكر في الأنثى المطيقة للوطء أن يكون الحاضن محرماً لها مأموناً، له أهل فتجوز حضانته كما هو مفهوم من كلام المصنف.
قال رحمه الله تعالى: " ولوليه الرحلة به في سفر النقلة لا غيره لا لها " يعني كما قال الصاوي على الدردير: حاصله أن شرط ثبوت الحضانة للحاضن ألا يسافر
ولي
حر عن محضون حر سفر نقلة ستة برد فأكثر فإن أراد الولي السفر المذكور كان له أخذ المحضون من حضانته ويقال لها: اتبعي محضونك إن شئت، وأما إن كان سفره سفراً لتجارة فلا يأخذه الولي منها ولها سفر منه ولو مسافة أكثر من ستة برد. واعلم أنها إذا سافرت لتجارة وأخذت الولد معها فحقه في النفقة باق على الولي ولا تسقط نفقته عنه بسفره معها على ظاهر المذهب كما في عبد الباقي اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وحضانة الصبي إلى البلوغ. وقيل إلى الإثغار، والصبية حتى يدخل بها الزوج " يعني: مدة انتهاء حضانة الصبي تنتهي إلى بلوغه على المشهور. وقيل إلى الإثغار. والأنثى حتى يدخل بها الزوج كما تقدم عند قوله: وهي أحق بحضانته فراجعه إن شئت. وحكى ابن رشد خلافاً. وقال في المقدمات: واختلف في حد الحضانة فقيل إلى البلوغ وقيل إلى الإثغار وهي رواية ابن وهب عن مالك اهـ. قال ابن جزي: تستمر الحضانة في الذكر إلى البلوغ على المشهور. وقيل إلى الإثغار وفي الأنثى إلى دخول الزوج بها. قال الشافعي: إذا بلغ الولد سبع سنين خير بين أبويه فمن اختار منهما كانت الحضانة له اهـ قلت: ورد في الموطأ أن عمر ابن الخطاب تزوج امرأة اسمها جميلة بنت ثابت الأنصارية فولدت له عاصم بن عمر ثم إنه فارقها فجاء عمر قباء فوجد ابنه عاصماً يلعب بفناء المسجد فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه حتى أتيا أبا بكر الصديق فقال عمر: ابني وقالت المرأة: ابني، فقال أبو بكر: خل بينها وبينه. قال الراوي: فما راجعه عمر الكلام. قال: وسمعت مالكاً يقول: وهذا الأمر الذي آخذ به في ذلك اهـ.
ولما أنهى الكلام على الحضانة وما يتعلق بها ناسب أم يتكلم في أحكام الرضاع وما يتعلق بذلك من التحريم باللبن وغيره فقال رحمه الله تعالى:
فَصْلٌ
أي في بيان ما يتعلق بأحكام الرضاع. قال بعضهم: للرضاع حقيقتان لغوية وشرعية، فاللغوية: اسم لمص الثدي وشرب لبنه، والشرعية: وصول لبن امرأة أو ما حصل منه الغذاء في جوف طفل في الحولين اهـ. قال العلامة المحقق السيد مطهر بن مهدي الغرباني الحسني في خطبة كتابه المسمى بكشف القناع عن أحكام الرضاع: لقد انتشر الجهل في أمر الرضاع إلى أقصى حد بعيد وصار الناس في البوادي والأمصار يجهلون جل أحكامه، وعمت البلوى في جميع البلدان باجتماع النساء في مجالس شتى فترضع كل واحدة أطفال الأخرى بكثرة وقاية لهم من البكاء بدون ضبط وبغير تفكير فيما ينشأ عنه من الحرمة الكبرى، وما يفضي إليه مع
الاستحلال والعياذ بالله من الوقوع في الردة فأصبح عادة سهلة لا أثر لها ولا اعتبار من الناحية الشرعية، ولا يخبرون به الرجال أو يثبتن ذلك في مذكرات خاصة، وربما ارتضع الطفل الواحد من عدة نساء لا تعلم واحدة منهن، وربما أرضعت الجدة بني بنيها وبني بناتها، ومثلها العمة والخالة وغيرهن من الأقارب فضلاً عن الأجانب فينسى الرضاع ويكبر الأولاد فيتزوجون بأخواتهم أو بناتهم من الرضاع، أو بالعمات أو الخالات أو بنات الأخوة أو بنات الأخوات. وقد يجمع الواحد بين محرمتين فأكثر فيحملن ويلدن له وهم لا يشعرون. قال: والمسئولية الكبرى بالدرجة الأولى على عواتق العلماء حيث أهملوا نشر العلم والتعليم ولا سيما في أحكام الرضاع وبالدرجة الثانية على الآباء والأمهات لإهمالهم أمر الرضاع الذي يجب إشهاره وإعلامه كالنسب تماماً فيتعين الوجوب على المرضعات قاطبة أن لا يرضعن كل صبي من غير ضرورة، وإذا أرضعن فليحفظن ذلك عندهن أو يخبرن رجالهن بأن يسجلوا ذلك الرضاع بمذكرات خاصة، وإلا فإعطاء الطفل اللبن الصناعي أو لبن النعم أولى من إرضاعه من غير أمه عند عدم القدرة على التحفظ بتلك
الوقائع دفعاً لاحتمال الوقوع في المحرم إذا نسي الإرضاع أو لم يعلم اهـ كشف القناع بحذف.
والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع. فمن الكتاب قوله تعالى: {وأمهاتكم الاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} [النساء: 23] ومن السنة: ما في الموطأ عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة) وفي رواية الصحيحين: (ما يحرم من النسب) وفي رواية أخرى (ما يحرم من الرحم) وفي أخرى (حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب) وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة فقال: (إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) اهـ رواه البخاري ومسلم. وأما الإجماع فلا خلاف بين أهل العلم سلفاً وخلفاً في إجراء الرضاع مجرى النسب في تحريم النكاح غلا من استثنى كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى: " الرضاع ما وصل من اللبن إلى جوف الرضيع في الحولين قبل فصاله، وإن قل من أي منفذ كان، وإن خلط بما لا يستهلكه نشر الحرمة بينه وبين المرضعة ولو ميتة وجميع أصولها وفروعها، وبينه وبين الزوج وأصوله وفروعه " يعني كما قال النفراوي في الفواكه: واعلم أن أصول التحريم بالرضاع ثلاثة: الرضيع والمرضعة وفحلها، فإن كان الرضيع ذكراً حرمت عليه لأنها أمه من الرضاع وجميع أقاربها إلا بنات إخواتها وأخواتها، لأنهن بنات خالات وبنات أخوال. وكذلك يحرم عليه جميع أقارب الزوج صاحب اللبن إلا بنات
إخوته وأخواته لأنهن بنات أعمام وعمات. وإن كان الرضيع أنثى حرمت على أقارب المرضعة إلا بني إخوتها وأخواتها، وكذا تحرم على أقارب الزوج إلا على بني إخوته وأخواته. وتحرم الرضيعة على صاحب اللبن وما تناسل منها لأنها بنته، وما يتناسل منها حفدة، ومن الأصول الثلاثة تنتشر الحرمة إلى
الأطراف، ثم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، بيانه: إذا حرمت المرضعة على الرضيع حرمت عليه أمهاتها نسباً ورضاعاً لأنهن جدات وأخواتها نسباً ورضاعاً وأولادها من الجهتين إخوة، وكذلك أولاد الإخوة وكذلك أولاد الرضيع أحفاد المرضعة، ولا تحرم المرضعة على أبي الرضيع ولا على أخيه وكذلك زوج المرضعة أبو المرتضع وأبوه جد وأخوه عم وولده أخ، وعلى هذا القياس. ولا يعتبر في لبن الفحل أن يكون من وطء حلال ولو من حرام لا يلحق الولد منه بصاحبه خلافاً لظاهر كلام خليل اهـ قال ابن جزي في القوانين: وأما الرضاع فتحرم به الأصناف السبعة التي حرمت بالولادة، فإذا أرضعت امرأة طفلاً أو أرضعت من أرضعته أو أرضعت من له على الطفل ولادة بمباشرة أو وساطة صارت هي أمه وزوجها أباه، لأن اللبن للفحل عند الجمهور فحرمت عليه هي وأمهاتها نسباً ورضاعاً وإن علون لأنهن أمهاته، وحرمت عليه أخواتها وعماتها وخالاتها نسباً ورضاعاً لأنهن خالاته، وبناتها نسباً ورضاعاً، لأنهن أخواته. وحرمت عليه أيضاً أمهات زوجها نسباً ورضاعاً وإن علون؛ لأنهن أمهاته، وبناته نسباً ورضاعاً لأنهن أخواته، وعماته وخالاته نسباً ورضاعاً، لأنهن بنات إخوته، وبنات بناتها وبنات زوجها نسباً ورضاعاً، لأنهن بنات أخواته. وكل طفل رضع ثدياً رضعته طفلة حرمت عليه سواء كان رضاعهما في زمن واحد أو كان بينهما سنون، وكذلك إن أرضعا لبن امرأتين زوجتين لرجل واحد اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " والزوج الثاني مع بقاء اللبن كالأول " يعني أن الزوج الثاني حكمه كالأول في انتشار التحريم بالرضاع ما دام اللبن جارياً من المرضعة، فإن انقطع ولم يبق من الأول شيء في ثديها فلا يكون الولد للثاني. قال خليل: وقدر الطفل خاصة ولداً لصاحبة اللبن ولصاحبه من وطئه لانقطاعه ولو بعد سنين، وأما لو لم ينقطع لكان
الزوج الثاني شريكاً للأول فيكون الولد ابنهما من الرضاعة وينتشر التحريم في أصولهما وفروعهما. قال في الرسالة: ومن أرضعت صبياً فبنات تلك المرأة وبنات فحلها ما تقدم أو تأخر إخوة له ولأخيه نكاح بناتها اهـ.
ثم بالغ في التحريم بالرضاع فقال رحمه الله تعالى: " ولو درا لبكر أو يائسة " هذا للمبالغة في انتشار الحرمة بلبن المرأة. قال في المدونة: وإذا درت بكر
لا زوج لها ويائسة من المحيض فأرضعت صبياً فهي أم له. قال ابن ناجي: ظاهره في البكر وإن كان لا يوطأ مثلها وهو كذلك على ظاهر المذهب. ثم قال: وما ذكره من اعتبار لبن اليائسة ظاهره وإن كانت لا توطأ وهو كذلك على المعروف اهـ انظر الحطاب. قال خليل: وإن ميتة وصغيرة. قال الخرشي: معطوف على ميتة وتقييد بمن لا تطيق الوطء حتى تكون داخلة في حيز المبالغة لأنها محل خلاف، إذ لبن المطيقة للوطء ينشرها اتفاقاً اهـ ومثله في القوانين لابن جزي.
ثم ذكر ما يوجب به الحرمة فقال رحمه الله تعالى: " لا لرجل أو بهيمة ولا ما رضعه بعد فصاله " قال ابن جزي: ولا يوجب التحريم رضاع رجل ولا بهيمة وفاقاً لهما أي فيما اتفق عليه مالك والشافعي وأبو حنيفة اهـ. وفي الرسالة: ولا يحرم ما أرضع بعد الحولين إلا ما قرب منهما كشهر ونحوه قيل والشهرين، ولو فصل قبل الحولين فصالاً استغنى فيه بالطعام لم يحرم ما أرضع بعد ذلك اهـ. قال العلامة خليل: إن حصل في الحولين أو زيادة الشهرين إلا أن يستغني ولو فيهما فلا تحريم بالرضاع بعد الاستغناء إلا أن يكون زمن الرضاع قريباً من زمن الفطام بنحو اليومين والثلاثة فإنه يحرم لأنه لو أعيد للرضاع لكان قوة في غذائه اهـ. نقله النفراوي.
قال رحمه الله تعالى: " ومحارم الرضاع كالنسب والله أعلم " يعني ختم هذا الباب بما في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)
رواه الشيخان كما تقدم. قال العلامة السيد مطهر بن مهدي الغرباني الحسني في رسالته " كشف القناع عن أحكام الرضاع ": تتمة: في بيان ما يحل بالرضاع ولا يحل بالنسب، وذلك المستثنى من عموم حديث:(يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وذلك ينحصر في أربع صور الأولى: أم مرضعة ولدك، أي جدته من الرضاع لا تحرم عليك، ولو كانت جدته من النسب لحرمت عليك لأنها إما أم زوجتك، أو أم أمتك، أو أم موطوءتك بشبهة. الثانية: بنت مرضعة ولد صلبك أي أخته من الرضاع لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك، ولو كانت أخت ولدك من النسب لحرمت عليك لأنها إما بنتك أو ربيبتك. الثالثة: مرضعة أخيك أو أختك لأبيك أو لأمك لا تحرو عليك لأنها أجنبية عنك، ولو كانت من النسب لحرمت عليك لأنها إما أمك أو موطوءة أبيك. الرابعة: مرضعة ولد ولدك أي أم الرضاع لحفيدك لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك، ولو كانت من النسب لحرمت عليك لأنها إما بنت صلبك أو زوجة ابنك. وقد ذكر بعض العلماء لهذه الأربع الصور ضابطاً بهذين البيتين فقال:
أربع هن في الرضاع
…
وإذا ما نسبتهن حرام
جدة ابن وأخته ثم أم
…
لأخيه وحافد والسلام
ويزاد عليها خمس صور أخرى تحل في الرضاع وتحرم في النسب. وهي هذه: الأولى: أم عمك من الرضاع يحل لك نكاحها بخلاف أم عمك من النسب فإنها تحرم عليك؛ لأنها إما جدتك أو موطوءة جدك. الثانية: أم عمتك من الرضاع يحل لك نكاحها بخلاف أم عمتك نسباً فإنها تحرم عليك؛ لأنها جدتك أو زوجة جدك. الثالثة: أم خالك من الرضاع يحل لك نكاحها بخلاف أم خالك نسباً فتحرم عليك لأنها جدتك. الرابعة: أم خالتك من الرضاع يحل لك نكاحها بخلاف أم خالتك نسباً فتحرم عليك لأنها جدتك. الخامسة: أخو ابن المرأة من الرضاع يحل لها الزواج به بخلاف أخي ابنها من النسب فإنه حرام.
وصورتها: امرأة لها ابن ارتضع من أجنبية لها ابن فهما أخوان في الرضاع، ولا يحرم على تلك المرأة أن تتزوج على ذلك الابن الذي هو أخو ولدها من الرضاع. ثم قال: وإليك أي وهاك ما لا يحرم في الرضاع ولا في النسب بل يحل نكاحهن مما يشكل على كثير من الناس محصورة في اثنتي عشرة صورة: الأولى: بنت زوج أمك من الرضاع أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. الثانية: زوجة زوج أمك من الرضاع أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. الثالثة: أم زوج أمك من الرضاعه أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. الرابعة: بنت زوج بنتك من الرضاع أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. الخامسة: أم زوجة ابنك من الرضاع أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. السادسة: بنت زوجة ابنك من الرضاع أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. السابعة: أم زوجة أبيك من الرضاع أو النسب لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. الثامنة: زوجة ابن زوجتك رضاعاً ونسباً لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. التاسعة: أخت أختك لأبيك لأمه نسباً لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. العاشرة: أخت أخيك لأمك لأبيه نسباً لا تحرم عليك كذلك. الحادية عشرة: أخت الرضاع لأخيك من امرأة أجنبية لا تحرم عليك لأنها أجنبية عنك. الثانية عشرة: أختك من الرضاع لا تحرم على أخيك من النسب لأنها أجنبية عنه اهـ فتأمل. قال النفراوي.
تنبيه: قد ذكرنا أن تحريم الرضاع مثل تحريم الولادة، ويحرم به مثل ما يحرم من النسب إلا ما استثنى من نحو أم أخيك المشار إليها بقول خليل: إلا أم أخيك وأختك، أو أم ولد ولدك، وأخت ولدك، وأم عمك وعمتك، وأم خالك وخالتك، فقد لا يحرمن من الرضاع اهـ. وعبارة الخرشي في ذلك أنه قال: هذه المسائل تحرم من النسب ولا تحرم من الرضاع: الأولى: أم أخيك وأختك من النسب هي أمك أو زوجة أبيك وكلتاهما حرام عليك، ولو أرضعت أجنبية أخاك أو أختك لم تحرم عليك، لأنها ليست أمك ولا زوجة أبيك. الثانية: أم
ولد ولدك
ذكراً كان أو أنثى، لأنها أم بنتك نسباً أو زوجة ابنك، وكلتاهما حرام عليك. ولو أرضعت أجنبية ولد ولدك لم تحرم عليك لفقد الوصف المحرم لها نسباً. الثالثة: جدة ولدك، لأنها نسباً إما أمك أو أم زوجتك، فما حرمت إلا بوصف النسب لك أو لزوجتك. ولو أرضعت امرأة ولدك لم تحرم عليك أمها، لأنها ليست أماً لك ولا أماً لزوجتك. الرابعة: أخت ولدك لأنها نسباً بنتك أو بنت زوجتك، وكلتاهما حرام عليك، لكن بوصف النسب منك أو من زوجتك. ولو أرضعت امرأة ولدك لم تحرم بنتها التي هي أخت ولدك من الرضاع عليك، لفقد الوصف المحرم لها نسباً. وخامستها: أم عمك وعمتك؛ لأنها نسباً إما جدتك لأبيك أو حليلة جدك وكلتاهما حرام عليك. ولو أرضعت امرأة عمك أو عمتك لم تحرم عليك لفقد الصف المحرم في النسب وهو الجدودة. سادستهما: أم خالك وخالتك؛ لأنها إما جدتك لأمك أو زوجة جدك لها، وكلتاهما حرام عليك لما قلنا فيما قبلها. ولو أرضعت امرأة خالك أو خالتك لم تحرم لفقد ذلك منها. ويجوز للرجل أن يتزوج بأم حفدته من الرضاع، ولا يجوز ذلك من النسب لأنها حليلة ابنه أو ابنته، بخلاف الرضاع، لأنها أجنبية عنه. وكذا يحل له التزويج بجدة ولده من الرضاع ولا يحل ذلك من النسب، لأنها أمه أو أم امرأته بخلاف الرضاع. وكذلك يجوز له أن يتزوج بعمة ابنه من الرضاع، ولا يجوز ذلك من النسب؛ لأنها أخته بخلاف الرضاع، وكذلك المرأة يحل لها أن تتزوج بأبي أخيها من الرضاع، وبأخي ولدها من الرضاع، وبأبي حفدتها من الرضاع، وبجد ولدها من الرضاع. ولا يجوز ذلك من النسب كما مر في حق الرجل اهـ.