الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: ذكر المعترض أن الناس اصابهم قحط في زمن عمر
…
الخ
…
فصل
قال الملحد: وفي حاشية العلامة ابن حجر على الإيضاح للنووي ما نصه: " وقد صح في حديث طويل أن الناس أصابهم قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك، فجاءه في النوم وأخبره أنهم يسقون فكان كذلك" انتهى.
فالجواب أن يقال:
هذا الحديث الذي ذكره هذا الملحد في حاشية ابن حجر على الإيضاح للنووي قد رواه البيهقي وابن أبي شيبة عن بلال بن الحارث1وليس فيه دلالة على جواز دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل به، والإلتجاء إليه، والإستغاثة به بل هو من جنس المنامات التي لا يعتمد عليها في الأحكام، ولا يثبت بها حكم شرعي.
1 رواية البيهقي وابن أبي شيبة عن رجل لم يسم، كما يتضح من كلام المؤلف الذي ذكره عقب كلام الحافظ ابن حجر، فلعل قوله هنا:"عن بلال بن الحارث" سبق قلم والله أعلم.
وأيضا ففي هذا الحديث مقال مشهور، قال الحافظ في الفتح1: وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار2 - وكان خازن عمر رضي الله عنه قال: "أصاب الناس قحط في زمن عمر رضي الله عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه سلم في المنام، فقيل له إئت عمر" الحديث، وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى في المنام المذكور هو بلا بن الحارث المزني أحد الصحابة انتهى3.
1 جـ2/495.
2 في الأصل وطبعة الرياض"الواري" تبعا للفتح، وما أثبته من التاريخ الكبير للبخاري رحمه الله 7/304.
3 هذا الحديث بدون زيادة سيف بن عمر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه كتاب الفضائل 12/31ـ32: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن مالك الدار قال وكان خازن عمر على الطعام، قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنكم مستقيون، وقل له: عليك الكيس! عليك الكيس! فأتى عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال: يا رب لا آلو إلا ما عجزت عنه.
وأخرجه الحافظ البيهقي كما في البداية والنهاية لابن الكثير7/101: أخبرنا أبو نصر ابن قتادة وأبو بكر الفارس قالا: حدثنا أبو عمر بن مطر حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن مالك قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر بن الخطاب فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال:"إئت عمر فأقره مني السلام، وأخبرهم أنه مسقون.." قال الحافظ ابن كثير بعد سياقه =
........................................................................................................................................
للحديث بسنده: وهذا إسناد صحيح اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح2/495: "وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار ـ وكان خازن عمر ـ قال "أصاب الناس
…
" فذكره اهـ.
وقد أعل الحديث بعلل منها: تدليس الأعمش.
وهذه العلة عليلة وذلك؛ لأن الأعمش وإن كان مدلسا فإن شيخه في هذا السند أبو صالح ذكوان بن عبد الله وقد قال الإمام الذهبي رحمه الله في الميزان في ترجمة الأعمش: "قلت: وهو يدلس، وربما دلس عن ضعيف، ولا يدري به، فمتى قال: حدثنا، فلا كلام، ومتى قال: عن، تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم: كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال" اهـ، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في الطبقة الثانية من طبقات المدلسين، وهم الذين احتمل الأئمة تدليسهم، إلا أننا لا نسلم بهذا في الأعمش مطلقا، بل إن كلام الذهبي فيه أعدل.
العلة الثانية: جهالة مالك الدار ـ خازن عمر ـ فقد ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل8/213 وبيض له. وذكر عن أبيه: أن أبا صالح السمان روى عنه.
وكذا ذكره البخاري في التاريخ7/304 وبيض له وساق حديثه هذا.
وقال الهيثمي في المجمع3/125: "....ومالك الدار لم أعرفه
…
" وقال المنذري في الترغيب والترهيب2/42 ط المنبرية: "
…
ومالك الدار لا أعرفه
…
".
قلت: وقد روى عنه غير أبي صالح السمان. ففي الطبراني 20/33 رواية عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدار.
وقد أشار الحافظ ابن حجر في التهذيب6/187 إلى أن عبد الرحمن بن سعيد من الرواة عن مالك الدار.
فارتفعت جهالة العين عنه بذلك كما هو مذهب جماعة من المحدثين. =
........................................................................................................................................
= وفي هذه العلة نظر وذلك: لأن مالك الدار قد ائتمنه عمر على الخزانة، ولا يضع عمر في هذا المنصب إلا من عرفت عدالته.
العلة الثانية: أن الرجل الذي جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مجهول لا يعرف، فكيف يعول في هذه القضية العظيمة على روايته!! ويؤصل هذا الأصل المتعلق بأهم العبادات على حادثته! لا شك أن الاعتماد على هذه الواقعة ضرب من الجنون والهوس. هذا إذا سلمنا جدلا عدم وجود المخالف له. فكيف وقد خالفه الإجماع المنعقد على مقتضى النصوص الواردة فيما يشرع عند وجود القحط من استغفار الله تعالى والاستقامة على طريقه، والإيمان والتقوى، وتحكيم الشرع.
وقد اعترض على هذه العلة القوية باعتراض هو:- أن الرجل المذكور صحابي يدعى: بلال بن الحارث المزني كما صرحت بذلك بعض روايات هذا الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح2/496: وقد روى سيف في "الفتوح" أن الذي رأى المنام المذكور هو: بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة اهـ.
والجواب: أن هذه الرواية باطلة لا يحل الاستشهاد بها. وذلك لأن سيف بن عمر المتفرد بهذه الزيادة ضعيف باتفافهم، بل قيل: إنه كان يضع الحديث، وقد اتهم بالزندقة "الميزان للحافظ الذهبي2/256".
ثم لو سلمنا جدلا صحة هذه الزيادة فلا حجة فيها؛ لأنها فعل صحابي خالف الأدلة، وعارضه فعل الصحابة.
أما مخالفته للأدلة من الكتاب والسنة فظاهر، وأما مخالفته لفعل الصحابة فقد ثبت عن عمر أنه قال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، فيسقون.
فإن قيل: إن وجه الاحتجاج بهذه القصة عدم إنكار عمر على ذلك الرجل مجيئه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
........................................................................................................................................
= قيل: من أين لكم أنه أخبر عمر بهذا الاستسقاء؟ فالروايات التي بين أيدينا ليس فيها إلا الإخبار بالرؤيا. فمن زعم غير ذلك فعليه الإثبات.
وقد رأيت جوابا لبعضهم يقول فيه: " وأما أخباره عمر، فلا نسلم أنه أخبره باستسقائه بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولعله أخبره بالرؤيا فقط، أو ببعضها وهو قوله: "قل له عليك الكيس الكيس" والفعل الماضي في الإثبات بلسان العرب بمنزلة النكرة في الإثبات، فكما لا يعم قولنا: حصل منا إخبار، كذلك لا يعمم قولنا: أخبرنا. ولئن سلمنا إخباره عمر بالواقعة كلها فلا نسلم أن عمر أقرّه، إذ يحتمل أنه أنكره ولم ينقل، وعدم العلم ليس علما بالعدم
…
إلخ اهـ.
العلة الرابعة:
أن هذه القصة منكرة المتن، لمخالفتها ما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء في مثل هذه المجالات. ولمخالفتها ما اشتهر وتواتر عن الصحابة والتابعين، إذ ما جاء عنهم أنهم كانوا يرجعون إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأموات عند نزول النوازل واشتداد القحط يستدفعونها بهم وبدعائهم وشفاعتهم. بل كانوا يرجعون إلى الله واستغفاره وعبادته، وإلى التوبة النصوح، قال تعالى:{وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقً} وقال تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
…
} .
وفي كتاب المعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان 2/280 بإسناد صححه الحافظ ابن حجر في الإصابة10/382 عن سليم بن عامر الخبائري قال: إن السماء قحطت، فخرج معاوية وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى الناس، فأمره معاوية فصعد على المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: "اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع=
فعلم أن ما روي بإسناد صحيح ليس فيه أن الجائي أحد الصحابة، وما فيه أن الجائي أحد الصحابة ضعيف غاية الضعف، قال الذهبي في الميزان: سيف بن عمر الضبي1 الأسدي، ويقال التميمي البرجمي، ويقال السعدي الكوفي
= إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يدك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن فارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبت لها ريح، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم".
وأبلغ من هذا فعل عمر بن الخطاب الذي كان بجوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيعدل عنه إلى التوسل بالعباس لكونه حيا قادرا
…
وهذا الأثر ضعفه ونكارته، قد خالف هذه الوقائع الصحيحة الثابتة عن خير القرون بأجمعهم. فلو كان ما تضمنه هذا الأثر صحيحا لفعلوه ولو مرة لبيان الجواز، ومن المعلوم أن المضطر يتعلق بأدنى ما يجده لكشف ضره، فلما لم يفعلوا ذلك مع وجود الدافع تبين بطلان هذا الأثر وسقوطه.
قال شيخنا العلامة البارع المحقق الجليل عبد العزيز بن باز في تعليقه على فتح الباري2/495:
هذا الأثر ـ على فرض صحته كما قال الشارح ـ ليس بحجة على جواز الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته؛ لأن السائل مجهول، ولأن عمل الصحابة رضي الله عنهم على خلافه، وهم أعلم الناس بالشرع، ولم يأت أحد منهم إلى قبره يسأله السقيا ولا غيرها، بل عدل عمر عنه لما وقع الجدب إلى الاستسقاء بالعباس، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة، فعلم أن ذلك هو الحق، وأن ما فعله هذا الرجل منكر ووسيلة إلى الشرك، بل قد جعله بعض أهل العلم من أنواع الشرك
…
إلخ" اهـ كلامه رحمه الله تعالى ومتّع به على طاعته.
1 أي الأصل وطبعة الرياض "الضبعي" وأما أثبته من الميزان 2/255ـ256.
مصنف الفتوح والرواة1وغير ذلك هو كالواقدي يروي عن هشام بن عروة، وعبد الله بن عمر، وجابر الجعفي، وخلق كثير من المجهولين، كان أخباريا عارفا، روى عنه جبارة بن المغلس، وأبو معمر القطيعي، والنضر بن حماد العتكي، وجماعة، قال عباس: عن يحيى ضعيف، وروى مطّين عن يحيى فلس2خير منه. وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: متروك، وقال ابن حبان: اتهم بالزندقة، وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر، قال مكحول البيروني3: سمعت جعفر بن أبان، سمعت ابن نمير يقول: سيف الضبي4تميمي كان جميع يقول: حدثني رجل من بني تميم، كان سيف يضع الحديث، وقد اتهم بالزندقة انتهى ملخصا.
قال الحافظ في التقريب: سيف بن عمر التميمي صاحب الردة، ويقال له الضبي، ويقال غير ذلك الكوفي، ضعيف في الحديث، عمدة في الأخبار أفحش ابن حبان القول فيه انتهى.
وقال الذهبي في الكاشف: قال ابن معين وغيره ضعيف،
1 كذا في الأصل، وطبعة الرياض، وفي الميزان للذهبي2/255 "الردة".
2 في الأصل وطبعة الرياض "عبادة المفلس" وما أثبته من الميزان وهو الصواب.
3 في الأصل وطبعة الرياض "فليس" وما أثبته" من الميزان.
4 في الأصل وطبعة الرياض "البيروني".
وقال في الخلاصة: سيف بن عمر1الأسدي الكوفي، صاحب الردة، عن جابر الجعفي، وأبي الزبير، وعنه محمد بن عيسى الطباع، وأبو معمر الهذلي ضعفوه انتهى.
فهذا ما قيل في حديث بلال بن الحارث الذي رواه البيهقي وابن أبي شيبة2فإن كان الذي رواه الحافظ في الفتح وعلى الإيضاح للنووي ففيه ما قال الحافظ من المقال آنفا وإن كان غير ذلك فغاية ما فيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يأمر أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس وهذا ليس من هذا الباب الذي نحن بصدد الكلام فيه فإن هذا قد يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام: وأيضا ما يروي أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرمادة فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس فإن هذا ليس من هذا الباب ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم وأعرف من هذا وقائع وكذلك سؤال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره من أمته حاجة فتقضي له فإن هذا قد وقع كثيرا وليس مما نحن فيه
1 في الأصل وط الرياض "بن تميم" وما أثبته من الخلاصة للخزرجي ص136 "ط الخيرية بمصر، 1322هـ".
2 رواية البيهقي وابن أبي شيبة ليس فيها أن الجائي هو الحارث بن بلال، فإن سيف بن عمر الضبي هو الذي ذكر الصحابي "الحارث بن بلال" وقد تقدم بسط هذا.
وعليك أن تعلم أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لهؤلاء السائلين ليس هو مما يدل على استحباب السؤال فإنه هو القائل صلى الله عليه وسلم إن أحدهم ليسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج يتأبطها نارا فقالوا يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم فيه من الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم كما أن السائلين في الحياة كانوا كذلك وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا فرق بين هذا وهذا انتهى.
وهذا الحديث على تقدير ثبوت صحته لا يدل على ما يتوهمه هذا الملحد غاية ما فيه أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لأمته فأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج يستسقي بالناس فكان المستسقي بالناس عمر لا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبين من هذا أنه لا تطلب السقيا إلا من الحي بدعائه لا من الميت لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك وخروج عمر بالصحابة يستسقون فسقوا والله أعلم.