الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع الخيار
ولما أنهى الكلام على بيع المرابحة وما يتعلق به انتقل يتكلم على أحكام بيع الخيار وما يتعلق به فقال رحمه الله تعالى:
فَصْلٌ
في مسائل الخيار
أي في بيان بيع الخيار وأحكامه وشروطه. اعلم أن الخيار ينقسم إلى قسمين: الأول خيار الشرط ويسمى خيار التروي وهو النظر والتفكير في إمضاء العقد ورده. الثاني خيار النقيصة ويسمى خيار الحكمي، وسببه ظهور عيب في
المبيع لتعلق حق الغير كالرهن والاستحقاق أو غيرهما، وحكمه الجواز قال في الرسالة: والبيع على الخيار جائز إذا ضربا لذلك أجلاً قريباً إلى ما تختبر فيه تلك السلعة أو ما تكون فيه المشهورة اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " يجوز اشتراط الخيار لكل من البائعين، ولا يتعين له مدة بل بحسب ما يختبر المبيع فيه أو يتفقان عليه فيثبت لمشترطه الرد، فإن اختلفا قدم الفسخ " وما ذكره من عدم التعيين لمدة الخيار مع قوله، بل بحسب ما يختبر المبيع فيه، هذا إشارة على وجوب التعيين كما عليه جمهور أهل المذهب. قال الجزيري في الفقه: تنقسم مدة خيار الشرك بالنسبة للمبيع إلى أربعة أقسام: الأول: الخيار في بيع العقار وهو الأرض وما يتصل بها من بناء أو شجر، والخيار في هذا يمتد إلى ستة وثلاثين يوماً أو ثمانية وثلاثين يوماً على الأكثر، فإن زاد على ذلك فسد العقد، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الخيار لاختيار حال المبيع أو للتروي في الثمن، وذلك فهو ثلاثة أيام.
الثاني: الخيار في عروض التجارة كالثياب ونحوها، والخيار في هذه من ثلاثة أيام إلى خمسة، فإن زاد عليها فسد العقد. الثالث: الدواب وفيها تفصيل؛ لأنها إما أن تكون من الدواب التي ليس من شأنها أن تركب فإن كان الخيار فيها لمعرفة رخصها وغلائها وسمنها مع معرفة ركوبها أيضاً ونحو ذلك فهو من ثلاثة أيام إلى خمسة أيضاً، وإن كان الخيار فيها لمعرفة حال ركوبها فلا يخلو إما أن يكون ذلك في البلد أو خارج البلد، فإن كان من البلد فالخيار فيها مسافة بريدين لا أكثر، وبعضهم يقول: إن الخيار في الدواب ثلاثة أيام وما يقرب من الثلاثة مطلقاً سواء كان الخيار للركوب أو لغيره، أما اليوم والبريد فهو مخصوص بالركوب. الرابع: الخيار في الرقيق وهو من ثمانية أيام إلى عشرة اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ويسقط بإسقاطه ومضي مدته وتصرفه اختياراً لا اعتباراً " والمعنى أنه يسقط الخيار بإسقاط من شرطه من المتابعين أم بأحد ثلاثة أمور، وهو قول أو فعل أو ترك، والترك هو عدم القول وعدم الفعل، كانقضاء مدة الخيار،
فالقول نحو أسقطت خياري أو رددته. والفعل ما أشار إليه خليل: ورضي مشتر كاتب أو زوج ولو لعبداً أو قصد تلذذاً، أو رهن أو آجر أو أسلم للصنعة، أو تسوق، أو جنى إن تعمد، أو نظر الفرج، أو عرب دابة، أو ودجها، لا إن جرد جارية، وهو رد من البائع إلا الإجارة، ولا يقبل منه أنه اختار أو رد بعده إلا ببينة اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " واشتراط النقد فيه مبطل، لا التبرع به " قال الدردير عاطفاً على مفسدات بيع الخيار: وبشرط النقد، أي المتردد بين السليفة والثمينة، وإن لم ينقد بالفعل، بخلاف التطوع به بعد العقد، أي فإنه جائز كما في الحطاب، ولفظه: وفهم من قوله بشرط النقد جائز اهـ. قال في الرسالة: ولا يجوز النقد في الخيار، ولا في عدة الثلاث، ولا في المواضعة بشرط اهـ. قال ابن عرفة: شرط النقد في بيع الخيار مفسد اهـ نقله المواق.
قال رحمه الله تعالى: " والمبيع في مدته على ملك البائع، وما غاب المشتري عليه ضمنه كالتعدي في غيره " قال ابن رشد في المقدمات: والمبيع بالخيار في أمد الخيار على ملك البائع كان الخيار له أو للمبتاع أو لهما، فإن تلف فمصيبته منه، كان بيده أو بيد المبتاع، إلا أن يكون بيد المبتاع ويغيب عليه وهو مما يغاب عليه، ويدعي تلفه ولا يعرف ذلك إلا بقوله فلا يصدق في ذلك، ويكون عليه قيمة الثمن؛ لأنه يتهم أن يكون غيبه وحبسه عن صاحبه فذلك رضاً منه بالثمن. وقد روي عن مالك أن الضمان من المشتري فيما بيع على الخيار إن كان الخيار له، ومن البائع إن كان الخيار له، وهو قول ابن كنانة اهـ. وقد بسط الجزيري بيان هذه المسألة في الفقه فراجعه إن شئت. وأما عبارة ابن جزي في القوانين فهي: المسألة الرابعة المبيع في مدة الخيار على ملك البائع، فإن تلف فمصيبته منه إلا أن يقبضه المشتري فمصيبته منه إن كان مما يغاب عليه ولم تقم على تلفه بينة، وإن حدثت له علة في أمد الخيار فهي على البائع، وإن ولدت الأمة في أمد الخيار فولدها للمشتري عند ابن القاسم، وقال غيره للبائع كالغلة فهي له. ولا يجوز للمشتري اشتراط الانتفاع بالمبيع في مدة الخيار إلا بقدر الاختيار، فإنه إن لم يتم البيع بينهما كان انتفاعه باطلاً من غير شيء، كما لا يجوز للبائع اشتراط النقد فإنه إن لم يتم البيع بينهما كان سلفاً، وإن تم كان ثمناً، فإن وقع على ذلك فسخ البيع سواء تمسك بشرطه أو أسقطه. ويجوز النقد من غير شرط اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ومن ابتاع من رجلين ثوبين بالخيار فالتبسا سقط " أي سقط الخيار. ومثل التباسهما في إسقاط الخيار ضياعهما أو أحدهما، فيلزمه ثمن أحد الثوبين أو نصف أحدهما في ضياع الواحد. قال خليل: وإن اشترى أحد
ثوبين وقبضهما ليختار فادعى ضياعهما ضمن واحد بالثمن فقط، ولو سأل في إقباضهما أو ضياع واحد ضمن نصفه، وله اختيار الباقي اهـ انظر شراحه.
قال رحمه الله تعالى: " ويثبت الرد بالغبن الفاحش كالجهل بالعيب حال العقد، وله الإمساك بجميع الثمن دون الأرش إلا أن يفوت بيده أو يبذل البائع " يعني يثبت رد المبيع بالغبن الفاحش وهو الثلث فأكثر، وكذلك يثبت الرد بالجهل بالعيب حال العقد. قال ابن جزي أما عيب الرد فهو الفاحش الذي ينقص حظاً من الثمن ونقص العشر يوجب الرد عند ابن رشد، وقيل الثلث، فللمشتري في عيب الرد بالخيار بين أن يرده على بائعه أو يمسكه ولا أرش له على العيب. وليس له أن يمسكه ويرجع بقيمة العيب إلا أن يفوت في يده اهـ. قال في الرسالة: ومن ابتاع عبداً فوجد به عيباً فله أن يحبسه ولا شيء له، أو يرده ويأخذ ثمنه، إلا أن يدخله عنده عيب مفسد فله أن يرجع بقيمة العيب القديم من الثمن، أو يرده ويرد ما نقصه العيب عنده اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " والتأريش أن يقوم سليماً ثم معيباً فيلزم ما نقصه العيب " قال ابن جزي: والأرش قيمة العيب. والتأريش يعرف بتقويم المبيع. وقال الصاوي فالقيمة ميزان يعرف بها نسبة النقص في الثمن. قال الدردير: فيقوم المبيع سالماً عن العيب بعشرة مثلاً، ثم يقوم معيباً بثمانية مثلاً، ويؤخذ من الثمن الذي وقع به البيع النسبة، أي نسبة ما بين القيمتين، فنسبة الثمانية للعشرة أربعة أخماس فقد نقصت قيمته معيباً الخمس، فيرجع المشتري على البائع بخمس الثمن، فإذا كان الثمن مائة مثلاً رجع عليه بعشرين، هذا فيما خرج من يده بلا عوض وذلك في غير البيع، أما لو خرج من يده بعوض كما
لو باعه لأجنبي فلا يرجع بالأرش وكذا إذا باعه لبائعه اهـ الدردير.
قال رحمه الله تعالى: " وتصرفه مختاراً بعد علمه كرضاه " يعني إن تصرف المشتري بالمعيب مختاراً يعد رضاً منه به. قال ابن جزي في مسقطات القيام بالعيب: أو تصرف في المبيع بعد الاطلاع على العيب كوطء الجارية، أو ركوب الدابة، ولبس الثوب، وحرث الفدان، وبنيان الدار إلى آخر ما قال من المسقطات. وقال الخرشي: وأما لبس الثوب ووطء الأمة فرضاً باتفاق اهـ باختصار.
قال رحمه الله تعالى: " وفي بقائه مضطراً روايتان " قال المواق نقلاً عن ابن يونس: اختلف قول مالك في الدابة يسافر بها ثم يجد بها عيباً في سفره، فروى أشهب: إن حمل عليها بعد علمه بعيبها لزمته. وروي عن ابن القاسم أن له ردها ولا شيء عليه في ركوبها بعد علمه، ولا عليه أن يكري غيرها ويسوقها وليركبها، فإن
وصلت بحال ردها، وإن عجفت ردها وما نقصها، أو يحبسها ويأخذ قيمة العيب. قاله ابن القاسم. وقال ابن يونس: وبه أقول. ووجهه أن المضطر في حكم المكره، ولو تعرف مكرها لم يسقط خياره فكذلك مع الاضطرار، ألا ترى أن يحل له أكل مال غيره مع الاضطرار ففي هذا أحرى اهـ. ومثله في الخرشي انظره إن شئت. قال رحمه الله تعالى:" وللشريك رد ما يخصه " يعني للشريك في شراء السلعة أن يرد ما يخصه منها على البائع ولو لم يرض البائع ولو بغير إذن صاحبه كما في الصاوي على
الدردير قال: وحاصله أنه لو اشترى شخصان سلعة واحدة كعبد لخدمتهما أو سلعاً متعددة كل واحد يأخذ نصفها في صفقة واحدة لا على سبيل الشركة، ثم اطلع على عيب قديم فأراد أحد الشخصين أن يرد نصيبه ولو قال البائع لا أقبل إلا جميعه بناء على تعدد العقد بتعدد متعلقه، وإلى هذا رجع مالك واختاره ابن القاسم، وكان مالك يقول أولاً إنما لهما الرد معاً أو التماسك معاً، وليس لأحدهما أن يرد دون الآخر. والقولان في المدونة. وإلى ذلك أشار ابن جزي في القوانين: إذا اشترى رجلان شيئاً في صفقة واحدة فوجدا به عيباً فأراد أحدهما الرد والآخر الإمساك، فلمن أراد الرد أن يرد وفاقاً للشافعي. وقيل ليس له الرد وفاقاً لأبي حنيفة. وهذا في غير الشريكين في التجارة. وأما الشريكان في التجارة إذا اشتريا معيباً في صفقة وأراد أحدهما الرد فلصاحبه منعه وقبول الجميع كما يأتي في الشركة، فإن كلاهما وكيل عن الآخر اهـ بحذف وإيضاح.
ثم قال رحمه الله تعالى: " ودعوى عيب ظاهر لا يحدث مثله عنده يثبت له الرد إلا أن يقيم البائع بينة برضاه، فإن تعذرت أحلفه أنه لم يرض، فإن نكل ردت، فإن نكل أيضاً ثبت الرد " يعني إذا كانت الدعوى في عيب ظاهر لا يحدث مثله عند المشتري يثبت له الرد بلا يمين، إلا أن يقيم البائع بينة على رضا المشتري بالعيب، فإن لم تكن البينة بأن تعذرت أحلف البائع المشتري على عدم الرضا بالمبيع، فإن حلف ثبت له الرد، وإن نكل ردت اليمين على البائع، فإن نكل أيضاً ثبت الرد. قال العلامة الجزيري: في مثل هذه الدعوى إذا قال البائع للمشتري إنك رأيت العيب وعلمت به ورضيت من قبل العقد، وقال المشتري لم أرده ولم أعلم به
ولم أرض فالقول في هذه الحالة يكون للمشتري فله رد المبيع بدون يمين عليه إلا إذا ادعى البائع أنه أطلعه على العيب وبينه له فإن في هذه الحالة تكون اليمين على المشتري، فإن حلف كان له
الحق في رد المبيع، وإن امتنع عن الحلف حلف البائع أن المشتري اطلع على العيب حين البيع، ولا يكون للمشتري الحق في الرد بعد حلف البائع. ومثل ذلك ما إذا أشهد المشتري على نفسه أنه عاين المبيع وبحثه قبل العقد ولكنه لم يطلع على العيب الذي يريد رده به، وقال له البائع: بل اطلعت عليه ورأيته حين العقد. وفي هذه الحالة فعلى المشتري أن يحلف بأنه ما رآه وله رده بعد الحلف، فإن لم يرض بالحلف حلف البائع بذلك ولزم المشتري المبيع اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وإن أمكن حدوثه عنده وأنكره البائع حلف أنه لم يكن به في حال العقد، فإن نكل حلف المشتري وله الرد " يعني كما قال الخرشي أنه إذا تنازع البائع والمشتري في وجود العيب في المبيع وعدمه فقال المشتري به عيب، وقال البائع لا عيب به، فالقول في ذلك قول البائع ولا يمين عليه لأنه متمسك بالأصل وهو السلامة في الأشياء. قال خليل: أو قدمه إلخ، يعني أو كان التنازع في حدوث العيب وقدمه بعد اتفاقهما على وجوده بأن يدعي البائع أيضاً إن شهدت له الع 8 ادة قطعاً أو رجحاناً أو شكاً، فإن شهدت العادة قطعاً أو رجحاناً للمشتري بالقدم فالقول قوله، لكن لا يمين على من قطعت العادة بصدقه من المتبايعين، وعلى من رجحت له اليمين، وإذا شكت فالقول للبائع بيمين اهـ بحذف واختصار.
قال رحمه الله تعالى: " وغير الظاهر لا يقبل إلا ببينة، فإن لم تكن حلف البائع في الظاهر على البت، والباطن على العلم " يعني أن هذه الحالة شبيهة بالتي قبلها لكن هذه لا تقبل دعوى المشتري إلا ببينة على قدم العيب الخفي وأن البائع علم به، فإن شهدت البينة بذلك فله الرد، وإلا حلف البائع في العيب الظاهر على البت، وفي الخفي على نفي العلم، ولا حق للمشتري في الرد بعد يمين البائع، بل ثبت البيع، وكان المشتري في هذه الحالة هو المدعي ولذا لزمته البينة، والبائع هو المدعي عليه ولذا لزمته اليمين لما في الحديث
(البينة على من المدعي واليمين على من أنكر) قال ابن رشد في المقدمات: فالعيوب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عيب قديم يعلم قدمه عند البائع ببينة تقوم على ذلك، أو بإقرار البائع به، أو بدليل العيان وعيب يعلم حدوثه عند المشتري ببينة تعلم ذلك، أو بإقرار المشتري بحدوثه عنده، أو بدليل العيان على ذلك. وعيب مشكوك فيه يحتمل أن يكون قديماً عند البائع ويحتمل أن يكون حدث عند المشتري. فأما العيب القديم فيجب الرد به في
القيام والرجوع بقيمته في الفوات على التقسيم الذي ذكرناه. وأما الحادث فلا حجة للمبتاع فيه على البائع. وأما المشكوك فيه فليس على البائع فيه إلا اليمين، قيل على البت وهو قول ابن نافع، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم. وقال أشهب يحلف على العلم في الظاهر والخفي. وقال ابن القاسم أيضاً يحلف في الظاهر على البت وفي الخفي على العلم، فإن نكل عن اليمين رجعت على المبتاع في الوجهين جميعاً على العلم أنه ما حدث عنده. ثم قال: وهذا في العيوب التي تكون ظاهرة في البدن. وأما ما لا يظهر من الإباق والسرقة وما أشبه ذلك فادعى المبتاع أنه كان بالعبد قديماً، فقال ابن القاسم: يحلف البائع. وقال أشهب لا يمين عليه اهـ بحذف واختصار.
قال رحمه الله تعالى: " فلو حدث آخر فله رده مع أرش الحادث والإمساك وأرش القديم إلا أن يدلس البائع فيرد بغير أرش، فإن تلف بمثل ما دلس به فهو منه وإن أمكن حدوث الثاني عنده فله الرد بالقديم ويحلف أن الثاني لم يحدث عنده ". يعني كما في القوانين. قال ابن جزي: حدوث عيب آخر عند المشتري فهو بالخيار إن رده ورد أرش العيب الحادث عنده، وإن شاء تمسك به وأخذ أرش العيب القديم. والأرش قيمة العيب. وقال الشافعي وأبو حنيفة ليس له الرد، وإنما يأخذ أرش العيب القديم اهـ وتقدم كلام صاحب الرسالة من قوله ومن ابتاع عبداً فوجد به عيباً فله أن يحبسه ولا شيء له، أو يرده ويأخذ ثمنه إلا أن يدخله عنده
عيب مفسد فله أن يرجع بقيمة العيب القديم من الثمن، أو يرده ويرد ما نقصه العيب عنده اهـ.
قال النفراوي وهذا التخيير ثابت للمشتري سواء كان البائع مدلساً أو غير مدلس. قال خليل: فله أخذ القديم ورده ودفع الحادث، وقوَّما بتقويم المبيع يوم ضمان المشتري، فيقوم سالماً من العيبين بعشرة مثلاً وبالقديم بثمانية، وبالحادث بستة، فإن رد دفع للبائع اثنين، وإن تماسك أخذ اثنين، وإن زاد الثمن أو نقص فبنسبة ذلك منه. والحاصل أن أرش العيب القديم ينسب إلى ثمنه سليماً من العيبين وأرش الحادث إلى ثمنه معيباً بالقديم، ومحل هذا التخيير ما لم يقبله بالحادث، وإلا نزل الحادث عند المشتري بمنزلة العدم، فيخير المبتاع بين أن يتماسك ولا شيء له في القديم، أو يرد ولا شيء عليه في الحادث كما قال خليل: إلا أن يقبله بالحادث أو يقل فكالعدم اهـ بحذف. انظر المقدمات في التدليس.
قال رحمه الله تعالى: " ثم العيب كل ما نقص الثمن أو المنفعة،
او كان علاقة، أو مخوف العاقبة. وما اختلفا فيه نظره أرباب الخبرة وزواله قبل الرد
يسقطه إلا ألا يؤمن عوده " يعني أنه لما ذكر أحكام العيوب أراد أن يبينها بأنواعها. قال ابن جزي في القوانين: المسألة الثالثة في أنواع العيوب، وهي ثلاثة: عيب ليس فيه شيء، وعيب فيه قيمة، وعيب رد، فأما الذي ليس فيه شيء فهو اليسير الذي لا ينقص من الثمن، وأما عيب القيمة فهو اليسير الذي ينقص من الثمن فيحط عن المشتري من الثمن بقدر نقص العيب، وذلك كالخرق في الثوب والصدع في حائط الدار. وقيل إنه يوجب الرد في العروض بخلاف الأصول. وأما عيب الرد فهو الفاحش الذي ينقص حظاً من الثمن، ونقص العشر يوجب الرد عند ابن رشد: وقيل الثلث. فالمشتري في عيب الرد بالخيار بين أن يرده على بائعه أو يمسكه ولا أرش له على العيب،
وليس له أن يمسكه ويرجع بقيمة العيب إلا أن يفوت في يده اهـ كما تقدم.
قال الدردير في أقرب المسالك: وإن حدث بالمبيع عيب متوسط كعجف وعمى وعور وعرج وشلل وتزويج رقيق وافتضاض بكر فله التماسك وأخذ القديم، والرد ودفع الحادث، يقوم صحيحاً ثم بكل، إلا أن يقبله البائع بالحادث فكالعدم، كالقليل كوعك ورمد وصداع وقطع ظفر وخفيف حمى ووطء ثيب وقطع شقة كنصفين أو كقميص إن دلس. والمخرج عن المقصود مفيت، كتقطيع غير معتاد، وكبر صغير، وهرم إلا أن يهلك بعيب التدليس أو بسماوي زمنه كموته في إباقه فالثمن. وقوله: وما اختلفا فيه نظره أرباب الخبرة، يعني إذا اختلف البائع والمشتري في كون العيب قديماً أو حادثاً فإنه ينظر فيه أهل المعرفة. قال ابن جزي يعرف حدوثه أو قدمه بالبينة أو باعتراف المحكوم عليه أو بالعيان، فإن لم يعرف بشيء من ذلك واختلف البائع والمشتري في قدمه وحدوثه نظر إليه أهل البصر ونفذ الحكم بما يقتضي قولهم، سواء كانوا مسلمين أو نصارى إذا لم يوجد غيرهم، وإلا حلف البائع على البت في الظاهر من العيوب، وعلى نفي العلم في الخفي. وقيل على نفي العلم فيهما، وله رد اليمين على المشتري، وهل يحلف على البت أو على العلم قولان اهـ. وقوله: كانوا مسلمين إلخ وعبارة الجزيري في الفقه أنه قال: ولا يشترط في شهود قدم العيب أو حدوثه الإسلام ولا العدالة، ويكفي في الشهادة بهما شاهد واحد لأنهما خبر لا شهادة، إنما يشترط فيها عدم التجريح بالكذب اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ولا يلزمه رد غلة " يعني أنه تقدم في بيع الفاسد عند قول المصنف: ولا يلزمه رد غلة كما نقل عن الأجهوري. ونصه: واعلم أن كل من أنفق على ما اشتراه وله غلة تبتغى كالغنم والدواب والعبد، ثم رده بعيب أو استحقاق أو
فساد لا يرجع بنفقته، بخلاف ما ليس له غلة تبتغى كالنخل إذا ردت مع ثمارها فإنه يرجع بقيمة سقيها وعلاجها، وهذا كله في غير ما له عين قائمة. وأما النفقة فيما له عين قائمة
كالبناء والصباغ فإنه يرجع بها وله الغلة كسكنى الدار اهـ.
قال ابن جزي (فرع) من اشترى شيئاً فاستعمله ثم رد بعيب فالغلة له بالضمان، وكذلك إذا استحق من يده بعد أن استغله له اهـ. قال الدردير على أقرب المسالك: والغلة للمشتري للفسخ لا الولد، والثمر المؤثرة، والصوف التام، كشفعة واستحقاق وتغليس وفساد أي فهؤلاء الخمسة يفوزون بالغلة. قال بعضهم:
والفائزون بغلة هم خمسة
…
لا يطلبون بها على الإطلاق
الرد في عيب وبيع فاسد
…
وشفعة فلس مع استحقاق
فالأولان بزهوها فاز بها
…
والجد في فلس ويبس الباقي
وما أنفقوا قد ضاع تحت هلاكها
…
وإذا انتفت رجعوا بكالإنفاق اهـ.
قال رحمه الله تعالى: (بخلاف الأولاد ومال العبد والصوف الكائن حال العقد) قال الخرشي والمعنى أن من اشترى إبلاً أو غنماً فولدت عنده ثم وجد بها عيباً فلا يردها إلا مع ولدها، ولا شيء عليه في الولادة إلا أن ينقصها ذلك فيرد معها ما نقصها. قال ابن يونس: إن كان في الولد ما يجبر النقص جبره على قول ابن القاسم. وسواء اشتراها حاملاً أو حملت عنده، خلافاً للسيوري في جعله الولد غلة اهـ. وقوله ومال العبد والصوف والكائن حال العقد، هما معطوفان على الأولاد. وتقدم أن مال الرقيق للبائع إلا بشرط. وفي الموطأ عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال:" من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ". قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إذا اشترط مال العبد فهو له نقداً كان أو ديناً أو عرضاً يعلم أو لا يعلم. وإن كان للعبد من المال أكثر مما اشتُرِي به كان ثمنه نقداً أو ديناً أو عرضاً، وذلك أن مال العبد ليس على سيده فيه ذكاة اهـ.
وإذا رُد العبد أو الغنم بعيب فإن المشروط عند العقد من مال العبد يرد كالصوف
الكائن عند العقد والناشئ بعد العقد فمن الغلة يفوز بها المشتري. وتقدم الكلام في النفقة والعلاج فراجعه إن شئت.
ثم انتقل يتكلم على بيان حكم الرد في عهدة الثلاث وعهدة السنة، فقال رحمه الله تعالى:" ويحكم بالعهدتين في الرقيق إن كانت عرفاً أو اشترطت في العقد، فعهدة الثلاث من سائر العيوب، والسنة من الجنون والجذام والبرص، ويثبت خيار الرد " معنى العهدة في الأصل: العهد وهو الإلزام والالتزام، وفي
العرف تعلق ضمان المبيع بالبائع في زمن معين، وهي قسمان: عهدة سنة وهي قليلة الضمان طويلة الزمان، وعهدة ثلاث، أي ثلاثة أيام، وهي قليلة الزمان كثيرة الضمان عكس الأولى، وهما خاصتان بالرقيق بالشرط أو العادة اهـ الدردير.
قال النفراوي في الفواكه: والدليل على مشروعية العهدتين عمل أهل المدينة. وفي المدونة عن سحنون بإسناده عن عقبة بن عامر الجهني أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عهدة الرقيق أربعة أيام أو ثلاثة ". وفي الموطأ أن أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل كانا يذكران في خطبتهما عهدة الرقيق في الأيام الثلاثة حين يشترى العبد أو الوليدة، وعهدة السنة. ونقل ابن عبد البر أن عمر بن عبد العزيز قضى بها، وبها قال الفقهاء السبعة، وابن شعاب. والقضاة ممن أدركنا يقضون بها وغير ذلك من الأحاديث اهـ. قال أبو محمد في الرسالة: والعهدة جائزة في الرقيق إن اشترطت أو كانت جارية بالبلد، فعهدة الثلاث الضمان فيها من البائع من كل شيء، وعهدة السنة من الجنون والجذام والبرص اهـ. قال خليل: ورد في عهدة الثلاث بكل حادث إلا أن يبيع ببراءة، ودخلت في الاستبراء، والنفقة عليه وله الأرش كالموهوب له إلا المستثنى ماله، وفي عهدة السنة بجذام وبرص وجنون بطبع أو مس جن، لا بكضربة إن شرطا، أو اعتيدا،
وللمشتري إسقاطهما، والمحتمل بعدهما منه أي من المشتري. ثم قال: وسقطتا بكعتق فيهما. وعبارة الدردير على أقرب المسالك: وله الرد في عهدة الثلاث بكل حادث إلا أن يستثنى عيب معين، وعلى البائع فيها النفقة وله الأرش كالموهوب إلا أن يستثنى ماله. وفي عهدة السنة بجذام أو برص أو جنون طبع أو مس جن لا بكضربة إن شرطا أو اعتيدا. وسقطتا بكعتق وبإسقاطهما زمنهما وابتداؤهما أو النهار من المستقبل لا من العقد اهـ. قال ابن جزي في القوانين:" المسألة الرابعة " في العهدتين، وهما عهدة الثلاث من جميع الأدواء التي تطرأ على الرقيق، فما كان منها داخل ثلاثة أيام فهو من البائع وعليه النفقة والكسوة فيها والغلة ليست له. وعهدة السنة من الجنون والجذام والبرص، فما حدث منها في السنة فهو من البائع وتدخل عهدة الثلاث في عهدة السنة، ويقضى بهما في كل بلد، وقيل لا يقضى بهما إلا حيث جرت العادة بهما، وتسقط العهدتان على البائع في بيع البراءة. وانفرد مالك وأهل المدينة بالحكم بالعهدتين خلافاً لسائر العلماء اهـ.
ثم ذكر المصراة. قال رحمه الله تعالى: " والتصرية عيب، فمن ابتاع مصراة جاهلاً فاحتلبها فله إمساكها، أو ردها وصاعاً من تمر أو غيره من غالب قوت البلد، لا يزاد لكثرة اللبن ولا ينقص لقلته، فإن علم تصريتها فاحتلبها ليختبرها أو
احتلبها ثانية لذلك فهو على خياره، فإن عاود سقط " يعني كأن سائلاً سأل ما التصرية وما حكمها إذا وقع؟ فقال: والتصرية عيب، وفي المدونة المصراة هي التي يترك اللبن في ضرعها ثم تباع وقد ردت لحلابها فلا يحلبوها، فهذه المصراة لأنهم تركوها حتى عظم ضرعها وحسن درها فأنفقوها بذلك، فالمشتري إذا حلبها إن رضي حلابها، وإلا ردها ورد معها مكان حلابها صاعاً من تمر أو من غالب قوت أهل البلد اهـ. قال الجزيري في الفقه على المذاهب الأربعة: مسألة المصراة هي التي أشرنا إليها في أول مبحث الرد بالعيب، وهي مأخوذة من التصرية، ومعناها جمع اللبن
وحبسه في ضرع الحيوان بفعل البائع ليكبر الضرع فيغتر المشتري ويشتريها ظناً منه أن عظم الضرع لسبب كثرة اللبن كثرة طبيعية، ويسمى هذا خيار التغرير الفعلي، وهو منهي عنه شرعاً فقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء ردها وصاعاً من تمر) متفق عليه اهـ. قال الدردير في أقرب المسالك عاطفاً على العيوب التي يرد بها المبيع: وتصرية حيوان، ويرد إن حلبه بصاع من غالب القوت، وحرم رد اللبن كغيره بدلاً عنه لا إن ردها بغير عيب التصرية أو قبل حلبها، وإن حلبت ثالثة فإن حصل الاختيار بالثانية فرضاً وإلا فله الثالثة، وحلف إن ادعى عليه الرضا ولا رد إن علم اهـ.
وحاصله أن المشتري إذا حلب المصراة أول مرة فلم يتبين له أمرها فحلبها ثانية ليختبرها فوجد لبنها ناقصاً فله ردها اتفاقاً فلو حلبها في اليوم الثالث فهو رضاً بها ولا رد له، ولا حجة عليه في الحلبة الثانية إذا بها يختبر أمرها، كذا لمالك في المدونة. وفي الموازية عن مالك له حلبها ثالثة ويردها بعد حلفه أنه لم يرض بها، ولم يصرح في الموازية بأنه حصل له الاختيار بالحلبة الثانية اهـ قاله الصاوي في الحاشية.
بيع الثمار
ولما أنهى الكلام على ما يتعلق ببيع الخيار وشروطه وأحكامه انتقل يتكلم على أحكام بيع الثمار والأشجار والنبات وما يتعلق بها من الأزهار، وبيع البقولات والمقثئة وما أشبه ذلك فقال رحمه الله تعالى: