الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: نقل الملحد كلام القسطلاني المتضمن خلق العالم بما فيه من روح النبي
…
الخ
.
…
فصل
"ثم قال الملحد: قال القسطلاني في "المواهب اللدنية": اعلم يا ذا العقل السليم؛ والمتصف بأوصاف الكمال والتتميم؛ وفقني الله وإياك لهداية الصراط المستقيم؛ أنه لما تعلقت إرادة الحق تعالى بإيجاد خلقه؛ وتقدير رزقه؛ أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية؛ ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها على صورة حكمه؛ كما سبق في سابق إرادته وعلمه؛ ثم أعلمه تعالى: بنبوته؛ وبشره برسالته؛ هذا وآدم لم يكن إلا كما قال: بين الروح والجسد ثم انبجست منه- صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح.
قال الشارح الإمام الزرقاني: أي تفجرت منه –صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح. أي: خالصها كأرواح الأنبياء؛ والمراد بالعيون الكمالات المفرغة من نوره على أرواح الأنبياء؛ عبر عنها بالعيون مجازا لمشابهتها لعيون الإنسان للكمال".
والجواب ومن الله أستمد الصواب أن نقول: هذا كلام مخترع مبتدع؛ لم يقل به أحد ممن يعتد بقوله من أهل
الإسلام؛ ولم ينقله أحد من العلماء الأمناء عن الأئمة الأعلام؛ وليس هو في شيء من الكتب المعروفة المشهورة؛ كالصحاح والسنن والمساند وغيرها من الكتب المعتمدة؛ بل هو من الترهات التي يحكيها هؤلاء الغلاة المتهوكون؛ الحيارى المفتونون؛ الذين ليس لهم قدم صدق في العالمين؛ وليسوا من حملة سنة سيد المرسلين؛ ولا لهم معرفة بمدارك الأحكام؛ ولا أقول أهل السنة أئمة الإسلام؛ وإنما ينقلون مثل هذه الحكايات التي لا أصل لها في الكتاب والسنة عن مثل القسطلاني وغيره؛ ويغترون بها فضلوا وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل؛ إذ ليس لهم في ذلك مستند ولا حجة من البرهان والدليل؛ بل هذا مقتبس من أقوال الفلاسفة ومن نحا نحوهم من المتكلمين.
ومن المعلوم بالضرورة أن ما حكاه هذا الملحد عن القسطلاني إن كان صحيحا لا يدرك معرفة ذلك على التحقيق إلا من مشكاة النبوة؛ بنقل حملة السنة والقرآن؛ أهل المعرفة والحفظ والإتقان. ولا خبر بذلك بنقل صحيح عن رسول –صلى الله عليه وسلم يجب المسير إليه؛ فما كان هذا سبيله فهو مطرح ساقط لا يلتفت إليه؛ ولا يقول في الحكم عليه؛ إذا هو من الترهات الواهية؛ التي هي عن الدليل عارية؛ بل هو مصادم لصريح الكتاب والسنة كما سنبينه إن شاء الله تعالى. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات: آية 13]
وهذا خطاب للإنسان الذي هو روح وبدن؛ فدل على أن جملته مخلوقة بعد خلق الأبوين؛ وأصرح منه {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: آية 1] وهذا صريح في أن خلق جملة النوع الإنساني بعد خلق أصله.
وفي الموطأ: حدثنا زيد بن أبي أنيسة أن عند الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: آية 172] فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: "خلق الله آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته؛ فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون؛ وخلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون" فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله إذا خلق الرجل للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال الجنة فيدخل به الجنة؛ وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال النار فيدخل به النار" 1 قال الحاكم: هذا حديث على شرط
1 أخرج الإمام مالك في الموطأ [2/898] وأحمد في مسنده [1/44؛45] وأبو دود قي سننه - كتاب السنة -[5/79؛ 80] ؛ والترمذي في=
................................................................................................................................
= سننه كتاب التفسير-[5/266] .
قال الإمام ابن كثير –رحمه الله – في تفسير [2/262] بعد أن ساق سند الإمام أحمد لهاذا الحديث وهو: "حدثنا روح حدثنا مالك. وحدثنا إسحاق حدثنا مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب
…
".
قال ابن كثير: وهذا رواه أبو داود عن القعنبي؛ والنسائي عن قتيبة؛ والترمذي في تفسير هما عن إسحاق ين موسى عن معن وابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب؛ وابن جرير عن روح بن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر؛ وأخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية أبي مصعب الزبيري كلهم عن الإمام مالك بن أنس.. به قال الترمذي: هذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر. قاله أبو حاتم؛ وأبو رزعة.. زاد أبو حاتم بينهما "نعيم بن ربيعة" وهذا الذي قاله أبو حاتم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفى عن بقية عن عمر بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني عن نعيم بن ربيعة قال: كنت عند عمر بن الخطاب وسئل عن هذه الآية
…
فذكره. هـ كلام ابن كثير.
قال الإمام الحافظ الدارقطني – رحمه الله في كتابه "العلل"[2/221؛ 222؛ 223] وقد سئل عن هذا الحديث:
يرويه زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسارعن نعيم بن ربيعة عن عمر.. حدث عنه كذلك يزيد بن سنان أبو قروة الرهاوي؛ وجود إسناده ووصله.
وخالفه مالك بن أنس فرواه عن زيد بن أبي أنيسة ولم يذكر في الإسناد "نعيم بن ربيعة" وأرسله عن مسلم بن يسار عن عمر.
وحديث يزيد بن سنان متصل وهو أولى بالصواب. وقد تابعه عمر بن جعثم فرواه عن زيد بن أبي أنيسة كذلك قاله بقية بن الوليد عنه اهـ. =
مسلم؛ وروى الحاكم أيضا من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا: "لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خلقها إلى يوم القيامة أمثال الذر؛ ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم
= قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في الموضع السابق من تفسيره: قلت الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمدا كما جهل حال نعيم ولم يعرفه؛ فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث. ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم؛ ولهذا يرسل كثيرا من المرفوعات ويقطع كثيرا من الموصولات والله أعلم اهـ.
كذا قال ابن كثير- رحمه الله – خلافا لابن عبد البر فإنه قال في التمهيد [6/5] : زيادة من زاد في هذا الحديث "نعيم بن ربيعة" ليس حجة لأن الذي لم يذكره أحفظ؛ وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن اهـ.
قال محققة - عفا الله عنه -: وسواء رجحنا رواية مالك أو من خالفه فكلا الإسنادين ضعيف. أما رواية مالك فهي منقطعة لأن مسلم بن يسار الجهني لم يسمع من عمر كما قاله الترمذي. انظر [حامد التحصيل-344] وقد قال الحافظ ابن حجر عن مسلم هذا إنه" مقبول". انظر القريب [2/248] . وأما رواية من زاد بين مسلم بن يسار وعمر بن الخطاب [2/305] : بقول.
قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر-رحمه الله في الموضع السابق من التمهيد: "وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم؛ لأن المسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعا غير معروفين بحمل العلم. ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها
…
إلخ".
وبيصا من نور؛ ثم عرضهم على آدم فقال: من هؤلاء يا رب؟ فقال: هؤلاء ذريتك؛ فرأى رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه فقال: يا رب من هذا؟ فقال: هذا ابنك داود يكون في آخر الأمم؛ قال آدم 1: كم جعلت له من العمر؟ قال: ستين سنة؛ قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة "حتى يكون عمره مائة سنة"2 فقال الله: إذا يكتب ويختم فلا يبدل؛ فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت"لقبض روحه": 2 قال آدم: أولم يبق من عمري أربعون سنة:؟ فقال "له ملك الموت"2: أولم تجعلها لا بنك داود. قال: مجحد فجحدت ذريته؛ ونسى فنسيت ذريته؛ وخطأ فطئت ذريته" قال: هذا على شرط مسلم 3وفي صحيح الحاكم من حديث أبي جعفر الرازي حدثنا الربيع بن أنس 4 عن أبي العالية عن أبي بن
1 " آدم" ليست في الأصل؛ وأثبتها من المستدرك.
2 ما بين أقواس من المستدرك.
3 أخرجه الحاكم في مستدركه [2/325] ؛ والترمذي في سننه – كتاب التفسير– [5/267] وقال: حسن صحيح. وقد روي عن غير وجه عن أبي هريرة عن النبي – صلى لله عليه وسلم -. قال كتابه: - وفي إسناد:هشام بن سعد. قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق بخطئ اهـ. ولكن لا ضرر لهذا على السند لأن شيخ هشام في هذا الحديث زيد بن أسلم وقد قال الآجري – كما في تهذيب التهذيب [11/4] – قال أبو داود هشام بن سعد أثبت الناس في زيد بن أسلم اهـ.
4 في الأصل " أنيسة " وما أثبتهو من المستدرك.
كعب في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الآية] قال: جمعهم له يومئذ جميعا"1" ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أرواحا ثم صورهم واستنطقهم فتكلموا وأخذوا عليهم العهد والميثاق {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 2 قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع؛ وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة "لم نعلم أو تقولوا" إنا كنا عن هذا غافلين فلا تشركوا بي شيئا؛ فإني أرسلت إليكم رسلي يذكرونهم عهدي وميثاقي؛ وأنزل عليكم كتلي؛ فقالوا: "نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك" 2 ورفع لهم أبوهم آدم " فنظر إليهم" 2 فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك؛ فقال: يا رب لو سويت بين عبادك؛ فقال: إني أحب أن أشرك. ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج؛ وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة 3 فذلك قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ
1 في الأصل "جمعا"وما أثبته من المستدرك.
2 ما بين الأقواص من المستدرك.
3 أخرجه الحاكم في مستدركه [2/323] وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
وأبو جعفر الرازي هو: عسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان. قال الحافظ في التقريب: صدوق سيء الحفظ خصوصا عن مغيرة من كبار =
النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: آية 7] وهو قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: آية 30] وهو قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم: آية56] وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: آية 102] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والمقصود مما ذكرنا أن آدم رأى فيهم الأنبياء مثل السرج وذلك بعد إخراجهم من صلبه؛ فهذا فيه دلالة ظاهرة على بطلان من زعم أنعه لما تعلقت إرادة الحق لعالى بإيجاد خلقه وتقدير رزقه؛ أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية؛ ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها؛ ثم انبجست منه – صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح فعلى زعم هذا القائل أن الله لم يخلق جميع النوع الإنساني إلا من نور محمد؛ وأن
= السابعة 1 هـ.
والربيع بن أنس قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام رمي بالتشيع من الخامسة هـ.
ونقل الحافظ في التهذيب [3/239] عن ابن حبان أنه قال في ثقاته: الناس يتقون من حديثه – أي ربيع – ما كان من رواية أبي جعفر عنه لأن في أحاديثه عنه اضطرابا كثيرا 1 هـ.
وقد رواه معتمر بن سليمان بن طر خان التيمي عن أبيه عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب. . به أخرجه ابن مندة في الرد على الجهمية ص 59 وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند [5/135] .
الملائكة مخلوقون من نوره وعلى هذا فلا معنى لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات: آية 13] وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: آية 1] وأن هذه الأحاديث لا دلالة فيها؛ سبحانك هذا بهتان عظيم.
إذا عرفت هذا فهذه الأحاديث لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا؛ غايتها أنها تدل بعد صحتها وثبوتها على أن بارئها وفاطرها سبحانه صور النسم وقدر خلقها وآجالها وأعمالها؛ واستخرج تلك الصور من مادتها؛ ثم أعادها إليها؛ وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له؛ وهذا هو المطلوب ولا تدل على أنها خلقت خلقا مستقرا؛ ثم استقرت بوجوده حية عالمة ناطقة كلها في موضع واحد؛ ثم يرسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة كما يقول محمد بن حزم. نعم الرب سبحانه يخلق منها جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولا؛ فيجيء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق كشأنه تعالى في جميع مخلوقاته؛ فإنه قدر لها أقدارا وآجالا وصفاتا وهيئة ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير الذي قدره الله لها لا يزيد عليه ولا ينقص منه؛ فالآثار المذكورة في هذا الباب إنما تدل على إثبات القدر السابق؛ وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة
من أهل الشقاوة. انتهى ملخصا من كتاب الروح لا بن القيم رحمه الله تعالى.
ثم قال بعد ذلك: فهذا بعض كلام السلف والخلف في هذه الآية؛ وعلى كل تقدير فلا يدل على خلق الأرواح قبل الأجساد خلقا مستقرا؛ وإنما غابته أن تدل على إخراج صورهم وأمثالهم في صور الذر واستنطاقهم؛ ثم ردهم إلى أصلهم إن صح الخبر بذلك؛ والذي صح إنما هو إثبات القدر السابق وتقسيمهم إلى شقي وسعيد. انتهى.
فتحصل لنا مما ذكر من كلام السلف إبطال دعوى من ادعى أن أرواح الأنبياء مخلوقة من نور محمد- صلى الله عليه وسلم قبل خلق السماوات والأرض وقبل العرش والقلم واللوح؛ وأن جميع المخلوقات تفرعت جزء ابعد جزء؛ وخلقا بعد خلق؛ إنسان؛ وجنها؛ وجنتها؛ ونارها؛ وحتى الملائكة من نور محمد- صلى الله عليه وسلم؛ وهذا مما يعلم بضرورة العقل أن هذا من الكذب والحكايات التي لا أصل لها؛ بل الذي ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم أن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ ففي صحيح مسلم من حديث ابن وهب: أخبرني أبو هانىء الخولاني عن أبي عند الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين
ألف سنة وعرشه على الماء" 1.
وهذا الملحد يزعم أن الحقيقة المحمدية أبرزت من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية؛ قبل خلق العرش والماء والقلم الذي كتب مقادير كل شيء قبل خلق السماوات السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ وهذا التر مناف لصريح الكتاب والسنة ومناقض لهما أشد المناقضة؛ وهذه الترهات مقتبست من كلام ابن عربي صاحب الفصوص الذي هو من أكفر خلق الله؛ فإنه ذكر في "الفتوحات" من نمط هذا؛ وفي " الفصوص" في أثناء كلام له قال فيه: فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع؛ فكل نبي من بني آدم إلى آخر النبي؛ ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين؛ وإن تأخر وجود طينته؛ فإنه بحقيقته موجود وهو قوله: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين" وغيره ما كان نبيا إلى حين بعث؛ وكذلك خاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين؛ وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا تعد تحصيل شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من كون الله بالولي الحميد إلى آخر كلامه2.
1 صحيح مسلم- كتاب القدر – [4/2044] .
2 قال الألوسي في كتابه "جلاء العينين" ص 70؛ 71 ما ملخصه:
وممن نص على تكفير ابن العربي بناء على كلامه المخالف للشريعة المطهرة وألف في ذلك الرسائل العديدة المطولة والمختصرة العلامة السخاوي؛ والفهامة المدقق السعد التفتازاني؛ والمحقق ملا علي القاري.=
وبهذا تعلم أنهم إنما حذوا حذوه؛ وقفوا أثرهم؛ مع أن قوله: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين" مما يرويه العوام؛ وهذا باطل؛ واللفظ المعروف "بين الروح والجسد" 1؛ لأن بين الماء والطين مرتبة.
= ونقل الشيخ علي القاري عن ابن دقيق العيد قال: سألت شيخنا سلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام عن ابن عربي فقال: شيخ سوء كذاب. يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا. وقال: وسئل عنه شيخنا أبو زرعة أحمد بن شيخنا الحافظ العراقي فقال: لا شك في اشتمال الفصص المشهورة على الكفر الصريح الذي لا يشك فيه وكذلك قتوحاته المكية فإن صح صدور ذلك عنه واستمر عليه إلى وفاته فهو كافر مخلد في النار بلا شك.
قال كذلك شيخنا شيخ الإسلام سراج الذين البلقيني صرح بكفر ابن عربي. وكذا رضي الدين أبو بكر محمد بن الخياط والقاضي شهاب الدين أحمد الناشري الشافعيان.
وقال العلامة القاري: ثم اعلم أن من اعتقد حقية عقيدة ابن عربي فكافر بالإجماع من غير نزاع
…
إلخ.
1 قال شيخ الإسلام وإمام الأئمة الأعلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية –أسكنه الله المنازل العلية -: وأما ما يروية كثير من الجهال والاتحادية وغيرهم من أنه قال: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين وآدم لا ماء ولا طين" فهذا مما لا أصل له لا من نقل ولا من عقل فإن أحدا من المحدثين لم يذكره ومعناه باطل فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط فإن الطين ماء وتراب وإنما كان بين الروح والجسد. 1 هـ كلامه من الرد على البكري "ص 9- طبعة السلفية 1346هـ ".
وأما حديث: " كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد" فأخرجه الإمام أحمد في مسنده [5/59] وغيره عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله متى كنت نبيا؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد" قال شيخ الإسلام- رحمه =
وكذلك قوله: "وغيره ما كان نبيا إلى حين بعث" فإنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " ولقوله في حديث أبي بن كعب المتقدم " ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوية " إلى آخره.
وهؤلاء الغلاة يظنون أنهم بهذه الترهات معظمين الرسول؛ وهم بهذه الأمور ضارعوا النصارى في الغلو والإطراء؛ ويزعمون أنهم بهذا الغلو قد بالغوا في تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتبجيله وتعزيره؛ وحاشا وكلا بل هو مما يكرهه صلى الله عليه وسلم ويسخطه وينهي عنه كما قال صلى الله عليه وسلم " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " أخرجاه في الصحيحين "1؛ وقوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له يا سيدنا وخيرنا وابن خيرنا فقال: " يا أيها الناس قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزوجل" 2.
= الله تعالى في المصدر السابق: ثبت عن ميسرة قال: قلت: يا رسول الله متى كنت نبيا
…
الحديث.
1 كذا قال الشيخ رحمه الله تعالى- تبعا للتبريزي في المشكاة 3/1372. والحديث عزاه السيوطي قي " الزيادة على الجامع الصغير 3/329" للبخاري فقط. انظر فتح الباري 6/478. وقد نبه الشيخ الفاضل عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله في تعليقه على فتح المجيد ص 248 على أن عزوه لمسلم من الخطأ.
2 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/153- 241. قال شيخ الإسلام =
وإنما كره ذلك صلى الله عليه وسلم خشية أن يستجرينهم الشيطان في المبالغة في المدح والثناء فيخرج بهم إلى حد الإطراء فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى الأدب في الألفاظ؛ وعلمهم كيفية الثناء عليه بأن يقولوا: عبد الله ورسوله.
فتبين من هذا الحديث أن أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم مقام العبودية والرسالة؛ ولذلك شرفه الله بهما في مقام التحدي وغيره؛ فقال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقر: آية 23] وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: آية 1] وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: آية 1] وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: آية 1] وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [القلم: آية 29] وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: آية 19] .
فتعظيمه صلى الله عليه وسلم إنما هو بطاعته؛ وامتثال أمره؛ والانتهاء عما نهى عنه؛ ولزوم متابعته؛ وتقديم قوله على قول كل أحد من
= محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتابه النفيس " التوحيد": رواه النسائي بسند جيد 1هـ.
قال كاتبه:- أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة كما في تحفة الأشراف للمزي 1/130 وانظر: عمل اليوم والليلة للنسائي ص 250.
الخلق بهديه وسنته؛ فصلوات الله وسلامه عله كما نصح الأمة؛ وكشف الغمة؛ وأدى الأمانة؛ وبلغ الرسالة؛ وقطع الوسيلة والذريعة المفضية إلى مجاوزة الحد بالغلو والإطراء في مدحه والثناء فليه كما أطرت النصارى عسى بن مريم وغلت فيه حتى تجاوزت الحد بدعواهم إلهيته وأنه هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وقد تجاوز الحد في مدحه والثناء عليه من هذه الأمة أناس ضاهوا النصارى كما قال دحلان 1 في كتابه الذي سماه " الدرر السنية " فقال: "نعم يجب علينا أن لا نصفه بشيء من صفات الربوبية؛ فليس في تعظيمه بغير صفات الربوبية شيء من الكفر والإشراك؛ بل ذلك من أعظم الطاعات. ورحم الله البوصيري حيث قال:
دع ما ادعته النصارى في نبيهمو
…
واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
انتهى".
1 وهو أحمد بن زيني دحلان المولود بمكة – شرفه الله – سنة 1232- الهالك في المدينة سنة 1304 " انظر الإعلام للزركلي 1/129؛ 130" كان رأسا في الكذب والبلد الممقوتة؛ وله مؤنفات في نصرتها والذب عن منبحلها. وقد رد عليه كثير من علماء السنة والجماعة. ومن أحسن ما وقفت عليه من هذه الكتب كتاب الشيخ العلامة المحدث الكبير الفقية الأصولي النحرير محمد بشير السهسواني الهندي المتوفى 1326 هـ في كتاب " صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان"
وهذا ليس من التعظيم المشروع في شيء؛ بل هو من صرف خالص حق الله لغيره؛ فإن دعاء غير الله والنحر له والنذر له والاستغاثة به والالتجاء إليه والطواف له والسجدة له والركوع له وغيرها من أنواع العباد كفر وشرك؛ مع أنها تعظيم بغير صفات الربوبية؛ بل الذي يجب علينا أن لا نعبد غير الله بقسم من أقسام العبادة المتقدمة ذكرها؛ وأن لا نفعل ما نهى الله عنه ورسوله؛ وأن لا نحدث في أمر الدين شيئا؛ قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: آية 18] وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ} [يونس: آية 106] وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: آية 107] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: آية 162] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إفراد الله تعالى بالعبادة دون ما سواه كائنا من كان.