المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

خِلَالِ ذَلِكَ تَأْلِيفٌ نَحْوَ الْخَمْسِينَ مُؤَلَّفًا يَأْتِي كَثِيرٌ مِنْهَا فِي - الفتاوى الفقهية الكبرى - جـ ١

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَةُ الفاكهي جامع الفتاوى]

- ‌[كِتَابُ الطَّهَارَةِ]

- ‌[بَابُ النَّجَاسَةِ]

- ‌[بَابُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِنْجَاءِ]

- ‌[بَابُ الْوُضُوءِ]

- ‌[بَابُ الْغُسْلِ]

- ‌[بَابُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ]

- ‌[بَابُ التَّيَمُّمِ]

- ‌[بَابُ الْحَيْضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي النِّفَاسِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ الْمَوَاقِيتِ]

- ‌[بَابُ الْأَذَانِ]

- ‌[بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ]

- ‌[بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ]

- ‌[بَابٌ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ]

- ‌[بَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ]

- ‌[كِتَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ]

- ‌[بَابُ شُرُوطِ الْإِمَامَة وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِر]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ]

- ‌[بَابُ اللِّبَاسِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفَيْنِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ]

الفصل: خِلَالِ ذَلِكَ تَأْلِيفٌ نَحْوَ الْخَمْسِينَ مُؤَلَّفًا يَأْتِي كَثِيرٌ مِنْهَا فِي

خِلَالِ ذَلِكَ تَأْلِيفٌ نَحْوَ الْخَمْسِينَ مُؤَلَّفًا يَأْتِي كَثِيرٌ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْفَتَاوَى لِأَنَّ أَكْثَرَهَا فِي مَسَائِلَ يَقَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاصِرِيهِ فِيهَا تَخَالُفٌ فَتَكُونُ فِي حُكْمِ الْفَتَاوَى فَلِذَا ذَكَرْت كَثِيرًا مِنْهَا هُنَا وَمِنْ طَرِيقِ مَا سَمِعْته مِنْهُ أَنَّهُ لَمَّا وَلِيَ بَعْضُ أَقْرَانِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ طَيَّشَهُ عَلِمَهُ فَرَآهُ يَوْمًا فِي طَيْشِهِ فَأَنْشَدَ ارْتِجَالًا لِنَفْسِهِ

إذَا أَنْتَ لَا تَرْضَى بِأَدْنَى مَعِيشَةٍ

مَعَ الْجِدِّ فِي نَيْلِ الْعُلَا وَالْمَآثِرِ

فَبَادِرْ إلَى كَسْبِ الْغِنَى مُتَرَقِّبًا

عَظِيمَ الرَّزَايَا وَانْطِمَاسَ الْبَصَائِرِ

فَلَمْ تَمْضِ تِلْكَ السَّنَة إلَّا وَقَدْ عُزِلَ وَأُصِيبَ بِمَصَائِب عَظِيمَة سَمِعْته يَقُول قَاسَيْت فِي الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ مِنْ الْجُوع مَا لَا تَحْتَمِلهُ الْجِبِلَّة الْبَشَرِيَّة لَوْلَا مَعُونَة اللَّه وَتَوْفِيقه بِحَيْثُ إنِّي جَلَسْت فِيهِ نَحْو أَرْبَع سِنِينَ مَا ذُقْت اللَّحْم إلَّا فِي لَيْلَة دُعِينَا لِأَكْلٍ فَإِذَا هُوَ لَحْم يُوقَدُ عَلَيْهِ فَانْتَظَرْنَاهُ إلَى انْبِهَارِ اللَّيْل ثُمَّ جِيءَ بِهِ فَإِذَا هُوَ يَابِس كَمَا هُوَ نِيءٌ فَلَمْ أَسْتَطِعْ مِنْهُ لُقْمَة وَقَاسَيْت أَيْضًا مِنْ الْإِيذَاء مِنْ بَعْض أَهْل الدُّرُوس الَّتِي كُنَّا نَحْضُرُهَا مَا هُوَ أَشَدّ مِنْ ذَلِكَ الْجُوع إلَى أَنْ رَأَيْت شَيْخَنَا ابْنَ أَبِي الْحَمَائِلِ السَّابِق قَائِمًا بَيْن يَدِي سَيِّدِي أَحْمَدَ الْبَدْوِيِّ فَجِيءَ بِاثْنَيْنِ كَانَا أَكْثَر إيذَاء لِي فَضَرَبَهُمَا بَيْن يَدَيْهِ بِأَمْرَيْنِ فَمُزِّقَا كُلّ مُمَزَّقٍ وَكَذَلِكَ أُوذِيَ بِمَكَّةَ كَثِيرًا فَصَبَرَ فَكَفَاهُ اللَّه شَرّ الْمُؤْذِينَ

[كِتَابُ الطَّهَارَةِ]

(سُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا لَوْ كَانَ مَعَ الشَّخْصِ إدَاوَةٌ أَوْ كُوزٌ فِيهِ مَاءٌ فَأَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ، فَلَقِيَ فِيهِ قَلِيلَ نَجَاسَةٍ يَابِسَةٍ مِثْلَ الْحِمَّصَةِ فَهَلْ يَنْجُسُ الْمَاءُ إذَا كَانَ مِنْ بَعْرِ الْغَنَمِ أَوْ غَيْرِهِ؟ وَهَلْ إذَا مَسَّتْ الْأَجْنَبِيَّةُ وُضُوءَهُ هَلْ يَبْطُلُ الْوُضُوءُ بِهِ؟ وَمَا السَّبَبُ لِذَلِكَ؟ وَهَلْ إذَا جَاءَتْ الرِّيحُ بِشَيْءٍ فَأَلْقَتْهُ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ مَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟ وَهَلْ إذَا كَانَ الْإِنَاءُ فِيهِ أَثَرُ لَبَنٍ وَلَمْ يَمْتَزِجْ بِالْمَاءِ فَتَوَضَّأَ أَجْزَأَهُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - إذَا كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ وَإِنْ قَلَّتْ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ بَعْرِ الْغَنَمِ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَجُوزُ الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْهُ الْأَجْنَبِيَّةُ وَمِمَّا أَلْقَتْ الرِّيحُ فِيهِ تُرَابًا وَمِمَّا فِيهِ أَثَرُ لَبَنٍ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ بِهِ تَغَيُّرًا كَثِيرًا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِي الْجَوَابِ عَنْهَا جَمَاعَةٌ صُورَتُهَا شَخْصٌ تَنَجَّسَ ثَوْبُهُ فَأَعْطَاهُ فَاسِقًا، وَأَمَرَهُ بِتَطْهِيرِهِ مِنْ تِلْكَ النَّجَاسَةِ فَغَابَ عَنْهُ الْفَاسِقُ بِالثَّوْبِ ثُمَّ جَاءَ بِهِ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْغَسْلِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ طَهَّرَهُ فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي طَهَارَةِ الثَّوْبِ الْمَذْكُورِ أَمْ لَا؟

أَجَابَ الْأَوَّلُ فَقَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي طَهَارَتِهِ لِأُمُورٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَئِمَّةَ رضي الله عنهم قَالُوا بِعَدَمِ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ وَقِيَاسُهُ عَدَمُ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي طَهَارَةِ الثَّوْبِ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّيْخَ جَمَالَ الدِّينِ الْإِسْنَوِيَّ رحمه الله ذَكَرَ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ بَحْثًا: أَنَّ قَوْلَ الْفَاسِقِ فِي تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ لَا يُقْبَلُ وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ الْأَذْرَعِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالتَّوَسُّطِ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لَهُ، وَهُوَ كَالصَّرِيحِ فِي عَدَمِ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي تَطْهِيرِ الثَّوْبِ.

الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْفَاسِقَ لَوْ أَخْبَرَ مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ أَنَّهُ رَأَى الْكَعْبَةَ فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ وَهُوَ عَلَى جَبَلٍ أَوْ بِنَاءٍ عَالٍ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرِهِ، وَطَهَارَةُ الثَّوْبِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَقِيَاسُهُ عَدَمُ قَبُولِهِ قَوْلَهُ فِي طَهَارَةِ الثَّوْبِ انْتَهَى جَوَابُ الْأَوَّلِ، وَأَجَابَ الثَّانِي فَقَالَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي طَهَارَةِ الثَّوْبِ لِأُمُورٍ أَيْضًا أَحَدُهَا: أَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ فِي طَهَارَةِ الثَّوْبِ هُوَ الْأَفْسَحُ لِلنَّاسِ الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّيْخَ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيَّ نَقَلَ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ الْمُتَوَلِّي، وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ نَقَلَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لَهُ أَنَّ الْفَاسِقَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَكَاةِ الْحَيَوَانِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ، وَنَقَلَهُ أَيْضًا جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ الْإِمَامُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ الرِّفْعَةِ رحمه الله وَهُوَ بِعُمُومِهِ كَالصَّرِيحِ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي تَطْهِيرِ الثَّوْبِ إذْ لَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي تَطْهِيرِ الثَّوْبِ لَمَا قُبِلَ فِي ذَكَاةِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لَحْمُهُ؛ لِأَنَّ تَذْكِيَتَهُ سَبَبٌ لِطَهَارَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.

كَمَا أَنَّ إيرَادَهُ عَلَى الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ، وَإِزَالَةَ عَيْنِ النَّجَاسَةِ سَبَبٌ لِطَهَارَةِ الثَّوْبِ وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الطَّهَارَةِ لِلثَّوْبِ كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْفَاسِقَ لَوْ أَخْبَرَ بِعَدَمِ الْمَاءِ جَازَ التَّيَمُّمُ الْأَمْرُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّوَوِيَّ أَيْضًا نَقَلَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ الْجُمْهُورِ: أَنَّ إخْبَارَ الصَّبِيِّ يُقْبَلُ فِيمَا

ص: 5

طَرِيقُهُ الْمُشَاهَدَةُ فَالْفَاسِقُ مِثْلُهُ الْأَمْرُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْقُدْوَةَ بِالْفَاسِقِ صَحِيحَةٌ اعْتِمَادًا عَلَى إخْبَارِهِ عَنْ طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، وَلَا يُشْتَرَطُ مُشَاهَدَتُنَا لِطَهَارَتِهِ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: صَلَّى ابْنُ عُمَرَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ وَكَفَى بِهِ فَاسِقًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْجَمِّ الْغَفِيرِ لَمْ يُشَاهِدُوا طَهَارَةَ الْحَجَّاجِ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ أَنَّهُ كَانَ يَبُولُ وَيَتَغَوَّطُ فَاقْتَضَى مَقَامُ التَّوْسِيعِ وَالتَّسْهِيلِ عَلَى الْأُمَّةِ اعْتِمَادَهُ فِي ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّضْيِيقَ لَا يُتَلَقَّى مِنْ التَّوْسِيعِ فَقَدْ يُمْنَعُ أَيْضًا إلْحَاقُ قَوْلِهِ: بُلْت فِي الْإِنَاءِ بِقَوْلِهِ: ذَبَحْت الشَّاةَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ لِمُعَارَضَتِهِ لِأَصْلِ الطَّهَارَةِ الَّذِي رَاعَوْا فِيهِ التَّوْسِيعَ.

الْأَمْرُ السَّادِسُ: أَنَّ فِي اشْتِرَاطِ عَدَالَةِ الْمَأْمُورِ بِطَهَارَةِ الثَّوْبِ مَشَقَّةٌ وَالْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ لِمَا فِي الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَةِ الْمُطَهِّرِ مِنْ الْمَشَقَّةِ، وَلِمَا يَشْهَدُ لَهُ مِنْ مَنْقُولِ الْمَذْهَبِ الْأَمْرُ السَّابِعُ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ اعْتِمَادُ خَبَرِ الْفَاسِقِ عَنْ حَاجَتِهِ وَتَوَقَانِهِ إلَى النِّكَاحِ حَتَّى يَجِبَ إعْفَافُهُ الْأَمْرُ الثَّامِنُ: أَنَّ قِيَاسَ الْأَوَّلِ لِإِخْبَارِهِ بِالتَّطْهِيرِ عَلَى إخْبَارِهِ بِنَجَاسَةِ الْإِنَاءِ مَمْنُوعٌ بِتَضَمُّنِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا أَخْبَرَ بِنَجَاسَةِ الْإِنَاءِ لِلتَّوْسِيعِ عَلَى الْأُمَّةِ فِي التَّمَسُّكِ بِأَصْلِ الطَّهَارَةِ لِقُوَّتِهِ بِحَيْثُ لَا يُقَاوِمُهُ خَبَرُ الْفَاسِقِ فَلَا يُتَلَقَّى مِنْهُ التَّضْيِيقُ بِالْمَنْعِ مِنْ رَدِّ الثَّوْبِ إلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ عَنْ تَطْهِيرِهِ لَهُ حَيْثُ أَمْكَنَ، وَقَدْ اكْتَفَوْا بِإِمْكَانِ طُهْرِ فَمِ الْهِرَّةِ الْمَعْلُومِ نَجَاسَتُهُ حَيْثُ غَابَتْ فَلَمْ يَحْكُمُوا بِنَجَاسَةِ قَلِيلٍ وَلَغَتْ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَمَلًا بِأَصْلِ طَهَارَةِ الْمَاءِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ اسْتِمْرَارُ نَجَاسَةِ فَمِهَا كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إزَالَةِ الْفَاسِقِ لِلنَّجَاسَةِ وَلَوْ عَوَّلُوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَلَمْ يَكْتَفُوا بِخَبَرِهِ لِمَا صَحَّحُوا الْقُدْوَةَ بِالْفَاسِقِ إلَّا بِشَرْطِ مُشَاهَدَةِ طَهَارَتِهِ كَمَا سَبَقَ.

الْأَمْرُ التَّاسِعُ: أَنَّ النَّوَوِيَّ أَيْضًا قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُقْبَلُ قَوْلُ الْفَاسِقِ وَالْكَافِرِ فِي الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ وَحَمْلِ الْهَدِيَّةِ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الصَّبِيِّ فِيهِمَا قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَدَلِيلُهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ النَّبِيَّ قَبِلَ هَدَايَا الْكُفَّارِ الْمَحْمُولَةَ عَلَى أَيْدِي بَعْضِهِمْ إلَيْهِ اهـ.

فَإِذَا رَجَعَ إلَى إخْبَارِ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ بِذَلِكَ لِإِفَادَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ ظَنًّا بِهِ، فَكَيْفَ لَا يَرْجِعُ بِإِخْبَارِ الْفَاسِقِ عَمَّا هُوَ أَهْلٌ لَهُ إلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ صِحَّةِ تَوْكِيلِ مُسْلِمٍ لِكَافِرٍ وَفَاسِقٍ وَصِحَّةِ مُعَامَلَتِهِمَا عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمَا ظَاهِرٌ فِي الرُّجُوعِ إلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ وَالتَّعْوِيلُ عَلَى قَوْلِهِمَا أَتَيْنَا بِالتَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ الْعَاشِرُ: أَنَّ الْإِمَامَ بَدْرَ الدِّينِ الزَّرْكَشِيّ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْخَادِمِ فِي الْكَلَامِ عَلَى إخْبَارِ الْفَاسِقِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مَا لَوْ أَخْبَرَ الْفَاسِقُ عَنْ فِعْلِهِ كَقَوْلِهِ: بُلْت فِي هَذَا الْإِنَاءِ فَقَدْ ذَكَرُوا فِيمَا لَوْ وُجِدَتْ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ فَقَالَ كِتَابِيٌّ أَنَا ذَبَحْتهَا تَحِلُّ اهـ.

فَأُنِيطَ قَبُولُ خَبَرِهِ بِالتَّنْجِيسِ النَّاشِئِ عَنْ فِعْلِهِ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْكَافِرِ بِمُقْتَضَى الْحِلِّ وَالطَّهَارَةِ النَّاشِئَيْنِ عَنْ فِعْلِهِ: فَالْفَاسِقُ أَوْلَى فَانْظُرْ إلَى السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ احْتِمَالِ عَدَمِ إتْيَانِهِمْ بِالشَّرْطِ فِي الذَّكَاةِ؛ وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ أَكْلِهَا لِعَدَمِ مُشَاهَدَتِهِ لِذَبْحِهَا مِنْهُمْ بَلْ عَوَّلُوا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ لِأَهْلِيَّتِهِمْ لَهُ رُجُوعًا إلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ الْأَمْرُ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ مَا نَقَلَهُ فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ عَنْ التَّوَسُّطِ لِلْإِمَامِ الْأَذْرَعِيِّ لَمْ أَرَهُ فِيهِ بَلْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ التَّصْرِيحَ بِهِ فَإِنَّهُ قَرَّرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ عِبَارَةِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ اسْتِحْبَابُ كَوْنِ غَاسِلِ الْمَيِّتِ أَمِينًا كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَكَثِيرُونَ فَإِنْ صَحَّ عَنْهُ مَا ذُكِرَ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ بِأَنَّ الْمَيِّتَ غُسِّلَ فَلَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ غَسَّلَهُ قُبِلَ قَوْلُهُ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْكَمَالُ الدَّمِيرِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ (بِأَنَّ الْفَاسِقَ إذَا غَسَّلَ الْمَيِّتَ وَقَعَ الْمَوْقِعُ) وَقَالَ فِي الْمِنْهَاجِ: (وَلْيَكُنْ الْغَاسِلُ أَمِينًا) قَالَ الْإِمَامُ الْأَذْرَعِيُّ فَأَشْعَرَ بِالْوُجُوبِ وَوُجِّهَ بِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُوثَقُ بِهِ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ إلَّا فِي مَسَائِلَ لَمْ يَعُدُّوا هَذَا مِنْهَا اهـ. كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ.

قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَقَدْ يُدَّعَى أَنَّ سُكُوتَهُمْ عَنْ عَدِّهَا لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ غُسْلِهِ فَهُوَ أَهْلٌ لَهُ وَلِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِمْ بِصِحَّةِ اسْتِئْجَارِ مَنْ يُغَسِّلُ الْمَيِّتَ فَأَغْنَى ذَلِكَ مَعَ ذَكَرِهِمْ لِقَبُولِ خَبَرِهِ فِي الذَّبَائِحِ عَنْ ذِكْرِهَا اهـ.

الْأَمْرُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ قَالَ لَوْ مَرَّ مُجْتَازُونَ بِمَيِّتٍ فِي صَحْرَاءَ لَزِمَهُمْ الْقِيَامُ بِهِ؛ فَإِنْ تَرَكُوهُ أَثِمُوا فَإِنْ كَانَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرُ غُسْلٍ وَلَا تَكْفِينٍ وَجَبَ عَلَيْهِمْ غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَثَرُ الْغُسْلِ وَالْكَفَنِ وَالْحَنُوطِ دَفَنُوهُ وَإِطْلَاقُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي غَسَّلَهُ كَانَ فَاسِقًا أَمْ لَا فَإِذَا اكْتَفَيْنَا بِوُجُودِ أَثَرِ الْغُسْلِ وَالتَّكْفِينِ

ص: 6

وَالْحَنُوطِ مَعَ أَنَّ تَقْدِيمَ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الَّتِي عَلَى قُبُلِ الْمَيِّتِ وَدُبُرِهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْغُسْلِ عَلَى الرَّاجِح كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْأَصْحَابِ، فَقَبُولُ قَوْلِهِ فِي تَطْهِيرِ الثَّوْبِ مَعَ وُجُودِ أَثَرِ الْغُسْلِ عَلَيْهِ أَوْلَى.

الْأَمْرُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ الشَّيْخَ نُورَ الدِّينِ السَّمْهُودِيَّ حَكَى عَنْ شَيْخِهِ شَرَفِ الدِّينِ يَحْيَى الْمُنَاوِيِّ أَنَّهُ حَكَى عَنْ شَيْخِهِ أَبِي زُرْعَةَ وَلِيِّ الدِّينِ الْعِرَاقِيِّ (- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) أَنَّهُ إذَا تَنَجَّسَ لَهُ ثَوْبٌ يَأْمُرُ فَتَاهُ بِتَطْهِيرِهِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِ حَالَةَ التَّطْهِيرِ فَإِذَا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَهَّرَهُ لَبِسَهُ وَحَالُ الْفَتَيَانِ لَا يَخْفَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَجَابَ الثَّالِثُ فَقَالَ: الْأَقْرَبُ أَنَّهُ إنْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الثَّوْبَ طَهُرَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَهَّرَهُ قُبِلَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: بُلْت فِي هَذَا الْإِنَاءِ أَوْ أَنَا مُتَطَهِّرٌ أَوْ مُحْدِثٌ وَكَمَسْأَلَةِ مَا إذَا أَخْبَرَ بِأَنَّ الْمَيِّتَ غُسِّلَ فَلَوْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ غَسَّلَهُ قُبِلَ قَوْلُهُ وَكَمَسْأَلَةِ الْمُتَوَلِّي الْمَذْكُورَةِ وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ أَصْلِ عَدَمِ قَبُولِ قَوْلِ الْفَاسِقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَظَهَرَ لَنَا مِنْ جَوَابِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ قَبُولُ قَوْلِ الْفَاسِقِ فِي تَطْهِيرِ الثَّوْبِ. فَهَلْ جَوَابُكُمْ كَذَلِكَ؟ فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْمُنَاوِيُّ أَنَّ الْفَاسِقَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي مَسَائِلَ لَا تَخْفَى عَلَى الْفَقِيهِ الْمُطَّلِعِ عَلَى كُتُبِ الْأَئِمَّةِ وَفَتَاوِيهِمْ فَلَعَلَّ مَسْأَلَتَنَا أَنْ تَكُونَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَوْضِحُوا لَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بِجَوَابٍ شَافٍ أَثَابَكُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ.

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - الْمُعْتَمَدُ مِنْ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ وَهُوَ الثَّالِثُ وَمِنْ ثَمَّ جَرَيْت عَلَى التَّفْصِيلِ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَعِبَارَتِي مِنْ شَرْحِ الْعُبَابِ (وَخَرَجَ بِعَدْلِ الرِّوَايَةِ الصَّبِيُّ) وَلَوْ مُرَاهِقًا نَعَمْ تَصِحُّ رِوَايَةُ الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ كُلُّ مَا سَمِعَهُ فِي صِبَاهُ عَلَى الصَّحِيحِ فَعَلَيْهِ لَوْ أَخْبَرَ بَعْدَ بُلُوغِهِ عَمَّا شَاهَدَهُ فِي صِبَاهُ مِنْ تَنَجُّسِ إنَاءٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا قُبِلَ، وَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي أَيْضًا

وَأَمَّا الْفَاسِقُ وَالْكَافِرُ وَالْمَجْهُولُ فَلَا تُقْبَلُ أَخْبَارُهُمْ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى - كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ - الِاحْتِيَاطَ بِاجْتِنَابِ مَا أَخْبَرَ الْمُمَيِّزُ بِتَنَجُّسِهِ سِيَّمَا إنْ جُرِّبَ بِالصِّدْقِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِهِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ نَحْوُ فَاسِقٍ جُرِّبَ صِدْقُهُ لِأَنَّ خَبَرَهُمْ يُوَرِّثُ شُبْهَةَ مَنْ أَخْبَرَ مِنْهُمْ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: بُلْت فِي هَذَا الْإِنَاءِ قُبِلَ كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ قَالَ: أَنَا مُتَطَهِّرٌ أَوْ مُحْدِثٌ وَكَمَا يُخْبِرُ الذِّمِّيُّ عَنْ شَاتِهِ أَنَّهُ ذَكَّاهَا وَكَإِخْبَارِهِ عَنْ فِعْلِهِ بِالْأَوْلَى إخْبَارُهُ الْمُتَوَاتِرُ إذْ الْقَبُولُ حِينَئِذٍ مِنْ حَيْثُ إفَادَتُهُ الْعِلْمَ لَا مِنْ حَيْثُ الْإِخْبَارُ وَبِمَا تَقَرَّرَ يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ نَحْوِ الْفَاسِقِ مِمَّنْ ذُكِرَ: طَهَّرْت الثَّوْبَ مَقْبُولٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَهُرَ وَبِهِ أَفْتَى الْمُنَاوِيُّ وَغَيْرُهُ بَلْ صَدْرُ كَلَامِهِ صَرِيحٌ فِي اعْتِمَادِ قَوْلِهِ مُطْلَقًا، وَفَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إخْبَارِهِ بِالنَّجَاسَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيهِ خُرُوجٍ عَنْ الْأَصْلِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ وَبِالْمَشَقَّةِ لِكَثْرَةِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْغَسَّالِينَ مَعَ فِسْقِهِمْ وَحَيْثُ قُبِلَ إخْبَارُهُ بِالطَّهَارَةِ بِأَنْ يَقُولَ: طَهَّرْته فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ مَدْلُولَهَا عِنْدَ الْمُخْبِرِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: غَمَسْته فِي الْمَاءِ وَهُوَ مِمَّا يَطْهُرُ بِالْغَمْسِ.

وَقَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ بَحْثٌ مِنْ عِنْدِهِ اسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ إلَّا فِي مَسَائِلَ لَمْ يَعُدُّوا هَذِهِ مِنْهَا وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا سَكَتُوا عَنْ عَدِّهَا لِكَوْنِهَا فِي مَعْنَى مَا ذَكَرُوهُ وَمِنْ قَبُولِ خَبَرِهِ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، فَيَنْبَغِي حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَا إذَا أَخْبَرَ بِأَنَّهُ غُسِّلَ وَطُهِّرَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: غَسَّلْته أَوْ طَهَّرْته.

وَفِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْجُمْهُورِ فِي الْأَذَانِ (يُقْبَلُ قَوْلُ الصَّبِيِّ فِيمَا طَرِيقُهُ الْمُشَاهَدَةُ كَالْغُرُوبِ لَا النَّقْلُ كَالْإِفْتَاءِ وَالتَّدْرِيسِ وَالْمُعْتَمَدُ) بَلْ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: (الصَّوَابُ مَا فِيهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ) وَفِي غَيْرِهِ عَنْ عَدَمِ قَبُولِ خَبَرِهِ مُطْلَقًا إلَّا فِيمَا رَأَى وَفِي نَحْوِ قَوْلِهِ فِي هَدِيَّةٍ وَدُخُولِ دَارٍ وَإِجَابَةِ صَاحِبِ وَلِيمَةٍ اهـ.

كَلَامُ شَرْحِ الْعُبَابِ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ الثَّالِثُ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْأَمْرِ الْعَاشِرِ وَالْحَادِيَ عَشَرَ وَغَيْرِهِمَا لَكِنْ فِي كَلَامِهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لَا بَأْسَ بِالْإِشَارَةِ لِبَعْضِهَا: مِنْهَا قَوْلُهُ هُوَ الْأَفْسَحُ لِلنَّاسِ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا مَرَّ عَنْ الْمُنَاوِيُّ وَالْوَجْهُ خِلَافُهُ وَأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا إنْ قَالَ: طَهَّرْته إذْ الْأَفْسَحُ لِلنَّاسِ إنَّمَا هُوَ الْقَبُولُ حِينَئِذٍ لَا مُطْلَقًا وَمِنْهَا مَا نَقَلَهُ عَنْ الرَّوْضَةِ وَشَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي قَبُولِهِ فِي الذَّكَاةِ، وَإِطْلَاقُهُ مَرْدُودٌ لِأَنَّ كَلَامَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا أَخْبَرَ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: ذَكَّيْتهَا كَمَا قَدَّمْته فِي عِبَارَةِ شَرْحِ الْعُبَابِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ: لَوْ أَخْبَرَ الْفَاسِقُ بِعَدَمِ الْمَاءِ جَازَ التَّيَمُّمُ وَهُوَ بَاطِلٌ بَلْ يَلْزَمُهُ الطَّلَبُ وَإِنْ ظَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ، وَخَبَرُ الْفَاسِقِ لَا يَصِلُ لِظَنِّ الْعَدَمِ إلَّا إنْ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ صِدْقُهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ هُنَا لِمَا عَلِمْت مِنْ تَصْرِيحِهِمْ بِوُجُوبِ الطَّلَبِ، وَإِنْ ظَنَّ الْعَدَمَ وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ فِي الرَّابِعِ

ص: 7

عَنْ الْمَجْمُوعِ.

وَقَدْ قَدَّمْت أَنَّهُ ضَعِيفٌ وَمِنْهَا مَا قَالَهُ فِي الْأَمْرِ الْخَامِسِ وَهُوَ إخْبَارُهُ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ بَلْ الْحُجَّةُ فِيهِ لَنَا وَمِنْهَا: قَوْلُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْسِيعَ إلَخْ وَهُوَ كَلَامٌ كَمَا تَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ يَعُودُ بِالْبُطْلَانِ عَلَى مَا قَالَهُ أَوَّلًا مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي الطُّهْرِ قِيَاسًا عَلَى قَبُولِ قَوْلِهِ فِي الذَّكَاةِ وَمِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَمْرِ السَّادِسِ وَهُوَ عَيْنُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَمْرِ السَّابِعِ وَهُوَ إخْبَارُهُ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ بَلْ الْحُجَّةُ فِيهِ لَنَا أَيْضًا وَمِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ فِي الثَّامِنِ مِنْ رَدِّ قِيَاسِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُصِبْ كُلٌّ مِنْهُمَا بَلْ إنْ أَخْبَرَ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ قُبِلَ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَإِنْ أَخْبَرَ لَا عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ لَمْ يُقْبَلْ فِيهِمَا وَفَرْقُ الثَّانِي بَيْنَهُمَا مُجَرَّدُ خَيَالٍ لَا أَثَرَ لَهُ

وَإِنَّمَا اكْتَفَوْا بِإِمْكَانِ طُهْرِ فَمِ الْهِرَّةِ فِي عَدَمِ تَنَجُّسِ مَا وَلَغَتْ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ فَلَا يَنْجُسُ بِالشَّكِّ وَإِنْ حَكَمْنَا بِبَقَاءِ نَجَاسَةِ فَمِ الْهِرَّةِ بِالِاسْتِحْبَابِ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ الْيَقِينِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ تَعَارَضَا نَجَاسَةَ فَمِهَا بِالِاسْتِصْحَابِ، وَطَهَارَةَ الْمَاءِ بِالْيَقِينِ فَحَكَمْنَا بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِالنِّسْبَةِ لِبَقَائِهِ عَلَى حَالِهِ وَلَمْ نَحْكُمْ بِأَنَّ الْأَضْعَفَ وَهُوَ الِاسْتِحْبَابُ يُنَجِّسُ الْأَقْوَى وَهُوَ تَيَقُّنُ الطَّهَارَةِ عَلَى أَنَّ قِيَاسَ مَسْأَلَةِ الْهِرَّةِ أَنَّ الثَّوْبَ حَيْثُ غَابَ عَنَّا، وَأَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ لَا يُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ مَعَ الْحُكْمِ بِبَقَائِهِ عَلَى نَجَاسَتِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ فَمِ الْهِرَّةِ وَالثَّوْبِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إنْ أَمْكَنَ طُهْرُهُ فِي الْغَيْبَةِ لَمْ يُنَجِّسْ مَا وَقَعَ فِيهِ لَا مِنْ حَيْثُ إخْبَارُ الْفَاسِقِ بَلْ لِإِمْكَانِ طُهْرِهِ وَلَوْ بِوُقُوعِهِ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ وَإِنْ لَمْ يَغِبْ عَنَّا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَيُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ فَانْدَفَعَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَسْأَلَةِ الْهِرَّةِ.

وَقَوْلُهُ: وَلَوْ عَوَّلُوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إلَخْ جَوَابُهُ إنَّمَا صَحَّ الِاقْتِدَاءُ بِالْفَاسِقِ لِأَنَّهُ يُقْبَلُ إخْبَارُهُ عَنْ طَهَارَتِهِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ مَقْبُولٌ كَمَا مَرَّ. وَمِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَمْرِ التَّاسِعِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ مِمَّا اُسْتُثْنِيَ لِلْحَاجَةِ وَجَرَيَانِ الْمُسَامَحَةِ فِيهِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ بِلَا إنْكَارٍ فَلَا يُقَاسُ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا دَلِيلَ لَهُ فِي صِحَّةِ مُعَامَلَتِهِ لِأَنَّ يَدَهُ قَرِينَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا فِيهَا مِلْكٌ لَهُ أَوْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ، فَاكْتَفَيْنَا فِي جَوَازِ مُعَامَلَتِهِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ فَتَأَمَّلْهُ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْعَاشِرِ وَالْحَادِيَ عَشَرَ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ وَإِطْلَاقُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي غَسَّلَهُ كَانَ فَاسِقًا أَمْ لَا؟ كَلَامٌ لَا مَعْنَى لَهُ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ إذَا بَانَ أَنَّ الَّذِي غَسَّلَهُ فَاسِقٌ وَقَعَ الْمَوْقِعَ بِلَا نِزَاعٍ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا لَوْ قَالَ الْفَاسِقُ: هَذَا الْمَيِّتُ غُسِّلَ أَوْ أَنَا غَسَّلْت هَذَا الْمَيِّتَ فَيُقْبَلُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ دَلَالَةً لِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ.

وَقَوْلُهُ: (مَعَ أَنَّ تَقْدِيمَ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ إلَخْ) ضَعِيفٌ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ إزَالَتَهَا بِغَسْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْحَيِّ وَلَا فِي الْمَيِّتِ وَإِنَّمَا سَكَتَ النَّوَوِيُّ عَنْ الِاسْتِدْرَاكِ فِي بَابِ الْجَنَائِزِ لِأَنَّهُ قَدَّمَهُ فِي بَابِ الْغُسْلُ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى إعَادَتِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ يُحْتَاطُ لَهُ أَكْثَرُ وَيُرَدُّ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، بَلْ الْحَيُّ هُوَ الَّذِي يُحْتَاطُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذَا لِمُبَاشَرَتِهِ لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَإِذَا اكْتَفَوْا فِيهِ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ ذَلِكَ وَكَوْنُهُ مُكَلَّفًا بِإِزَالَتِهَا فَلَا أَقَلَّ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مِثْلَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى مِنْهُ، وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ لِأَنَّ الْفَتَى لَمْ يُخْبِرْهُ بِأَنَّهُ طَهُرَ بَلْ بِأَنَّهُ طَهَّرَهُ، وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِقَبُولِ خَبَرِهِ حِينَئِذٍ.

وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْأَوَّلُ مِنْ جَمِيعِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الْإِطْلَاقُ الَّذِي زَعَمَهُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ لِأَنَّ جَمِيعَهُ إنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِيمَا لَيْسَ بِإِخْبَارٍ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ حِينَئِذٍ فَظَهَرَ بِجَمِيعِ مَا قَرَّرْنَاهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ التَّفْصِيلُ، وَيُوَجَّهُ بِأَنَّهُ يَبْعُدُ عَادَةً كَذِبُهُ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ إخْبَارِهِ عَنْ فِعْلِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ فِيهِ ذَلِكَ فَقَبِلْنَا الْأَوَّلَ مِنْهُ عَمَلًا بِتِلْكَ الْقَرِينَةِ الَّتِي أَبْعَدَتْ احْتِمَالَ كَذِبِهِ فَافْهَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَمَّا لَوْ سَقَطَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ مَيْتَةٌ نَحْوَ ذُبَابٍ، فَصَبَّ شَخْصٌ هَذَا الْمَاءَ وَهِيَ فِيهِ فِي مَاءٍ آخَرَ وَلَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ فَهَلْ هُوَ مِثْلُ مَا لَوْ أَوْقَعَ مَيْتَةً فِي الْمَاءِ أَمْ لَا؟ وَعَمَّا لَوْ خَلَطَ زَبَادًا فِيهِ شَعْرَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ بِزَبَادٍ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ أَوْ لَا شَيْءَ فِيهِ فَهَلْ يُنَجِّسَانِ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - بِقَوْلِهِ أَمَّا الْأُولَى: فَاَلَّذِي يَتَّجِهُ فِيهَا أَنَّهُ كَمَا لَوْ أَوْقَعَ مَيْتَةً فِي الْمَاءِ فَيَتَنَجَّسُ الْمَاءَانِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَبَحَثَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مَحَلَّ الْعَفْوِ عَنْ قَلِيلِ شَعْرِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ مَا لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ فَعَلَيْهِ يُنَجَّسُ الزَّبَادَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ الْمَاءِ الْقَلِيلِ الَّذِي خَالَطَهُ شَيْءٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ

ص: 8

فَغَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِهِ الثَّلَاثَةِ فَسَلَبَ الطَّهُورِيَّةَ ثُمَّ زَالَ التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ فَهَلْ يَعُودُ طَهُورًا كَالْمَاءِ الْكَثِيرِ الَّذِي يَنْجُسُ بِالْمُخَالِطِ الْمُتَغَيِّرِ أَحَدُ أَوْصَافِهِ الثَّلَاثَةِ إذَا زَالَ التَّغَيُّرُ بِنَفْسِهِ أَمْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ أَنَّ الَّذِي يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُهُمْ عَوْدُ الطَّهُورِيَّةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَمِنْ ثَمَّ قُلْت فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ: (وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَوْ تَغَيَّرَ بِمَا مَرَّ ثُمَّ زَالَ تَغَيُّرُهُ عَادَتْ طَهُورِيَّتُهُ) . اهـ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَنَاطُوا سَلْبَ الطَّهُورِيَّةَ بِوُجُودِ التَّغَيُّرِ بِشَرْطِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَاءِ وَكَثِيرِهِ، فَإِذَا زَالَ مَا بِهِ سَلْبُ الطَّهُورِيَّةِ عَادَتْ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا مَا لَمْ يَخْلُفْهَا شَيْءٌ آخَرُ، وَهُنَا لَمْ يَخْلُفْ تِلْكَ الْعِلَّةَ أَعْنِي: التَّغَيُّرُ شَيْءٌ آخَرُ يَقْتَضِي سَلْبَ الطَّهُورِيَّةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَمَّا لَوْ خَافَ شَخْصٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمُسَخَّنِ عِنْدَ خَوْفِ الضَّرَرِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ أَوْ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؟ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْكَرَاهَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمُشَمَّسِ فِي الْبَدَنِ مَعَ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه بِالْكَرَاهَةِ.

وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ بِعَدَمِهَا كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ الْمَرَاغِيُّ فِي شَرْحِ الزُّبَدِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ الْمُخْتَارُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ وَصَحَّحَهُ فِي تَنْقِيحِهِ، وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ:(أَنَّهُ الصَّوَابُ) وَقَالَ فِيهِ لَوْ بَرَدَ الْمَاءُ هَلْ تَزُولُ الْكَرَاهَةُ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ.

ثَالِثُهَا: إنْ قَالَ طَبِيبَانِ أَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ كُرِهَ وَإِلَّا فَلَا اهـ. قَالَ السَّائِلُ: فَإِنْ كَانَ فِي التَّحْرِيمِ نَصٌّ عِنْدَ خَوْفِ الضَّرَرِ فَبَيِّنُوهُ لَنَا؟ وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ إنَّمَا كَانَ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الْمُسَخَّنِ فَأَوْضِحُوا ذَلِكَ؟ - جَزَاكُمْ اللَّهُ تَعَالَى خَيْرًا - فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ التَّحْرِيمِ فِي الْمُشَمَّسِ مُشْكِلٌ عَلَيْنَا بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه (أَنَّ الْمُضْطَرَّ. إذَا خَافَ مِنْ الطَّعَامِ الْمُحْضَرِ إلَيْهِ أَنَّهُ مَسْمُومٌ) جَازَ لَهُ تَرْكُهُ وَالِانْتِقَالُ إلَى الْمَيْتَةِ إذْ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ.

وَنَصُّ الشَّافِعِيِّ الْمَذْكُورُ نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ اهـ. وَهُوَ مُشْكِلٌ أَيْضًا بِقَوْلِهِمْ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ أَنَّهُ إذَا خَافَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَحْذُورًا يُبِيحُ التَّيَمُّمَ وَمُقْتَضَاهُ: جَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَوْ نَدْبُهُ، وَإِنْ خَافَ مَحْذُورًا يُبِيحُ التَّيَمُّمَ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا صَرَّحَ بِحُرْمَةِ اسْتِعْمَالِهِ حِينَئِذٍ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ فَالْمَقْصُودُ التَّفَهُّمُ وَالِانْتِفَاعُ لَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى كَلَامِ الْعُلَمَاءِ بِالِاسْتِشْكَالِ مِنْ غَيْرِ إحَاطَةٍ وَاطِّلَاعٍ كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ لِبَعْضِ النُّفُوسِ الشِّرِّيرَةِ وَالطِّبَاعِ - آجَرَكُمْ اللَّهُ وَزَادَكُمْ كَمَالَ الِاطِّلَاعِ -.

(فَأَجَابَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدَّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ لِمَ لَا؟ قَالُوا بِتَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ الْمُشَمَّسِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ إذَا شَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ وَأَجَابَ بِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إلَّا نَادِرًا بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ الْمَسْمُومِ اهـ.

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ عَقِبُهُ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ بَلْ يَحْصُلُ أَيْ الضَّرَرُ لِمَنْ دَاوَمَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: مَتَى خَافَ الضَّرَرَ حَرُمَا. كَلَامُ الزَّرْكَشِيُّ فَهُوَ نَاقِلٌ عَنْ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ التَّصْرِيحَ بِالتَّحْرِيمِ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِضَرَرِ الْمُشَمَّسِ وَأَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ وَهَذَا نَصٌّ فِي التَّحْرِيمِ أَيْضًا، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ السُّبْكِيّ مَتَى شَهِدَ طَبِيبَانِ أَوْ طَبِيبٌ وَاحِدٌ بِأَنَّهُ يُوجِبُ الْبَرَصَ تَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ أَوْ التَّحْرِيمِ اهـ.

وَيُؤَيِّدُ التَّحْرِيمَ قَوْلُهُ فِي الْحَلَبِيَّاتِ: اسْتِعْمَالُ الْمَرِيضِ الْمَاءَ مَعَ ظَنِّ تَرَتُّبِ ضَرَرٍ يُخَافُ مِنْهُ حَرَامٌ وَمَعَ الشَّكِّ أَوْ غَلَبَةِ السَّلَامَةِ جَائِزٌ نَعَمْ هَذَا، وَلَك أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ، وَالْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ الَّذِي مَرَّ عَنْ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُ بِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْعَدْلَيْنِ أَوْ الْعَدْلَ بِنَاءً عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِهِ الَّذِي يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُ الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ تَارَةً يُخْبِرَانِ بِضَرَرِ الْمُشَمَّسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَتَارَةً يُخْبِرَانِ بِضَرَرِهِ لِإِنْسَانٍ بِخُصُوصِهِ لِمُقْتَضٍ قَامَ بِمِزَاجِهِ فَالْأَوَّلُ: هُوَ مَحَلُّ الْكَرَاهَةِ لَا الْحُرْمَةِ لِأَنَّ مَا نَدَرَ تَرَتُّبُ الضَّرَرِ عَلَيْهِ لَا يَحْرُمُ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَجَعَلَ مِنْهُ الْمُشَمَّسَ إذْ هُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا بِالنِّسْبَةِ لِمِزَاجٍ مَخْصُوصٍ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الضَّرَرُ إلَّا نَادِرًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ رَئِيسُ الْأَطِبَّاءِ ابْنُ النَّفِيسِ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ.

وَالثَّانِي: هُوَ مَحَلُّ الْحُرْمَةِ وَيُؤَيِّدُهُ تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ طَبِيبٌ بِضَرَرِ الْمَاءِ لِبَرْدٍ أَوْ مَرَضٍ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْته فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ حِكَايَةِ وَجْهِ أَنَّ الْمُشَمَّسَ لَا يُكْرَهُ إلَّا إنْ قَالَ طَبِيبَانِ أَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَاءَ الْمُشَمَّسَ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ بَرَصٌ فَاشْتَرَطَ شَهَادَةَ طَبِيبَيْنِ فِي ثُبُوتِهِ

ص: 9

لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَهْمٌ لَا يُخَالِفُ غَيْرَهُ فِي الْكَرَاهَةِ حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا تُخَالِفُهُمَا قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا فَهُوَ يَنْفِي الْكَرَاهَةَ إنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مُوجِبُهَا وَغَيْرُهُ قَبِلَ شَهَادَتَهُمَا لِأَنَّ مُوجِبَهَا ثَابِتٌ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ مُرِيبٌ، وَقَدْ رَدَّ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ دَعْوَى النَّوَوِيِّ أَنَّ الْمُوَافِقَ لِلدَّلِيلِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ بِأَنَّهُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَهُ.

وَقَالَ: إنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَتُهُ؛ فَكَانَ إجْمَاعًا ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ: تَوْقِيفًا إذْ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ وَيُؤَيِّدُهُ الْخَبَرُ الضَّعِيفُ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ وَضْعَهُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «سَخَّنْتُ لِلنَّبِيِّ مَاءً فِي الشَّمْسِ فَقَالَ لَا تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ» ، وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ الْأَطِبَّاءِ فِيهِ شَيْءٌ شَهَادَةُ نَفْيٍ وَكَفَى فِي إثْبَاتِهِ إخْبَارُ السَّيِّدِ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْهُ الَّذِي هُوَ أَعْرَفُ بِالطِّبِّ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَبَرٌ لَا تَقْلِيدٌ فَهُوَ وَقَوْلُ جَمْعٍ آخَرِينَ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ الْأَطِبَّاءِ إلَى أَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ يَرُدُّ بِذَلِكَ أَيْضًا.

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ النَّفِيسِ فِي شَرْحِهِ عَلَى التَّنْبِيهِ وَبَيَّنَ هَذَا أَيْ أَنَّهُ لَا يُورِثُ الْبَرَصَ لَكِنْ عَلَى نُدُورٍ وَهُوَ عُمْدَةٌ فِي ذَلِكَ لِجَلَالَتِهِ فِيهَا.

وَقَدْ سُقْت عِبَارَتَهُ بِتَمَامِهَا فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَسَائِلَ نَفِيسَةٍ فَيَنْبَغِي مُرَاجَعَتُهَا، وَقَوْلُهُ عَنْهُ أَنَّهُ عُمْدَةٌ فِي ذَلِكَ لِجَلَالَتِهِ فِيهِ هُوَ كَذَلِكَ كَمَا شَهِدَتْ بِهِ كُتُبُهُ وَتَرَاجِمُ الْأَئِمَّةِ لَهُ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ عُمْدَةُ الْأَطِبَّاءِ بَعْدَهُ إلَى زَمَانِنَا بِإِجْمَاعِ الْفِرَقِ؛ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْته ظُهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَنَّ الْكَرَاهَةَ هِيَ الْحَقُّ الْمُوَافِقُ لِلدَّلِيلِ.

وَالْمَعْنَى وَإِنْ كَثُرَ الْمُتَنَازِعُونَ فِيهَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى شَهَادَةِ أَحَدٍ مِنْ الْأَطِبَّاءِ بَعْدَ إخْبَارِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَبِمَا جَمَعْت بِهِ بَيْنَ الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ وَالْقَوْلِ بِالْحُرْمَةِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا هُنَا مِنْ حُرْمَةِ الْمُشَمَّسِ وَالْمُسَخَّنِ عِنْدَ إخْبَارِ طَبِيبَيْنِ أَوْ طَبِيبٍ بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ يَضُرُّ الْمُسْتَعْمِلَ بِالنِّسْبَةِ لِمُقْتَضٍ قَامَ بِمِزَاجِهِ لَا يُنَافِي مَا فِي السُّؤَالِ عَنْ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فِي الْمُضْطَرِّ إذَا خَافَ السُّمَّ لِأَنَّهُ فِي مُجَرَّدِ خَوْفٍ لَمْ يَسْتَنِدْ لِعَلَامَةٍ تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ الضَّرَرَ وَمَا هُنَا فِي خَوْفٍ اسْتَنَدَ لِعَلَامَةٍ هِيَ إخْبَارُ الْعَدْلِ أَوْ مَعْرِفَتُهُ نَفْسِهِ بِالطِّبِّ يُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ الضَّرَرَ فَمِنْ ثَمَّ جَازَ تَنَاوُلُ الطَّعَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُضْطَرِّ وَحَرُمَ اسْتِعْمَالُ الْمُشَمَّسِ وَالْمُسَخَّنِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ مَا ظُنَّ تَرَتُّبُ الضَّرَرِ عَلَيْهِ غَالِبًا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَقَامَ الظَّنَّ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ وَمَا شُكَّ فِي تَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ جَائِزٌ كَمَا مَرَّ عَنْ السُّبْكِيّ فِي حَلَبِيَّاتِهِ وَكَذَا يُقَالُ فِي السُّؤَالِ عَنْهُمَا فِي التَّيَمُّمِ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خَوْفٍ لَا ظَنَّ مَعَهُ كَمَا مَرَّ التَّصْرِيحُ بِهِ عَنْ السُّبْكِيّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا إذَا انْغَمَسَ جُنُبٌ فِي مَاءٍ دُونَ قُلَّتَيْنِ فَنَوَى فِي حَالَةِ انْغِمَاسِهِ وَارْتَفَعَ حَدَثُهُ ثُمَّ لَوْ أَحْدَثَ حَدَثًا آخَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ بِمَا انْغَمَسَ فِيهِ وَلَوْ مَسَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ ثُمَّ رَدَّدَ الْمَاءَ لَمْ يَحْصُلْ التَّثْلِيثُ لِأَنَّ الْمَاءَ صَارَ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ الرَّأْسِ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ حَصَلَ لِلنَّفْلِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْفَرْضِ مَا الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَإِنَّهُ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ.

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لِلنَّفْلِ مَزِيَّةٌ فِيمَا ذُكِرَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَم الْحُكْمِ بِالِاسْتِعْمَالِ عَلَى الْمَاءِ فِي الْأُولَى وَهُوَ ظَاهِرٌ لِبَقَاءِ صُورَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَعَلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُشْكِلُ وَمِنْ ثَمَّ اسْتَشْكَلَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَتَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ مَعَ الْجَوَابِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا غُبَارَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِي شَرْحُ مُخْتَصَرِ الرَّوْضِ فَاطْلُبْهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا صُورَتُهُ قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ فِي مُخْتَصَرِ الْكِفَايَةِ (لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي نَحْوِ أَحَدِ الْكُمَّيْنِ أَوْ أَحَدِ طَرَفَيْ الْعِمَامَةِ وَاشْتَبَهَ فَهَلْ يَجْتَهِدُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا. وَعَلَيْهِمَا يُخَرَّجُ مَا لَوْ أَخْبَرَهُ شَخْصٌ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ خَبَرِهِ؟ إنْ قُلْنَا يَجْتَهِدُ جَازَ وَإِلَّا فَلَا) اهـ. فَمَا وَجْهُ التَّخْرِيجِ فَإِنَّهُ أُشْكِلَ عَلَى كَثِيرٍ.

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - بِقَوْلِهِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّخْرِيجَ طَرِيقَةٌ لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ وَإِلَّا فَكَلَامُ الْأَكْثَرِينَ يَقْتَضِي قَبُولُ خَبَرِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ لِأَنَّهُ حَيْثُ كَانَ الْمُخْبِرُ ثِقَةً وَبَيَّنَ النَّجَاسَةَ، أَوْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْمُخْبَرِ فِي بَابِ تَنْجِيسِ الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا وَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهِ.

وَإِنْ قَالَ لَهُ وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي نَحْوِ أَحَدِ الْكُمَّيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ عَرَفَ عَيْنَ الْمُتَنَجِّسِ كَانَ هَذَا الْإِيهَامُ لَا يَقْتَضِي طَعْنًا فِي الْخَبَرِ لِإِفَادَةِ خَبَرِهِ تَحَقُّقَ نَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا وَعِنْدَ تَحَقُّقِهِمَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ وَيَجْتَهِدُ عَلَى مُقَابِلِهِ فَنَتَجَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَجْهَ قَبُولُ

ص: 10

خَبَرِهِ سَوَاءٌ أَقُلْنَا يَجْتَهِدُ أَمْ لَا وَلَك أَنْ تَقُولَ قَدْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي السُّؤَالِ بِأَنَّ الْإِيهَامَ فِي الْخَبَرِ يُورِثُ فِيهِ رِيبَةً لَكِنَّهَا لَيْسَتْ قَوِيَّةً فَلَمْ تَقْوَ عَلَى رَدِّهِ مُطْلَقًا بَلْ مَعَ الْقَوْلِ بِعَدَمِ الِاجْتِهَادِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَشَقَّةِ وُجُوبِ غَسْلِهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا قُلْنَا بِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ لَا مَشَقَّةَ حِينَئِذٍ فَجَازَ الْقَبُولُ ثُمَّ فَرْضُهُ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ بِهِ نَظَرٌ إنْ أَرَادَ بِالْجَوَازِ إبَاحَةً؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِحُرْمَةِ الْقَبُولِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ بَلْ هُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْوُجُوبَ كَانَ لَهُ وَجْهٌ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهَلْ يَجُوزُ قَبُولُ إلَخْ؟ هَلْ يَجِبُ؟

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ امْرَأَةٍ عَلَى يَدِهَا أَسَاوِرُ فَتَوَضَّأَتْ فَجَرَى الْمَاءُ عَلَى يَدِهَا فَإِذَا وَصَلَ لِلْأَسَاوِرِ فَمِنْهُ مَا يَعْلُو فَوْقَهَا ثُمَّ يَسْقُطُ عَلَى يَدِهَا وَمِنْهُ مَا يَجْرِي تَحْتَهَا ثُمَّ يَجْرِي الْجَمِيعُ عَلَى بَاقِي يَدِهَا بَعْدَ الْأَسَاوِرِ فَهَلْ يَكْفِي جَرَيَانُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ؟

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - بِقَوْلِهِ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِذَلِكَ وَأَنَّهُ يَكْفِي جَرَيَانُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ ثَوْبٍ صُبِغَ بِنِيلٍ مُتَنَجِّسٍ فَهَلْ يُشْتَرَطُ خُرُوجُهُ صَافِيًا؟ وَحِينَئِذٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا تَنَجَّسَ نَحْوُ تُرَابٍ أَوْ عَجِينٍ فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ مَاءً وَأَوْصَلَهُ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ.

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - بِقَوْلِهِ: نَعَمْ يُشْتَرَطُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْغُسْلِ بِحَيْثُ تَزُولُ أَوْصَافُ الصِّبْغِ وَلَا يَبْقَى إلَّا مَا عَسُرَ زَوَالُهُ مِنْ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ؛ لِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِأَجْزَائِهِ فَمَا دَامَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِ النِّيلِ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي أَقَمْنَاهُ مَقَامَ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ مَعَ سُهُولَةِ التَّمْيِيزِ فَالنَّجَاسَةُ بَاقِيَةٌ فِي الثَّوْبِ كَمَا يَدُلُّ لَهُ كَلَامُ الْأَنْوَارِ وَصَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ حَيْثُ قَالَ بِأَنَّ اللَّوْنَ عَرَضٌ، وَالنَّجَاسَةُ لَا تُخَالِطُ الْأَعْرَاضَ وَإِنَّمَا تُخَالِطُ الْعَيْنَ فَإِذَا زَالَتْ الْعَيْنُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ زَالَتْ النَّجَاسَةُ بِزَوَالِهَا.

وَعِبَارَةُ الْبَغَوِيِّ (إذَا صُبِغَ الثَّوْبُ بِصِبْغٍ نَجِسٍ فَمَا دَامَ عَيْنُ الصِّبْغِ عَلَيْهِ فَهُوَ نَجِسٌ. فَإِنْ زَالَتْ الْعَيْنُ وَبَقِيَ اللَّوْنُ فَهُوَ طَاهِرٌ كَلَوْنِ الْحِنَّاءِ النَّجِسِ) . وَعِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ (وَمَا تَعَسَّرَ إزَالَتُهُ كَأَثَرِ الْحِنَّاءِ النَّجِسِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يُعْفَى عَنْهُ) ، وَيُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْمَحَلِّ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهِ كَمَا فِي أَثَرِ الدَّمِ وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ مُصَرِّحٌ بِاشْتِرَاطِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي لَوْ صُبِغَ الثَّوْبُ بِصِبْغٍ نَجِسٍ، ثُمَّ غُسِلَ بِالْمَاءِ وَانْغَمَسَ وَبَقِيَ اللَّوْنُ قَالُوا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَقْدِرُ عَلَى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَرَفْعِهَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى قَطْعِ الْأَلْوَانِ وَرَفْعِهَا مِنْ الْمَحَلِّ فَإِذَا أَوْرَدَ الْمَاءَ عَلَيْهِ عَلِمْنَا أَنَّ مَا غَمَرَهُ الْمَاءُ مِنْ النَّجَاسَةِ قَدْ زَالَ وَإِنَّمَا بَقِيَ اللَّوْنُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الصِّبْغَ النَّجِسَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ إذَا غُمِرَ بِالْمَاءِ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ، وَاللَّوْنُ دَائِمٌ كَمَا قَبْلَ الْغَسْلِ فَضَعِيفٌ إلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ بِمَا يُوَافِقُ مَا مَرَّ وَفَارَقَ ذَلِكَ مَا نَظَرَ بِهِ السَّائِلُ بِأَنَّ الْمُتَنَجِّسَ فِي مَسْأَلَتِنَا مَائِعٌ وَهُوَ مُتَعَذِّرُ التَّطْهِيرِ بِخِلَافِهِ فِيمَا ذَكَرَهُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا صُورَتُهُ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَعْمَلِ إذَا جُمِعَ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ وَالْقَلِيلِ الْمُكَمَّلِ قُلَّتَيْنِ بِمَائِعٍ لَا يُغَيِّرُهُ حَيْثُ يَتَأَثَّرُ هَذَا الثَّانِي بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَأَيْضًا فَقَدْ نَزَّلُوا الْمَائِعَ الْمُسْتَهْلَكَ فِي الثَّانِي مَنْزِلَةَ الْمَاءِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْجَمِيعِ لَا فِي دَفْعِ النَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ رَفْعَ الْحَدَثِ وَإِزَالَةَ النَّجَسِ مِنْ بَابِ الرَّفْعِ وَدَفْعَ النَّجَاسَةِ مِنْ بَابِ الدَّفْعِ، وَالدَّافِعُ أَقْوَى مِنْ الرَّافِعِ فَالدَّافِعُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْ الرَّافِعِ قِيلَ وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ كَوْنِ الْمُسْتَعْمَلِ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ كَانَ فِي عَوْدِهِ طَهُورًا وَجْهَانِ وَلَوْ اسْتَعْمَلَ الْقُلَّتَيْنِ ابْتِدَاءً لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا بِلَا خِلَافٍ اهـ.

فَهَلْ هَذَا الْفَرْقُ صَحِيحٌ؟ وَكَيْفَ صُورَةُ الدَّفْعِ وَصُورَةُ الرَّفْعِ؟ وَمَا وَجْهُ قُوَّةُ الدَّافِعِ؟

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - بِقَوْلِهِ: هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْقَلِيلَ الْمُسْتَعْمَلَ هَلْ الْعِلَّةُ فِي عَدَمِ طَهُورِيَّتِهِ كَوْنُهُ مَسْلُوبًا أَوْ مَغْلُوبًا؟ وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الثَّانِي وَمَعْنَى السَّلْبِ أَنَّ الطَّهُورَ بِهِ قُوَّةُ التَّطْهِيرِ، فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ بِشَرْطِهِ سَلَبَ مَحَلُّ الْحَدَثِ تِلْكَ الْقُوَّةَ مِنْهُ كَمَا أَنَّ الْحِنَّاءَ فِيهِ قُوَّةُ الصِّبْغِ فَإِذَا حُنِّيَتْ بِهِ يَدٌ سَلَبَتْ مِنْهُ تِلْكَ الْقُوَّةَ بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا حُنِيِّ بِهِ ثَانِيًا لَمْ يَصْبُغْ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَغْلُوبًا أَنَّهُ إذَا تُطُهِّرَ بِهِ مَعَ قِلَّتِهِ فَأَصْلُ مَعْنَى التَّطْهِيرِ بَاقٍ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ ضَعُفَ بِانْتِقَالِ الْمَانِعِ إلَيْهِ فَصَارَ مَغْلُوبًا لِذَلِكَ. إذْ الْمَانِعُ حِينَئِذٍ شَبِيهٌ بِنَحْوِ صَبْرِ الْمَحَلِّ فِي مَاءٍ فَعُذُوبَةُ الْمَاءِ بَاقِيَةٌ فِيهِ غَيْرُ مَسْلُوبَةٍ عَنْهُ لَكِنَّ مَرَارَةَ الصَّبْرِ قَدْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ فَغَلَبَتْ عُذُوبَتَهُ فَالْمَانِعُ مِثْلُهُ فِي انْتِقَالِهِ مِنْ الْعُضْوِ إلَى الْمَاءِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا.

فَالْمُسْتَعْمَلُ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ إنْ قُلْنَا: إنَّهُ مَسْلُوبٌ،

ص: 11

فَالسَّلْبُ بَاقٍ مَعَ كَثْرَتِهِ أَيْضًا إذْ الْمَسْلُوبُ لَا يُمْكِنُ عَوْدُهُ فَهُوَ كَالْمَائِعِ لَا يَرْفَعُ حَدَثًا، وَلَا يُزِيلُ نَجَسًا وَلَا يُدْفَعُ بِهِ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ مَغْلُوبٌ فَمَا ذَاكَ إلَّا لِضَعْفِهِ بِالْقِلَّةِ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ وَهُوَ كَثِيرٌ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِالِاسْتِعْمَالِ فَإِذَا جُمِعَ الْقَلِيلُ الْمُسْتَعْمَلُ حَتَّى كَثُرَ زَالَ ضَعْفُهُ فَبَرَزَ مَعْنَى الطَّهُورِيَّةِ الْكَامِنُ فِيهِ فَصَارَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ وَمُزِيلًا لِلنَّجَسِ، وَدَافِعًا لَهُ فَلَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ إذَا وَقَعَ فِيهِ بِخِلَافِ الَّذِي بَلَغَ قُلَّتَيْنِ بِتَكْمِيلِ الْمَائِعِ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ فَإِنَّهُ طَهُورٌ؛ لِبَقَاءِ اسْمِهِ فَهُوَ كَمَا كَانَ قَبْلَ انْضِمَامِ الْمَائِع لَهُ لِأَنَّهُ كَالْمَعْدُومِ حِينَئِذٍ حَتَّى يَجُوزَ اسْتِعْمَالُهُ وَلَا يَجِبُ تَبْقِيَةُ قَدْرِ الْمَائِعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ النَّجَسَ عَنْ نَفْسِهِ لِمَفْهُومِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا وَهَذَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ بِمَحْضِ الْمَاءِ، فَهُوَ نَاقِصٌ عَنْهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ إذْ الْمُخَالِطُ فِي مَعْنَى الْمَعْدُومِ.

فَإِنْ قِيلَ بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ حِسًّا، وَقَدْ جَعَلْتُمُوهُ كَالْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ بِهِ فَلْيَكُنْ كَالْمَاءِ فِي دَفْعِ النَّجَاسَةِ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي السُّؤَالِ. قُلْنَا: وُجُودُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى دَفْعِهَا كَعَدَمِهِ كَمَا مَرَّ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَثُرَ الْمَائِعُ لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ وَوُجُوبُ اسْتِعْمَالِهِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لَيْسَ بِكَوْنِ الْمَائِعِ صَارَ مَاءً وَلَا مِثْلَهُ فِي الدَّفْعِ بَلْ إنَّهُ لَمْ يَسْلُبْهُ اسْمَ الْمَاءِ لِقِلَّتِهِ، فَالْحُكْمُ لِلْمَاءِ وَإِذَا سَلِمَ قَوْلُ الْقَائِلِ أَنَّ الدَّافِعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْ الرَّافِعِ فَعَوْدُ الطَّهُورِيَّةِ لِلْقُلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ مِنْ مَحْضِ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ اُسْتُعْمِلَ لِكَوْنِهِمَا أَقْوَى مِنْ قُلَّتَيْنِ: بَعْضُهُمَا مَاءٌ وَبَعْضُهُمَا مَائِعٌ نَعَمْ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الدَّافِعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ إذْ الطَّلَاقُ رَافِعٌ لِلنِّكَاحِ غَيْرُ دَافِعٍ لَهُ وَالْإِحْرَامُ دَافِعٌ لَهُ غَيْرُ رَافِعٍ.

وَالطَّلَاقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْ الْإِحْرَامِ فَالرَّافِعُ هُنَا أَقْوَى وَكَالْإِحْرَامِ عِدَّةُ الشُّبْهَةِ وَحَقِيقَةُ الرَّافِعِ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ أَثَرٍ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ مَا يَرْفَعُ ذَلِكَ الْأَثَرَ كَالطَّلَاقِ إذَا وَرَدَ عَلَى النِّكَاحِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَرَدَ عَقْدُ نِكَاحِ الرَّجُلِ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْدَفِعُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ السَّابِقِ، وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهَا أَنَّهَا مُطَلَّقَتُهُ وَحَقِيقَةُ الدَّفْعِ أَنْ يُرَدَّ شَيْءٌ عَلَى مَحَلٍّ قَابِلٍ لِتَأَثُّرِهِ بِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَافِعٌ فَيُصَادِفُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ شَيْئًا يَدْفَعُهُ وَيَمْنَعُ تَأَثُّرَهُ فِيهِ كَالْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ إذَا وَرَدَ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى الْمُحْرِمَةِ مَثَلًا دَفَعَهُ الْإِحْرَامُ فَلَا يَنْعَقِدُ وَإِنْ وَرَدَ الْإِحْرَامُ عَلَى النِّكَاحِ لَا يَرْفَعُهُ بَلْ يَدُومُ مَعَهُ وَالْأَغْلَبُ أَنَّ كُلَّ رَافِعٍ دَافِعٌ وَعَكْسُهُ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ دَافِعًا فَقَطْ كَالْإِحْرَامِ وَعِدَّةُ الشُّبْهَةِ وَقَدْ يَكُونُ رَافِعًا فَقَطْ كَالطَّلَاقِ وَالْمَاءِ الْقَلِيلِ.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ شَجَرٍ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يَخْرُجُ مِنْهُ عِنْدَ انْتِشَارِ الرِّيَاحِ بُخَارٌ كَالدُّخَانِ وَيَرْشَحُ مَائِعًا كَالْمَاءِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَهَلْ لَهُ حُكْمُ الْمَاءِ فِي الطَّهُورِيَّةِ؟

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - بِقَوْلِهِ: لَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ كَالْمَائِعِ جَزْمًا، وَفَارَقَ بُخَارَ الطَّهُورِ الْمَغْلِيَّ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَاءِ بِخِلَافِ هَذَا إذْ هُوَ كَمَاءِ الشَّجَرِ وَهُوَ لَيْسَ بِطَهُورٍ قَطْعًا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَبَلَغَنِي أَنَّ الْقَوَافِلَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إذَا عَدِمُوا الْمَاءَ حَفَرُوا حُفْرَةً ثُمَّ سَتَرُوهَا بِشَيْءٍ مِنْ الشَّجَرِ وَتَرَكُوهَا مُدَّةً ثُمَّ يَصْعَدُ بُخَارٌ مِنْ الْحُفْرَةِ يَعْلَقُ بِالشَّجَرَةِ يَرْشَحُ مَائِعًا عَلَى هَيْئَةِ الْمَاءِ وَيَجْتَمِعُ مِنْهُ فِي الْحُفْرَةِ مَا يَكْفِيهِمْ وَهُوَ غَيْرُ طَهُورٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ إذْ هُوَ مَاءُ شَجَرٍ أَيْضًا.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا صُورَتُهُ حَرَّكَتْ الرِّيحُ التُّرَابَ الْمُخْتَلِطَ بِالنَّجَاسَةِ وَحَمَلَتْ مِنْهُ أَجْزَاءً كَالذَّرِّ وَأَلْقَتْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَائِعَاتِ هَلْ يُنَجِّسُهُ؟

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - بِقَوْلِهِ: ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُدْرِكَهُ الطَّرْفُ أَمْ لَا.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا صُورَتُهُ لَوْ تَنَجَّسَ حَبٌّ أَوْ أَعْيَانٌ مُتَعَدِّدَةٌ صَغِيرَةٌ أَوْ كَبِيرَةٌ فَجُمِعَ الْحَبُّ أَوْ الْأَعْيَانُ فِي إنَاءٍ طَاهِرٍ أَوْ مُتَنَجِّسٍ، وَأُورِدَ عَلَيْهِ مَاءٌ قَلِيلٌ وَأُدِيرَ حَتَّى غَمَرَ الْأَعْيَانَ وَجَوَانِبَ الْإِنَاءِ وَزَالَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فَإِنْ قُلْتُمْ بِالطَّهَارَةِ فَذَاكَ وَإِلَّا فَمَا الْحُكْمُ لَوْ كَانَ الْمَوْضُوعُ فِي الْإِنَاءِ عَيْنًا وَاحِدَةً أَهُوَ كَذَلِكَ أَيْضًا أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - بِقَوْلِهِ: إذَا وُضِعَتْ أَعْيَانٌ أَوْ عَيْنٌ مُتَنَجِّسَةٌ نَجَاسَةً حُكْمِيَّةً فِي إنَاءٍ مُتَنَجِّسٍ نَجَاسَةً حُكْمِيَّةً أَيْضًا، ثُمَّ صُبَّ عَلَيْهَا مَاءٌ حَتَّى غَمَرَهَا وَغَمَرَ جَوَانِبَ الْإِنَاءِ أَوْ أَدَارَهُ حَتَّى طَهُرَتْ جَوَانِبُهُ طَهُرَ الْإِنَاءُ وَمَا فِيهِ وَإِلَّا فَلَا.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِمَا لَفْظُهُ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِيمَا إذَا جَرَى الْمَاءُ عَلَى عُضْوِ الْمُتَطَهِّرِ إلَى عُضْوِهِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَطَهِّرُ جُنُبًا فَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي وَالْبَحْرِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَلَا يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ عَنْ الْعُضْوِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ كَالْمُحْدِثِ قَالَا وَأَصَحُّهُمَا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَتَّى يَنْفَصِلَ عَنْ كُلِّ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ كُلَّهُ كَعُضْوٍ.

وَقَالَ الْفُورَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ إذَا صَبَّ الْجُنُبُ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ فَسَقَطَ مِنْ الرَّأْسِ

ص: 12

إلَى الْبَطْنِ وَخَرَقَ الْهَوَاءَ صَارَ مُسْتَعْمَلًا لِانْفِصَالِهِ، وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ وَيَعْنِي بِهِ صَاحِبَ الْإِبَانَةِ الْفُورَانِيَّ.

قَالَ الْإِمَامُ فِي هَذَا فَضْلُ نَظَرٍ فَإِنَّ الْمَاءَ إذَا كَانَ يَتَرَدَّدُ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةُ الْخِلْقَةِ وَقَعَ فِي جَرَيَانِهِ بَعْضُ التَّقَاذُفِ مِنْ عُضْوٍ إلَى عُضْوٍ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْ هَذَا كَيْفَ وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِالِاعْتِنَاءِ بِهَذَا أَصْلًا فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَهُوَ عَفْوٌ مُطْلَقًا وَأَمَّا التَّقَاذُفُ الَّذِي لَا يَقَعُ إلَّا نَادِرًا فَإِنْ كَانَ عَنْ قَصْدٍ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ، وَإِنْ اتَّفَقَ ذَلِكَ بِلَا قَصْدٍ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ أَمْثَالَ هَذَا لِلْأَوَّلِينَ وَمَا وَقَعَ عَنْهُ بَحْثٌ مِنْ سَائِلٍ وَلَا تَنْبِيهُ مُرْشِدٍ اهـ. لَفْظُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ.

وَعِبَارَةُ التَّحْقِيقِ (وَلَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا مَا دَامَ يَتَرَدَّدُ عَلَى الْعُضْوِ فَإِنْ فَارَقَهُ صَارَ وَيُقَال: لَا مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ وَبَدَنُ جُنُبٍ كَعُضْوِ مُحْدِثٍ وَقِيلَ: لَا يَضُرُّ انْفِصَالُهُ إلَى بَاقِي بَدَنِهِ وَقِيلَ إنْ نَقَلَهُ ضَرَّ) اهـ.

هَذِهِ عِبَارَتُهُ الَّتِي وَقَفْت عَلَيْهَا وَفِي الْعُمْدَةِ لِابْنِ النَّحْوِيِّ لَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا عَلَى الْعُضْوِ فَإِنْ فَارَقَهُ صَارَ، وَقِيلَ: لَا مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ؛ لِأَنَّهُمَا كَعُضْوِ وَبَدَنِ جُنُبٍ كَمُحْدِثٍ كَمَا صَحَّحَهُ فِي التَّحْقِيقِ، وَقِيلَ: يَضُرُّ انْفِصَالُهُ إلَى بَاقِي بَدَنِهِ، وَقِيلَ: إنْ تَقَاصَرَ اهـ.

لَفْظُ الْعُمْدَةِ. فَعِبَارَتُهُ فِيهَا حَذْفُ لَا بَعْدَ قِيلَ فَهَلْ يُقَالُ: إنَّهُ وَقَفَ عَلَى نُسْخَةٍ مِنْ نُسَخِ التَّحْقِيقِ بِحَذْفِ لَا؟ وَعِبَارَةُ جَامِعِ الْمُخْتَصَرَاتِ (أَوْ جَرَى عَلَى عُضْوٍ أَصْغَرَ قِيلَ: أَوْ أَكْبَرَ) وَفِي شَرْحِهِ إذَا انْفَصَلَ الْمَاءُ مِنْ عُضْوٍ إلَى آخَرَ يَجْرِي الْمَاءُ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَمُسْتَعْمَلٌ وَفِي الْيَدَيْنِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَوْ فِي الْأَكْبَرِ. فَالْأَصَحُّ فِي التَّحْقِيقِ وِفَاقًا لِلرُّويَانِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ بَقَاءُ طَهُورِيَّتِهِ إذْ جَمِيعُهُ كَعُضْوٍ، وَرَجَّحَ الْخُرَاسَانِيُّونَ خِلَافَهُ اهـ.

وَعِبَارَتُهُ فِي الْمُنْتَقَى وَإِنْ انْفَصَلَ مِنْ عُضْوٍ لِآخَرَ فِي الْوُضُوءِ فَمُسْتَعْمَلٌ وَفِي الْبَيَانِ وَجْهٌ شَاذٌّ فِي الْيَدَيْنِ أَوْ الْجَنَابَةِ صَحَّحَ الْحَاوِي وَالْبَحْرُ الْمَنْعَ كَمَا فِي التَّحْقِيقِ، وَرَجَّحَ الْخُرَاسَانِيُّونَ خِلَافَهُ وَقَالَ الْإِمَامُ: إنْ قُصِدَ فَنَعَمْ وَإِلَّا فَلَا اهـ.

فَهَذَا الْإِمَامُ النَّسَائِيّ الْمَوْصُوفُ بِالتَّحْقِيقِ الْعَظِيمِ لِكَلَامِ الشَّيْخَيْنِ نَقَلَ عَنْ التَّحْقِيقِ عَدَمَ الِاسْتِعْمَالِ، وَاعْتَمَدَ ابْنُ النَّحْوِيِّ عَدَمَ الِاسْتِعْمَالِ وَنَقَلَ فِي الْمُهِمَّاتِ عَنْ التَّحْقِيقِ الِاسْتِعْمَالَ، وَكَذَا ابْنُ أَبِي شَرِيفٍ وَكَذَا الشَّيْخُ زَكَرِيَّا، وَنَقَلَهُ عَنْ كَلَامِ الرَّوْضَةِ وَعِبَارَتُهُ فِي الْغُرَرِ (وَلَوْ انْفَصَلَ مَاءُ الْجُنُبِ مِنْ عُضْوٍ إلَى آخَرَ فَوَجْهَانِ: الْأَصَحُّ عِنْدَ صَاحِبَيْ الْحَاوِي وَالْبَحْرِ مَنْعُ اسْتِعْمَالِهِ وَرَجَّحَ الْخُرَاسَانِيُّونَ خِلَافَهُ) حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَرَجَّحَ فِي تَحْقِيقِهِ الثَّانِيَ وَوَهِمَ مَنْ قَالَ أَنَّهُ رَجَّحَ فِيهِ الْأَوَّلَ وَعِبَارَتُهُ فِيهِ (وَلَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا عَلَى الْعُضْوِ) فَإِنْ فَارَقَهُ صَارَ وَبَدَنُ جُنُبٍ وَكَعُضْوٍ مُحْدِثٍ وَقِيلَ لَا يَضُرُّ انْفِصَالُهُ إلَى بَاقِي بَدَنِهِ اهـ.

وَكَانَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا يُقَدِّرُ عِبَارَةَ التَّحْقِيقِ بِنَحْوِ هَذَا التَّقْدِيرِ وَبَدَنُ جُنُبٍ كَعُضْوِ مُحْدِثٍ أَيْ فَلَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا مَا دَامَ يَتَرَدَّدُ عَلَى بَدَنِ الْجُنُبِ، فَإِنْ فَارَقَ الْمَاءُ بَدَنَ الْجُنُبِ وَلَوْ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ مِنْهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا؛ فَيَحْسُنُ مَعَ التَّقْدِيرِ. هَذَا إثْبَاتٌ لَنَا، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَإِنْ فَارَقَهُ صَارَ؛ أَيْ فَارَقَ الْبَدَنَ جَمِيعَهُ وَانْفَصَلَ عَنْهُ إلَى خَارِجٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمُفَارَقَةَ إلَى بَعْضِهِ لِأَنَّ كُلَّهُ كَعُضْوِ وَاحِدٍ، وَمَعَ هَذَا يَسْقُطُ احْتِجَاجُهُ وَيَدُلُّ لَنَا مَا يَأْتِي عَنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَتَأَمَّلُوا كَلَامَهُ هَذَا فِي اعْتِمَادِ الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّ تَعْلِيلَهُمْ لِلْوَجْهِ الضَّعِيفِ فِيمَا إذَا انْتَقَلَ مَاءُ الْمُتَوَضِّئِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ بِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِأَنَّهُمَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ يَرُدُّ مَا قَالَهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بَعْدَ هَذَا وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ مُتَمَيِّزَانِ وَإِنَّمَا عَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ؛ لِلضَّرُورَةِ فِيهِ. أَعْظَمُ شَاهِدٍ عَلَى رَدِّ مَا اعْتَمَدَهُ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي التَّيَمُّمِ مَا لَفْظُهُ (قَالُوا: فَإِنْ قِيلَ: إذَا سَقَطَ فَرْضُ الرَّاحَتَيْنِ صَارَ التُّرَابُ الَّذِي عَلَيْهِمَا مُسْتَعْمَلًا فَكَيْفَ يَجُوزُ مَسْحُ الذِّرَاعَيْنِ بِهِ وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمَاءِ الَّذِي غَسَلْتَ إحْدَى الْيَدَيْنِ بِهِ إلَى الْأُخْرَى؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْيَدَيْنِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا جَازَ تَقْدِيمُ الْيَسَارِ عَلَى الْيَمِينِ وَلَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِانْفِصَالِهِ وَالْمَاءُ يَنْفَصِلُ عَنْ الْيَدِ الْمَغْسُولَةِ فَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا. الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا هُنَا فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُيَمِّمَ الذِّرَاعَ بِكَفِّهَا، بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى الْكَفِّ الْأُخْرَى فَصَارَ كَنَقْلِ الْمَاءِ مِنْ بَعْضِ الْعُضْوِ إلَى بَعْضِهِ، وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ الصَّبَّاغِ وَهُمَا مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ) اهـ. الْمَقْصُودُ مِنْ كَلَامِ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ. فَقَوْلُهُ:(كَنَقْلِ الْمَاءِ مِنْ بَعْضِ الْعُضْوِ إلَى بَعْضِهِ) فِيهِ أَعْظَمُ شَاهِدٍ وَدَلِيلٍ عَلَى أَنَّ نَقْلَ الْمَاءِ مِنْ بَعْضِ

ص: 13

أَعْضَاءِ الْجُنُبِ إلَى بَعْضٍ لَا يُصَيِّرُهُ مُسْتَعْمَلًا، وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا بَحَثَ هُنَا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِنَقْلِ الْمَاءِ مُفَارَقَةَ الَّذِي يَغْلِبُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ الرَّافِعِيُّ اهـ كَلَامُهُ.

وَبَحْثُهُ هَذَا يَأْبَاهُ كَلَامُ الْمُهَذَّبِ وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ لَمَّا ذَكَرَ مَذْهَبَ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّرْتِيبَ فِيهِ وَاحْتِجَاجَهُمْ بِأَنَّهُ طَهَارَةٌ؛ فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا تَرْتِيبٌ كَالْجَنَابَةِ مَا لَفْظُهُ (وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ أَنَّ جَمِيعَ بَدَنِ الْجُنُبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ تَرْتِيبُهُ كَالْوَجْهِ بِخِلَافِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهَا مُتَغَايِرَةٌ وَمُتَفَاصِلَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ بَدَنَ الْجُنُبِ وَاحِدٌ أَنَّهُ لَوْ جَرَى الْمَاءُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ فِي الْوُضُوءِ؛ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ لَوْ انْتَقَلَ مِنْ الْوَجْهِ إلَى الْيَدِ لَمْ يُجْزِئْهُ) اهـ.

وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ عَلَى طَهَارَةِ الْمُسْتَعْمَلِ «بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَ وَنَسِيَ لُمْعَةً ثُمَّ عَصَرَ عَلَيْهَا شَعْرًا.» قَالَ: وَجَوَابُهُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ ضَعِيفٌ. وَالثَّانِي: لَوْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى بَلَلٍ بَاقٍ مِنْ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنْ الْعُضْوِ وَهَذَا لَمْ يَنْفَصِلْ، وَبَدَنُ الْجُنُبِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا لَا تَرْتِيبَ فِيهَا.

وَفِي هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى اعْتِمَادِ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ فَحِينَئِذٍ الْقَصْدُ مِنْ تَفَضُّلِكُمْ إمْعَانُ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَبْيِينُ مَا تَعْتَمِدُونَهُ فِيهَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ اجْتَمَعَتْ بِهِ وَأُخِذَتْ عَنْهُ يَعْتَمِدُ الِاسْتِعْمَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ تَأَمَّلُوا الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرْته وَاكْتُبُوا الْجَوَابَ بِمَا يَتَرَجَّحُ.

(فَأَجَابَ) - شَكَرَ اللَّهُ سَعْيَهُ - بِقَوْلِهِ: سَبَبُ اخْتِلَافِ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَشَكَرَ سَعْيَهُمْ - فِي فَهْمِ عِبَارَةِ التَّحْقِيقِ وَالنَّقْلِ عَنْهَا أَنَّ نُسَخَهُ مُخْتَلِفَةٌ فَفِي بَعْضِهَا بَلْ أَكْثَرِهَا مَا حَكَاهُ السَّائِلُ - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ - بِقَوْلِهِ: وَعِبَارَةُ التَّحْقِيقِ (وَلَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا. .. إلَخْ) وَهُوَ مَا حَكَاهُ شَيْخُنَا زَكَرِيَّا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ - سَقَى اللَّهُ عَهْدَهُ صَوْبَ الرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ فِي الْجِنَانِ آمِينَ - لَكِنَّهُ حَذَفَ مِنْ الْعِبَارَةِ حِكَايَةَ الضَّعِيفِ لِعَدَمِ غَرَضٍ لَهُ فِيهِ.

وَفِي بَعْضِهَا، وَقِيلَ: لَا وَيَضُرُّ انْفِصَالُهُ بِزِيَادَةِ وَاوٍ فَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ تَرْجِيحَ الِاسْتِعْمَالِ كَالْإِسْنَوِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ كَشَيْخِنَا لَعَلَّهُ إنَّمَا رَأَى النُّسْخَةَ الَّتِي سَقَطَتْ مِنْهَا الْوَاوُ وَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ تَرْجِيحَ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ كَالنَّشَائِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ لَعَلَّهُ إنَّمَا رَأَى النُّسْخَةَ الَّتِي ثَبَتَتْ فِيهَا الْوَاوُ وَعِبَارَةُ ابْنِ الْمُلَقِّنِ الْمَذْكُورَةُ فِي السُّؤَالِ لَا تُوَافِقُ كُلًّا مِنْ النُّسْخَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نُسْخَتَهُ فِيهَا حَذْفُ لَا مَعَ الْوَاوِ فَإِنْ قُلْت: مَا وَجْهُ فَهْمِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْعِبَارَةِ عَلَى كِلَا الطَّرِيقَيْنِ؟

قُلْت: أَمَّا عَلَى إثْبَاتِ الْوَاوِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ وَبَدَنُ جُنُبٍ كَعُضْوِ مُحْدِثٍ فِي حَالَةِ تَرَدُّدِ الْمَاءِ عَلَيْهِ بِلَا انْفِصَالٍ فَلَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا وَقِيلَ لَا فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا ثُمَّ قَالَ وَيَضُرُّ انْفِصَالُهُ إلَى بَاقِي بَدَنِهِ فَاتَّجَهَ حِينَئِذٍ نَقْلُ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ الْجَرْيِ عَلَى الِاتِّصَالِ عَنْ عِبَارَةِ التَّحْقِيقِ، فَإِنْ قُلْت: تَعْبِيرُ النَّشَائِيِّ بِالِانْفِصَالِ يُنَافِي مَا ذَكَرْت قُلْت: قَوْلُهُ يَجْرِي الْمَاءُ إلَيْهِ ظَاهِرٌ فِيمَا ذَكَرْتُ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْجَرْيِ عَلَى الِاتِّصَالِ.

وَعَلَى تَسْلِيمِ ظَاهِرِ التَّعْبِيرِ بِالِانْفِصَالِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى انْفِصَالٍ يَغْلِبُ فِيهِ التَّقَاذُفُ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ كَمَا يَأْتِي عَنْ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا عَلَى حَذْفِ الْوَاوِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ وَبَدَنُ جُنُبٍ كَعُضْوِ مُحْدِثٍ فِي أَنَّ الْمَاءَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِمُفَارَقَتِهِ بَعْضَ الْأَعْضَاءِ إلَى بَعْضٍ آخَرَ وَقِيلَ لَا يَضُرُّ انْفِصَالُهُ إلَى بَاقِي بَدَنِهِ فَاتَّضَحَ حِينَئِذٍ نَقْلُ الِاسْتِعْمَالِ لَكِنْ عِنْدَ جَرَيَانِ الْمَاءِ لَا عَلَى الِاتِّصَالِ كَمَا يُفْهِمُهُ التَّعْبِيرُ بِالْمُفَارَقَةِ، وَبِتَأَمُّلِ هَذَا الَّذِي قَرَّرْته يَتَّضِحُ أَنَّهُ لَا مُخَالَفَةَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ مَا فَهِمَهُ الْإِسْنَوِيِّ وَالنَّشَائِيُّ؛ لِأَنَّ كُلًّا فَهِمَ حَالَةً حُكْمُهَا صَحِيحٌ وَلَك أَنْ تَسْلُكَ فِي وَجْهِ اخْتِلَافِ فَهْمِهَا مِنْ الْعِبَارَةِ طَرِيقًا آخَرَ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُمَا إنَّمَا اطَّلَعَا عَلَى النُّسْخَةِ الْمَحْذُوفِ مِنْهَا الْوَاوُ لِكَوْنِهَا الْأَكْثَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ التَّحْقِيقِ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا مَا دَامَ يَتَرَدَّدُ عَلَى الْعُضْوِ فَإِنْ فَارَقَهُ صَارَ فِيهِ حُكْمَانِ: هُمَا عَدَمُ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ التَّرَدُّدِ، وَالِاسْتِعْمَالُ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ.

وَقَوْلُهُ: (وَبَدَنُ جُنُبٍ كَعُضْوِ مُحْدِثٍ) يَحْتَمِلُ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِيهِ فِي كُلٍّ مِنْ الْحُكْمَيْنِ، وَأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي لَكِنَّ قَوْلَهُ " وَقِيلَ لَا يَضُرُّ انْفِصَالُهُ إلَى بَاقِي بَدَنِهِ " صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الْمَحْكِيَّ مُقَابِلٌ لَهُ فَقَطْ، وَالتَّشْبِيهُ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ وَالِانْتِفَاءِ إذْ لَا قَرِينَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ عَدَمَ الِاسْتِعْمَالِ فَهِمَ أَنَّ التَّشْبِيهَ إنَّمَا هُوَ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فَقَطْ، وَهُوَ فَهْمٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ قَرِينَةَ قَوْلِهِ: وَقِيلَ لَا يَضُرُّ انْفِصَالُهُ تَبْعُدُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ الِاسْتِعْمَالَ

ص: 14

فَهِمَ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي بِقَرِينَةِ حِكَايَةِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ فَهْمٌ قَرِيبٌ لِقِيَامِ الْقَرِينَةِ عَلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ سَاغَ لِشَيْخِنَا أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْفَهْمِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ وَهْمٌ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ آخِرَ الْعِبَارَةِ أَعْنِي حِكَايَةَ الْوَجْهِ السَّابِقِ يَرُدُّهُ. نَعَمْ شَيْخُنَا لَمْ يُوهِمْهُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ لِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا مَرَّ وَلِمَا سَنَذْكُرُهُ بَلْ مِنْ حَيْثُ فَهْمُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَةِ وَنَقْلُهُ عَنْهَا وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا لِلشَّيْخِ إنْ كَانَتْ النُّسْخَةُ الَّتِي رَآهَا النَّشَائِيُّ بِحَذْفِ الْوَاوِ كَمَا تَقَرَّرَ.

أَمَّا إذَا كَانَتْ الَّتِي رَآهَا بِإِثْبَاتِهَا فَمَا فَهِمَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فَقَطْ هُوَ صَرِيحُ الْعِبَارَةِ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ وَلَا إيهَامَ وَقَعَ مِنْهُ هَذَا، وَالْأَوْجَهُ فِي الْعِبَارَةِ الْمَحْذُوفِ مِنْهَا الْوَاوُ أَنْ يَجْعَلَ التَّشْبِيهَ فِيهَا رَاجِعًا لِكُلٍّ مِنْ الْحُكْمَيْنِ وَقَوْلُ السَّائِلِ - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - اعْتِرَاضًا عَلَى مَا فَهِمَهُ شَيْخُنَا مِنْ الْعِبَارَةِ وَلَنَا أَنْ نَقُولَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَإِنْ فَارَقَهُ صَارَ أَيْ فَارَقَ الْبَدَنَ جَمِيعَهُ وَانْفَصَلَ عَنْهُ إلَى خَارِجٍ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمُفَارَقَةَ إلَى بَعْضِهِ. .. إلَخْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَ التَّحْقِيقِ:(فَإِنْ فَارَقَهُ صَارَ. وَيُقَالُ: لَا مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ) صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُرَادَهُ بِالْمُفَارَقَةِ مَا يَشْمَلُ الْمُفَارَقَةَ مِنْ أَحَدِ الْيَدَيْنِ إلَى الْأُخْرَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (وَيُقَالُ لَا مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ) وَمَا يَشْمَلُ الْمُفَارَقَةَ بِالْكُلِّيَّةِ فَاتَّضَحَ مَا فَهِمَهُ شَيْخُنَا كَالْإِسْنَوِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَارَةِ، وَانْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ بِمَا ذُكِرَ وَاعْتِمَادُ هَؤُلَاءِ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَارَقَةِ الَّذِي هُوَ صَرِيحُ كَلَامِ التَّحْقِيقِ كَمَا تَقَرَّرَ لَا يَرُدُّهُ تَعْلِيلُهُمْ الْوَجْهَ الضَّعِيفَ خِلَافًا لِمَا فِي السُّؤَالِ لِأَنَّهُمْ حَكَمُوا بِالِاسْتِعْمَالِ. عِنْدَ انْفِصَالِ الْمَاءِ مِنْ إحْدَى الْيَدَيْنِ إلَى الْأُخْرَى مَعَ كَوْنِهِمْ جَعَلُوهُمَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فِي عَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ وَنَحْوِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ تَعْلِيلَ الْوَجْهِ الضَّعِيفِ بِمَا ذُكِرَ لَا يُنْتِجُ لِلسَّائِلِ مَا ذَكَرَ.

وَكَوْنُ الضَّعِيفِ لَا يُعَلَّلُ بِمَا يُوَافِقُهُ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ لَا أَكْثَرِيٌّ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كُلِّيًّا، وَقَوْلُ الْمَجْمُوعِ (وَالصَّوَابُ. .. إلَخْ) لَيْسَ فِيهِ رَدٌّ لِمَا مَرَّ مِنْ اعْتِمَادِ الِاسْتِعْمَالِ بَلْ قَوْلُهُ وَإِنَّمَا عَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ لِلضَّرُورَةِ مُؤَيِّدٌ لِلِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّ عُضْوَ الْمُحْدِثِ يُضْطَرُّ فِيهِ لِانْتِقَالِ الْمَاءِ مِنْ بَعْضِهِ لِمَزِيدِ الْقُرْبِ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ، وَبَدَنُ الْجُنُبِ لَا يُضْطَرُّ فِي جَمِيعِهِ إلَى ذَلِكَ بَلْ إنَّمَا يُضْطَرُّ إلَى ذَلِكَ فِيمَا يَغْلِبُ فِيهِ التَّقَاذُفُ فَقَطْ كَمَا يَأْتِي، وَقَوْلُ الْمَجْمُوعِ (كَنَقْلِ الْمَاءِ مِنْ بَعْضِ الْعُضْوِ إلَى بَعْضٍ) يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ بِمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا حَتَّى يُوَافِقَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ الرَّافِعِيِّ وَمَا سَنَذْكُرُهُ وَأَيْضًا فَإِبْقَاءُ كَلَامِهِ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ انْفَصَلَ الْمَاءُ مِنْ كَفِّ الْمُحْدِثِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَرْفِقِهِ لَا يَضُرُّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إذْ الْفَرْقُ بَيْنَ عُضْوِ الْمُحْدِثِ وَبَدَنِ الْجُنُبِ وَاضِحٌ كَمَا أَشَرْت إلَيْهِ فِيمَا مَرَّ.

وَكَلَامُ الْمَجْمُوعِ فِي عُضْوِ الْمُحْدِثِ فَلَا يُقَاسُ بِهِ بَدَنُ الْجُنُبِ عَلَى إطْلَاقِهِ لِمَا مَرَّ وَلِمَا يَأْتِي وَكَلَامُ الْمَجْمُوعِ الْمَذْكُورُ فِي السُّؤَالِ الَّذِي فِي الْوُضُوءِ، وَمَا بَعْدَهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي فَلَا شَاهِدَ فِيهِ إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ وَعُلِمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالِ فَلَا بَأْسَ بِالْإِشَارَةِ إلَى خُلَاصَةِ حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي بَدَنَ الْجُنُبِ، وَإِنْ كُنْت أَشَرْت إلَى مَا يُفِيدُهُ فِيمَا مَرَّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّوَوِيَّ نَقَلَ فِيهَا الْخِلَافَ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ كَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ.

وَلَمْ يُرَجِّحْ فِي الْكِتَابَيْنِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَكِنَّهُ رَجَّحَ فِي التَّحْقِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ مَبْسُوطًا الِاسْتِعْمَالَ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ وَعَدَمَهُ عِنْدَ التَّرَدُّدِ عَلَى عُضْوِ الْمُحْدِثِ وَبَدَنِ الْجُنُبِ بِلَا مُفَارَقَةٍ وَالْحُكْمُ بِعَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ الْجَرْيِ عَلَى الِاتِّصَالِ الْمَحْسُوسِ لَا خِلَافَ فِيهِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ النَّقِيبِ فِي مُخْتَصَرِ الْكِفَايَةِ وَأَمَّا عِنْدَ الِانْفِصَالِ فَتَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْبَدَنِ وَيَخْرِقُ الْهَوَاءَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَيْهِ كَأَنْ يَنْفَصِلَ مِنْ رَأْسِهِ وَيَفْقَأَ طُولًا عَلَى فَخِذِهِ، وَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ وَتَبِعَهُ مَا يَغْلِبُ فِيهِ التَّقَاذُفُ فَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِالِانْفِصَالِ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا صَحَّحَهُ فِي الْكِفَايَةِ مِنْ مَنْعِ الِاسْتِعْمَالِ وَكَذَا مَا نَقَلَهُ النَّشَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ التَّحْقِيقِ كَمَا مَرَّ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ إلَى بَعْضٍ بِتَرَدُّدٍ وَجَرَيَانٍ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ فِي الْهَوَاءِ وَلَيْسَ فِيهِ اتِّصَالٌ حِسِّيٌّ وَهَذَا لَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا قَطْعًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَحَاوَلَ فِي الْكِفَايَةِ مَجِيءَ وَجْهٍ فِيهِ وَلَا وَجْهَ لَهُ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَقَالَ كَشَيْخِهِ الْأَذْرَعِيِّ فِي قَوْلِ الرَّوْضَةِ وَقَالَ الْإِمَامُ: إنْ نَقَلَهُ قَصْدًا وَإِلَّا فَلَا.

هَذَا مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي التَّقَاذُفِ الَّذِي لَا يَقَعُ إلَّا نَادِرًا وَأَمَّا الَّذِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَقَالَ: إنَّهُ عَفْوٌ قَطْعًا لِأَنَّ الْبَدَنَ لَيْسَ سَطْحًا بَسِيطًا وَمِمَّا يُزِيحُ الْإِشْكَالَ جَمِيعَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ فِي بَسِيطِهِ وَهِيَ (لَوْ انْفَصَلَ مِنْ عُضْوٍ وَتَقَاطَرَ عَلَى عُضْوٍ آخَرَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ جَمِيعَ.

ص: 15

الْبَدَنِ فِي حُكْمِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ وَهُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْمَذْهَبِ، وَعَدَمُ الْمَنْعِ مِنْ الْأَوَّلِينَ لِذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ فِي تَرَادُفِ قَطَرَاتِ مَاءٍ وَتَتَابُعِهَا وَذَلِكَ بَيَانٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ انْتَهَى. فَاشْدُدْ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ يَدَيْك فَإِنَّك لَنْ تَجِدَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ أَحْسَنَ مِنْهَا وَاحْمِلْ عَلَيْهَا كَلَامَ إمَامِهِ الَّذِي حَكَاهُ السَّائِلُ عَنْهُ عَنْ الْمَجْمُوعِ وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ وَهُوَ الْمَنْقُولُ فِي الْمَذْهَبِ يَتَّضِحُ لَك مَا مَرَّ عَنْ الْإِسْنَوِيِّ وَشَيْخِنَا وَغَيْرِهِمَا مِنْ اعْتِمَادِهِمْ الِاسْتِعْمَالَ.

وَيَتَّضِحُ لَك أَيْضًا أَنَّهُ الْحَقِيقِيُّ بِالِاعْتِمَادِ وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ مَا أَوْهَمَ خِلَافَهُ مِنْ ظَوَاهِرِ عِبَارَاتٍ أُشِيرُ إلَى بَعْضِهَا فِي السُّؤَالِ وَكَانَ هَذَا هُوَ الْحَامِلُ لِلزَّرْكَشِيِّ عَلَى قَوْلِهِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِأَنَّ الْمَاءَ لَوْ انْفَصَلَ مِنْ الْعُضْوِ صَارَ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَكَيْفَ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ انْتَهَى.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا لَفْظُهُ ذُكِرَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مَا لَفْظُهُ (إذَا كَانَ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْمُتَوَضِّئِ أَوْ الْمُغْتَسِلِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَغَسَلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ وَإِزَالَةِ النَّجَسِ أَوْ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ وَحْدَهَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ عَنْ النَّجَاسَةِ بِلَا خِلَافٍ وَهَلْ يَطْهُرُ عَنْ الْحَدَثِ أَوْ الْجَنَابَةِ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَصَحُّهُمَا يَطْهُرُ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ الِانْتِخَابُ وَابْنُ الصَّبَّاغِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الطَّهَارَتَيْنِ وَاحِدٌ فَكَفَاهُمَا غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ غُسْلُ جَنَابَةٍ وَغُسْلُ حَيْضٍ.

وَالثَّانِي لَا يَطْهُرُ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبَاهُ الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَصَحَّحَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُعْتَمَدِ وَالرَّافِعِيُّ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ.

ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَالشَّيْخُ نَصْرٌ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْبَابِ وَذَكَرَهَا صَاحِبُ الشَّامِلِ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَوَانِي وَالْمُتَوَلِّي فِي الْمِيَاهِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَالرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْغُسْلِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى يَدِهِ عَجِينٌ أَوْ طِينٌ وَنَحْوُهُ فَغَسَلَهَا بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ لَا يُجْزِئُهُ وَإِذَا جَرَى الْمَاءُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لَا يُحْسَبُ عَنْ الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ. لَفْظُ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِحُرُوفِهِ. وَكَمَالُهُ ذَكَرَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى النِّيَّةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ السُّؤَالِ قَوْلُهُ وَإِذَا جَرَى الْمَاءُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لَا يُحْسَبُ عَنْ الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي أَيِّ صُورَةٍ هَذَا الْكَلَامُ وَإِنَّمَا سُقْنَا الْكَلَامَ إلَى آخِرِهِ مَعَ شُهْرَةِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَوُضُوحِهِ وَمَعْرِفَةِ طَرِيقَةِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ لِتُبَيِّنُوا لَنَا كَلَامَهُ هَذَا هَلْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ كَمَا هُوَ صَرِيحُ كَلَامِ السَّمْهُودِيِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ دُرَرُ السُّمُوطِ مَا لَفْظُهُ.

(وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَإِذَا جَرَى الْمَاءُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ. . . إلَخْ) أَنَّهُ جَرَى الْمَاءُ الَّذِي غَسَلَ بِهِ النَّجَاسَةَ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْيَدِ لَيْسَ عَلَيْهِ حَائِلٌ لَا يُحْسَبُ عَنْ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي غَسْلِ النَّجَاسَةِ وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الْقَاضِي فِي أَنَّ الْغَسْلَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكْفِي لِلْحَدَثِ وَالنَّجَسِ؛ وَلِهَذَا نَسَبَهُ لِلْقَاضِي ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ فَتَلَقَّفُوا عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا مَا جَوَابُ مَسْأَلَةِ الْعَجِينِ بِنَفْسِهَا إذَا انْفَرَدَتْ؟ فَإِذَا كَانَ عَلَى يَدِهِ عَجِينٌ أَوْ طِينٌ وَنَحْوُهُ وَغَسَلَهَا بِنِيَّةٍ رَفْعِ الْحَدَثِ وَجَرَى الْمَاءُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَكَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ هَلْ يُقَالُ يُحْسَبُ عَنْ الطَّهَارَةِ وَكَذَا لَوْ كَانَ مُتَغَيِّرًا مَا حُكْمُهُ؟ وَرَأَيْت فِي التَّجْرِيدِ لِلْمُزَجَّدِ مَا لَفْظُهُ لَوْ كَانَ عَلَى يَدِهِ عَجِينٌ أَوْ طِينٌ وَنَحْوُهُ فَغَسَلَهَا بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ لَمْ يُجْزِهِ.

وَإِذَا جَرَى الْمَاءُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْقَاضِي. قُلْت هَذَا إطْلَاقٌ مُنْتَقَدٌ إذَا لَمْ يَرْفَعْ الْمَاءُ حَدَثًا فَمَا وَجْهُ الْحُكْمِ بِاسْتِعْمَالِهِ نَعَمْ إنْ تَغَيَّرَ بِالْعَجِينِ وَنَحْوِهِ تَغَيُّرًا فَاحِشًا اتَّجَهَ عَدَمُ رَفْعِهِ لِتَغَيُّرِهِ لَا لِكَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا اهـ كَلَامُ الْمُزَجَّدِ وَفَهْمُ الْمُزَجَّدِ هَذَا غَيْرُ مَا فَهِمَهُ السَّمْهُودِيُّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَلَا يَلِيقُ فَهْمُ الْمُزَجَّدِ هَذَا بِكَلَامٍ نَقَلَهُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ الْإِمَامِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَقَرَّرَهُ وَعَلَّلَهُ بِالِاسْتِعْمَالِ فَلْيَتَأَمَّلْ الْمَسْئُولُ ذَلِكَ تَأَمُّلًا حَسَنًا وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ الْإِيضَاحَ الَّذِي لَا يَبْقَى مَعَهُ رَيْبٌ، وَنَقَلَ فِي الْعُمْدَةِ شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِلْإِمَامِ ابْنِ النَّحْوِيِّ مَسْأَلَةَ الْعَجِينِ وَنَحْوِهِ مُسْتَقِلَّةً وَلَمْ يُصَدِّرْهَا بِمَا صَدَّرَ بِهَا الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ وَلَفْظُهُ:

(فَرْعٌ لَوْ كَانَ عَلَى يَدِهِ عَجِينٌ أَوْ طِينٌ وَنَحْوُهُمَا فَغَسَلَهَا بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ لَا يُجْزِؤُهُ وَإِذَا جَرَى إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لَا يُحْسَبُ عَنْ الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٌ) اهـ.

وَكَذَا نَقَلَهَا مُسْتَقِلَّةً الدَّمِيرِيّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمِنْهَاجِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْغُسْلِ اهـ. فَتَأَمَّلُوا نَقْلَ ابْنِ النَّحْوِيِّ وَالدَّمِيرِيِّ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَقِلَّةً وَأَوْضِحُوهُ لَنَا وَمَا مَعْنَى الْحُكْمِ بِالِاسْتِعْمَالِ مَعَ كَوْنِهِمَا

ص: 16

ذَكَرَاهَا مُسْتَقِلَّةً؟ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْإِمَامِ ابْنِ النَّحْوِيِّ وَالدَّمِيرِيِّ التَّقْرِيرُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالِاسْتِعْمَالِ لِشَيْءٍ لَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِكَلَامِهِمَا مَعْنًى آخَرَ لَمْ يُدْرِكْهُ فَهْمُنَا فَبِاَللَّهِ أَمْعِنُوا النَّظَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَانْظُرُوا تَعْلِيقَ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِ مِنْ مُصَنَّفَاتِهِ وَانْظُرُوهُ نَظَرًا تَامًّا وَأَمْعِنُوا فِي تَحْقِيقِ طَلَبِ ذَلِكَ فَضْلًا مِنْكُمْ مَأْجُورِينَ.

(فَأَجَابَ) - شَكَرَ اللَّهُ سَعْيَهُ - بِقَوْلِهِ: قَوْلُ الْمَجْمُوعِ (لَوْ كَانَ عَلَى يَدِهِ عَجِينٌ. .. إلَخْ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مَسْأَلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا وَهُوَ مَا فَهِمَهُ ابْنُ الْمُلَقِّنِ الدَّمِيرِيّ وَغَيْرُهُمَا كَالْفَتَى وَصَاحِبِ الْأَنْوَارِ فَقَالَ لَوْ كَانَ عَلَى يَدِهِ عَجِينٌ أَوْ فِي شُقُوقِهَا شَمَعٌ أَوْ تَحْتَ أَظْفَارِهِ وَسَخٌ فَالْغَسْلَةُ الَّتِي تُزِيلُهُ لَا تُحْسَبُ مِنْ الْوُضُوءِ اهـ. لَكِنْ قَيَّدَ ذَلِكَ تِلْمِيذُ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْبَغَوِيّ بِمَا إذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلنِّيَّةِ حُسِبَتْ أَيْ الْغَسْلَةُ عَنْ الطَّهَارَةِ وَإِلَّا فَوَجْهَانِ كَمَا لَوْ نَوَى التَّنْظِيفَ وَهُوَ نَاسٍ لِلنِّيَةِ اهـ. وَقَضِيَّةُ تَشْبِيهِهِ عَدَمَ الْحُسْبَانِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ الْأَلْيَقُ بِكَلَامِهِمْ فَإِنْ قُلْت: إطْلَاقُ الْقَاضِي عَدَمَ الْإِجْزَاءِ هَلْ لَهُ وَجْهٌ؟

قُلْت إنْ كَانَ الْفَرْضُ أَنَّ الْحَائِلَ يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ وَلَا يَزُولُ بِتِلْكَ الْغَسْلَةِ فَالْإِطْلَاقُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وَيَتَغَيَّرُ الْمَاءُ بِهِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْمَاءُ بِهِ وَقُصِدَ مَعَ رَفْعِ الْحَدَثِ إزَالَةُ ذَلِكَ الْحَائِلِ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَيُوَجَّهُ عَدَمُ ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ حِينَئِذٍ بِأَنَّهُ يَشْتَرِكُ بَيْنَ وَاجِبٍ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ لَا يَحْصُلُ ضِمْنًا فَضَرَّ قَصْدُهُ بِخِلَافِ نِيَّةِ التَّبَرُّدِ مَثَلًا فَإِنَّهُ يَحْصُلُ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلَمْ يَضُرَّ قَصْدُهُ وَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْمَاءُ بِهِ وَلَا قَصَدَ مَعَ رَفْعِ الْحَدَثِ شَيْئًا آخَرَ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْغَسْلَةَ حِينَئِذٍ لَا تَرْفَعُ الْحَدَثَ وَبِتَأَمُّلِ تَفْصِيلِ الْبَغَوِيِّ بَيْنَ التَّغَيُّرِ وَعَدَمِهِ الَّذِي قَدَّمْته وَأَنَّهُ مِنْ الْمُوَافِقِينَ لِلْقَاضِي فِي أَنَّهُ لَا يَكْفِي لِلْحَدَثِ وَالْخَبَثِ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ يُعْلَمُ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا هَذِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ الْبَغَوِيّ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ لِأَنَّ الْغَسْلَةَ عِنْدَهُ لَا تُجْزِئُ عَنْ الْحَدَثِ الْمُقَارِنِ لِلْخَبَثِ

وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَاءُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ، وَلَمَّا كَانَ لِإِطْلَاقِ الْقَاضِي عَدَمَ الْإِجْزَاءِ وَجْهٌ بَلْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ أَجْزَأَهُ عَنْ الْخَبَثِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الصَّرْفَ إذْ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ بِخِلَافِ الْحَدَثِ فَلَمَّا أَطْلَقَ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ، وَفَصَلَ تِلْمِيذُهُ بَيْنَ التَّغَيُّرِ وَعَدَمِهِ وَأَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ ذَاكِرًا لِلنِّيَّةِ وَتَارَةً لَا عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَصْلًا، وَأَنَّ كَلَامَهُمَا فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ إنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى وَمَدْرَكٍ آخَرَ غَيْرِ مَدْرَكِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ اجْتِمَاعِ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ فَإِنْ قُلْت: قِيَاسُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَتِنَا أَنَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الِاجْتِمَاعِ لَا يَزُولُ الْخَبَثُ فَلِأَيِّ مَعْنًى فَرَّقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ قُلْت الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّجَاسَةَ تَطْلُبُ الطَّهَارَةَ فَلَمْ يَعُدْ قَصْدُ إزَالَتِهَا صَارِفًا مُنَافِيًا لِقَصْدِ إزَالَةِ الْحَدَثِ فَأَجْزَأَتْ الْغَسْلَةُ عَنْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالِانْدِرَاجِ أَوْ عَنْ الْخَبَثِ فَقَطْ عِنْدَ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ فَمَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ الِانْدِرَاجِ بَنَاهُ عَلَى قَاعِدَتِهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُ الْحَدَثِ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ الْخَبَثِ فَتَلَخَّصَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْعَجِينِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَسْأَلَةِ اجْتِمَاعِ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ أَصْلًا وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ الْمَجْمُوعِ (وَإِذَا جَرَى الْمَاءُ إلَى مَوْضِعٍ. .. إلَخْ)

يُحْتَمَلُ عَوْدُهُ إلَى مَسْأَلَةِ النَّجَاسَةِ وَيَكُونُ النَّوَوِيُّ وَسَّطَ مَسْأَلَةَ الْعَجِينِ لِأَنَّ لَهَا تَعَلُّقًا بِمَسْأَلَةِ النَّجَاسَةِ مِنْ حَيْثُ الْمُشَابَهَةُ الَّتِي مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا، وَالْجَوَابُ عَنْهَا وَهَذَا مَا فَهِمَهُ السَّيِّدُ السَّمْهُودِيُّ وَعَلَيْهِ فَلَا إشْكَالَ فِي التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ. وَيُحْتَمَلُ عَوْدُهُ إلَى مَسْأَلَةِ الْعَجِينِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِظَاهِرِ الْعِبَارَةِ وَهُوَ مَا فَهِمَهُ ابْنُ الْمُلَقِّنِ وَغَيْرُهُ وَعَلَيْهِ فَالتَّعْلِيلُ بِالِاسْتِعْمَالِ مُشْكِلٌ إلَّا أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ أَرَادَ الِاسْتِعْمَالَ اللُّغَوِيَّ الَّذِي نَشَأَ مِنْهُ عَدَمُ ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ عَنْ مَحَلِّ الْعَجِينِ لِمَا تَقَرَّرَ فَإِذَا جَرَى إلَى مَحَلٍّ آخَرَ لَا يَرْفَعُ حَدَثَهُ أَمَّا عِنْدَ فَرْضِ التَّغَيُّرِ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ فَرْضِهِ فَلِأَنَّ جَرَيَانَهُ إلَى الْمَحَلِّ الْآخَرِ حَصَلَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْ الْمُتَطَهِّرِ إلَى إجْرَائِهِ؛ وَلِذَا عَبَّرَ بِجَرَى وَلَمْ يُعَبِّرْ بِأَجْرِي فَانْتِفَاءُ رَفْعِهِ لِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْأَوَّلِ النَّاشِئِ عِنْدَ جَرَيَانِهِ إلَى الْمَوْضِعِ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَأَطْلَقَ الِاسْتِعْمَالَ عَلَى مَا يَعُمُّ الِاسْتِعْمَالَ اللُّغَوِيَّ وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ اللُّغَوِيَّ هُوَ الَّذِي نَشَأَ مِنْهُ عَدَمُ الرَّفْعِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ نَشَأَ مِنْهُ الْجَرَيَانُ إلَى الْمَحَلِّ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ

ص: 17

قَصْدٍ، وَأَمَّا قَصْدُهُ رَفْعَ الْحَدَثِ أَوَّلًا فَغَيْرُ صَحِيحٍ بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ عَنْ الْقَاضِي وَلَك حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ.

وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا صُبَّ الْمَاءُ عَلَى نَحْوِ الْعَجِينِ الْغَالِبِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمَسَّ الْمَاءُ شَيْئًا مِنْ مُحَاذِي الْحَائِلِ لِأَنَّ مَسَّ الْمَاءِ لِلْعَجِينِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ لِشَيْءٍ مِمَّا حَاذَاهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ وَوَاضِحٌ أَنَّ مَاءَ ذَلِكَ الْجُزْءِ الْمُحَاذِي الَّذِي لَا حَائِلَ عَلَيْهِ مُسْتَعْمَلٌ، وَقَدْ اخْتَلَطَ بِبَقِيَّةِ الْمَاءِ وَإِذَا جَرَى الْمَاءُ جَمِيعُهُ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ بَعْدَ جَرَيَانِهِ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمُ تَغَيُّرِهِ بِهِ لَا يَرْفَعُ حَدَثًا لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ إذْ الطَّهُورُ إذَا اخْتَلَطَ بِهِ مُسْتَعْمَلٌ يَصِيرُ كُلُّهُ مُسْتَعْمَلًا فَإِنْ قُلْت شَرْطُ الْمُسْتَعْمَلِ الِانْفِصَالُ قُلْت الْقَاضِي حُسَيْنٌ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ، بَلْ يُثْبِتُ لِلْمَاءِ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَذْهَبِهِ فِي مَسْأَلَةِ اجْتِمَاعِ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ فَظَهَرَ صِحَّةُ تَعْلِيلِهِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ.

وَإِنْ فَرَضْنَا انْقِطَاعَ مَسْأَلَةِ الْعَجِينِ عَمَّا قَبْلَهَا، وَأَنَّ مُرَادَهُ الِاسْتِعْمَالُ الشَّرْعِيُّ لَا اللُّغَوِيُّ وَأَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى طَرِيقَتِهِ وَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لِلسَّيِّدِ السَّمْهُودِيّ هَذَا الْحَمْلُ بِقِسْمَيْهِ جَعَلَ هَذَا مُتَعَلِّقًا بِمَسْأَلَةِ النَّجَاسَةِ وَرَأَى أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى ذَلِكَ نَظَرًا لِصِحَّةِ الْمَعْنَى بِحَسَبِ مَا فَهِمَهُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ يَأْبَى ذَلِكَ وَلَمَّا ظَهَرَ لِابْنِ الْمُلَقِّنِ وَمَنْ تَبِعَهُ صِحَّةُ حَمْلِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ نَقَلُوهُ وَأَقَرُّوهُ مَشْيًا مَعَ ظَاهِر الْعِبَارَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا تَجَوُّزٌ بَعِيدٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَمْلِ الْأَوَّلِ وَحُمِلَ عَلَى مَا يُوَافِقُ الْغَالِبَ لَا مُطْلَقًا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَمْلِ الثَّانِي.

وَالتَّجَوُّزُ الْبَعِيدُ يَقَعُ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ كَثِيرًا اتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ النَّاظِرِينَ فِي كُتُبِهِمْ وَكَانَ اللَّائِقُ بِالْمُزَجَّدِ أَنْ يُؤَوِّلَ كَلَامَ الْقَاضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَوَّلْنَا بِهِ وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا وَاضِحٌ لَكِنْ عُذْرُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّاظِرِينَ فِي كَلَامِ غَيْرِهِمْ تَخْتَلِفُ مَقَاصِدُهُمْ فَمِنْهُمْ: مَنْ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ النَّظَرُ إلَى ظَوَاهِرِ الْعِبَارَاتِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْقَوَاعِدِ وَغَيْرِهَا فَيُبَيِّنُ مَا فِيهَا مِنْ اعْتِرَاضٍ وَنَقْدٍ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا رَدَّهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ أَوْ كَانَ جَلِيًّا قَصَدَ بِتَبْيِينِهِ الْأَغْبِيَاءَ وَتَشْحِيذَ أَذْهَانِ غَيْرِهِمْ وَمِنْهُمْ: مَنْ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ النَّظَرُ مَعَ ذَلِكَ إلَى مُرَاعَاةِ الْقَوَاعِدِ وَالنَّظَائِرِ فَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهَا تَعْوِيلًا عَلَى الْفُرُوعِ وَالْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي أَبْوَابِهَا وَمَحَالِّهَا، وَالْمُتَأَخِّرُونَ رحمهم الله انْقَسَمُوا إلَى هَذَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ

وَكِلَاهُمَا حَسَنٌ لَكِنَّ الثَّانِيَةَ قَدْ يَتَرَجَّحُ حُسْنُهَا، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا نَقَلَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ الْقَاضِي، وَتَعْلِيلَهُ بِالِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَعْتَرِضْهُ بِأَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ أَنْ يُزِيلَ مَانِعًا وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ يُرِيدُونَ بِالِاسْتِعْمَالِ الِاسْتِعْمَالَ اللُّغَوِيَّ. إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَنَعُودُ إلَى مَا فِي السُّؤَالِ فَنَقُولُ بِتَأَمُّلِ مَا أَوْضَحْنَاهُ يُعْلَمُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ فَعَلَى هَذَا مَا جَوَابُ مَسْأَلَةِ الْعَجِينِ إذَا انْفَرَدَتْ. .. إلَخْ؟

وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَوْجَهَ فِيهَا مَا مَرَّ عَنْ الْبَغَوِيِّ مَبْسُوطًا مِنْ أَنَّهُ إنْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ أَوْ لَمْ يُزِلْ الْحَائِلَ لَمْ يَرْتَفِعْ الْحَدَثُ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَزَالَ الْحَائِلُ بِتِلْكَ الْغَسْلَةِ فَإِنْ قَصَدَ رَفْعَ الْحَدَثِ أَوْ أَطْلَقَ ارْتَفَعَ الْحَدَثُ، وَإِنْ قَصَدَ إزَالَةَ الْحَائِلِ فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلنِّيَّةِ فَكَذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَرْتَفِعْ لِأَنَّ قَصْدَ الْإِزَالَةِ حِينَئِذٍ صَارِفٌ.

وَعَنْ قَوْلِهِ: (وَلَا يَلِيقُ فَهْمُ الْمُزَجَّدِ. .. إلَخْ) وَذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ تَقْرِيرَ النَّوَوِيِّ لِلْقَاضِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ مُسْتَقِلٌّ إنَّمَا هُوَ لِوُضُوحِ الْمُرَادِ وَالْعِلْمِ بِهِ مِمَّا قَدَّمَهُ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الِاعْتِرَاضَ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ بِنَاءً عَلَى سُلُوكِ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى السَّابِقَةِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَهَا قَدْ يَكُونُ أَحْسَنَ وَعَنْ قَوْلِهِ: (وَمَا مَعْنَى الْحُكْمِ بِالِاسْتِعْمَالِ مَعَ كَوْنِهِمَا ذَكَرَاهَا مَسْأَلَةً مُسْتَقِلَّةً؟ وَذَلِكَ لِمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ أَنَّهُمَا فَهِمَا أَنَّ الْقَاضِي أَرَادَ الِاسْتِعْمَالَ اللُّغَوِيَّ أَوْ الشَّرْعِيَّ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا وَبِهَذَا عُلِمَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ أَيْضًا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ إلَى الْإِمَامِ ابْنِ النَّحْوِيِّ وَالدَّمِيرِيِّ التَّقْرِيرُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالِاسْتِعْمَالِ. .. إلَخْ) فَوَضَحَ الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَزَالَ مَا فِيهَا مِنْ الْإِشْكَالِ نَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ وَالسَّدَادَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ آمِينَ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - بِمَا لَفْظُهُ إذَا انْغَمَسَ الْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَرَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ فَهَلْ يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ عَنْ جَمِيعِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْمِنْهَاجِ وَغَيْرِهِ فِي آخِرِ بَابِ الْوُضُوءِ وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَا يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ إلَّا عَنْ وَجْهِهِ فَقَطْ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ انْغِسَالِهِ يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ، وَتَعَدُّدِ مَحَلِّ الْحَدَثِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ كَجُنُبَيْنِ انْغَمَسَا فِي مَاءٍ قَلِيلٍ، وَتَقَدَّمَتْ نِيَّةُ أَحَدِهِمَا فَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ تَأَخَّرَتْ نِيَّتُهُ.

وَإِطْلَاقُ الْمِنْهَاجِ وَغَيْرِهِ فِي آخِرِ بَابِ الْوُضُوءِ مُقَيَّدٌ بِمَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: (وَالْمُسْتَعْمَلُ

ص: 18

فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ غَيْرُ طَهُورٍ) فَاكْتَفَى بِهَذَا عَنْ إعَادَتِهِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ كَمَا اكْتَفَى بِقَوْلِهِ: فِي بَابِ الْوُضُوءِ أَوْ الْغُسْلِ (إنَّ الْمُحْدِثَ إذَا كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ يَكْفِي لَهَا غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ) عَنْ إعَادَتِهِ فِي بَابِ الْجِنَازَةِ فِي قَوْلِهِ: (وَالْوَاجِبُ تَعْمِيمُ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ بَعْدَ إزَالَةِ النَّجَسِ. وَهَلْ صَرَّحَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؟ وَهَلْ فَرَّقَ بَيْنَ تَعَدُّدِ الْمَحَلِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ قَضِيَّةَ قَوْلِهِمْ لَوْ انْغَمَسَ جُنُبٌ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ نَاوِيًا رَفْعَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ فِيهِ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهُ حَدَثًا أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ صَحَّ رَفْعُ حَدَثِهِ الثَّانِي بِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْهُ فَيُعِيدُ الِانْغِمَاسَ فِيهِ لِلْمُحْدِثِ الثَّانِي وَيُجْزِئُهُ أَنَّ الْمُنْغَمِسَ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ لِلْوُضُوءِ بِهِ كَالْجُنُبِ فِيمَا ذُكِرَ فَيَرْتَفِعُ حَدَثُهُ وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ انْغِمَاسِ الْجُنُبِ، وَمِثْلُهُ الْمُتَوَضِّئُ وَنَقَلَهُ عَنْهُ فِي الْمَجْمُوعِ، وَأَقَرَّهُ وَبِهِ صَرَّحَ أَيْضًا الْخُوَارِزْمِيُّ فِي كَافِيهِ حَيْثُ قَالَ: إنَّمَا يُحْكَمُ بِاسْتِعْمَالِ الْغُسَالَةِ بَعْدَ الْفَصْلِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ جُنُبٌ مَاءً قَلِيلًا ثُمَّ انْغَمَسَ فِيهِ ارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ فَلَوْ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ ثُمَّ انْغَمَسَ ثَانِيًا صَحَّتْ طَهَارَتُهَا.

فَمَا مَشَى عَلَيْهِ الشَّرَفُ الْمُنَاوِيُّ كَالشَّرَفِ ابْنِ الْمُقْرِي مِنْ أَنَّ حَدَثَهُ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا عَنْ الْوَجْهِ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِيهِ بِخِلَافِ الْجُنُبِ يُرَدُّ حُكْمًا بِأَنَّ الْمَنْقُولَ خِلَافُهُ كَمَا عَلِمْت، وَتَعْلِيلًا بِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا فِي مَسْأَلَةِ ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ فِي مَسْأَلَةِ الِانْغِمَاسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْوُضُوءِ بِأَنَّ عِلَّةَ ارْتِفَاعِهِ بِذَلِكَ مَعَ فَقْدِ التَّرْتِيبِ فِيهِ أَنَّ التَّرْتِيبَ تَقْدِيرِيٌّ فِي لَحْظَةٍ لَطِيفَةٍ، وَأَنَّهُ يَصِيرُ وُضُوءُهُ غُسْلًا وَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْعِلَّةُ الْأُولَى وَكُلٌّ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ تَقْتَضِي ارْتِفَاعَ جَمِيعِ حَدَثِهِ وَلَا نَظَرَ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ تَقْدِيرِيٌّ فَلَا يُلَاحَظُ أَوْ أَنَّهُ صَيَّرَ وُضُوءَهُ غُسْلًا وَهُوَ لَا يَجِبُ فِيهِ تَرْتِيبٌ، فَاعْتِمَادُ بَعْضُهُمْ لِلثَّانِي وَتَأْوِيلُهُ لِكَلَامِ صَاحِبِ الْكَافِي الَّذِي ذَكَرْتُهُ بِمَا يَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ، وَبِمَا تَقَرَّرَ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَجُنُبَيْنِ أَوْ مُحْدِثَيْنِ انْغَمَسَا فِي مَاءٍ قَلِيلٍ وَتَقَدَّمَتْ نِيَّةُ أَحَدِهِمَا.

وَمَشَى الزَّرْكَشِيُّ فِي الْخَادِمِ عَلَى مَا مَرَّ عَنْ صَاحِبِ الْكَافِي وَلَمْ يُؤَوِّلْهُ بَلْ ارْتَضَى ظَاهِرَهُ وَمَا وَقَعَ لَهُ فِيهِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى ضَعِيفٍ كَمَا يُعْلَمُ بِمُرَاجَعَةِ كَلَامِهِ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُ فِي الْوُضُوءِ: (إنَّ نَفْيَ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا رَاعَى التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ، مَحَلُّهُ إذَا كَثُرَ الْمَاءُ وَإِلَّا كَانَ بِارْتِفَاعِ الْحَدَثِ عَنْ وَجْهِهِ مُسْتَعْمِلًا لِكُلِّهِ فَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ غَيْرِهِ لِلْفَرْقِ الظَّاهِرِ بَيْنَ وُقُوعِ الِانْغِمَاسِ مُرَتَّبًا عَلَى تَرْتِيبِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَا يَكْفِي عَنْ غَيْرِ الْوَجْهِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ التَّرْتِيبِ حِينَئِذٍ وَعَلَى هَذَا قَدْ يُحْمَلُ كَلَامُ الشَّرَفَيْنِ، بَلْ كَلَامُ الْأَوَّلِ كَالصَّرِيحِ فِيهِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَقَعَ كَذَلِكَ بِأَنْ تُؤَخَّرَ النِّيَّةُ إلَى تَمَامِ الِانْغِمَاسِ فَيَكْفِي، وَيَرْتَفِعُ حَدَثُهُ عَنْ جَمِيعِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لِإِمْكَانِ تَقْدِيرِ التَّرْتِيبِ حِينَئِذٍ فَاعْتَمِدْ ذَلِكَ وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا خَالَفَهُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه لَوْ تَنَجَّسَ الْفَمُ وَبَيْنَ الْأَسْنَانِ أَعْيَانٌ فَهَلْ تَجِبْ إزَالَتُهَا بِنَحْوِ تَخْلِيلٍ أَوْ يَكْفِي التَّمَضْمُضُ لِتَطْهِيرِ الْفَمِ؟ وَتِلْكَ الْأَعْيَانُ إذَا زَالَ بِهِ أَوْصَافَ النَّجَاسَةِ.

(فَأَجَابَ) : بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إزَالَةُ مَا بَيْنَ الْأَسْنَانِ فِيهَا بَلْ يَكْفِي إيصَالُ الْمَاءِ إلَى مَا وَصَلَتْ إلَيْهِ النَّجَاسَةُ مِنْهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ وَلَا يَزِيدَ وَزْنُهُ، وَأَنْ يَزُولَ أَوْصَافُ النَّجَاسَةِ بِتَفْصِيلِهِ الْمَعْرُوفِ وَلَا يُقَالُ النَّجَاسَةُ تَسْرِي إلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهَا لِأَنَّ الْمَاءَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ ذَلِكَ لَهُ قُوَّةُ سَرَيَانٍ أَكْثَرُ فَهُوَ يَصِلُ إلَى مَا وَصَلَتْ إلَيْهِ النَّجَاسَةُ الْأُولَى.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا لَوْ تَنَجَّسَ شَعْرُ شَخْصٍ أَوْ جَسَدُهُ وَهُوَ مُدَّهِنٌ الِادِّهَانَ الْمَعْرُوفَ بِحَيْثُ لَوْ لَمَسَ لَظَهَرَ بِمُلَامَسَتِهِ أَثَرٌ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ إزَالَتُهُ بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى نَحْوِ سِدْرٍ أَوْ كَانَ أَثَرُهُ ضَعِيفًا كَمَاسِّ اللَّحْمِ وَالْأَلْيَةِ يَعْلَقُ بِيَدِهِ أَثَرٌ فَهَلْ يَكْفِي إجْرَاءُ الْمَاءِ إذَا كَانَتْ النَّجَاسَةُ حُكْمِيَّةً أَوْ عَيْنِيَّةً وَزَالَتْ بَقِيَّةُ أَوْصَافِهَا دُونَ ذَلِكَ الْأَثَرِ؟ بَيِّنُوا لَنَا حَدَّ أَثَرِ الِادِّهَانِ الَّذِي يَطْهُرُ بِنَفْسِ جَرَيَانِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَمَا يُعْفَى وَيُتَسَامَحُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَالِادِّهَانُ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ وَضَرُورِيٌّ خُصُوصًا فِي مَظَانِّ الْبِرِّ.

(فَأَجَابَ) بِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَنْ أَكَلَ مَيْتَةً وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ دُسُومَتِهَا مِنْ أَسْنَانِهِ إلَّا بِالسِّوَاكِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِيَاكُ لِتَوَقُّفِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ فَقِيَاسُهُ أَنَّهُ مَتَى تَنَجَّسَ الشَّعْرُ أَوْ الْبَدَنُ وَعَلَيْهِ دُهْنٌ وَلَمْ يُمْكِنْ إزَالَةُ الدُّهْنِ إلَّا بِنَحْوِ سِدْرٍ أَنَّهُ يَجِبُ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَنَجِّسًا، وَإِزَالَتُهُ الْوَاجِبَةُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَمَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ كَانَ وَاجِبًا وَلَا نَظَرَ إلَى كَوْنِ الِادِّهَانِ قُرْبَةً؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ فِي بَابِ تَطْهِيرِ النَّجَاسَةِ عَلَى إزَالَتِهَا بِجَمِيعِ أَوْصَافِهَا إلَّا

ص: 19

اللَّوْنَ أَوْ الرِّيحَ إنْ عَسُرَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى كَوْنِهِ عَصَى بِسَبَبِ ذَلِكَ أَمْ لَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلِاضْطِرَارِ وَتَوَقَّفَتْ إزَالَةُ الدُّسُومَةِ عَلَى نَحْوِ السِّوَاكِ أَنَّهُ يَجِبُ. فَمَسْأَلَةُ الِادِّهَانِ كَذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ مَيْتَةٍ لَا دَمَ لَهَا سَائِلٌ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ ثُمَّ زِيدَ عَلَيْهِ - وَهِيَ فِيهِ - مَاءٌ آخَرُ فَهَلْ يَبْقَى الْعَفْوُ؟

(أَجَابَ) بِقَوْلِهِ: يُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَسْأَلَةِ ابْنِ أَبِي الصَّيْفِ الْمَشْهُورَةِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا فِيهِ مَا يَضُرُّ فِي الْأَصْلِ لَكِنَّهُ عُفِيَ عَنْهُ لِلْمَشَقَّةِ، فَمَنْ نَظَرَ إلَى خُصُوصِ الْمَشَقَّةِ يَقُولُ فِيهَا بِالتَّأْثِيرِ إذْ لَا مَشَقَّةَ فِي خُصُوصِ هَذِهِ وَكَذَا فِي صُورَةِ السُّؤَالِ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ الْمَشَقَّةَ اقْتَضَتْ طَهُورِيَّةَ الْمَاءِ وَأَلْغَى هَذَا الْمَانِعَ يَقُولُ بِعَدَمِ التَّأْثِيرِ، ثُمَّ رَأَيْتنِي صَرَّحْت بِالْمَسْأَلَتَيْنِ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ. وَجَعَلْت صُورَةَ السُّؤَالِ شَاهِدًا لِمَا رَجَّحْتُهُ فِي مَسْأَلَةِ ابْنِ أَبِي الصَّيْفِ مِنْ عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَعِبَارَتُهُ: (وَلَوْ صُبَّ مُتَغَيِّرٌ بِخَلِيطٍ لَا يُؤَثِّرُ عَلَى غَيْرِ مُتَغَيِّرٍ فَغَيَّرَهُ كَثِيرًا ضَرَّ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا عَلَى مَا ارْتَضَاهُ جُمِعَ لِسُهُولَةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، لَكِنْ مَشَى آخَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ ذُبَابٌ فِي مَائِعٍ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ فَصُبَّ عَلَى مَائِعٍ آخَرَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِطَهَارَتِهِ الْمُسْتَثْنِيَةِ عَنْ مَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ، فَكَذَلِكَ لَا يَضُرُّ هَذَا لِطَهُورِيَّتِهِ الْمُسْتَثْنِيَةِ عَنْ ذَلِكَ انْتَهَتْ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ أَرْوَاثِ الْفِئْرَانِ هَلْ يُعْفَى عَنْهَا وَعَنْ آثَارِهَا لِشِدَّةِ الْبَلْوَى بِهَا كَذَرْقِ الطُّيُورِ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: صَرَّحَ بِالْعَفْوِ عَنْهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَمَا نَقَلْتُهُ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَالْعُبَابِ وَفِيهِ وَقْفَةٌ وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ خِلَافُهُ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِهَا لَمْ يَعُمَّ كَعُمُومِهِ بِذَرْقِ الطُّيُورِ كَمَا هُوَ جَلِيٌّ، وَالْمُشَاهَدَةُ قَاضِيَةٌ بِذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ الِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ إخْبَارِ الْقَصَّارِ الْكَافِرِ بِتَنَجُّسِ الثَّوْبِ عِنْدَهُ مَعَ بَيَانِ سَبَبِهِ وَبِغَسْلِهِ وَإِخْبَارِهِ عَنْ غَسْلِ الثَّوْبِ الَّذِي كَانَ مُتَنَجِّسًا قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ بِشُرُوطِ التَّطْهِيرِ هَلْ يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الْكَافِرُ كَالْفَاسِقِ فِي الْإِخْبَارِ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: (أَطْلَقَ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إخْبَارُ الْفَاسِقِ وَالْكَافِرِ بِنَجَاسَةٍ وَلَا بِطَهَارَةٍ وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا إذَا بَلَغَ الْمُخْبَرَ مِنْ الْفَاسِقِ أَوْ الْكَافِرِ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، بِأَنْ كَانُوا جَمْعًا يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَأَخْبَرُوا عَنْ عِيَانٍ فَيُقْبَلُ خَبَرُهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ ثُمَّ إنَّهُمْ إنْ وَافَقُوا الْمُخْبِرَ فِي مَذْهَبِهِ فِي بَابِ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ لَمْ يُشْتَرَطْ بَيَانُ السَّبَبِ وَإِلَّا اُشْتُرِطَ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ أَيْضًا مَا إذَا أَخْبَرَ الْكَافِرُ أَوْ الْفَاسِقُ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ وَبَيْنَ السَّبَبِ كَقَوْلِهِ: بُلْت فِي هَذَا الْإِنَاءِ أَوْ طَهَّرْت الثَّوْبَ بِمَاءِ كَذَا حَتَّى زَالَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ عَنْهُ، فَيُقْبَلُ خَبَرُهُ هُنَا أَيْضًا فَفِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَفِي الْمَجْمُوعِ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَتْ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ فَقَالَ ذِمِّيٌّ: أَنَا ذَبَحْتهَا حَلَّتْ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ انْتَهَى.

فَإِذَا قُبِلَ إخْبَارُ الْكَافِرِ عَنْ فِعْلِ الذَّكَاةِ قُبِلَ إخْبَارُهُ عَنْ فِعْلِهِ التَّنْجِيسَ أَوْ التَّطْهِيرَ مَعَ بَيَانِ سَبَبِهَا بِالْمُسَاوَاةِ إنْ لَمْ يَكُنْ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ يُحْتَاطُ فِيهَا مَا لَا يُحْتَاطُ فِي ذَيْنِكَ وَقَدْ أَطْلَقَ السَّلَفُ إبَاحَةَ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يَشْتَرِطُوا مُشَاهَدَتَنَا لِذَبْحِهَا، بَلْ عَوَّلُوا عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ تَوْسِيعًا فِي الرُّجُوعِ إلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ وَمَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ صِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْفَاسِقِ وَإِنْ شُوهِدَ سَبْقُ حَدَثِهِ وَلَمْ يُشَاهَدْ وُضُوءُهُ وَلَيْسَ مَلْحَظُهُ إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَوَضَّأَ قُبِلَ خَبَرُهُ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فَقِيهُ عَصْرِهِ وَأُسْتَاذُ أَهْلِ مِصْرِهِ الشَّرَفُ الْمُنَاوِيُّ: كَانَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْوَلِيُّ أَبُو زُرْعَةَ إذَا تَنَجَّسَ ثَوْبُهُ دَفَعَهُ لِفَتَاهُ وَأَمَرَهُ بِتَطْهِيرِهِ فَإِذَا أَتَاهُ بِهِ وَقَالَ طَهَّرْته لَبِسَهُ وَحَالُ الْفِتْيَانِ لَا يَخْفَى اهـ.

وَأَشَارَ الشَّرَفُ بِذَلِكَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَتَى الَّذِي كَانَ الْوَلِيُّ يَدْفَعُ إلَيْهِ ثَوْبَهُ لِيُطَهِّرَهُ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الْعَدَالَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَقُلْ الشَّرَفُ وَحَالُ الْفِتْيَانِ لَا يَخْفَى وَحِينَئِذٍ فَهَذَا مِنْ الْوَلِيِّ وَتِلْمِيذِهِ الشَّرَفِ اعْتِمَادٌ لِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ الَّذِي قَدَّمْته عَلَى إخْبَارِ الذِّمِّيِّ بِالذَّكَاةِ، وَأَنَّ الْفَاسِقَ وَمِثْلُهُ الْكَافِرُ مَتَى قَالَ طَهَّرْته أَوْ نَجَّسْته وَبَيَّنَ السَّبَبَ أَوْ كَانَ الْفَاسِقُ مُوَافِقًا عَارِفًا بِالطَّهَارَةِ أَوْ النَّجَاسَةِ قُبِلَ خَبَرُهُ وَقَدْ أَفْتَى الْمُنَاوِيُّ بِذَلِكَ كَمَا يَأْتِي وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا إطْبَاقُهُمْ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَ فَاسِقًا أَيْ عَنْ نَفْسِهِ، بِأَنْ كَانَ مَعْضُوبًا لِيَحُجَّ عَنْهُ صَحَّتْ إجَارَتُهُ وَقُبِلَ قَوْلُهُ حَجَجْت مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ وَلَا بَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ مَرْجِعَهُ إلَى النِّيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا.

وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الدَّبِيلِيُّ لَوْ قَالَ لِلْأَجِيرِ جَامَعْتَ فِي إحْرَامِكَ فَأَفْسَدْتَهُ لَمْ تُسْمَعْ هَذِهِ

ص: 20

الدَّعْوَى فَلَا يَحْلِفُ الْأَجِيرُ وَكَذَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ تَأَخُّرَ إحْرَامِهِ عَنْ الْمِيقَاتِ أَوْ نَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَمِينٌ عَلَيْهَا. وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَوْ قَالَتْ تَزَوَّجْت بِرَجُلٍ وَطِئَنِي ثُمَّ طَلَّقَنِي وَاعْتَدَدْت قُبِلَ قَوْلُهَا بِلَا يَمِينٍ أَيْ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِقَةً كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُهُمْ وَلَا يُؤَثِّرُ فِي تَصْدِيقِهَا فِي ذَلِكَ إنْكَارُ الزَّوْجِ الثَّانِي مَا نَسَبَتْهُ إلَيْهِ، ثُمَّ إنْ ظَنَّ الْأَوَّلُ صِدْقَهَا نَكَحَهَا بِلَا كَرَاهَةٍ وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ ذَلِكَ نُدِبَ لَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا فَإِنْ صَرَّحَ بِكَذِبِهَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ تَزَوُّجُهَا حَتَّى يَقُولَ تَبَيَّنْتُ صِدْقَهَا.

وَقَوْلُ الْفُورَانِيِّ وَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ: (إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَذِبُهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ) غَلَطٌ عِنْدَ الْأَصْحَابِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ فَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْحِلِّ حَيْثُ أَمْكَنَ صِدْقُهَا وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَذِبُهَا، وَبِهِ يُصَرِّحُ نَصُّ الْأُمِّ، وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِصِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَشْتَرِطُوا كَوْنَ الْأَجِيرِ ثِقَةً فَاقْتَضَى ذَلِكَ قَبُولُ قَوْلِهِ حَيْثُ لَمْ يُكَذِّبْهُ الْمُسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَا لِلْغَيْرِ وَبِهِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا مَرَّ فِي مُدَّعِيَةِ التَّحْلِيلِ.

وَقَدْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ عِنْدَ قَوْلِ الرَّوْضَةِ: (يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْغَاسِلُ أَمِينًا) كَذَا عِبَارَةُ جَمَاعَةٍ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَكَثِيرُونَ ثُمَّ قَالَ وَعِبَارَةُ الْمِنْهَاجِ تُشْعِرُ بِالْوُجُوبِ وَوُجِّهَ بِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يُوثَقُ بِهِ وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ إلَّا فِي مَسَائِلَ لَمْ يَعُدُّوا هَذِهِ مِنْهَا اهـ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ إنَّمَا سَكَتُوا عَلَى اسْتِثْنَائِهَا لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى مَا ذَكَرُوهُ مِنْ إخْبَارِ الذِّمِّيِّ بِالذَّكَاةِ، وَفِي التَّوَسُّطِ أَيْضًا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الِازْدِحَامِ عَلَى الْغُسْلِ أَنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّ الصِّبَا وَالْفِسْقَ لَا يُؤَثِّرَانِ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ، وَلَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا.

وَقَدْ جَزَمَ الصَّيْمَرِيُّ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْفَاسِقِ وَلَا لِغَيْرِ الْبَالِغِ فِي الصَّلَاةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ هُنَا كَذَلِكَ بَلْ أَوْلَى اهـ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ مَمْنُوعٌ وَأَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ وَإِنْ سَلِمَ لَا يُعَكِّرُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي تَزَاحُمِ ذَوِي حُقُوقٍ فَلَا يُقَدَّمُ مِنْهُمْ عَلَى الْبَاقِينَ إلَّا كَامِلٌ، وَالصَّبِيُّ وَالْفَاسِقُ لَيْسَا كَذَلِكَ فَعَدَمُ تَقْدِيمِ الْفَاسِقِ هُنَا؛ إنَّمَا هُوَ لِمَا ذَكَرْتُهُ فَلَا يَقْتَضِي بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ عَدَمَ قَبُولِ قَوْلِهِ إذَا أَخْبَرَ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ.

فَإِنْ قُلْت اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْفَاسِقِ وَالْكَافِرِ فِي الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ وَإِيصَالِ الْهَدِيَّةِ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الصَّبِيِّ فِيهَا لِلْأَحَادِيثِ أَنَّهُ قَبِلَ هَدَايَا الْكُفَّارِ أَيْ الْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ عَلَى أَيْدِيهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ هَذَا مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِبَاحَةِ، وَالْإِذْنُ فِي الدُّخُولِ وَالْإِرْسَالِ، وَهُمَا فِعْلُ غَيْرِهِ فَإِذَا قَبِلُوا قَوْلَ الْفَاسِقِ وَالْكَافِرِ هُنَا مُطْلَقًا فَلِمَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا فِي النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ مُطْلَقًا قُلْت فِي هَذَا تَأْيِيدٌ ظَاهِرٌ لِمَا قَدَّمْته مِنْ قَبُولِ خَبَرِهِمَا عَنْ فِعْلِهِمَا وَإِنَّمَا لَمْ نَأْخُذْ بِقَضِيَّةِ هَذَا مِنْ قَبُولِ خَبَرِهِمَا مُطْلَقًا لِأَنَّ السَّلَفَ وَالْخَلْفَ اكْتَفَوْا بِهِمَا فِيمَا ذُكِرَ دُونَ غَيْرِهِ لِعُمُومِ إضْرَارِ النَّاسِ إلَى إنَابَتِهِمَا فِي نَحْوِ الْإِذْنِ وَالْإِرْسَالِ؛ لِأَنَّا لَوْ كُلِّفْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَعَاطَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ لَا يَسْتَنِيبُ فِيهِ إلَّا ثِقَةً لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ مَشَقَّةً عَظِيمَةً؛ فَاقْتَضَتْ

الضَّرُورَةُ

الْمُسَامَحَةَ فِي قَبُولِهِمَا فِي ذَلِكَ فَلَا يُقَاسُ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِثْلَ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ.

وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا جَازَ لِلْمَشَقَّةِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ فَقَالَ لَوْ أَذِنَ فِي الدُّخُولِ أَوْ فِي حَمْلِ الْهَدِيَّةِ فَاسِقٌ فَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ شَرْعًا وَجَرَاءَتُهُ أَبْعَدُ مِنْ جَرَاءَةِ الصِّبْيَانِ أَيْ الْمُكْتَفَى بِإِخْبَارِهِمْ فِي ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يُجَرَّبْ عَلَيْهِمْ كَذِبٌ، وَلَا وَقْفَةَ عِنْدِي فِي الْمَسْتُورِ وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَاسْتُثْنِيَ ذَلِكَ لِمَا عَلَى الْمَالِكِ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ إذَا ضَاقَتْ اتَّسَعَتْ اهـ.

وَأَيَّدَهُ الزَّرْكَشِيُّ «بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ ابْنَ أُمِّ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيَّ وَهُوَ مُشْرِكٌ دَلِيلًا حِينَ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ» فَعُلِمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ (وَاسْتُثْنِيَ ذَلِكَ. .. إلَخْ) قَبُولُ قَوْلِ الْكَافِرِ أَوْ الْفَاسِقِ فِي مَسْأَلَتِنَا إذَا أَخْبَرَا عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِمَا بِالْأَوْلَى لَا سِيَّمَا فِي التَّطْهِيرِ؛ لِأَنَّ تَعَاطِيَهُ بِالنَّفْسِ لَوْ وَجَبَ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ مَشَقَّةً عَظِيمَةً فَاقْتَضَى التَّوْسِيعُ الْمُتَلَقَّى مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَاءِ قَبُولَ قَوْلِهِ: طَهَّرْته إذَا وَافَقَ مَذْهَبَ الْمُخْبِرِ أَوْ بَيَّنَ السَّبَبَ، وَأَمَّا إفْتَاءُ بَعْضِهِمْ بِعَدَمِ قَبُولِ قَوْلِهِمَا مُطْلَقًا فِي التَّطْهِيرِ كَمَا لَوْ أَخْبَرَا بِالتَّنْجِيسِ أَوْ بِأَنَّ الْكَعْبَةَ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَمَدٍ؛ لِمَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِمَّا يُصَرَّحُ بِخِلَافِهِ، وَقِيَاسُهُ عَنْ التَّنْجِيسِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ الَّذِي فِي التَّطْهِيرِ فَهُمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٌ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْكَافِرِ أَوْ الْفَاسِقِ

ص: 21

عَنْهُمَا إنْ أَخْبَرَ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَ السَّبَبَ أَوْ وَافَقَ الْمُخْبَرَ. وَيَلْحَقُ بِهِمَا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ الَّذِي لَمْ يُجَرَّبْ عَلَيْهِ الْكَذِبُ.

وَقِيَاسُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ الْكَعْبَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ وَنَحْنُ إنَّمَا نَعْتَمِدُ خَبَرَهُ إنْ كَانَ عَنْ فِعْلِ نَفْسِهِ وَمِمَّنْ أَفْتَى بِنَحْوِ مَا ذَكَرْته: السَّيِّدُ السَّمْهُودِيُّ - شَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى سَعْيَهُ - وَكَذَا شَيْخُهُ الْمُنَاوِيُّ، وَمُلَخَّصُ عِبَارَتِهِ (الْأَظْهَرُ قَبُولُ خَبَرِ الْفَاسِقِ فَإِنَّهُ الْأَصْلَحُ لِلنَّاسِ وَكَمَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ بِتَذْكِيَةِ شَاةٍ وَبِعَدَمِ الْمَاءِ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ) وَفِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْجُمْهُورِ يُقْبَلُ خَبَرُ الصَّبِيِّ فِيمَا طَرِيقُهُ الْمُشَاهَدَةُ فَالْفَاسِقُ مِثْلُهُ، وَقِيَاسُ صِحَّةِ الْقُدْوَةِ بِالْفَاسِقِ صِحَّةُ اعْتِمَادِ إخْبَارِهِ عَنْ طَهَارَتِهِ عَنْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ اعْتِمَادُ خَبَرِ الْفَاسِقِ عَنْ حَاجَتِهِ وَتَوَقَانِهِ إلَى النِّكَاحِ حَتَّى يَجِبَ إعْفَافُهُ، فَحِينَئِذٍ الْأَصَحُّ مَا قُلْنَاهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ وَلِمَا فِي الْبَحْثِ عَنْ حَالِ الْمُطَهَّرِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَلِمَا يَشْهَدُ لَهُ مِنْ مَنْقُولِ الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ مَا يَشْهَدُ لَهُ نَظَرٌ فَقَدْ قَوِيَ بِانْضِمَامِهِ إلَى غَيْرِهِ.

وَقَدْ اُسْتُثْنِيَ فِي الْخَادِمِ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ بِنَجَاسَةِ الْإِنَاءِ مَا لَوْ كَانَ التَّنْجِيسُ مِنْ فِعْلِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: بُلْت فِي الْإِنَاءِ، وَالتَّطْهِيرُ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ لَعَلَّهُ وَجْهٌ ضَعِيفٌ اهـ.

وَقَوْلُهُ: (وَبِعَدَمِ الْمَاءِ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ) لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ وَالْوَجْهُ خِلَافُهُ بَلْ لَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ الْمُخْبِرِ بِالْمَاءِ أَوْ بِفَقْدِهِ إلَّا إنْ كَانَ ثِقَةً. وَقَوْلُهُ: وَفِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْجُمْهُورِ. .. إلَخْ هُوَ أَعْنِي مَا فِيهِ ضَعِيفٌ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الصَّبِيِّ إلَّا فِي نَحْوِ دُخُولِ الدَّارِ وَإِيصَالِ الْهَدِيَّةِ وَالدَّعْوَةِ لِلْوَلِيمَةِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - عَنْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: (مِقْدَارُ الْقُلَّتَيْنِ بِالْمِسَاحَةِ فِي الْمُرَبَّعِ ذِرَاعٌ وَرُبُعٌ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا وَفِي الْمُدَوَّرِ ذِرَاعَانِ طُولًا وَذِرَاعٌ عَرْضًا وَعُمْقًا.

وَفِي شَرْحِ الرَّوْضِ الْمُرَادُ بِالطُّولِ فِي الْمُدَوَّرِ الْعُمْقُ، وَبِالْعَرْضِ فِيهِ مَا بَيْنَ حَائِطَيْ الْبِئْرِ مِنْ سَائِرِ الْجَوَانِبِ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هَلْ يُسَاوِي الْمُدَوَّرُ الْمُرَبَّعَ فِي الْمِقْدَارِ أَوْ يَتَفَاوَتُ مَا بَيْنَهُمَا؟ وَإِنْ تَفَاوَتَ فَهَلْ التَّفَاوُتُ قَدْرُ مَا يُعْفَى عَنْهُ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ يَتَفَاوَتَانِ لَكِنْ بِالْقَدْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، وَبَيَانُهُ يُعْلَمُ مِنْ سَوْقِ عِبَارَتِي فِي شَرْحِ الْعُبَابِ مَعَ فَوَائِدَ أُخْرَى نَفِيسَةٍ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا، وَهِيَ: وَهُمَا بِالْمِسَاحَةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُرَبَّعِ قَالَ فِي الْكِفَايَةِ: (الْمُسْتَوِي الْأَضْلَاعِ أَيْ الْأَبْعَادِ الثَّلَاثَةِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ، ذِرَاعٌ وَرُبُعٌ طُولًا وَذِرَاعٌ وَرُبُعٌ عَرْضًا وَذِرَاعٌ وَرُبُعٌ عُمْقًا كَمَا فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ يَظْهَرُ بِأَنْ يُكَعَّبَ مَا سَبَقَ بِأَنْ يُضْرَبَ الطُّولُ فِي الْعَرْضِ وَالْحَاصِلُ فِي الْعُمْقِ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يُبْسَطَ كُلًّا مِنْهَا أَرْبَاعًا لِلْكَسْرِ الزَّائِدِ عَلَى الذِّرَاعِ وَهُوَ الرُّبُعُ فَبَسْطُ الطُّولِ خَمْسَةُ أَرْبَاعٍ تَضْرِبُهَا فِي خَمْسَةِ الْعَرْضِ ثُمَّ الْحَاصِلُ فِي خَمْسَةِ الْعُمْقِ يَحْصُلُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ رُبُعًا يَخُصُّ كُلَّ رُبُعٍ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ، ثُمَّ اجْعَلْ هَذَا مِيزَانًا تَنْسُبُ إلَيْهِ وَتَقِيسُ عَلَيْهِ مَا شِئْت فَتُكَعِّبُهُ بَعْدَ الْبَسْطِ أَرْبَاعًا أَيْضًا كَمَا صَنَعْت فِي الْمِيزَانِ لِتَتَّضِحَ لَك النِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا.

فَإِنْ سَاوَاهَا فَقُلَّتَانِ وَإِلَّا فَانْقُصْ أَوْ زِدْ لَائِقًا بِالْحَالِ ثُمَّ بَيَّنْت فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّرَاعِ هُنَا ذِرَاعُ الْآدَمِيِّ، وَأَنَّهُ شِبْرَانِ تَقْرِيبًا وَأَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ عَلَى مُرَجَّحُ النَّوَوِيِّ فِي رِطْلِ بَغْدَادَ فَقَطْ أَوْ عَلَى مُرَجَّحِ الرَّافِعِيِّ أَيْضًا وَأَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنَّهُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا يَسِيرٌ، ثُمَّ بَيَّنْت مَا يَتَعَلَّقُ بِمُنْحَرِفِ الْأَضْلَاعِ وَمَا وَقَعَ لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْوَهْمِ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ مَبْسُوطٍ ثُمَّ قُلْت: وَالْعِبْرَةُ فِي الْمُدَوَّرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَنْ الْمُهَنْدِسِينَ وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْعِجْلِيِّ وَغَيْرُهُمَا ذِرَاعَانِ طُولًا أَيْ عُمْقًا بِذِرَاعِ النَّجَّارِ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ أَخْذًا مِنْ كَوْنِ الْقَاضِي حَكَاهُ عَنْ الْمُهَنْدِسِينَ وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لِمَا يَأْتِي. قَالَ شَيْخُنَا أَيْ زَكَرِيَّا رحمه الله: وَهُوَ بِذِرَاعِ الْآدَمِيِّ ذِرَاعٌ وَرُبُعٌ تَقْرِيبًا وَقَالَ غَيْرُهُ: اعْتَبَرْته فَوَجَدْته ذِرَاعًا وَنِصْفًا اهـ.

وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ كَوْنِهِ ذِرَاعًا وَنِصْفًا يُؤَدِّي إلَى زِيَادَةِ ذَلِكَ عَلَى مِقْدَارِ الْقُلَّتَيْنِ بِكَثِيرٍ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي قَرِيبًا، ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ أَشَارَ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ إلَى أَنَّهُ ذِرَاعٌ وَثُلُثٌ وَبِهِ يَتَأَيَّدُ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ. وَذِرَاعُ بِذِرَاعِ الْآدَمِيِّ الْمَذْكُورُ فِي الْمُرَبَّعِ عَرْضًا وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ الذِّرَاعُ فِي الْكُلِّ وَاحِدًا قَالَ شَيْخُنَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الذِّرَاعُ فِي طُولِ الْمُدَوَّرِ، أَيْ عُمْقِهِ، وَطُولِ الْمُرَبَّعِ وَاحِدًا مِمَّا مَرَّ؛ لَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الطُّولُ فِي الْمُدَوَّرِ ذِرَاعَيْنِ وَنِصْفًا تَقْرِيبًا إذَا كَانَ الْعَرْضُ ذِرَاعًا، وَجْهُهُ أَنْ يُبْسَطَ كُلٌّ مِنْ الْعَرْضِ وَمُحِيطِهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهِ وَسُبْعٌ وَالطُّولُ أَرْبَاعًا لِوُجُودِ مَخْرَجِهَا فِي الْقُلَّتَيْنِ فِي الْمُرَبَّعِ ثُمَّ يُضْرَبُ نِصْفُ

ص: 22

الْعَرْضِ وَهُوَ اثْنَانِ فِي نِصْفِ الْمُحِيطِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَسُبْعَانِ تَبْلُغُ اثْنَيْ عَشَرَ وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعٍ وَهُوَ بَسْطُ الْمُسَطَّحِ فَيُضْرَبُ فِي بَسْطِ الطُّولِ وَهُوَ عَشَرَةٌ تَبْلُغُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ رُبْعًا مَبْلَغُ مِقْدَارِ مَسْحِ الْقُلَّتَيْنِ فِي الْمُرَبَّعِ وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ رُبُعًا مَعَ زِيَادَةِ خَمْسَةِ أَسْبَاعِ رُبُعٍ، وَبِهَا حَصَلَ التَّقْرِيبُ فَلَوْ كَانَ الذِّرَاعُ فِي طُولِ الْمُدَوَّرِ وَالْمُرَبَّعِ وَاحِدًا، وَطُولُ الْمُدَوَّرِ ذِرَاعَيْنِ لَكَانَ الْحَاصِلُ مِائَةَ رُبُعٍ وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعِ رُبُعٍ، وَهِيَ أَنْقَصُ مِنْ مِقْدَارِ مَسْحِ الْقُلَّتَيْنِ بِخُمُسٍ تَقْرِيبًا اهـ. وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ.

نَقَلَ الْقَمُولِيُّ عَنْ الْعِجْلِيّ أَنَّهُ فِي الْمُدَوَّرِ ذِرَاعٌ فِي عُمْقِ ذِرَاعَيْنِ وَهُوَ تَحْرِيفٌ لَا يُمْكِنُ صِحَّتُهُ فَإِنَّ الْمُرَبَّعَ إذَا كَانَ ذِرَاعًا وَرُبُعًا طُولًا وَعَرْضًا كَذَلِكَ كَانَ دَوْرُهُ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ فَإِذَا كَانَتْ فِي عُمْقِ ذِرَاعٍ وَرُبُعٍ كَانَتْ سِتَّةً وَرُبُعًا، وَالْمُدَوَّرُ إذَا كَانَ عَرْضُهُ ذِرَاعًا كَانَ دَوْرُهُ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ وَسُبْعَ ذِرَاعٍ فَإِذَا كَانَ عُمْقَ ذِرَاعَيْنِ كَانَ مَجْمُوعُهُ سِتَّةَ أَذْرُعٍ وَسُبْعَيْ ذِرَاعٍ، وَالسُّبْعَانِ أَكْثَرُ مِنْ الرُّبُعِ اهـ.

فَاعْتَمَدَ فِي التَّغْلِيطِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ آخِرًا مِنْ أَنَّ السُّبْعَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الرُّبُعِ، وَفَاتَهُ أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا لَا نَظَرَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ تَقْرِيبِيٌّ كَمَا تَقَرَّرَ عَلَى أَنَّهُ جَزَمَ بِهَذَا الَّذِي غَلِطَ فِيهِ الْقَمُولِيُّ قَبْلَ ذَلِكَ وَنَقَلَ ثَانِيًا عَنْ الْعِجْلِيّ كَذَلِكَ وَكَانَ سَبَبُ الِاشْتِبَاهِ أَنَّهُ عَبَّرَ فِيمَا جَزَمَ وَنَقَلَهُ عَنْ الْعِجْلِيّ بِالطُّولِ وَفِيمَا نَقَلَهُ عَنْ الْقَمُولِيّ بِالْعُمْقِ فَظُنَّ التَّخَالُفُ، وَإِنْ كَانَ صَرَّحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالطُّولِ الْعُمْقُ وَبِالْعَرْضِ مَا بَيْنَ حَائِطَيْ الْبِئْرِ مِنْ سَائِرِ الْجَوَانِبِ، وَوَقَعَ هَذَا التَّوَهُّمُ لِلرَّيْمِيِّ فِي تَفْقِيهِهِ وَسُقْت عِبَارَتَهُ وَعِبَارَةَ الْجَوَاهِرِ مَعَ اخْتِلَافِ نُسَخِهَا، وَبَسَطْت مَا فِي ذَلِكَ وَغَيْرَهُ مِمَّا لَا حَاجَةَ لَنَا بِبَسْطِهِ هُنَا وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِنَفَاسَتِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ بَسْطَ الْمُدَوَّرِ كَبَسْطِ الْمُرَبَّعِ إلَّا أَنَّ الْمُدَوَّرَ يَزِيدُ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ مِمَّا يُعْفَى عَنْهُ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا إذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمَا عَلَى الْعُضْوِ مِنْ زَعْفَرَانٍ وَنَحْوِهِ وَلَمْ يَمْنَعْ وُصُولَ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرِ هَلْ يَصِحُّ الْوُضُوءُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْمَنْقُولُ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَضُرُّ تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِمَا عَلَى الْعُضْوِ مِنْ مُخَالِطٍ كَزَعْفَرَانٍ أَوْ سِدْرٍ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ كَمَا بَسَطْت ذَلِكَ وَحَرَّرْته فِي شَرْحَيْ الْعُبَابِ وَالْإِرْشَادِ وَغَيْرِهِمَا وَوَقَعَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فَاحْذَرْهُ.

(وَسُئِلَ) - فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَمَّنْ وَضَعَ يَدَهُ فِي إنَاءٍ بِنِيَّةِ الِاغْتِرَافِ فَانْغَسَلَ ظَاهِرُهَا وَبَاطِنُهَا فِيهِ ثُمَّ خَرَجَ بِالْمَاءِ الَّذِي فِيهَا وَغَسَلَ بِهِ سَاعِدَهُ فَهَلْ يَرْتَفِعُ حَدَثُ ظَاهِرِ يَدِهِ بِانْغِسَالِهِ فِي الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِهَا أَوْ لَا بُدَّ مِنْ جَرَيَانِ الْمَاءِ الَّذِي فِيهَا عَلَى ظَاهِرِهَا بَعْدَ خُرُوجِهَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا بُدَّ مِمَّا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ مَنْ لَازَمَ نِيَّةَ الِاغْتِرَافِ مَنَعَهَا لِارْتِفَاعِ حَدَثِ الْعُضْوِ الْمُلَاقِي لِلْمَاءِ فِيهِ، فَحِينَئِذٍ لَا تَطْهُرُ الْيَدُ بِمَا فِيهَا إلَّا بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ الْمَاءِ، وَالْمَاءُ بَعْدَ خُرُوجِهَا إنَّمَا يُلَاقِي بَاطِنَهَا فَلَا بُدَّ مِنْ إمْرَارِهِ عَلَى ظَاهِرِهَا كَبَاطِنِهَا يَرْتَفِعُ فِي الْمَاءِ فَلَا يُحْتَاجُ بَعْدَ خُرُوجِهَا إلَى إمْرَارِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ لَهُ غَسْلُ سَاعِدِهَا بِمَا فِيهَا عَلَى الْمَنْقُولِ الْمُعْتَمَدِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّا لَوْ كَانَ بِكَفَّيْهِ نَجَاسَةٌ وَغَسَلَهُمَا مَعًا هَلْ يَطْهُرَانِ أَمْ لَا بُدَّ لِطَهَارَتِهِمَا مِنْ غَسْلِ كُلِّ كَفٍّ مُنْفَرِدًا لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ؟ إذْ حُكْمُ الْخَبَثِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَعَدَمِهِ حُكْمُ الْحَدَثِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَفِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ أَنَّ الْمَاءَ إذَا جَرَى مِنْ عُضْوِ الْمُتَوَضِّئِ إلَى عُضْوٍ آخَرَ صَارَ مُسْتَعْمَلًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجْهٌ شَاذٌّ مَحْكِيٌّ فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ مِنْ الْبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِأَنَّ الْيَدَيْنِ كَعُضْوٍ اهـ. كَلَامُ الرَّوْضَةِ.

لَكِنْ فِي مُهِمَّاتِ الْإِسْنَوِيِّ مَا لَفْظُهُ: (قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَاءَ إذَا طَهَّرَ أَحَدَ الْيَدَيْنِ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ إلَى تَطْهِيرِ الْأُخْرَى عَلَى الْمَعْرُوفِ فَإِذَا اسْتَحْضَرْت مَا قَالُوهُ وَجَدْته هُنَا مُشِقًّا يَقَعُ فِيهِ كُلُّ مُغْتَرِفٍ وَلَا يَمُرُّ بِالْبَالِ فَتَأَمَّلْهُ وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا هُنَا يُوجِبُ مَا تَقْتَضِيه تِلْكَ الْمَقَالَةُ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مُخَالِفًا وَالصَّوَابُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ هُنَا اهـ.

فَمَا فِي الْمُهِمَّاتِ دَالٌّ عَلَى الطَّهَارَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا فَهَلْ هُوَ كَذَلِكَ؟ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ مَحْمُولًا عَلَى غَيْرِ صُورَةِ الْكَفَّيْنِ أَوْ يَكُونُ ضَعِيفًا.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنْ صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الْكَفَّيْنِ الْمُتَنَجِّسَيْنِ مَعًا، وَلَمْ يَتَقَاطَرْ مِنْ مَاءِ أَحَدِهِمَا الْمُسْتَعْمَلِ عَلَى الْأُخْرَى شَيْءٌ ارْتَفَعَ خَبَثُهُمَا إذْ لَا مُوجِبَ لِلِاسْتِعْمَالِ حِينَئِذٍ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الْمَاءَ صُبَّ عَلَيْهِمَا مَعًا مَعَ انْفِصَالِ كُلٍّ عَنْ الْأُخْرَى وَأَمَّا إذَا صُبَّ عَلَيْهِمَا مَعًا وَإِحْدَاهُمَا

ص: 23

أَسْفَلُ مِنْ الْأُخْرَى فَجَرَى الْمَاءُ عَلَى الْعُلْيَا ثُمَّ عَلَى السُّفْلَى فَلَا يُطَهِّرُ إلَّا الْعُلْيَا دُونَ السُّفْلَى؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْوَاصِلَ إلَيْهَا مُسْتَعْمَلٌ لِانْفِصَالِهِ عَنْ مَحَلِّهِ وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْيَدَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ عُضْوٌ مُسْتَقِلٌّ.

وَزَعْمُ الْوَجْهِ الشَّاذِّ أَنَّهُ لَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا فَكَانَا كَجُنُبٍ بَرَدَ كَمَا بَسَطْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ بِأَنَّ التَّرْتِيبَ إنَّمَا سَقَطَ ثَمَّ لِلْعُسْرِ فَلِرِعَايَتِهِ جَعَلَ بَدَنَهُ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ مُطْلَقًا، وَأَمَّا سُقُوطُهُ هُنَا فَهُوَ لِاتِّحَادِ الِاسْمِ لِلْمَشَقَّةِ، وَاتِّحَادُهُ لَا دَخَلَ لَهُ فِي جَعْلِ الِانْفِصَالِ الْحِسِّيِّ كَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْمَشَقَّةِ. وَأَنْتَ مَعَ هَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ فِي الْفَرْقِ خَبِيرٌ بِقُوَّةِ هَذَا الْوَجْهِ لِقُوَّةِ قِيَاسِهِ فَدَعْوَى الرَّوْضَةِ فِيهَا شُذُوذُهُ فِيهَا نَظَرٌ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ شَاذٌّ نَقْلًا لَا مَعْنًى وَلَا يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ قَوْلُ الْقَاضِي وَتَبِعَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ لَوْ كَانَتْ نَجَاسَةٌ بِمَحَلَّيْنِ فَمَرَّ الْمَاءُ عَلَى أَعْلَاهُمَا ثُمَّ عَلَى الْأُخْرَى طَهُرَا؛ لِأَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ كَمَا بَيَّنْته فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَكُونَا عَلَى بَدَنٍ وَاحِدٍ وَيَجْرِي الْمَاءُ إلَيْهِمَا عَلَى الِاتِّصَالِ وَكَذَا إنْ انْفَصَلَ وَكَانَ الْمَحَلَّانِ قَرِيبَيْنِ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ التَّقَاذُفُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ أَخْذًا مِمَّا قَالُوهُ فِي الْجُنُبِ.

أَمَّا إذَا تَبَاعَدَا وَلَمْ يَجْرِ عَلَى الِاتِّصَالِ فَإِنَّ الْخَبَثَ لَا يَرْتَفِعُ لِأَنَّ الْمَاءَ صَارَ مُسْتَعْمَلًا بِانْفِصَالِهِ الْمَذْكُورِ، وَانْفِصَالُهُ مِنْ الْيَدِ إلَى الْأُخْرَى كَهَذَا الِانْفِصَالِ الضَّارِّ لَا كَالِانْفِصَالِ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَتَأَمَّلْهُ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ السَّائِلُ عَنْ الْمُهِمَّاتِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ عَلَى عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ الَّتِي سَاقَهَا السَّائِلُ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عَلَى قَوْلِهَا فِي بَابِ الْوُضُوءِ ثُمَّ مَنْ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ طَهَارَتَهَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ قَبْلِ الْغَسْلِ فَقَالَ عَقِبَ ذَلِكَ فِيهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا:

أَنَّ تَعْبِيرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَمْ يَتَيَقَّنْ طَهَارَتَهَا يَدْخُلُ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ وَهِيَ تَيَقُّنُ النَّجَاسَةِ وَظَنُّهَا وَتَوَهُّمُهَا، وَاسْتِوَاءُ الْأَمْرَيْنِ وَدُخُولُهَا صَحِيحٌ إلَّا الْقِسْمَ الْأَوَّلَ ثُمَّ قَالَ: الْأَمْرُ الثَّانِي قَدْ سَبَقَ فِي الطَّهَارَةِ أَنَّ الْمَاءَ إذَا طَهَّرَ إحْدَى الْيَدَيْنِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ، وَهُوَ كَلَامٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَأَقَرُّوهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ كَلَامَهُ إنْ كَانَ فِي الْخَبَثِ بِأَنْ كَانَتْ يَدَاهُ نَجِسَتَيْنِ لَمْ يَخْلُ إمَّا أَنْ يَغْتَرِفَ بِيَدِهِ إلَى يَدِهِ الْأُخْرَى مِنْ مَاءٍ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ طَهُرَتْ الْيَدُ بِغَمْسِهَا فِيهِ بِشَرْطِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْمَاءُ كُلُّهُ صَارَ نَجِسًا فَلَمْ يَصِحَّ مَا قَالَهُ فِي صُورَةِ الْخَبَثِ فَإِنْ قُلْتَ يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِأَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي الْكَثِيرِ وَلَا تَطْهُرُ لِبَقَاءِ وَصْفِ النَّجَاسَةِ السَّهْلِ الْإِزَالَةُ قُلْتُ هَذَا نَادِرٌ وَلَا مَشَقَّةَ فِيهِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ.

وَإِنْ كَانَ فِي الْحَدَثِ بِأَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ فَرْضَ ذَلِكَ فِي الِاغْتِرَافِ بِيَدِهِ إلَى الْأُخْرَى بَعْدَ كَمَالِ غَسْلِ الْوَجْهِ لَمْ يَخْلُ أَيْضًا إمَّا أَنْ يَغْتَرِفَ مِنْ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ بِدُخُولِهَا فِيهِ فَالْمَاءُ الَّذِي فِيهَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فَيَصِحُّ أَنْ تَطْهُرَ بِهِ الْأُخْرَى، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي بِأَنْ لَمْ يَنْوِ الِاغْتِرَافَ أَوْ نَوَاهُ فَمَا أَخَذَهُ بِيَدِهِ يُطَهِّرُهَا وَلَا يَرْفَعُ حَدَثَ الْأُخْرَى لَوْ نَقَلَهُ إلَيْهَا، ثُمَّ إنْ كَانَ نَوَى الِاغْتِرَافَ احْتَاجَ إلَى غَرْفَةٍ ثَانِيَةٍ لِيَدِهِ الْأُخْرَى إذَا لَمْ يَغْتَرِفْ بِهَا لِاسْتِعْمَالِ مَاءِ الْأُولَى وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي بَحْثِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا هُنَا مَا يُخَالِفُهُ أَصْلًا لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرُوهُ هُنَا أَنَّ إدْخَالَ الْيَدَيْنِ فِي الْإِنَاءِ مَعَ عَدَمِ تَيَقُّنِ طُهْرِهِمَا مَكْرُوهٌ وَإِنْ نَجِسَ الْمَاءُ فِي صُورَةِ تَيَقُّنِ النَّجَاسَةِ، وَاسْتِشْكَالُ الْإِسْنَوِيِّ رَدَّهُ جَمَاعَةٌ كَمَا بَسَطْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ. فَلَيْسَ فِي هَذَا اغْتِرَافٌ.

وَلَا مُخَالَفَةَ لِمَا ذَكَرُوهُ فِي بَحْثِ الْمُسْتَعْمَلِ مِنْ أَنَّ إحْدَى الْيَدَيْنِ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْأُخْرَى فِي الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ فَانْدَفَعَ قَوْلُهُ، وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا هُنَا. . . إلَخْ وَبَانَ وَاتَّضَحَ أَنَّهُ لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَأَنَّ التَّصْوِيبَ وَالِاعْتِرَاضَ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِمَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ، لِأَنَّ جَمَاعَةً نَقَلُوا كَلَامَ الْإِسْنَوِيِّ هَذَا وَسَكَتُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ عَجِيبٌ لِوُضُوحِ فَسَادِهِ كَمَا يَظْهَرُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ فَإِنْ قُلْتَ قَدْ يَقَعُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ يَغْتَرِفُ بِيَدِهِ الْمُتَنَجِّسَةِ مِنْ الْقَلِيلِ لِتَطْهِيرِ الْأُخْرَى وَلِبَعْضِهِمْ أَنْ يَغْتَرِفَ مِنْ الْقَلِيلِ بِلَا نِيَّةِ اغْتِرَافٍ لِتَطْهِيرِ يَدِهِ الْأُخْرَى قُلْتُ: لَا يَسَعُ الْإِسْنَوِيُّ أَنْ يُصَوِّبَ فِي هَذِهِ مَا يُوهِمُهُ كَلَامُهُمْ هُنَا أَنَّ هَذَا الْمَاءَ يُطَهِّرُ يَدَهُ الْأُخْرَى وَلَمْ يُبَالُوا بِهَذَا الْإِيهَامِ لَوْ فُرِضَ وُجُودُهُ وَإِلَّا فَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا إيهَامَ كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْته؛ لِأَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الْمُسْتَعْمَلِ، وَمِثْلُ هَذَا السَّفْسَافِ لَا يُورَدُ عَلَى الْأَئِمَّةِ.

فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ يَقَعُ أَيْضًا أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُدْخِلُ يَدَهُ بِنِيَّةِ الِاغْتِرَافِ فَيَأْخُذُ بِهَا الْمَاءَ لِتَطْهِيرِ الْأُخْرَى وَهُوَ لَا يُطَهِّرُهَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا بِرَفْعِهِ حَدَثَهَا قُلْتُ: لَا يَصِحُّ فَرْضُ كَلَامِ الْإِسْنَوِيُّ فِي هَذِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ

ص: 24