الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: قال ابن القيم: فصل: ذكر فيه مفاسد اتخاذ القبور أعيادا
…
الخ
…
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فصل
ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله تعالى، وغيرة على التوحيد1، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن ما لجرح بميت إيلام.
فمن مفاسد اتخاذها أعيادا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم، فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباة، وقبّلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت الأصوات بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على
1 في النسختين: "وغيرة التوحيد" وما أثبته من إغاثة اللهفان ص102 ط الميمنية بمصر.
الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا نزلوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر لمن صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعا سجدا، يبتغون فضلا من الميت ورضوانا، وقد ملؤوا أكفهم بالخيبة وخسرانا، فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذي الفاقات، ومعافاة أولي العاهات والبليات، ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، الذي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كمّلوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنيء بعضهم بعضا، ويقول: أجزل1الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجّه القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا ولو بحجك كل عام. هذا ولم
1 في النسختين: "أجز" وما أثبته من "إغاثة اللهفان".
نتجاوز ما حكينا عنهم، ولا استقصينا جميع بدعتهم وضلالتهم إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال.
وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم، وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه، وما يؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه، وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته.
ورأيت لأبي الوفاء1بن عقيل في ذلك فصلا حسنا، فذكرته بلفظه، قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار، مثل تعظيم القبور وإلزامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا أو كذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب اقتداء بمن عبد اللات والعزى، والويل عندهم لمن لم يقبّل مشهد الكف، ولم يتمسح بآجرة مسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل
1 في النسختين "ورأيت لأبي عبد الله الوفاء بن عقيل" وما أثبته من "الإغاثة".
الحمالون على جنازته: الصديق أبو بكر أو محمد وعلي، أو لم يعقد1على قبر أبيه أزجا بالجص والآخر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر، انتهى.
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به، ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر، مناقضا له، بحيث لا يجتمعان أبدا.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها.
ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله تعالى.
ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها.
ونهى أن يتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذون أعيادا ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي، قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أدع ثمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته"، وفي صحيحه أيضا عن
1 في النسختين "لم يعقد" وما أثبته من "الإغاثة".
ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبر فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها، وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها من الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب.
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وأن يعقد عليها وأن يبنى عليه بناء".
ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود في سننه عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره.
ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، كما روى أبو داود من حديث جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه.
وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب والآجر والأحجار والجص.
ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى القبر بآجر، وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره، وأوصى الأسود بن يزيد ألا تجعلوا على قبري آجرا.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم.
وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة: أن لا تضربوا
علي فسطاطا.
وكره الإمام أحمد أن يضرب على القبر فسطاطا.
والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذينها أعيادا الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر.
قال رحمه الله: وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا له مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه "مناسك حج المشاهد" مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام.
فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره.
فمنها تعظيمها الموقع في الافتتان بها.
ومنها اتخاذها عيدا.
ومنها السفر إليها.
ومنها مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف
عليها، والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، وسدانتها، وعبادتها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيّمها ليلة يطفي القنديل المعلق عليها.
ومنها النذر لها، ولسدنتها.
ومنها اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء، وينصر على الأعداء، ويستنزل غيث السماء، ويفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف إلى غير ذلك.
ومنها الدخول في لعنة الله تعالى، ورسوله باتخاذ المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها.
ومنها الشرك الأكبر الذي يفعل عندها.
ومنها إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهة، كما أن المسيح يكره ما تفعله النصارى عند قبره1وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء، والمشائخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرؤون منهم، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا
1 في النسختين "قبورهم".
سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:17-18] قال الله للمشركين {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان19] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة116] الآية، وقال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ40] ومنها مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها.
ومنها محادة الله ورسوله، ومناقضة ما شرعه فيها.
ومنها التعب العظيم، مع الوزر الكثير، والإثم العظيم.
ومنها إماتة السنن، وإحياء البدع.
ومنها تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، فإن عباد القبور يقصدونها من التعظيم، والاحترام، والخشوع، ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره، ولا قريب منه.
ومنها أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد، وخراب المساجد، ودين الله الذي بعث به رسوله بضد ذلك، ولهذا
لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين عمروا المشاهد وخربوا المساجد.
ومنها أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنا إلى نفسه، وإلى الميت، فقلب هؤلاء المشركين الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه والدعاء به، وسؤالهم حوائجهم، واستنزال البركاتت منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى نفوسهم، وإلى الميت، ولو لم يكن إلا محروما به تركه ما شرعه الله تعالى من الدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له
…
ثم ذكر رحمه الله تعالى الزيارة الشرعية، والأحاديث الواردة في ذلك، ثم ذكر أقوال السلف، ومن بعدهم من العلماء ثم قال:
فإذا كنا على جنازته ندعو له، لا ندعو به، ونشفع له، ولا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} بدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحسانا إلى الميت وإحسانا إلى الزائر وتذكيرا بالآخر سؤال الميت، والإقسام به على الله، وتخصيص تلك
البقعة بالدعاء الذي هو في العبادة، وحضور القلب عندها، وخشوع أعظم منه في المساجد وأوقات الأسحار، ومن المحال أن يكون دعاء الموتى والدعاء به، أو الدعاء عندهم مشروعا، وعملا صالحا، ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرزقها الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما يؤمرون، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعا وعشرين سنة حتى توفاه الله تعالى، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان هل يمكن بشرا على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلا أن يصلو عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم، فليوقفونا على أثر واحد، أو حرف واحد في ذلك، بل يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التي خلفت بعدهم بكثير من ذلك، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك أكثر، حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه الراشدين، ولا عن أصحابه حرف واحد من ذلك، بلى فيها من خلاف ذلك كثير كما قدمناه من الأحايث المرفوعة.
قال رحمه الله بعد ذكره ما فعله الصحابة رضي الله عنهم بقبر دانيال وتعميته بين القبور قال: ففي هذه القصة ما فعله
المهاجرون والأنصار من تعمية قبره، لئلا يفتتن به الناس، ولم يبرزوه للدعاء عنده، والتبرك به ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله، فهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يداين هذا ولا يقاربه، وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد أعظم من المساجد، فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها، والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحا لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك، ودعوا عنده، وسنوا ذلك لمن بعدهم ولكن كانوا أعلم بالله، ورسوله، ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به ولا عنده، ولا استشفى به، ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه.
وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير تلك البقعة، أو لا يكون، فإن كان أفضل فكيف خفي علما وعملا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخلوف علما وعملا، ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه1مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء فإن
1 في النسختين "به" وما أثبته من الإغاثة ص107.
المضطر يتشبث بكل سب وإن كان فيه كراهة ما، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه، هذا محال طبعا وشرعا، فتعين القسم الآخر وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا هو مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد، ومثل هذا مما لا يشرعه الله ولا رسوله البتة، بل استحباب1الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله، ولم ينزل بها سلطانا، وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير.
ثم قال رحمه الله:
ومن أعظم كيد الشيطان أنه ينصب لأهل الشرك قبر معظم يعظمه الناس، ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله، ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيدا وجعله وثنا فقد تنقصه وهضم حقه، فيسعى الجاهلون المشركون في قتله وعقوبته ويكفرونه، وذنبه عند أهل الإشراك أمره بما أمر الله به ورسوله، ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله من جعله وثنا وعيدا.
وإيقاد السرج عليها2، وبناء المساجد، والقباب عليه، وتجصيصه، وتقبيله، واستلامه، ودعائه، أو الدعاء به، أو
1 في النسختين "استجاب"، والمثبت من الإغاثة، ص 107.
2 في الإغاثة "عليه" ص 111.
السفر إليه، أو الاستعانة به من دون الله مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله، من تجريد التوحيد لله، وأن لا يعبد إلا الله، فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، وقالوا قد تنقص أهل الرتب العالية، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، وسرى ذلك في نفوس الجهال والطغام وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفّروا الناس منهم، وولوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك فما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون له، الموافقون له، العارفون بما جاء به، الداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا لابسو ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم، ويبغونها عوجا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ثم ذكر كلاما طويلا، إلى أن قال:
قال شيخنا قدس الله روحه: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب: أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس، قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب، كما قد يتمثل لعباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحيانا، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة،
وكذلك السجود للقبر والتمسح به وتقبيله.
المرتبة الثانية: 1يسأل الله عز وجل به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة باتفاق المسلمين.
الثالثة: أن يسأله نفسه.
الرابعة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد زيارته، والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه، فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك، ويقول بعضهم: قبر فلان ترياق مجرب، والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر، انتهى من إغاثة اللهفان.
1 في ط الرياض "ألا" وما أثبته من الأصل، ومن الإغاثة ص114.