الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الإجارة
أي في بيان ما يتعلق بأحكامها، وحقيقتها، وأركانها، وشروطها، وموانعها، ومفسداتها.
الإجارة لغة هي مصدر سماعي لفعل أجر، وشرعاً: عقد يفيد تمليك منافع شيء مباح مدة معلومة بعوض غير ناشئ عن المنفعة، ومثلها الكراء، لأن الإجارة والكراء شيء واحد، وإنما اختلفا في التسمية عرفاً، فالإجارة هي التعاقد على منفعة الآدمي وبعض المنقولات كالأثاث، وفي بعضها تسمى بالكراء خاصة كمنفعة الحيوان وجميع الأشياء الثابتة كالدور والأراضي وغيرها فإن العقد على منافعها يسمى كراء على معنى الإجارة، وبالعكس عرفاً، ولذلك كانت الإجارة والكراء في معنى واحد اهـ ملخصاً من الفقه.
قال رحمه الله تعالى: " وهي عقد لازم على المنافع المباحة ولا تنفسخ بالموت، بل يقوم وارث كلٍّ مقامَه " وفي أقرب المسالك: الإجارة: عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض بما يدل أي على تمليك المنفعة. وفي الرسالة: والإجارة جائزة إذا ضربا لها أجلاً وسميا الثمن. قال شارحها: وما تقدم من أن الإجارة جائزة بيان لحكمها الأصلي. وقد تكون مكروهة مثل أن يؤجر نفسه للإمامة أو للحج أو غيرهما من أنواع الطاعات، أو لذمي لا يناله من ذلك مذلة. وقد تكون محرمة مثل أن يؤجر نفسه لذمي يناله بذلك مذلة أو يؤجر نفسه لمعروف بالغصب. وكذا كل إجارة يترتب عليها فعل محرم اهـ. قال ابن جزي: وأما المنفعة فيشترط فيها شرطان:
الأول: أن تكون معلومة إما بالزمان كالمياومة والمشاهرة وإما بغاية العمل كخياطة الثوب، ولا يجوز أن يجمع بينهما، لأنه قد يتم العمل قبل الأجل أو بعده، وإذا استأجره
على رعاية غنم بأعيانها لزمه رعاية الخلف عند ابن القاسم.
الثاني: أن تكون المنفعة مباحة لا محرمة ولا واجبة، أما المحرم فلا يجوز إجماعاً، وأما الواجب كالصلاة والصيام فلا تجوز الإجارة عليه، وتجوز الإجارة على الإمامة مع الأذان والقيام بالمسجد لا على الصلاة بانفرادها، ومنعها ابن حبيب متفرقة ومجتمعة، وأجازها ابن عبد الحكم مافرقة ومجتمعة اهـ. وقوله:
ولا تنفسخ بالموت إلخ، وهو كذلك إن كانت الإجازة مضمونة، وعبارة أبي محمد في الرسالة: ولا ينتقض الكراء بموت الراكب أو الساكن، ولا بموت غنم الرعاية، وليأت بمثلها. ومن اكترى كراء مضموناً فماتت الدابة فليأت بغيرها، وإن مات الراكب لم ينفسخ الكراء وليكتروا مكانه غيره اهـ. أما إذا كانت غير مضمونة بأن كانت معينة فإنها تنفسخ. وفي الرسالة أيضاً: ومن اكترى دابة بعينها إلى بلد فماتت انفسخ الكراء فيما بقي، وكذلك الأجير يموت والدار تهدم قبل تمام مدة الكراء اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ويلزم تعيين المنفعة بالعمل كالخياطة والبناء والصياغة ونحو ذلك أو منتهى مسافة الركوب أو الحمولة أو ما يكتريها له، وتعيين المحمول مشاهدة أو قدراً " يعني كما في عبارة النفراوي أنه قال: واعلم أن الإجارة لا تصح إلا بشروط ثلاثة: أحدها أن يكون أجلها معلوماً بشهر أو سنة، أو تكون محدودة بعمل كخياطة ثوب أو كتابة كراس. وثانيها أن يكون الأجر معلوماً للمتعاقدين ولو بالعرف كأجرة الخياطة أو صبغ الثوب أو غيرهما مما لا تختلف أجرته عرفاً. وثالثها أن يكون العمل المستأجر عليه معلوماً للمتعاقدين، كما يشترط تعيين الذات المعقود عليها لتعليمها أو لركوبها. قال خليل: وعين متعلم ورضيع ودار وحانوت وبناء على جدار، ومحمل إن لم توصف، ودابة لركوب، وإن ضمنت فجنس ونوع وذكورة وأنوثة اهـ.
قال ابن جزي في القوانين: وأما الدواب فتكرى لأربعة أوجه: للركوب فيتعين
بالمسافة أو الزمان، ولا يجمع بينهما، ولا يشترط وصف الراكب خلافاً للشافعي، ويجب أن يركبه مثله لا أضر منه. وللحمل فيجب أن يصف ما يحمل عليها ويعين المسافة أو الزمان، فإن زاد في حملها وعطبت، فإن كان ما زاده مما يعطب بمثله فربها مخير بين أخذ قيمة كراء ما زاد عليها مع الكراء أو قيمة الدابة، وإن كانت الزيادة مما لا يعطب بمثله فله كراء الزيادة مع الكراء الأول ولا خيار له، ولهذا الحكم أشار رحمه الله تعالى بقوله:" وحمل الأضر، وارتكاب غير المماثل، وسلوك الأشق أو الأبعد اختياراً يوجب ضمانها إلا أن يختار أخذ الأجرة مع أجرة المثل للتفاوت، فإن سلمت فله أجرة المثل للتفاوت " هذا كما قال خليل: وضمن إن أكرى لغير أمين، أو عطبت بزيادة مسافة أو حمل تعطب به، وإلا فالكراء إلخ وهذا ظاهر كما بينه ابن جزي.
واعلم أنه لا يشترط تعيين الراكب عند العقد في الكراء بل يصح على حمل آدمي. قال خليل عاطفاً على الجائزات: وعلى حمل آدمي لم يره ولم يلزمه الفادح وهو العظيم الثقيل، ومثله المريض والمعروف بكثرة النوم أو بعقر الدواب، وإن لم
يكن ثقيلاً، والأنثى ليست من الفادح مطلقاً، فإن وقع العقد على حمل آدمي وأتاه بامرأة لزمه حملها حيث لم تكن ثقيلة بخلاف ما لو وقع العقد على حمل رجل فأتى له بامرأة فله الامتناع من حملها، بخلاف عكسه. قال النفراوي اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وعلى الكري ما تفتقر الدابة إليه من آلة وإعانة المكتري في العكم والحطب والركوب، وتعيين مدة الخدمة والسكنى، ويجب بيان مبدئها، وتلزم الأجرة على جميعها، لا تعجيلها بل بحسب الاستيفاء أو العرف أو الشرط، أو كونها عرضاً معيناً، أو يفسد ببقائهأو بتراخي مبدأ المدة على العقد، وله الاستيفاء بنفسه أو بغيره، وإجارتها من مؤجرها وغيره " يعني أنه يجب على
الكري أن يأتي بما جرت العادة بإتيانه من الآلة التي لا بد منها في حالة السير كجمل. وتلزم المعاونة لكل بقدر الطاقة والعادة عند العقبات والمنازل، وعند الآكام والهبوط والركوب، ويجوز أن يتفقا على أن يكون طعام أحدهما على الآخر. قال خليل: وجاز على أن عليك علفها وطعام ربها، أو عليه طعامك، أو ليركبها في حوائجه. قال الخرشي: أي جاز كراء الدابة على أن عليك يا مكتري طعام رب الدابة، أو كراءها بدراهم، على أن على ربها طعام المكتري وإن لم توصف النفقة لأنه معروف اهـ. انظر المواق. قال ابن جزي في القوانين: ويجوز استئجار الأجير للخدمة والظهر بطعامه وكسوته على المتعارف. وقال أيضاً ولا يجب تقديم الأجرة بمجرد العقد، وإنما يستحب تقديم جزء من الأجرة باستيفاء ما يقابله من المنفعة إلا إن كان هناك شرط أو عادة، أو يقترن بالعقد ما يوجب التقديم، مثل أن تكون الأجرة عرضاً معيناً، أو طعاماً رطباً، وما أشبه ذلك، أو تكون الإجارة ثابتة في ذمة الأجير، فيجب تقديم الأجرة، لأنها بمنزلة رأس المال في السلم. قال الشافعي: تجب الأجرة بنفس العقد اهـ. قال العلامة الجزيري في الفقه على مذهب المالكية: يشترط في الأجر أن يدفع عاجلاً في مسائل بحيث لو أخر دفعه فيها لم يصح العقد:
المسألة الأولى: أن يكون الأجر شيئاً معيناً كما إذا استأجر أحد شخصاً لخدمته سنة في نظير جمل معين يعطيه إياه فإنه يجب أن يسلمه الجمل عاجلاً بحيث لا يجوز له أن يؤخره أكثر من ثلاثة أيام فإن أخره فسد العقد لأن في ذك غرراً، فإن الجمل قابل للتغيير، فيصح أن تكون قيمته الآن عشرة وأن خدمة الرجل تساويها، فإذا قبضه فقد أخذ قيمة أجره كاملة، أما إذا تأخر فإنه قد يهزل أو يعرض له عارض آخر تنخفض به قيمته وفي ذلك ضرر بالعامل، أو تعرض له زيادة وفي ذلك ضرر بصاحبه، فدفعاً لهذا الغرر يجب تقديم الأجرة ومثل ذلك كل سلعة معينة كهذا الثوب، فإنها قابلة للنقص والزيادة وفي ذلك غرر
يوجب النزاع، فمتى
كان الأجر معيناً فإنه يجب تعجيله حتى ولو كان العرف جارياً على التأجيل في مثله، فإذا كان العرف جارياً على التأجيل فإنه يجب اشتراط التعجيل وإلا فسد العقد. ثم قال:
المسألة الثانية: أن يكون الأجر غير معين كما إذا استأجره على أن يعطيه جملاً ما لا جملاً معيناً، أو ثوباً ما، مثاله: أن يقول شخص لآخر استأجرتك لتخدمني سنة وأعطيك جملاً أجرة لك في نظير خدمتي، وهذه الحالة تشتمل على ثلاث صور: الصورة الأولى أن يشترطا دفع الأجرة مقدماً، وحكمها أنه يجب الدفع عملاً بالشرط وإلا فسدت. الصورة الثانية لم يشترطا التعجيل ولكن العادة بين الناس في مثل ذلك التعجيل فيجب التعجيل عملاً بالعادة. الصورة الثالثة لم يقع شرط ولم تكن عادة وهذه تشتمل على صورتين: الصورة الأولى أن يكون عقد الإجارة على منفعة في الذمة لا على منفعة شيء معين، كأن يقول له: استأجرتك على أن تخيط هذا الثوب في ذمتك إن شئت فعلته بنفسك أو بغيرك، فإنه في هذه الحالة استأجره على أن يؤدي له منفعة مضمونة في ذمته. الصورة الثانية أن يستأجر منفعة شيء معين كأن يستأجر شخصاً لخدمته أو داراً لسكناه، ففي الصورة الأولى يجب تعجيل دفع الأجرة وإلا كان مقابلة دين بدين، لأن العامل في هذه الحالة مدين بالمنفعة والمستأجر مدين بالأجر، وهذا غير جائز. نعم إذا شرع العامل في العمل فإن تعجيل الأجر لا يجب، لأن الذي يصنعه العامل يكون مقبوضاً إنما يجب أن يشرع بدون تأخير، كأن يكون الليلة أو لغد وإلا فلا يصح، فإذا لم يكن الأجر معيناً ولم يشترط تعجيله، ولم يجر العرف بتعجيله، ولم تكن المنافع المعقود عليها في الذمة فإنه لا يجب التعجيل. وحكم هذه الحالة يختلف باختلاف حال عقد الإجارة، وذلك لأنك قد عرفت أن العقد إما أن يكون على منفعة آدمي، وهو ثلاثة أقسام: أجير وصانع وخادم، والفرق بين الأجير والصانع أن الأجير هو الذي يعمل بدون أن يكون شيء مما يعمل فيه في
حيازته كالبناء فإنه يبني وينصرف ويترك ما عمله تحت يد المستأجر، ومثله كل صانع يعمل فيما ليس في حيازته كالنجار الذي يصلح الأبواب أو الشبابيك. وأما الصانع فهو الذي يعمل فيما هو تحت يده كالخياط والحداد والصائغ. ثم الصانع ينقسم إلى قسمين: صانع فقط، وصانع بائع، فالصانع فقط هو الذي لا يعمل شيئاً سوى الصنعة بدون زيادة عليها من عنده، والصانع البائع هو الذي يزيد على الصنعة شيئاً كالصباغ فإنه يزيد الصبغة. وأما الخادم فهو الذي يستأجر لخدمة الغير. وإما أن يكون عقد الإجارة على منفعة دار أو عقار أو حيوان أو آنية، فإن كان على منفعة آدمي صانع أو أجير فحكمه أنه ليس لهما المطالبة
بأخذ الأجر إلا بعد الفراغ من عملهما، ما لم يكن هناك عرف يقضي بالتعجيل فإنهما يعاملان به، فإذا عمل النجار جزءاً من عمله مثلاً وأراد أخذ أجرته وامتنع المستأجر فليس له جبره على الدفع إلا بعد تمام العمل، إلا إذا كانت العادة تقديم الدفع فيعمل بها، فإذا أراد أن ينفصل عن العمل ولا يتمه فإن له أن يحاسب على ذلك الجزء الذي عمله. أما إذا كان العقد على منفعة دار أو عقار أو راحلة أو آدمي للخدمة أو آنية - كآنية الفراشين - فإنه يصح فيها الاتفاق على تقديم الأجرة. وتأخيرها يشترط ألا يتأخر الشروع في العمل أكثر من عشرة أيام، وإلا فلا يصح تعجيل الدفع، فإذا لم يحصل اتفاق تدفع الأجرة يوماً بيوم وبذلك نعرف أقسام الإجارة اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ويجوز كل سنة بكذا، ولكل الترك، ويلزم من الأجر بحسابه " يعني كما في القوانين، وقال: وأما الرباع فتكون مياومة ومشاهرة ومسانهة إلى سنة أو سنين لا تتغير في مثلها. ويقع الكراء فيها على وجهين: أحدهما تعيين المدة فيلزمهما وليس لأحدهما حل الكراء إلا برضا الآخر. والثاني إبهام المدة، كقوله: أكري بكذا وكذا للشهر، فلكل واحد منهما حل الكراء متى شاء، ويؤدي من الكراء بحسب ما سكن، ومثل ذلك قال ابن الماجشون، إلا أنه قال يلزمهما الشهر
الأول، فإن انهدم جميعاً انتقض الكراء وإن انهدم بعضها لم يلزم ربها إصلاحها عند ابن القاسم خلافاً لغيره، ويجوز كراؤها من ذمي إذا لم يشترط فيها بيع الخمر والخنزير اهـ. قال الدردير عاطفاً على الجائزات: ومشاهرة ولا تلزمهما إلا بنقد أي من المكترى فقدره كالوجيبة بشهر كذا، أو هذا الشهر، أو شهراً، أو سنة، أو إلى كذا، فالمعنى أنه جاز الكراء مشاهرة وهو ما عبر فيه بلفظ كل، نحو كل يوم، أو كل جمعة أو كل شهر، أو كل سنة بكذا. ولا يلزمهما عقدها فلكطل منهما حله عن نفسه متى شاء ولا كلام للآخر، وهو قول ابن القاسم في المدونة، وهو أحد أقوال ثلاثة، حاصلهما: أن القول الأول لا يلزم الكراء في الشهر الأول ولا فيما بعده، وللمكتري أن يخرج متى شاء، ويلزمه من الكراء بحساب ما سكن، وهذا القول هو الذي ذهب إليه كثير من أهل المذهب كالمصنف. والقول الثاني: يلزمهما المحقق الأقل كالشهر الأول لا ما بعده. والقول الثالث: يلزم الشهر إن سكن بعضه. قال الشيخ مياره، وبهذا الأخير جرى العمل عندنا أي بفارس وهذه الأقوال الثلاثة داخلة في الكراء مساناة اهـ. نقله الصاوي عن البناني.
قال رحمه الله تعالى: " وتمكن الاستيفاء يوجب الأجرة وإن لم يستوف حتى انقضت، إلا أن تكون مضمونة فعليه أجرة المثل للماضي والإجازة بحالها " يعني
إذا اكترى شيئاً معيناً كهذا البيت فلا يستحق الأجرة بمجرد العقد، بل بالتمكن من الاستيفاء في حصول المنفعة، وإذا تمكن من الاستيفاء ولم يستوف بنفسه ولا بغير حتى انقضت مدة الكراء فإن المكري يطالبه بدفع ما مضى من الكراء من وقت التمكن ولو لم يسكن إن كان داراً أو غيرها من المعينات، كهذه الدابة وهذه الأرض، أي أرض الزراعة مثلاً. وأما لو كان الكراء مضموناً فإنه يلزم المكتري دفع أجرة المثل للماضي من يوم التمكن للاستيفاء والإجارة بحالها كما هي، وإليه أشار خليل بقوله: ولزم الكراء بالتمكن وإن فسد لجائحة أو غرق بعد وقت الحرث أو عدمه بذراً، أو
سجنه، أو انهدمت شرفات البيت، أو سكن أجنبي بعضه، لا إن نقص من قيمة الكراء، وإن قل أو انهدم بيت فيها، أو سكنه مكريها، أو لم يأت بسلم للأعلى، أو عطش بعض الأرض، أو غرق فبحصته اهـ. قوله: لا إن نقص يريد إذا قام بذلك، فإن سكت وسكن ولم يقم به فلا شيء له قاله في المدونة.
وحاصل مذهب المدونة في ذلك أنه إذا انهدم شيء من الدار قليلاً كان أو كثيراً لم يجبر ربها على إصلاحه مطلقاً كما في التوضيح، ثم ينظر فيه، فإن كان فيه مضرة على الساكن فله الخيار بين أن يسكن بجميع الكراء أو يخرج، فإن خرج ثم عمرها ربها لم يلزمه الرجوع إليها، وإن عمرها وهو فيها لزمه بقية الكراء، وإن سكن الدار مهدومة لزمه جميع الكراء، وإن كان لا ضرر على المكتري في السكنى فالكراء له لازم، وينظر إلى المتهدم فإن نقص من قيمة الكراء حط ذلك النقص إذا قام به المكتري ولم يصلحه رب الدار، فإن سكت وسكن فلا شيء له، وإن لم ينقص من قيمة الكراء شيئاً فلا كراء له والله أعلم اهـ. قاله الحطاب. قال ابن جزي: ويوجب الفسخ وجود عيب أو ذهاب محل المنفعة كانهدام الدار كلها أو غصبها، فإن انهدم بعضها لم ينفسخ الكراء ولم يجبر رب الدار على إصلاحها، وحط عن المكتري ما ينوب المنهدم عند ابن القاسم. وقال غيره: يجبر على إصلاحها ولا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين ولا بعذر طارئ على المكتري، مثل أن يكتري حانوتاً فيحرق متاعه أو يسرق، خلافاً لأبي حنيفة في المسألتين. وإن ظهر من مكتري الدار فسوق أو سرقة لم ينفسخ الكراء ولكن السلطان يكف أذاه، وإن رأى أن يخرجه أخرجه وأكراها عليه ويبيعها على مالكها إن ظهر ذلك منه ويعاقبه اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وكري الحج إن أخلف اكترى الحاكم عليه، وإن أخلف المكتري اكتري مكانه والزيادة والنقص له وعليه، فإن فات الوقت
قبل الحكم انفسخت " يعني - كما في المدونة - أنه قال: أرأيت إن رفعت إلى السلطان أمري حين هرب المكري أيكترى لي عليه أم لا؟ قال نعم يكترى لك عليه،
وقلت: وكذلك لو ذهب المكتري فرفع الجمال ذلك إلى السلطان أيكري الإبل على المكتري إلى مكة كان الكراء أو غير ذلك؟ قال: نعم. وما ذكرت لك من الرفع إلى السلطان في الهرب وكراء السلطان عليهما فهو قول مالك. وقال قبل ذلك: كل كراء مضمون فإنه يلزم صاحبه الكراء وإن فر عنه المكري، وليس له على المكري إلا حمولته عليه والكراء لازم له إلا كراء الحاج وحده فإنه يفسخ عنه ويرد كراؤه إن كان قبضه، لأن الحج إذا ذهب إبانه فات اهـ. وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: من تكارى وشرط البلاغ ثم قصرت الدابة استكرى عليه بما قام، وإن لم يشترط البلاغ فمن حيث قصرت الدابة حسب لصاحبها بقدره اهـ المدونة.
ثم قال رحمه الله تعالى: " وتنفسخ بتعذر الاستيفاء كتلف العين، وامتناع المؤجر من التسليم، وموت الأجير والرضيع والعليل، وانسلاخ السن، وغرق أرض الزرع في إبانه، وانقطاع شربها، وتلف زرعها لفسادها " يعني تنفسخ الإجارة بالأشياء المذكورة، وتقدم ذكر بعضها عن قريب، وهي أنها تنفسخ بوجود العيب وذهاب محل المنفعة كانهدام الدار كلها وغصبها، وكذلك تنفسخ بتعذر الاستيفاء كامتناع الؤجر من تسليمها، وموت الأجير كما تقدم، وبموت الرضيع قبل تمام مدة الرضاع، ومثله موت العليل الذي استأجر الطبيب فمات قبل استعمال ذلك عليه قال الحطاب في المستثنيات التي تنفسخ الإجارة بها: والطبيب يوافق على معافاة العليل مدة فيموت قبلها اهـ. ومما تنفسخ به انسلاخ السن أو سكونه، قال خليل: وسن القلع فسكنت أي أن الإجارة تنفسخ بسكون ألم السن المستأجرعلى قلعها اهـ نقله المواق.
ومما تنفسخ به ما ذكره المصنف من تغريق الزرع وانقطاع الماء في إبانه. وكل ذلك مما تنفسخ به الإجارة.
قال الجريري: أما الأرض التي غمرها الماء فإن كان يمكن أن ينكشف عنها ولو نادراً فإنه يصح إجارتها من غير نقد، فإذا انكشف عنها الماء نقده إجارتها وإلا فلا، أما التي لا أمل في انكشاف الماء عنها فإن إجارتها لا تصح على أي حال، أي إن وقعت فسخ. وحاصل ما ذكره الجريري مما تنفسخ به الإجارة على المذهب أنه قال: ينفسخ عقد الإجارة بأمور: أحدها: أن تتلف العين المتعلقة بها المنفعة المطلوبة بحيث لا يمكن للمستأجر أن يستوفيها كما إذا استأجر سخص من آخر داراً فانهدمت، أو اكترى دابة فماتت فإن العقد في هذه الحالة ينفسخ، لأن المستأجر لا يمكنه أن يستوفي المنفعة التي عقد من أجلها. ثانيها: أن يستأجر شخص آخر على قلع ضرس فيسكن ألم الضرس قبل قلعه، أو على عملية جراحية فيزول الألم قبل عملها، فإنه في هذه الحالة ينفسخ العقد. أما إذا لم يسكن الألم
فإن المستأجر يلزمه دفع الأجرة وإن لم يعمل من غير أن يجبر على قلع ضرسه أو شق دمله مثلاً. ثالثها: أن تغصب الدار المستأجرة مثلاً أو تغصب منفعتها ولا يمكن تخليصها منه بالحاكم أو بشيء آخر. رابعها: أن يأمر الحاكم بإغلاق الدكاكين أو هدمها مثلاً فإن الإجارة تنفسخ بذلك. خامسها: تنفسخ إجارة المرضع بظهور حملها أو حصول مرض لها لا تقدر معه على إرضاع الطفل كما تقدم. سادسها: تنفسخ بمرض خادم عجز عن عمل ما استؤجر عليه، فإن عوفي بعد ذلك قبل انقضاء المدة فإن الإجارة تعود ويكمل باقي العمل، أما إذا استأجر دابة فمرضت ثم صحت أثناء المدة فإن الإجارة لا ترجع لما يلحق المستأجر من الضرر في السفر بالانتظار. سابعهما: تنفسخ الإجارة ببلوغ الصبي وهو رشيد. ويأتي تفصيله إن شاء الله. ثامنهما: ينفسخ عقد إجارة الوقف إذا مات
مستحقه الذي أجره قبل موته مدة قبل انقضاء تلك المدة، أما إذا مات المؤجر المالك أو المستأجر فإن العقد لا ينفسخ بموتهما ولا بموت أحدهما ويحل الوارث محلهما في استيفاء المنفعة، انظر بقية كلامه في الفقه اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " لا بجائحة وعدم نباته " قال ابن جزي في القوانين: ولا يحط الكراء بما يصيب الزرع من جائحة غير القحط، ولا يجوز النقد إلا في الأرض المأمونة اهـ. يعني أن الإجارة والكراء لا ينفسخان بجائحة ولا بعدم إنبات البذر من الأرض، ونقل المواق عن سحنون أنه قال: الجائحة من المكتري، وقال ابن حبيب: في ذلك تفصيل. قال ابن يونس: ليس هذا كله بشيء لأن كل ما منع المكتري من السكنى من أمر غالب لا يستطيع دفعه من سلطان أو غاصب فهو بمنزلة ما لو منعه أمر من الله كانهدام الدار أو امتناع ماء السماء، حتى منعه حرث الأرض فلا كراء عليه في ذلك كله، لأنه لم يصل إلى ما اكترى. وقال أضبغ: من اكترى رحا سنة فأصاب أهل ذلك المكان فتنة جلوا بها من منازلهم وجلا معهم المكتري أو بقي آمناً إلا أنه لا يأتيه الطعام لجلاء الناس فهو كبطلان الرحا بنقص الماء أو كثرته، ويوضع عنه قدر المدة التي جلوا عنها، وكذلك الفنادق التي تكرى لأيام الموسم إذا أخطأها ذلك لفتنة نزلت أو غيرها، بخلاف الدار تكرى ثم ينجلون لفتنة وأقام المكتري آمناً، أو رحل للوحشة وهو آمن، فإن هذا لا يلزمه الكراء كله، ولو انجلى للخوف سقط عنه الكراء مدة الجلاء اهـ. وفي المدونة فيمن اكترى الأرض ومنعه عن الزرع مانع قال مالك: إذا اكتراها الرجل فجاءه من الماء ما يمنعه الزرع أنه لا كراء عليه فإن كان قد زرعها ثم جاءه الماء فغرق زرعه في أيام الحرث وهو لو أن الماء انكشف عن الأرض كان يقدر على الحرث، لأن
إبان الحرث لم يذهب، فمنعه الماء من أن يعيد زرعه فلا كراء عليه، وإن كان أصابها في زمان الحرث فهلك زرعه ثم انكشف الماء في إبان يدركه فيه
الحرث فالكراء له لازم لأنه يدرك أن يزرع، وليس هذا بمنزلة ما أصابها بعد ذهاب أيام الحرث، وذلك مثل الجراد والجليد والبرد، والكراء لازم اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وفي انقضاء مدة الغرس يخير ربها بين خلعه وأخذه بقيمته مقلوعاً أو تركه بأجرتها " يعني أنه إذا انقضت مدة الغرس يخير رب الأرض بين أن يدفع لصاحب الغرس قيمة غرسه مقلوعاً أو يتركه ويأخذ كراء السنة، ومثله من استحق الأرض بعد الغرس أو البناء من ذي شبهة، قال في المدونة: من اكترى أرضاً سنين للبناء أو الغرس فبنى أو غرس ثم قام مستحق قبل تمام المدة فللمستحق أن يجيز كراء بقية المدة أو يفسخ، فإن أجاز فله حصة الكراء من يومئذ، ثم له بعد تمام المدة أن يدفع إلى المكتري قيمة البناء والغرس مقلوعاً، قال ابن المواز: بعد طرح أجر القلع، إذ على ذلك المكتري، وإن فسخ الكراء قبل تمام المدة لم يكن له قلع ذلك ولا أخذه بقيمته مقلوعاً، ولكن يقال له: ادفع قيمة البناء والغرس قائماً يريد على أن يقلع إلى وقته، فإن أبى قيل للمكتري: أعطه قيمة أرضه، فإن أبى كانا شريكين اهـ. نقله المواق، وفيها أيضاً: أرأيت إن استأجرت أرضاً سنين مسماة فغرست فيها شجراً فانقضت السنون وفيها شجري فاكتريتها كراء مستقبلاً سنين أيضاً أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: قال مالك: نعم لا بأس بذلك اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وتجوز إجارة المشاع كبيعه " يعني أنه يجوز إجارة الشيء المشاع قبل القسم، قال في المدونة: سمعت مالكاً سئل عن رجل اكترى نصف دار مشاعاً غير مقسوم، قال لا بأس بذلك قلت: هل يجوز أن يكري نصف دار أو سدس دار مشاعاً غير مقسوم؟ قال: هو جائز. قال ابن القاسم: ولقد سألت مالكاً عن الرجلين يكتريان داراً فيريد أحدهما أن يكري نصيبه منها من رجل
من غير شريكه أترى لشريكه فيها شفعة؟ فقال: لا شفعة له، ولا يشبه هذا عندي البيع، فهذا من قول مالك يدلك على أن الكراء في نصف الدار إن كان غير مقسوم أنه جائز وكذلك بلغني عن مالك اهـ. وتقدم الكلام على جواز بيع المشاع في آخر الكلام على بيع الغائب عند قول المصنف: ويجوز بيع المشاع فراجعه إن شئت.
قال رحمه الله تعالى: " ولا ضمان على رب السفينة والحمام إلا بالتعدي. وهل يلزم من أجرتها بحسب الماضي؟ قولان " يعني كما في الرسالة، ونصها: ولا ضمان على صاحب الحمام ولا ضمان على صاحب السفينة ولا كراء له إلا على البلاغ. قال شارحها: والمعنى أن حارس الحمام لا ضمان عليه في الثياب التي
تضيع، وكذا غير الثياب ولو أخذ على ذلك أجرة، لأنه أجير والأجير أمين. وظاهره أنه يستحق الأجرة ولو ضاعت الثياب. ومحل عدم الضمان إذا لم يحصل منه تفريط وإلا ضمن. ومثل حارس الحمام غيره من حراس البساتين وغيرها لا فرق بين كون المحروس طعاماً أو غيره، وسواء مما يغاب عليه أو غيره. وأيضاً إن محل عدم الضمان للثياب وغيرها إن لم يجعلها ربها رهناً تحت الأجرة، و \غلا ضمنها ضمان الرهان. وأما صاحب السفينة كذلك فإنه لا ضمان عليه أيضاً في جميع ما كان فيها من مثال أو نفس إذا غرقت بفعل سائغ فعله فيها من علاج أو موج أو ريح، وأما إن غرقت بفعل غير سائغ فإنه يضمن المال والدية في ماله على المذهب وقيل: الدية على عاقلته. وهذا كله حيث لم يقصد قتل الأنفس وإلا قتل بهم اهـ. بحذف واختصار كما يأتي عند قول المصنف: وإلقاء الأمتعة خوف الغرق. وعبارة الدردير في أقرب المسالك أنه قال: وهو أمين فلا ضمان عليه ولو شرط إثباته أو عثر بدهن أو غيره أو بآنية فانكسرت، أو انقطع الخيل ما لم يتعد أو يغر بفعل. حكارس ولو حمامياً وأجير لصانع، وسمسار خير، ونوتي غرقت سفينته بفعل سائغ وإلا ضمن، كراعٍ خالف مرعى شرط، أو أنزى بلا إذن اهـ. قوله: وهل يلزم من أجرتها إلخ قال ابن جزي:
وكراء السفن من الجعل فلا تلزم الأجرة إلا بالبلوغ خلافاً لابن نافع اهـ. وتقدم مثله في الرسالة قال الدردير فقرب المسالك: والأصح أن كراء السفن بالبلاغ إلا أن يتم العمل غيره فللأول بحسب كرائه يعني كما إذا كان كراء الأول عشرة وغرقت في نصف الطريق فاستأجر عليها بعشرين فليس للأول إلا خمسة اهـ بطرف من الصاوي.
قال رحمه الله تعالى: " كتلف الدابة بالمتاع في بعض المسافة، ولا الراعي فيما تلف، أو ذبحه خوف موته، بخلاف أكله " يعني أنه لا ضمان على المكتري بتلف الدابة بما عليها من المتاع. وكذلك لا ضمان على الراعي بموت غنم الرعية على ما يأتي من التفصيل في ذلك. قال العلامة الشيخ أحمد النفراوي في الفواكه: تلخص مما ذكرناه في الكلام على الراعي وعلى المكتري التصديق في الهلاك أو الضياع بعد حلف المتهم دون غير ولا فرق بين كون الذات المكتراة مما يغاب عليها كالثوب والوعاء، أو لا يغاب عليها كالدابة. وأما لو ذبح واحد الذات التي تحت يده فتقدم أنه يصدق الراعي في ذبحه لخوف موت ما ذبحه، بخلاف المكتري لنحو ثور فإنه لا يصدق أنه ذبحه لخوف موته إلا بلطخ أو بينة. ومثله المستعير والمرتهن والشريك والمودع وإن كانوا يصدقون في دعوى التلف أو الضياع، ولعل الفرق بين هؤلاء وبين الراعي - مع كون الجميع مؤتمنين - تعذر
الإشهاد من الراعي غالباً بخلاف هؤلاء ف\غنهم لا مشقة عليهم في الإشهاد غالباً. وأحرى من هؤلاء في الضمان من مر على دابة شخص فذكاها وادعى أنه إنما فعل ذلك خوف موتها، أو سلخ دابة غيره وادعى أنه وجدها ميتة فلا يصدق إلا ببينة أو لطخ. وكل من ترك الذبح من هؤلاء حتى ماتت الدابة فلا ضمان عليه إلا إذا كان عنده من يشهد على ذبحهما خوف الموت، كما يضمن الراعي بترك ذكاتها وشهادة البينة عليه بتفريط اهـ.
قال العلامة الجزيري: الأصل فيمن استولى على شيء بإجارة أو كراء أن يكون أميناً
ولا ضمان على الأمين فيما يتلف أو يضيع منه، بشرط ألا يتعدى على ما بيده أو يهمل في صيانته، ويصدق في دعوى التلف أو الضياع سواء كان بيده من الأشياء التي لا يمكن إخفاؤها بسهولة كالجمال والبقر ونحوها. ويعبرون عنها بما لا يغاب عليه، أو كان من الأشياء التي يمكن إخفاؤها كالنقود والثياب ونحوها. ويعبرون عنها بما يغاب عليه. ويستثنى من هذه القاعدة أمران: أحدهما الأكرياء على حمل الطعام والشراب بخصوصه. ثانيهما: الصناع، فأما الأكرياء: كالحمالين أي الشيالين والعربجية ونحوهما فإنهم يضمنون ما تلف منهم أو ضاع من الطعام خاصة كالقمح والأرز والعسل والسمن والفواكه الرطبة والجافة وغير ذلك من كل ما يؤكل. وكذلك ما يشرب كالزجاجة التي فيها أشربة، وذلك لأن الطمع في مثل هذه الأشياء كثير، والأيدي تمتد إليها بسهولة، فمن اللمصلحة أن يضمنها الحمالون صيانة لأموال الناس، إنما يضمنون بشرطين: الأول أن يكون التلف أو الهلاك حاصلاً بسببهم كما إذا أهمل أحد في حفظها بأن ربطها بحبل واه فانقطع الحبل فانكسرت أو طرحها بعنف فسقطت فانكسرت أو نحو ذلك. وأما إذا حصل ذلك لأسباب قهرية كأن عثرت رجله أو رجل دابته فانكسر الإناء وتلف ما فيه من سمن أو عسل أو غيره فإنه لا يضمن، إلا إذا ساق دابته بشدة غير معتادة، أو سار سيراً سريعاً غير معتاد فإنه في هذه الحالة يكون متسبباً فعليه الضمان. الشرط الثاني ألا يكون صاحب الطعام المحمول معه، فمن أجر حمالاً ليحمل له فاكهة وصاحبه في سيره إلى منزله فتلفت الفاكهة من الحمال فإنه لا يكون مسؤولاً عنها في هذه الحالة، لأنه لم يسلمها للحمال ويتركه وشأنه، بل لازمه في سيرها وحفظها فلا ضمان على الحمال سواء كان حاملاً على سفينة أو دابة أة عربة، أو كان حاملاً بنفسه أي على رأسه اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ومن استعان عبداً أو صبياً بغير إذن ضمنه، فإن سلم فلوليه أجرة مثله لا في غير متلف كمناولة ثوب ونحوه " بمعنى كما في المدونة،
ونصها: أرأيت لو أن صبياً أجر نفسه وهو صغير بغير إذن وليه أتجوز هذه الإجارة أم لا؟ قال: لا تجوز الإجارة له، فإن عمل فله ما سمي، إلا أن تكون إجارة مثله أكثر فيكون له إجارة مثله أي لوليه وكذلك العبد. قال: فإن عطب الصبي أو الغلام ماذا على المستأجر؟ قال: إذا استعملهما عملاً يعطبان فيه فهو ضامن لقيمة العبد يوم استعمله، أو الكراء، وسيد العبد مخير في ذلك إن شاء أخذ الكراء ولا شيء له من قيمة العبد، وإن شاء أخذ قيمة العبد بالغة ما بلغت ولا شيء له من الكراء. وأما في الصبي الحر فعلى المتكاري أجر ما عمل الصبي الأجر الذي سميا إلا أن يكون أجر مثله أكثر مما سميا، وتكون على عاقلته الدية، لأن الحر في هذا ليس بمنزلة العبد، لأن الحر لا تخير ورثته كما يخير سيد العبد، لأن العبد سلعة من السلع والحر ليس بسلعة من السلع، لأن الدية لازمة في الحر على كل حال، وهي السنة أن الدية لازمة.
قال مالك: ومن استعمل عبداً عملاً شديداً فيه غرر بغير إذن أهله فعمله فعليه فيه الضمان إن أصيب، وإن كان العبد قد أرسل في الإجارة وذلك أنه إنما أذن له من الإجارة فيما تجري فيه الأعمال وتؤمن فيه البلايا ولم يؤذن له في الإغرار كالبئر التي قتلت أهلها حمأة وأشباه ذلك، وإن خرج به سفراً بغير إذن سيده فهو ضامن له. وعن ربيعة أنه قال: يضمن العبد فيما استعين عليه من أمر ينبغي في مثله الإجارة فهو لما أصابه ضامن. وما كان من صبي أو عبد استعين بهما لا ينبغي فيه الإجارة، كالرجل يقول: ناولني نعلي، أو ناولني قدحاً أو كأشباه ذلك فليس في هذا عقل اهـ.
ثم ذكر الصناع فقال رحمه الله تعالى:
" ويضمن الصانع ما غاب عليه وإن عمل بغير أجر لا ما عمله بحضرة
ربه أو صدقه أو قامت به بينة ولا أجرة له، وأوجبها ابن المواز " يعني كما في الرسالة ونصها: والصناع ضامنون لما غابوا عليه عملوه بأجر أو بغير أجر اهـ. يعني أن الضمان لازم على الصناع سواء صنعوا بأجرة أو بغير أجرة، وسواء صنعوه في الحوانيت أو البيوت، تلف بصنعهم أو بغير صنعهم. قال النفراوي في الفواكه: ولضمان الصانع شروط منها أن ينصب نفسه للصنعة لعامة الناس، فلا ضمان على الصانع الخاص بجماعة. ومنها أن يغيب على الذات المصنوعة، لا إن صنعها ببيت ربها ولو بغير حضرته أو بحضرته ولو في محل الصانع فلا ضمان. ومنها أن يكون
المصنوع مما يغاب عليه بأن يكون ثوباً أو حلية، فلا ضمان على معلم الأطفال أو البيطار إذا ادعى الأول هروب الولد والثاني هروب أو تلف الدابة. ومنها ألا يكون في الصنعة تغرير وإلا فلا ضمان كنقش الفصوص، وثقب اللؤلؤ، وتقويم السيف، وحرق الخبز عند الفران، وتلف الثوب في قدر الصباغ وما أشبه ذلك، كالبيطار يطرح الدابة لكيها مثلاً فتموت، وكالخاتن لصبي يموت عند ختنه، والطبيب للمريض يموت تحت يده، والحاجم يستأجر لقلع الضرس فلا ضمان على واحد من هؤلاء لا في ماله ولا على عاقلته حيث لم يحصل تقصير ولا خطأ في الصنعة، فإن كان من أهل المعرفة ولكن أخطأ فخطؤه على العاقلة إن بلغت الجناية الثلث، وإلا كانت في ماله، كما لو لم يكن من أهل المعرفة وغر من نفسه فإن عليه الدية من ماله، والعقوبة من الإمام في بدنه. ومنها ألا تقوم بينة على ما ادعاه من تلف أو ضياع وإلا فلا ضمان، وتسقط الأجرة عن رب المصنوع حيث لم يحصل منه تفريط في حفظه. ومنها ألا يكون الصانع أحضره لربه مصنوعاً على الصفة المطلوبة ويتركه ربه اختياراً فيضيع وإلا فلا ضمان حيث كان إحضاره بعد دفع الأجرة، لأنه صار كالوديعة، بخلاف ما لو أحضره على غير الصفة أو دعاه لأخذه من غير إحضار، أو
أبقاه عنده حتى يقبض الأجرة ثم يدعي ضياعه بعد ذلك فإنه يضمنه اهـ باختصار وأما قوله ولا أجرة إلخ وهو كذلك على المشهور. وقيل: له أجرته وإليه ذهب محمد بن المواز القائل بوجوبها مع تلف المصنوع. وعبارة ابن جزي في موجبات الضمان أنه قال: (السابع) تضمين الصانع فيضمنون ما غابوا عليه سواء عملوه بأجرة أو بغير أجرة، ولا يضمنون ما لم يغيبوا عليه، ولا يضمن الصانع الخاص الذي لم ينصب نفسه للناس. وقال أبو حنيفة: لا يضمن من عمل بغير أجرة. وللشافعي في ضمان الصانع قولان، فإن قامت بينة على التلف سقط عنهم الضمان. واختلف هل تجب لهم أجرة إذا كان هلاكه بعد تمام العمل أم لا؟ قولان في المذهب. وكذلك يضمنون كل ما جاء على أيديهم من حرق أو كسر أو قطع إذا عمله في حانوته، إلا في الأعمال التي فيها تغرير كاحتراق الثوب في قدر الصانع، واحتراق الخبز في الفرن، وتقويم السيوف فلا ضمان عليهم فيها إلا أن يعلم أنهم تعدوا، ومثل ذلك الطبيب يسقي المريض أو يكويه فيموت، والبيطار يطرح الدابة فتموت، والحجام يختن الصبي أو يقلع الضرس فيموت صاحبه، فلا ضمان على هؤلاء لأنه مما فيه التغرير. وهذا إذا لم يخطئ في فعله فإن أخطأ فالدية على عاقلته وينظر فإن كان عارفاً فلا يعاقب على خطئه، وإن كان غير عارف وعرض نفسه فيؤدب بالضرب والسجن، ولا ضمان على صاحب السفينة والحمام بغير تقصير كما تقدم اهـ انظر القوانين لابن جزي.
قال رحمه الله تعالى: " وإذا ادعى الإيداع والصانع والاستصناع أوالعمل بغيرأجرة، والصانع الأجرة؛ أو صفة والصانع غيرها، فالقول قول الصانع مع يمينه " يعني إذا اختلف الصانع ورب المتاع بأن قال: أودعته عندك فقال الصانع: بل للاستصناع فها هو مصنوع خالصاً كما أمرتني فالقول قول الصانع بيمينه، أو اختلفا في أصل الأجرة وعدمها فالقول قول الصانع بيمينه، أو اختلفا في صفة المصنوع
فالقول في جميع ذلك للصانع مع يمينه. قال في المدونة: أرأيت لو أن رجلاً دبغ جلداً لرجل، أو خاط ثوباً لرجل، أو صاغ حلياً لرجل، أو عمل قلنسوة لرجل، أو عمل بعض ما يعمل أهل الأسواق لرجل، فأتى رب الجلد والثوب والفضة والذهب وهذه الأشياء التي وصفت لك، فقالوا للعامل: إنما استودعناك هذه الأشياء ولم نستعملك، قال: القول قول العامل ولا يلتفت إلى قول أرباب تلك السلع في إنما استودعوها. وقال غيره العامل مدع، قلت: لابن القاسم: ولم جعل مالك القول قول الصانع؟ قال: لأنهم يأخذون ولا يشهدون، وهذا أمرهم فيما بينهم وبين الناس، فلو جاز هذا القول لهم لذهبوا بما يعملون له باطلاً فلا يكون القول قول رب المتاع. قال ابن القاسم: ولقد سألت مالكاً عما يدفع إلى الصناع ليعملوه فيقروا أنهم قد قبضوه وعملوه وردوه إلى أربابه بعد الفراغ منه والقبض له، قال مالك: إذا أقر أنه قد قبض المتاع فهو ضامن إلا أن يقيم البينة أنه قد رده. قال: ولو جاز هذا للصناع لذهبوا بمتاع الناس اهـ ونقل القاضي إبراهيم ابن فرحون عن مختصر الواضحة قال: وما أصاب الثياب عند القصار أو الصباغ أو الخياط من قرض الفأر أو لحس السوس فعرف ذلك وبين للناظر إليه فلا ضمان عليهم فيه، وإن ادعى صاحب الثياب أن الصانع أضاع الثوب وفرط حتى أصاب ذلك وزعم الصناع أنهم لم يفرطوا ولم يضيعوا فالقول قولهم، وعلى أصحاب الثياب البينة أنهم ضيعوا؛ لأن قرض الفأر أو لحس السوس أمر غالب، ولا يلزم أحداً دعوى التعدي إلا ببينة تشهد عليه. قال: فظل ابن القاسم يقول: القول قول أصحاب الثياب. وإن أشكل أنه قرض فأر فالصانع ضامن حتى تقوم البينة أنه قرض فأر أو لحس سوس وكله قول مالك اهـ تبصرة.
قال رحمه الله تعالى: " والأجرة كالثمن وتجوز عيناً ومنفعة، ويلزم بالفساد أجرة المثل " يعني أنه يشترط في الأجرة شروط كشروط الثمن؛ لأنها لا تصح إلا
بالطاهر المنتفع به المقدور على تسليمه المعلوم كما تقدم في البيع. ويجوز أن تكون عيناً ومنفعة، ثم إذا وقعت اإجارة أو الكراء فاسداً لزم الرجوع إلى أجرة المثل أو كراء المثل بعد الفسخ أو الفوات كالبيع. قال ابن جزي في القوانين:
المسألة السادسة إذا وقع الكراء والإجارة على وجه فاسد فسخ، فإن كانت المنفعة قد استوفيت رجع إلى كراء المثل أو أجرة المثل اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وتجوز إجارة الخادم والظئر بطعام وكسوته ويلزم المشبه " يعني كما تقدم لابن جزي أنه قال: ويجوز استئجار الأجير للخدمة والظهر بطعامه وكسوته على المتعارف اهـ. قال مالك: لا بأس أن يؤاجر الحر العبد أجلاً معلوماً بطعام في الأجل أو بكسوته. وكذلك إن كان مع الكسوة أو الطعام دنانير أو دراهم أو عروض بعينها معجلة فلا بأس به، وإن كانت عروضاً مضمونة بغير عينها جاز تأخيرها إن ضربا لذلك أجلاً كأجل السلم اهـ نقله المواق. قال رحمه الله تعالى:" ويلزم من خدمة الطفل مقتضى العرف " يعني إذا عقد الإجارة لخدمة الطفل فإنما يعتبر في ذلك بالعرف، ومثل العرف الشرط وذلك كغسل خروقه وثيابه وبدنه ومسح قذراته وغير ذلك من قيام بشأنه كما تقدم ذلك في الحضانة.
قال رحمه الله تعالى: " ويجوز كراء الدابة إلى موضع معين على إن وجد حاجته دونها لزمه بحسابه " يعني كما قال الجزيري في فقه المذاهب: أنه يجوز أن يستأجر دابة أو داراً إلى مدة معينة بأجرة معلومة بشرط أنه إن استغنى عنها أثناء هذه المدة سلمها لصاحبها وحاسبه بقدر المدة التي سكن فيها إن كانت داراً أو المسافة التي قطعها بها إن كانت دابة، وهذا وإن كانت المنفعة التي باعها المالك مجهولة فيه لعدم بيان المدة إلا أن الجهالة فيها يسيرة، فإن المعتاد أن الذي يستأجر شيئاً من ذلك إنما يعمل حسابه فلا يستغني عنه غالباً، وإن استغنى عنه فإنما يستغني عنه في أخريات المدة فيغتفر تسهيلاً
للعامل، ولكن يشترط ألا يدفع المستأجر للمالك الأجرة؛ لأنه إن دفعها له يحتمل أن يرجع بعضها إن لم يستوف المدة، ويحتمل ألا يرجع إن استوفاها فيكون تارة أجرة وتارة سلفاً وهو ممنوع اهـ.
قال رر: " ولا يجوز كراء أرض الزرع بمطعوم ولا ببعض ما تنبته من المزروعات " أي لا يجوز بمعنى يمنع كراء الأرض بالمطعومات، ولا بما تنبته الأرض من المزروع إلا ما استثنى مما يطول مقامه فيها كالعود والصندل ونحوهما، كما في الزرقاني على الموطأ. قال خليل عاطفاً على الإجارة الفاسدة وكراء أرض بطعام أو بما تنبته، إلا كخشب. قال الدردير: أو لم تنبته كلبن وسمن وعسل. وكذلك الشاة المذبوحة والحيوان الذي لا يرى إلا للذبح كخصي المعز والسمك وطير الماء، وكذلك الحيوان الذي يراد للبن كل ذلك مما لا يجوز كراء الأرض به. بخلاف كرائها بالحيوان الذي يراد للقنية لغير اللبن فيجوز، كجوازها بالماء ولو ماء زمزم، ومثله كراؤها لغي الزراعة بطعام، وكذا يجوز بيعها ولو بطعام. قال الصاوي في البيوع.
تنبيه: يجوز بيع أرض الزراعة بالطعام لحماً أو غيره، لأن المنهي عنه إنما هو كراؤها به، أي وعلة المنع في كرائها بطعام أنه يؤدي إلى بيع الطعام بطعام إلى أجل وهو ممنوع اهـ مع طرف من الدردير.
قال رحمه الله تعالى: " ويجوز اشتراط ثمرة شجرة الدار بشرط كون قيمتها ثلث الأجرة فدونها " يعني كما في عبارة خليل: واغتفر ما في الأرض ما لم يزد على الثلث بالتقويم. قال المواق: المعنى أن من اكترى أرضاً أو داراً فيها شجر مثمر فاشتراط المكتري إدخال الشجر المذكور في عقد الكراء فإن ذلك جائز حيث كانت قيمته الثلث فأقل. قال ابن القاسم في المدونة: ومن اكترى داراً أو أرضاً فيها سدرة أو دالية، أو كان في الأرض نبت من نخل أو شجر ولا ثمرة فيها حينئذ أو فيها ثمرة لم تزه
فالثمرة للمكري. إلا أنه إن اشترط المكتري ثمرة ذلك فإن كانت تبعاً مثل الثلث فأقل فذلك جائز. ومعرفة ذلك أن يقوم كراء الأرض أو الدار بغير شرط الثمرة، فإن قيل: عشرة قيل: ما قيمة الثمرة فيما عرف مما تطعم كل عام بعد طرح قيمة المؤونة والعمل فيعلم الوسط من ذلك. فإن قيل خمسة فأقل جاز. قال أصبغ: وهذا إذا علم أن الثمرة تطيب قبل مدة الكراء وإلا لم يجز أن يعقداه اهـ ومثله في الخرشي بتوضيح.
قال رحمه الله تعالى: " ولا تجوز لمسلم إجازة نفسه أو عبده أو دابته أو داره في عمل معصية " يعني أنه لا يجوز لمسلم أن يؤجر نفسه أو عبده أو دابته أو داره فيما فيه معصية الله تعالى، فإن فعل شيئاً من ذلك فقد ظلم نفسه، وللحاكم الشرعي رده وأدبه في ذلك، كما ينبغي أن يؤدبه إذا أجر نفسه لكافر فيما لا يجوز له فعله كعمل خمر، أو رعي خنزير، أو كنس كنيسة ونحو ذلك مما لا يجوز لمسلم شرعاً، لخبر:: إن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه " ولا خلاف أن الخمر والخنزير حرام. وأما لو أجر المسلم نفسه أو عبده أو داره أو دابته لكافر في عمل مما يجوز للمسلم عمله كبناء وخياطة بدون إهانة فإنه يجوز مع الكراهة. قال ابن جزي في القوانين: ويجوز كراؤها من ذمي إذا لم يشترط فيها بيع الخمر والخنزير اهـ. وقال خليل عاطفاً على المكروهات: وكراء كعبد أي مسلم لشخص كافر. قال الشارح: يعني أنه يكره للمسلم أن يؤجر نفسه أو ولده أو عبده المسلم أو دابته لكافر، ومحلها إذا كان للمسلم فعله لنفسه كعصر الخمر ورعي الخنازير وما أشبه ذلك، فإنه لا يجوز له أن يؤجر نفسه وما ذكر معه لكافر، فإن فعل فإن الإجارة ترد قبل العمل، فإن فاتت بالعمل فإن الأجرة تؤخذ من الكافر ويتصدق بها على الفقراء أدباً للمسلم، إلا أن يعذر لأجل جهل ونحوه فإنها لا تؤخذ منه اهـ الخرشي. وفي
الحطاب: واختلف هل يتصدق بالأجرة أم لا؟ قال ابن القاسم: التصدق بها أحب إلينا. قاله في التوضيح اهـ.