الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: ذكر الملحد مناظرة أبي جعفر المنصور مع مالك
…
فصل
قال الملحد: "وفي الشفا للقاضي عياض قال: ناظر 1 أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدب قوما فقال {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات-2] الآية ومدح قوما فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} الآية [الحجرات-3]، وذم قوما فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية، [الحجرات-4] وحرمته ميتا كحرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وادعو، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك، ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيام؟ بل استقبله، واستشفع به، فيشفعك الله وفي نسخة فيشفعه الله قال الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [النساء – 64] ، انتهى.
1 في الأصل وطبعة الرياض "ناضر".
والجواب أن يقال هذه الحكاية لا حجة فيها لمبطل لما سنذكره إن شاء الله تعالى، قال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي في "الصارم المنكي" قلت المعروف عن مالك أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء، وهذه الحكاية التي 1 ذكرها القاضي عياض، ورواها بإسناده عن مالك ليست بصحيحة عنه.
وقد ذكر المعترض 2 في موضع من كتابه أن إسنادها إسناد جيد، وهو مخطىء في هذا القول خطأ فاحشا، بل إسنادها إسناد ليس بجيد، بل هو إسناد مظلم منقطع، وهو مشتمل على من يتهم بالكذب، وعلى من يجهل حاله، وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته، ولم يسمع من مالك شيئا، ولم يلقه، بل رواية عنه منقطعة غير متصلة.
وقد ظن المعترض أنه أبو سفيان محمد بن حميد المعمري أحد الثقاة المخرج لهم في صحيح مسلم، قال: فإن الخطيب ذكره في الرواة عن مالك، وقد أخطأ فيما ظنه خطأ فاحشا، ووهم وهما قبيحا. إلى أن قال:
وأما محمد بن حميد الرازي فإنه في طبقة الرواة عن
1 في النسختين "الذي" وما أثبته من "الصارم" ص 218.
2 المقصود به صاحب "شفاء السقام".
المعمري كأبي خيثمة 1،وابن نمير، وعمرو الناقد، وغيرهم إلى أن قال:
وقد تكلم في محمد بن حميد الرازي وهو الذي رويت عنه هذه الحكاية من غير واحد من الأئمة، ونسبه بعضهم إلى الكذب. قال يعقوب بن شيبة السدوسي محمد بن حميد الرازي كثير المناكير. وقال البخاري: حديثه فيه نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: رديء المذهب غير ثقة. وقال فضلك الرازي عندي عن ابن حميد خمسون ألف حديث لا أحدث عنه بحرف، وقال أبو العباس أحمد بن محمد الأزهري: سمعت إسحاق بن منصور يقول: أشهد على محمد بن حميد، وعبيد بن إسحاق العطار بين يدي الله أنهما كذابان. وقال صالح بن محمد الحافظ: كان كل 2 ما بلغه من حديث سفيان يحيله على مهران، وما بلغه من حديث منصور يحيله على عمرو بن أبي قيس3، وما بلغه من حديث الأعمش يحيله على مثل هؤلاء وعلى عنبسة، ثم قال: كل شيء كان يحدثنا ابن حميد كنا نتهمه فيه. وقال
1 في النسختين "أبي حنيفة" وما أثبته من "الصارم" ص 218 ط المصرية. وص 346 ط دار الافتاء بالرياض- تحقيق الشيخ إسماعيل الأنصاري.
2 في النسختين"على" وما أثبته من " الصارم" ومن تهذيب التهذيب 9/129.
3 لفظة "أبي" سقطت من النسختين. ومن نسخة "الصارم" المصرية. وأثبتها من "التهذيب" ونسخة "الصارم" تحقيق الشيخ إسماعيل.
في موضع آخر: كانت أحاديثه تزيد، وما رأيت أحدا أجرأ 1 على الله منه كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضهم على بعض، وقال في موضع آخر: ما رأيت أحدا أحذق بالكذب من رجلين: سليمان الشاذكوني، ومحمد بن حميد الرازي كان يحفظ حديثه كله، وكان حديثه كل يوم يزيد- ثم أطال الحافظ الكلام فيه 2 إلى أن قال-:
فإذا كانت هذه حال محمد بن حميد الرازي عند أئمة هذا الشأن فكيف يقال في حكاية رواها 3 منقطعة: إسنادها جيد، مع أن في طريقها إليه من ليس بمعروف، إلى أن قال: فانظر هذه الحكاية وضعفها، وانقطاعها، ونكارتها، وجهالة بعض رواتها، ونسبة بعضهم إلى الكذب، ومخالفتها لما ثبت عن مالك، وغيره من العلماء. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم": ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي، أو غير نبي لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة
1 في النسختين "أجرى".
2 وقد لخص الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى- القول فيه، فقال في "التقريب":-"محمد بن حميد بن حيان، حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه.." اهـ.
3 في النسختين.والنسخة المصرية من "الصارم""رواتها". وما أثبته من نسخة الشيخ إسماعيل الأنصاري المطبوعة بدار الإفتاء. وقد علق عليها بقوله:- "قوله "رواها" بصيغة الماضي، من المخطوطتين، وهو الصواب".
يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى صاحبيه، واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره، ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصا عنه.
وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة ويسلم عليه هكذا في كتب أصحابه. وقال مالك: فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في" المبسوط" والقاضي عياض، وغيرهما 1:- لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو، ولكن يسلم ويمضي، وقال أيضا في "المبسوط": لا بأس لمن قدم من سفر، أو خرج أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو له، ولأبي بكر وعمر، قيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة، أو في الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر يسلمون ويدعون ساعة فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. وقد تقدم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة ما يوافق هذا ويؤيده من أنهم كانوا
1 في النسختين" وغيرهم " وما أثبته من نسختي"الصارم".
إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء له والتحية كالصلاة والسلام، ويكرهون قصده للدعاء، والوقوف عنده للدعاء 1، ومن يرخص منهم في شيء من ذلك فإنه إنما يرخص فيما إذا سلم عليه، ثم أراد الدعاء أن يدعو مستقبل القبلة إما مستدير القبر، وإما منحرفا عنه، وهو أن يستقبل القبلة ويدعو، ولا يدعو مستقبل القبر، وهكذا المنقول عن سائر الأئمة، ليس في أئمة المسلمين من استحب للمرء 2 أن يستقبل قبر النبي ويدعو عنده.
وهذا الذي ذكرناه عن مالك يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه، وهي الحكاية التي ذكرها القاضي عياض عن محمد بن حميد قال ناظر 3 أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم، قال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوما فقال:{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات-2] وذكر باقي الحكاية، ثم قال: فهذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون ضعيفة، أو مغيرة، وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه إذ قد يفهم منها ما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقاة من أصحابه، فإنه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند
1 سقطت الواو من ط الرياض.
2 في ط: الرياض "المرء".
3 في النسختين"ناضر".
الدعاء، وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقا، وذكر طائفة من أصحابه أنه يدنو من القبر، ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو مستقبل القبلة ويوليه ظهره، وقيل:[لا يوليه ظهره] 1 فاتفقوا في استقبال القبلة، وتنازعوا في تولية القبر ظهره وقت الدعاء، ويشبه والله أعلم أن يكون مالك 2 رحمه الله سئل 3 عن استقبال القبر عند السلام عليه، وهو يسمى ذلك دعاء، فإنه قد كان من فقهاء العراق من يرى أنه عند السلام عليه يستقبل القبلة أيضا، ومالك يرى استقبال القبر في هذا الحال كما تقدم. وكما قال في رواية ابن4وهب عنه: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم يقف ووجهه إلى القبر، لا إلى القبلة 5، ويدنو، ويسلم، ويدعو، ولا يمس القبر بيديه. وقد تقدم قوله: إنه يصلي عليه، ويدعو له.
ومعلوم أن الصلاة عليه، والدعاء له توجب شفاعته للعبد يوم القيامة كما قال في الحديث الصحيح:"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي
1 ما بين المعكوفين سقط من النسختين. وما أثبته من نسختي "الصارم" ومن"اقتضاء الصراط المستقيم" 2/756.
2 وقع في نسخة "الاقتضاء" المحققة "أن يكون مالكا"، مع أن نسخة محمد حامد الفقي فيها "مالك"!!
3 في ط: الرياض "سأل".
4 سقطت"ابن" من النسختين.
5 في النسخة المحققة من "الاقتضاء"[أو] .
مرة صلى الله عليه عشرا، ثم اسألوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة" 1.
فقول مالك في هذه الحكاية- إن كان ثابتا عنه- معناه أنك إذا استقبلته، وصليت عليه، وسلمت عليه، وسألت الله له الوسيلة، يشفع فيك يوم القيامة، فإن الأمم يوم القيامة يتوسلون بشفاعته، واستشفاع العبد به في الدنيا هو فعله ما يشفع به له يوم القيامة، كسؤال الله تعالى له بالوسيلة، ونحو ذلك، وكذلك ما نقل عنه من رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا، يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدعو ويسلم، يعني دعاءه 2 للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.
فهذا هو الدعاء المشروع هناك، كالدعاء عند زيارة قبور سائر المؤمنين، وهو الدعاء لهم، فإنه أحق الناس أن يصلي عليه، ويسلم عليه، ويدعى له، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وبهذا تتفق أقوال مالك، ويفرق بين الدعاء الذي أحبه، والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة.
1 أخرجه مسلم في صحيح 1/288 عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي- صلى الله عليه وسلم يقول: ".. الحديث".
2 في النسختين "دعاء للنبي" وكذا في النسخة المصرية من "الصارم" وما أثبته من الاقتضاء 2/757، ونسخة الشيخ الأنصاري ص 351.
وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية1: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [النساء–64] فهو- والله أعلم- باطل2، فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلم، ولم يذكر أحد منهم أنه استحب أن يسأل بعد الموت لا استقلالا 3 ولا غيره، وكلامه المنصوص عنه وأمثاله ينافي هذا، انتهى4.وقد تقدم الجواب على هذه الآية.
وأما القول هذا الملحد: "والمراد من قوله وحرمته ميتا أي حال انتقاله إلى البرزخ، فلا ينافي ما تقدم: أنه حي في قبره صلى الله عليه وسلم.
والجواب أن يقال: ليس هذا مالك رحمه الله، فإنه إمام عالم عربي فقيه، ومن أعلم أهل زمانه بالحديث ومعانية، فإنه حال حكايته مع المنصور- لو ثبت- لا يخاطب المنصور بحال انتقاله إلى البرزخ بأنه ميت، وإنما يخاطبه حال الحكاية معه وقت المناظرة بعد وفاته بزمان طويل، أن حرمته ميتا في هذا الوقت- أي وقت المناظرة- كحرمته في حال الحياة في
1 سقطت كلمة "هذه الآية" من النسختين.وأثبتها من نسختي "الصارم" و"الاقتضاء".
2 في نسخة "الاقتضاء" المحققة [باطلة] .
3 في نسخة "الاقتضاء" ونسختي "الصارم"[لا استغفارا] .
4 أي كلام ابن عبد الهادي من "الصارم" الذي نقله من "الاقتضاء" لشيخه شيخ الإسلام.
غض الصوت عنده وعدم رفعه، فما قاله مالك- رحمه الله ينافي ما تقدم من الحكايات الموضوعة، والأحاديث المكذوبة، وما كان منها ضعيفا فمؤلف محرف، من تحريفات هؤلاء الغلاة المارقين.
وأما حكايته عن شارح "نور الإيضاح" فككلام 1 غيره من المصنفين في الزيارة ممن لا يوثق به، ولا يعتمد على قوله ونقله، وليسوا من أهل الحديث المعروفين بالرواية والدراية والأمانة، وفيما نقلنا عن مالك وأصحابه، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد وأصحابه، والشافعي وأصحابه ما يكفي ويشفي عن كلام هؤلاء، وليس 2 المراد من ذكر أصحاب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وشافعي من تأخر منهم، إنما المراد بأصحاب الأئمة من نهجوا منهجهم، وأخذوا بمذهبهم، وكانوا على طريقتهم في الأقوال، والأفعال، والمآخذ من الأصول المنقولة المأثورة عن الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين.
1 في الأصل "كلام".
2 وقع ي ط: الرياض تحريف شنيع "وليس المراد بأصحاب الأئمة من نهجوا منهجهم، وأخذوا بمذاهبهم".