الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: في رد قوله: إنما الطلب من هؤلاء الصالحين على سبيل التوسط
…
فصل
قال الملحد:" وإنما الطلب من هؤلاء الصالحين على سبيل التوسط بحصول المقصود من الله تعالى لعلو شأنهم عنده سبحان".
فالجواب: أن نقول هكذا كان مشركو العرب الجاهلية حذو النعل بالنعل، كانوا يدعون الصالحين والأنبياء والمرسلين طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين، ويلتجئون إليهم ويسألونهم على وجه التوسل بجاههم وشفاعتهم، ويعلمون أن الله تعالى هو النافع الضار وأن الله سبحانه هو المؤثر، وأن غيره لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضر، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لما جعلوا بعض المخلوقين وسائط بينهم وبين الله تعالى فلم ينفعهم إقرارهم بتوحيد الربوبية.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله لما سئل عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لا بد لنا من وساطة بيننا وبين الله تعالى فإنا لا نقدر على أن نصل إليه بغير ذلك فما معنى الوساطة؟
وهل التوسط عام في كل شيء يوجده الله تعالى أم في ذلك بيان وتفصيل؟.
فأجاب رحمه الله ورضي عنه بقوله: الحمد لله إن أراد بذلك أنه لا بد من وساطة تبلغ أمر الله تعالى فهذا حق، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر الله به ونهى عنه، وما أعد لأوليائه من كرامته، وما أوعد به أعداءهم من عذابه، ولا يعرفون ما يستحقه الله من أسمائه الحسنى، وصفاته العلا1 التي تعجز العقول عن الإحاطة بها، إلى أمثال ذلك إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده.
والمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم2المهتدون الذين يقربهم لديه زلفى ويرفع درجاتهم ويكرمهم في الدنيا والآخرة. وأما المخالفون للرسل فإنهم ملعونون وهم ضالون وعن ربهم محجوبون قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: آيات35، 36]ـ وذكر آيات في المعنى ـ ثم قال رحمه الله: وإن
1 في طبعة الرياض"العلية".
2 سقطت "هم" من الأصل وطبعة الرياض. وأثبتها من مجموع فتاوى شيخ الإسلام للعلامة الجليل عبد الرحمن بن قاسم ـ رحمه الله تعالى ورضي عنه ـ 1/121.
أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونهم ذلك ويرجونهم فيه فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجلبون بهم المنافع ويدفعون بهم المضار، لكن الشفاعة لمن يأذن الله تعالى له فيها قال الله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4]، وقال:{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: آية51] وقال تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: آيات:22، 23]ـ وساق آيات المعنى ـ إلى أن قال: وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمرن: آيات79، 80] فبين سبحانه وتعالى أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء
وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين وقد قال تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: آيات 26ـ29] وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: آية172 وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: آيات88ـ95] وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: آية18] وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: آية26] وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا
بِإِذْنِهِ} [البقرة: آية255] وقال تعالى: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2] وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: آية107] وقال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: آية38] ومثل هذا في القرآن كثير، ومن سوى الأنبياء من مشايخ العلم والدين فمن1 أثبتهم وسائط بين الرسول وأمته يبلغونهم ويعلمونهم ويؤدبونهم ويقتدون بهم فقد أصاب في ذلك. وهؤلاء إذا أجمعوا فإجماعهم2 حجة قاطعة لا يجتمعون على ضلالة، إلى أن قال: وإن أثبتهم وسائط بين الله وبين خلقه كالحجّاب الذين بين الملك وبين رعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من
1 في الأصل وطبعة الرياض "ومن سوى الأنبياء ومشايخ العلم والدين وأثبتهم.." وما أثبته من مجموع الفتاوى.
2 في الأصل وطبعة الرياض "اجتمعوا فاجتماعهم
…
" وما أثبته من الفتاوى.
الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
قلت: وهذا عين كلام الشامي فإنه زعم أن الطلب من هؤلاء الصالحين على سبيل التوسط بحصول المقصود من الله تعالى لعلو شأنهم عنده سبحانه، والشيخ رحمه الله هنا وفي جميع كلامه جزم بأن فاعل ذلك كافر مشرك يستتاب كما يستتاب المرتد فإن تاب وإلا قتل.
ثم قال الشيخ: وهؤلاء المشبهون يشبهون الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا. وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى، فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس تكون على أحد وجوه ثلاثة:
إما لإخبارهم من أحوال الناس ما لا يعرفونه، ومن قال: إن الله لا يعرف أحوال العباد حتى يخبره بذلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر، بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى، لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه1المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين.
1 في الأصل تغلظه.
الوجه الثاني: أن يكون الملك عاجزا عن تدبير رعيته، ودفع أعاديهم إلا بأعوان يعينونه، فلا بد له من أعوان وأنصار لذله وعجزه، والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل. قال تعالى:{قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: آية22] وقال تعالى: {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: آية111] وكل ما في الوجود من الأسباب فهو سبحانه خالقه وربه ومليكه، فهو الغني عن كل ما سواه، فقير إليه بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم1، وهم في الحقيقة شركاؤهم.
والله سبحانه ليس له شريك في الملك، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
ولهذا لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، لا ملك ولا نبي ولا غيرهما، فإن من يشفع عند غيره بغير إذنه، فهو شريك في حصول المطلوب؛ لأنه أثّر فيه بشفاعته حتى جعله يفعل ما يطلبه منه. والله سبحانه وتعالى لا شريك له بوجه من الوجوه.
ويسمى الشفيع شفيعا؛ لأنه يشفع غيره أي يصير له شفعا، قال تعالى:{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: آية85] وكل
1 في طبعة الرياض "ظهرنيهم".
من أعان غيره على أمر فقد شفعه فيه. والله تعالى وتر لا يشفعه أحد بوجه من الوجوه.
الوجه الثالث: أن يكون الملك ليس مريدا لنفع رعيته، والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من خارج. فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعطفه، أو من يدل عليه بحيث يكون يرجوه ويخافه تحركت أداة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته، إما لما يحصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير، وإما لما يحصل له من الرغبة والرهبة من كلام المدل عليه. والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأسباب إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو إذا أجرى1نفع العباد بعضهم على أيدي بعضهم، فجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع فيه ونحو ذلك، فهو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي والشافع إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة، ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلمه أو من يرجوه الرب ويخافه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له" 2 والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا
1 في الأصل وطبعة الرياض" جرى"
2 أخرجه البخاري11/139، ومسلم 4/2063، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
بإذنه، قال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء: آية28] وقال تعالى: {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: آية23] بخلاف الملوك فإن الشافع عندهم قد يكون له ملك أو يكون شريكا لهم في الملك، وقد يكون مظاهرا لهم معاونا على ملكه، وهؤلاء يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك والملك يقبل شفاعتهم تارة على إنعامهم عليه، حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة وإلى الولد حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك، ويقبل شفاعة مملوكه فإنه إن لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه، وأن يسعى في ضرره، وشفاعة العباد لبعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو رهبة والله تعالى لا يرجو أحدا ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد بل هو الغني. قال تعالى:{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} إلى قوله: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: آية66ـ68] وقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [يونس: آية66] استفهام استنكار أي ليس متبع الذين يدعون من دون الله شركاء حجة ولا برهانا، ما يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون، بين تعالى أن من دعا من دون الله
شركاء فليس معه علم، ليس معه إلا الظن والخرص والظن المقرون بالخرص هو ظن باطل غير مطابق للحق؛ فإن الخرص هنا بمعنى الكذب كقوله تعالى:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10] ومن ظن أن "ما" هنا نافية فقد فسر الآية بما هو خطأ كما قد بسط في غير هذا الموضع، والمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة عند المخلوقين. قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: آية18] وقال عن صاحب يس1: {وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِي} [يس: آيات22ـ25]، وقال تعالى:{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الاحقاف:28] وأخبر عن المشركين أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: آية3] وقال تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
1 في طبعة الرياض "ليس" كذا في الأصل.
[آل عمران: آية80] . وقال: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: آيات 56ـ57] فأخبر أن من يدعي من دونه لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، وأنهم يرجون رحمته ويخاف عذابه، ويتقربون إليه فقد نفى سبحانه ما أثبتوه من توسيط الملائكة والأنبياء.
إلى أن قال: والمقصود هنا أن من أثبت وسائط بين الله تعالى وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وأنها وسائط يتقربون بها إلى الله تعالى، وهو من الشرك الذي أنكره الله تعالى على النصارى حيث قال:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: آية31] وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: آية 186] ثم ذكر آيات في المعنى وهذا الذي قاله الشيخ لا خلاف فيه بين المسلمين، وإنما اشتبه الأمر على هؤلاء الضلال لما قدم العهد، ونسي العلم، واعتادوا سؤال غير الله فيما يختص به تعالى، ونشئوا على ذلك.