الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيع الغائب
ولما أنهى الكلام على ما يتعلق ببيع المميز والعبد المأذون وغيره انتقل يتكلم على بيع الغائب فقال رحمه الله تعالى:
فَصْلٌ
في بيان بيع الغائب عن مجلس العقد
أي في بيان ما يتعلق ببيع الشيء الغائب وهو ضد الحاضر. واعلم أن بيع الغائب على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يباع بالصفة على اللزوم، وجوازه مشروط بغيبته، ويكفي غيبته ولو عن مجلس العقد، ولا يشترط أن يكون في رؤيته مشقة، ولا غيبته عن البلد المأخوذ من المدونة. ثانيها: ألا يبعد مكانه جداً كخراسان من الأندلس، كما يشترط ذلك في كل مبيع على اللزوم، ومثل غيبته عن مجلس العقد حضوره به حيث كان في رؤيته مشقة أو فساد، وأما الحاضر بمجلس العقد ولا مشقة ولا فساد في رؤيته فلا بد في صحة العقد عليه من رؤيته حيث كان البيع على اللزوم. وثالثها: أن يكون بوصف غير البائع إن اشترط نقد الثمن فيه وإلا جاز ولو بوصفه على المعتمد، وأن يكون المشتري يعرف ما وصف له معرفة تامة اهـ. قاله النفراوي.
قال رحمه الله تعالى: " يجوز بيع الغائب على رؤية متقدمة. فيما يؤمن تغيره، وعلى رؤية البعض، فإن خالف الباقي ثبت الخيار " يعني كما قال في الرسالة: ولا بأس ببيع الشيء الغائب على الصفة، ولا ينقد فيه بشرط إلا أن يقرب مكانه، أو يكون مما يؤمن تغيره من دار أو أرض أو شجر فيجوز النقد فيه اهـ. قال ابن جزي: يجوز في المذهب بيع الشيء الغائب على الصفة أو رؤية متقدمة، وأجازه أبو حنيفة من غير صفة ولا رؤية، ومنعه الشافعي مطلقاً. ويشترط في المذهب في المبيع على الصفة خمسة شروط:
الأول: أن يكون بعيداً جداً كالأندلس وأفريقية. الثاني: ألا يكون قريباً جداً كالحاضر في البلد. الثالث: أن يصفه غير البائع. الرابع: أن يحضر بالأوصاف المقصودة كلها. الخامس: ألا ينقد ثمنه بشرط إلا في المأمون كالعقار، ويجوز النقد من غير شرط، ثم إن خرج المبيع على حسب الصفة والرؤية لزم البيع، وإن خرج على خلاف ذلك فللمشتري الخيار اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " وكالعسل ونحوه في وعائه وما له صوان برؤيته كالبطيخ والرمان والجوز واللوز ونحوه " تشبيه على الرؤية. والمعنى أنه يجوز بيع الشيء برؤية بعضه كالعسل والسمن في وعائه، سواء كان البيع بتاً أو على الخيار، ولو جزافاً لما مر أن رؤية البعض كافية فيه، كرؤية السمن في حلق الجرة مثلاً، ويشترط في رؤية ذلك
البعض في الجزاف أن يكون متصلاً كالمثال، أي كالباقي المبيع. قاله الصاوي في حاشيته على الدردير اهـ. قوله وما له صوان إلخ، الصوان بكسر الصاد المهملة وضمها وتخفيف الواو: ما يصون الشيء كقشر الرمان والجوز واللوز، فلا يشترط كسر بعضه ليرى ما في داخله، ومن ذلك البطيخ ونحوه اهـ. الصاوي.
قال رحمه الله تعالى: " والغائب على الصفة فيما يغلب مصادفته عليها، ولا يمكن الاطلاع عليه حال العقد، فيذكر منها ما يميزه عن غيره وتختلف الأغراض والأثمان بها، فإن وافق لزم وإلا ثبت للمبتاع الخيار " يعني الشيء المبيع على الصفة يكون غالباً موافقاً على الصفة التي وصف بها، وكانوا يذكرون في حال العقد صفة السلع، كأن يقول البائع: إن فيه من الخز كذا، ومن الغوطة كذا وكذا، ومن الدبلان كذا وكذا، والفسطاطي كذا وكذا، ومن المروى كذا وكذا، كما في المدونة، كانوا يتبايعون على الصفة ويميزون كل سلعة على صفتها بنوعها، يصدقون ويأمنون بعضهم على بعض في ذلك، ويعرفون قيمة كل موصوف غلاء ورخصاً. وتختلف فيه الأغراض
والأثمان، فإن وافق الموصوف لزم البيع وإلا بأن خالف ذلك فللمشتري الخيار. وأم لو وجد زيادة فالحكم كما قال مالك في المدونة فيمن اشترى مائة ثوب من رجل في عدل على برنامج موصوف، أو على صفة كل ثوب بعشرة دراهم، على أن فيه من الخز كذا وكذا، ومن الفسطاطي كذا وكذا، ومن المروى كذا وكذا، فأصاب في العدل تسعة وتسعين ثوباً، وكان النقصان من الخز، قال أرى أن تحسب قيمة الثياب كلها، فينظر كم قيمة الخز منها فإن كان الربع أو الثلث من الثمن وعدة الخز عشرة وضع عنه عشر ربع الثمن، أو عشر ثلث الثمن؛ لأن القيمة تكون أكثر من الثمن أو أقل، وإنما يقسم الثمن على الأجزاء كلها ثم ينظر إلى ذلك الجزء الذي وجد فيه ذلك النقصان منه فإن كان جزءاً وضع عنه من الثمن قدر الذي أصابه من ذلك الجزء من الثمن اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " والتلف قبل مجيئه من البائع، إلا أن يعلم أن العقد صادف الصفة فيكون من المبتاع كالمأمون تغيره " قال ابن القاسم في كتاب الغرر من المدونة: وما ثبت هلاكه من السلع الغائبة بعد الصفقة وقد كان يوم الصفقة على ما وصف المبتاع، أو على ما كان رأى فهي من البائع إلا أن يشترط أنها من المبتاع، وهو آخر قولي مالك، وكان مالك يقول: إنها من المبتاع إلا أن يشترط أنها من البائع حتى يقبضها ثم رجع إلى هذا. والنقص والنماء كالهلاك في القولين. وهذا في كل سلعة غائبة بعيدة الغيبة، أو قريبة الغيبة خلاف الدور والأرضين والعقار فإنها من المبتاع من يوم العقد في القولين وإن بعدت اهـ. انظر الحطاب.
وعبارة الدردير على أقرب المسالك: وضمانه من المشتري إن كان عقاراً وأدركته الصفقة سالماً وإلا فمن البائع إلا لشرط فيهما، وقبضه على المشتري والنقد فيه تطوعاً كبشرط إن كان عقاراً أو قرب كيوم ونحوه اهـ. قال في حاشية الصاوي عليه: حاصله أن المبيع الغائب بالصفة على اللزوم يجوز النقد فيه تطوعاً، سواء كان عقاراً أو غيره، وإن كان على الخيار
منع النقد مطلقاً عقاراً أو غيره. وهل يشترط في جواز النقد ولو تطوعاً إذا بيع على الصفة على اللزوم كون الواصف له غير البائع؛ لأن وصفه يمنع من جواز النقد ولو تطوعاً، وهو الذي ارتضاه في الحاشية كما تقدم، أو لا يشترط ذلك وهو المأخوذ من كلام البناني فإنه نازع في كون وصف البائع يمنع من جواز النقد تطوعاً. وأما النقد بشرط فإن كان المبيع عقاراً فيجوز بثلاثة شروط: أن يكون على اللزوم، والواصف له غير بائعه، وألا يبعد جداً، وإن كان غير عقار فيجوز بأربعة شروط: أن تقرب غيبته كيومين، والبيع على اللزوم، والواصف له غير البائع، وليس فيه حق توفية، فإن تخلف شرط منها منع شرط النقد اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " فإن اختلفا في وجودها حال العقد فالقول قول البائع وفيها القول قول المشتري " يعني إن اختلفا المتبايعان في المبيع الغائب هل هو موجود حين العقد أم لا فقولان لمالك في المدونة: الأول: القول قول البائع، والثاني: القول قول المبتاع. قال ابن رشد في المقدمات: وبيع الغائب على مذهب ابن القاسم جائز ما لم يتفاحش بعده، والعقد عليه صحيح وإن لم يعلم إن كان حين العقد قائماً أو تالفاً، فإن تلف قبل العقد انتقض البيع باتفاق، وإن تلف بعد العقد وقبل القبض، فاختلف قول مالك في ذلك، فمرة قال إن مصيبته من البائع وينتقض البيع اهـ. وأما إذا اختلفا في المبيع تقدمت رؤيته فقال المشتري إن صفته التي اشتريته عليها تغيرت، وقال البائع لم تتغير فإنه يسأل في ذلك أهل الخبرة هل المدة التي بين رؤيته قبل البيع ورؤيته بعده يتغير فيها المبيع عادة أو لا؟ فإن جزم بأنه يتغير كان القول للمشتري، وإن جزم بأنه لا يتغير كان القول للبائع، ولا يمين على واحد منهما: ومثل ذلك ما إذا رجح التغيير أو عدمه فإنه يكون القول للمشتري إذا قال أهل الخبرة إنه يظن أنه يتغير، ويكون القول للبائع إذا قال إنه يظن أنه لا يتغير، ولكن يحلف من رجح له في هذه الحالة. وأما إذا شك أهل
الخبرة فلم يجزم بشيء ولم يرجحوا شيئاً كان على البائع أن يحلف بأن المبيع باق على الصفة التي رآها بها المشتري ويتم البيع. وإن اختلفا أيضاً فيما اشتراه على وصفه على البرنامج فقال المشتري بعد غيبته به إنه وجده على غير المكتوب في
الدفتر، وقال البائع إن المبيع موافق لما كتبه في الدفتر وأن المشتري جاءه بغير المبيع كان القول للبائع بيمينه فيحلف بأن الذي باعه موافق للمكتوب، فإن حلف فلا شيء، وإن نكل حلف المشتري أنه لم يغير ما وجده، فإن حلف فله رده إلى البائع، وإن أبى لزمه ما أتى به ولا شيء له على البائع اهـ. ذكره الجزيري في الفقه. وأصله في المدونة في الدعوى على بيع البرنامج، وإليه أشار خليل بقوله: وحلف مدع لبيع برنامج أن موافقته للمكتوب اهـ كما تقدم.
قال رحمه الله تعالى: " ويوكل الأعمى إلا أن يعرف الصفة " يعني ما ذكرناه من الرؤية إنما ذلك بالنسبة للبصير، وأما الأعمى فإنه يوكل البصير في بيعه وشرائه وجميع ما يشترط فيه الرؤية، إلا إن سبق منه معرفة ذلك سواء مبيعاً أو غيره في ما لا يتغير مثله فيعمل به ويعتمد برؤيته السابقة. قال خليل: ومن الأعمى، قال الخرشي: أي وجاز البيع والشراء وجميع المعاملات - إلا بيع الجزاف وشراؤه - من الأعمى غير الأصم للضرورة على المذهب، وسواء ولد أعمى، أو طرأ عماه في صغره، أو بعد كبره، خلافاً للأبهري في منعه بيع من ولد أعمى، وفي معناه من تقدم إبصاره في صغره بحيث لا يتخيل الألوان، والخلاف فيما لا يدرك إلا بحاسة البصر، ولا مانع فيما يدرك بغيرها من الحواس ولا تجوز معاملة الأعمى الأصم، بخلاف الأبكم الأصم. اهـ.
قال رحمه الله تعالى: " ويجوز بيع المشاع " يعني يجوز بيع المشاع وهو غير المتميز على حدة كالنصف أو الثلث أو الربع، سواء كان عقاراً كالدار والأرض أو غيره كالعروض والحيوان مما هو شائع في جنسه أو نوعه. وكما لا يجوز بيعه يجوز ارتهانه في حق، قال خليل: وصح مشاع وحيز بجميعه إن بقي فيه للراهن اهـ. قال ابن جزي في القوانين: