الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: ذكر الملحد حديث ابن عباس"أن عمر قال: اللهم إنا نستسقيك بعم نبيك
…
الخ
…
فصل
قال الملحد: "وروي عن ابن عباس أن عمر رضي الله عنه قال:"اللهم إنا نستسقيك بعم نبيك صلى الله عليه وسلم، ونستشفع إليك وبشيبته، فسقوا" وفي ذلك يقول عباس بن عتبة بن أبي لهب:
بعمي سق الله الحجاز وأهله
…
عشية يستسقي بشيبته عمر"
والجواب أن يقال: هذا الحديث الذي ذكره عن ابن عباس لم يذكره بإسناده، ولم يعزه إلى شيء من الكتب المعتمدة، وفيه ألفاظ مخالفة للأخبار الصحيحة، فلا اعتماد على ما ذكره، والمحفوظ المعتمد عليه ما ذكره البخاري في صحيحه عن أنس أن عمر استقى بالعباس بن عبد المطلب، وقال:" اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" فيسقون.
قلت: وقد ورد في بعض الألفاظ: قم يا عباس فادع الله. فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو
أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته، فيدعون معه، كالإمام والمأمومين من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق، ولما مات صلى الله عليه وسلم توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به.
ولهذا قال الفقهاء: يستحب الإستقاء بأهل الخير والدين، والأفضل أن يكونوا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي، وقال: "اللهم أنا نستقي بيزيد بن الأسود: يا يزيد أرفع يديك، فرفع يديه ودعا، ودعا الناس حتى امطروا، وذهب الناس. ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده ولا به.
وأما قوله: "وفي رواية للزبير بن بكار أن العباس رضي الله عنه قال في دعائه: وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك صلى الله عليه وسلم فأسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض. انتهى".
فأقول: قال الحافظ في الفتح، وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوية، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال، حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس.
وقد أسقط هذا الملحد من هذا الأثر قوله: اللهم إنه لم
ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة. لعلمه أنه يعود على مقصوده بالهدم، وذلك أنهم إنما سألوا به ليدعو لهم، فاستكان لله تعالى بالاعتراف وبالذنب، وأنهم قد أتوه بائبين منيبين.
وكذلك أسقط منه قوله: "ونواصينا إليك بالتوبة" وهذا توسل منه بهذا العمل الصالح، وهو التوبة، وعلى تقدير صحة هذا الأثر فلا دليل فيه على ما يتوهمه، فإن توسلهم بالعباس بدعاء حي يقدر على الدعاء، وهذا لا محذور فيه وقد فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما المحذور المنهي عنه دعاء الأموات، وتوجه بهم، والتوسل بهم وهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا الأئمة المهديين، والعلماء والراسخين.
وأما قوله: "وفي هذا يبطل قول من منع التوسل مطلقا سواء كان في الأحياء وبالأموات، وقول من منع ذلك بغير النبي صلى الله عليه وسلم لأن فعل عمر رضي الله عنه حجة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" رواه الإمام أحمد والترمذي"1.
1 في الأصل: "تسلوا " وفي ط الرياض: "سئلوا ".
2 هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة. منهم ابن عمر أخرجه الترمذي في الفضائل من جامعه 5/617 وفي سنده خارجة بن عبد الله.
ومنهم أبو ذر كما في مسند أحمد 5/177 وابن ماجه 2/40 وأبو دود 3/365.
فالجواب على هذا من وجوه:-
الأول: أن في سنده خارجة بن عبد الله الأنصاري، وهو ضعيف ضعفه أحمد.
الثاني: أن عمر استسقى بدعاء حي حاضر يقدر على الدعاء، وليس في هذا ما يدل على الاستسقاء بالأموات، ولو كان هذا جائرا لما عدل الفاروق عن الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء بالعباس الحي، فالقياس باطل، والتوهم تحكم.
الثالث: أن جعل الحق على لسان عمر وقلبه لا يستلزم كون فعله رضي الله عنه حجة، ومن يدعيه فعليه البيان، خصوصا إذا خالف غيره من الصحابة.
الرابع: أن المقصود أن الله تعالى أجرى الحق على لسان عمر رضي الله عنه في وقائع، كما قال ابن عمر راوي الحديث: ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا فيه، وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر. ويقويه الحديث المتفق عليه عن أنس وابن عمر أن عمر قال:1وافقت ربي في ثلاث. قلت يا رسول الله: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقر: آية
= ومنهم أبو هريرة، وعمر بن الخطاب نفسه، وابن عمر، وبلال، ومعاوية ابن أبي سفيان، وعائشة، وعلي بن أبي طالب موقوفا عليه، وابن مسعود كذلك، وطارق بن شهاب كذلك. ذكرها كلها الهيثمي في مجمع الزوائد 9/66-67.
1 في طبعة الرياض "وابن عمر إن قال عمر".
125] وقلت يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يحتجبن فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} ونزلت كذلك. إلى غير ذلك من الأمور التي وافق فيها عمر، كقصة أسارى بدر وقصة الصلاة على المنافقين.
وجملة القول أن هذا الحديث على تقدير ثبوته ليس معناه إلا ما روي في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كان فيمن قبلكم محدثون فإن يكن في أمتى أحد فإنه عمر" المحدث الملهم1، وقيل الرجل الصادق الظن، وهو من ألقي في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى فيكون كالذي حدثه غيره به، وقيل من يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل المكلم أي تكلمه الملائكة بغير نبوت، وقيل الملهم بالصواب الذي يلقى على فيه، وعلى كل تقدير لا يحكم بما وقع للمحدث بل لا بد له من عرضه على الكتاب والسنة، ومن ثم أجمع أهل السنة على أن إلهام غير النبي صلى الله عليه وسلم ليس بحجة، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل حديث ابن عمر المذكور، وليس الغرض أن الله جعل الحق في كل حادثه وواقعة على لسان عمر وقلبه، وأن فعله وقوله حجة شرعية، وأنه لا يقع منه خطأ قط، وإلا لما خالفه ونازعه أحد
1 ذكر هذه الأقوال الحافظ ابن حجر في الفتح عند كلامه على هذا الحديث 7/50.
من الصحابة والتابعين من بعدهم من أهل الحديث والفقه، والثاني باطل فإن مخالفات الصحابة لعمر رضي الله عنه أكثر من أن يكتب في هذا المختصر، وأشهر أن يخفى على من له إلمام بكتب الحديث والأثر، ثم كيف يصح القول بحجية فعل عمر رضي الله عنه عموما كما زعم هذا المؤلف فقد أخطأ عمر رضي الله عنه في مسائل: منها عدم جواز التيمم عنده لمن أجنب فلم يجد الماء. ومنها عدم جواز التمتع في الحج عنده. ومنها قوله: إن لمعتدة 1الثلاث السكنى والنفقة، إلى غير ذلك من الأمور التي أخطأ فيها، ورجع فيها إلى الصواب. وكان الصديق رضي الله عنه يقومه في أشياء كثيرة، كما قومه يوم صلح الحديبية، ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان آحاد الناس يبين له الصواب فيرجع إلى قوله، كما راجعته أمرأة في قوله:"لئن بلغني أن أحدا زاد صداقه على صداق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته إلا رددت الفضل في بيت المال" فقالت له امرأة: لم تحرمنا شيئا أعطانا الله إياه؟ وقرأت قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} 2 [النساء: آية 20] فرجع إلى قولها وقال في لفظ آخر: الله أكبر أصابت امرأة وأخطأ عمر، وأمثال هذا كثير.
إذا عرفت هذا فليس في قول صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق
1 في الأصل وط الرياض "المعتدة".
2 الحديث رواه أحمد وأهل السنن. وسرد طرقه ابن كثير في تفسير الآية.
على لسان عمر وقلبه" حجة على جواز التوسل بالنبي، والاستغاثه به بعد موته صلى الله عليه وسلم، ولا بأحد من الأموات والغائبين، لا من الأنبياء والأولياء، ولا غيرهم من الصالحين، غاية ما فيه أن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، ومن ذلك أنه عدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى التوسل بدعاء العباس، وهذا من الحق الذي جعل الله على لسان عمر وقلبه، وسيأتي إيضاح هذا فيما بعد عن قريب إن شاء الله تعالى.
وأما قول الملحد: "ولا يقال فيه دليل على امتناع التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله لأن التوسل والاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان معلوما عندهم كما تقدم في القصة التي رواها ابن حنيف، وكما في توسل آدم في الحديث المتقدم الذي رواه عمر رضي الله عنه ، وإنما فعله عمر رضي الله عنه لدفع توهم أن الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز".
فالجواب أن نقول: قد تقدم الجواب عن هذا، وأنه لم يكن يفعله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا من بعدهم من الأئمة المقلدين، لذلك عدل عمر رضي الله عنه عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس، وقد ألهم الصواب لأن الله جعل الحق على لسانه وقلبه.
وأما حديث الأعمى فليس فيه ما يدل على غيبته صلى الله عليه وسلم، وهو توسل بدعائه، كما كان الصحابة يتوسلون بذلك، ويسألونه الاستغفار والدعاء، وهذا كان هديهم وفعلهم في حياته صلى الله علي وسلم
كما تقدم، وأما بعد وفاته فلم يفعله أحد من الصحابة رضي الله عنهم.
وأما الذي حدثه عثمان بن حنيف فلم يخاطبه، ولم يثبت ذلك في حديث الأعمى أعني مخاطبته صلى الله عليه وسلم والذي رواه من أهل السنن المعتبرة لم يثبت مخاطبة الرسول، بل هي ساقطة في الأصول المحررة، ومسألة السؤال به أو بحقه غير مسألة نفسه ودعائه.
وأما الحديث الذي عزاه لعمر بن الخطاب بتوسل آدم بجاه محمد فهو حديث موضوع مكذوب باتفاق أهل العلم بالحديث.
وأما قوله:"وإنما فعله عمر رضي الله عنه لدفع توهم أن الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز."
فالجواب أن يقال: قد ثبت في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانوا إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله عنه ، قال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا فيسقون. فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار جائز لما عدلوا إلى غيره بل كانوا يقولون: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس وهو يجدون أدنى مساغ لذلك، فعدولهم هذا مع أنهم السابقون
الأولون وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق، دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره.
وأما قوله: "وإنما فعله عمر رضي الله عنه لدفع توهم أن الاستسقاء بغير النبي لا يجوز".
فأقول فيه كلام من وجوه:-
الأول: أن المراد بالاستسقاء بالعباس والتوسل به الوارد في حديث أنس رضي الله عنه هو الاستسقاء بدعاء العباس، على طرية معهودة في الشرع، وهي أن يخرج من يستسقى به إلى المصلي، فيستسقي ويستقبل القبلة داعيا، ويحول رداءه، ويصلي ركعتين أو نحوه من هيئات الاستسقاء التي وردت في الصحاح، والدليل عليه قول عمر رضي الله عنه: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. ففي هذا القول دلالة واضحة على أن التوسل بالعباس كان مثل توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بأن يخرج، ويستقبل القبلة، ويحول رداءه، ويصلي ركعتين أو نحوه من الهيئات الثابتة في الاستسقاء، ولم يرد في حديث ضعيف فضلا عن الحسن والصحيح أن الناس طلبوا السقيا من الله في حياته متوسلين به صلى الله عليه وسلم من غير أن يفعل ما يفعل في
الاستسقاء المشروع من طلب السقيا والدعاء والصلاة وغيرهما مما ثبت بالأحاديث الصحيحة، ومن يدعي وروده فعليه الإثبات.
إذا تمهد هذا فاعلم أن الاستسقاء والتوسل على الهيئة التي وردت في الصحاح من الاستسقاء لا يمكن إلا بالحي لا بالميت، فالقول بإمكان هذا الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته من أبطل الباطل، وكان القول بأنه لو استسقي بالنبي صلى الله عليه وسلم لربما يفهم منه بعض الناس أو يتوهم أنه لا يجوز الاستسقاء بغيره بديهي البطلان، فإن ما ثبت بفعله صلى الله عليه وسلم هو مشروع لنا لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: آية 7] وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: آية 21] ما لم يدل دليل على كونه مخصوصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلا مجال لهذا التوهم حتى يحتاج إلى دفعه.
والثاني: أن المقصود لو كان دفع التوهم المذكور لكان أولى بأن يتوسل بحي غير النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، أو بميت غير النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، أو بميت غير النبي صلى الله عليه وسلمفي حياته، فإن هذه الصور الثلاث أبعد من أن يبدو فيها الاحتمال الآتي من أنه إنما استسقي بالعباس لأنه حي، والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات، وأن الاستسقاء بغير الحي لا يجوز، فلما ترك عمر رضي الله عنه تلك الصور، واختار الصورة التي يتأتي فيها الاحتمال المذكور
دل هذا الصنيع على أن مقصوده رضي الله عنه ليس دفع التوهم المذكور.
الثالث: أن توهم عدم جواز الاستسقاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم أخف من توهم عدم جواز الاستسقاء بالميت، لا سيما إذا كان ذلك الميت غير النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا التوهم أولى بالدفع، فكان الأنسب حينئذ أن يستسقي بميت غير النبي صلى الله عليه وسلم.
الرابع: أن هذا التعليل فاسد لأن المعلل لم يقم عليه برهان ولا دليل فلا يصغي إليه.