الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ قَرِيبًا مِنْ الْعِلْمِ، وَقَوْلُ الرَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ:
(أَوْ ظَنَّهُ ظَنًّا مُؤَكَّدًا) يُشِيرُ لِذَلِكَ، وَاعْتِبَارُهُمْ لِجَوَازِ الْقَذْفِ الطَّرَفَ الْمَذْكُورَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي مُطْلَقُ الظَّنِّ، بَلْ ظَنٌّ خَاصٌّ غَالِبٌ وَهُوَ يَنْشَأُ عَنْ الطَّرَفِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ الرُّجْحَانِ اهـ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَهُوَ حَسَنٌ بَالِغٌ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه قَوْلُهُمْ فِي بَابِ الْآنِيَةِ: لَوْ تَحَيَّرَ الْأَعْمَى قَلَّدَ بَصِيرًا فَإِنْ فَقَدَ الْبَصِيرَ تَيَمَّمَ الْأَعْمَى، مَا ضَابِطُ الْفَقْدِ هُنَا؟ هَلْ يُضْبَطُ بِمَا قَالُوهُ فِي التَّيَمُّمِ فِي فَقْدِ الْمَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ وَمَا هُوَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنَّ الَّذِي يُتَّجَهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَقْدِ فِيهِ وَفِي نَظَائِرِهِ كَالْوَقْتِ وَالْقِبْلَةِ عَدَمُ وُجُودِ مُخْبِرٍ لَهُ حَالَةَ التَّحَيُّرِ فَلَا يُكَلَّفُ طَلَبَهُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَالُوهُ فِي الْمَاءِ بِأَنَّ الْغَالِبَ فِي طَلَبِ الْمَاءِ أَنَّهُ يُحَصِّلُهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَرْقًا بَيْنَ تَوَهُّمِ الْمَاءِ وَتَوَهُّمِ الْبُرْءِ.
وَلَيْسَ الْغَالِبُ فِي طَلَبِ الْمُقَلِّدِ تَحْصِيلَهُ بِالْوَصْفِ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهُ بِفَرْضِ وُجُودِهِ قَدْ يَتَحَيَّرُ أَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ حُصُولِ مَقْصُودِهِ بِالطَّلَبِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ وَاكْتُفِيَ فِي تَيَمُّمِهِ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ وُجُودِهِ حَالَةَ التَّحَيُّرِ، نَعَمْ يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ إنْسَانًا حِينَئِذٍ سَأَلَهُ وَهَلْ يَجِبُ سُؤَالُهُ احْتِيَاطًا أَوْ لَا يَجِبُ؟ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَحَيَّرُ أَيْضًا كُلٌّ مُحْتَمَلٌ وَيُتَّجَهُ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ حَيْثُ لَا مَشَقَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَمْ يُؤَخِّرْ إلَى أَنْ يَضِيقَ الْوَقْتُ، لَعَلَّهُ يَجِدُ مَنْ يُقَلِّدُهُ؟ قُلْت: فِي صَبْرِهِ لِذَلِكَ مَشَقَّةٌ بَلْ وَخَشْيَةُ فَوَاتٍ بِطَرْقِ مَوْتٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلَمْ يُكَلَّفْهُ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ بَحْثُ مَنْ بَحَثَ فِي الْبَصِيرِ الْمُتَحَيِّرِ وَفَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ وَنَحْوِهِمَا الصَّبْرَ إلَى ضِيقِ الْوَقْتِ ضَعِيفًا كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَغَيْرِهِ. فَإِنْ قُلْت: الْبُرْءُ فِعْلُ اللَّهِ فَكَيْفَ قِيلَ: بِوُجُوبِ طَلَبِهِ أَوْ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ، أَيْ بَلْ يَنْدُبُهُ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ، قُلْت: الْمُرَادُ بِطَلَبِ الْبُرْءِ الْكَشْفُ عَنْهُ هَلْ وُجِدَ أَمْ لَا وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ فِعْلَ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ هُوَ إيجَادُ الْبُرْءِ لَا هُوَ، بَلْ هُوَ أَثَرُهُ، وَكَذَلِكَ وُجُودُ الْمَاءِ فَإِيجَادُهُ فِعْلُ اللَّهِ، وَوُجُودُهُ أَثَرُ فِعْلِهِ فَكَمَا قَالُوا فِيهِ بِالطَّلَبِ إثْبَاتًا وَنَفْيًا، فَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْبُرْءِ.
[بَابُ الِاسْتِنْجَاءِ]
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ كَرَاهَةِ الْبَوْلِ تَحْتَ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ هَلْ تَخْتَصُّ بِمَا إذَا كَانَ الْغَالِبُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَقَعُ عَلَى مَكَانِهَا قَبْلَ الثَّمَرَةِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِأَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ قَدْ ذَكَرْت فِي شَرْحِي لِلْإِرْشَادِ وَمُخْتَصَرِهِ مَا يُصَرِّحُ بِهِ حَيْثُ قُلْت وَيُكْرَهُ قَضَاءُ الْحَاجَةِ تَحْتَ شَجَرٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثْمِرَ وَلَوْ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الثَّمَرَةِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّلْوِيثِ عِنْدَ الْوُقُوعِ فَتَعَافُهَا الْأَنْفُسُ وَمِنْهُ يُؤْخَذُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَأْتِي تَحْتَهَا مَا يُزِيلُ ذَلِكَ قَبْلَ الثَّمَرَةِ فَلَا كَرَاهَةَ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِسْنَوِيُّ بَحْثًا فَقَالَ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْرَهَ تَحْتَ شَجَرَةٍ تُسْقَى قَبْلَ طُلُوعِ الثَّمَرَةِ اهـ.
وَوَجْهُهُ حُصُولُ الْأَمْنِ مِنْ التَّلْوِيثِ حِينَئِذٍ كَمَا تَقَرَّرَ وَيَكْفِي فِي حُصُولِهِ اطِّرَادُ الْعَادَةِ بِذَلِكَ، فَاسْتِبْعَادُ بَعْضِهِمْ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي جِهَةٍ لَا يَحْصُلُ السَّقْيُ مِنْهَا أَوْ بِطَرْقِ مَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ لِمَوْضِعِ الْبَوْلِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ إذْ الصُّورَةُ أَنَّهُ يَغْلِبُ عَادَةً مَجِيءُ الْمَاءِ إلَى مَحَلِّ الْبَوْلِ فَيُطَهِّرُهُ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَحْرُمْ لِأَنَّ التَّنْجِيسَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، وَبَحْثُ الرَّافِعِيِّ أَنَّ كَرَاهَةَ الْبَوْلِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجِفُّ وَقَدْ يَخْفَى فَلَا يُحْتَرَزُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْغَائِطِ اهـ. حَاصِلُ مَا ذَكَرْته فِي هَذَا الْمَحَلِّ عَنْ الشَّرْحَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَبِهِ يَتَّضِحُ الْجَوَابُ عَمَّا فِي السُّؤَالِ، ثُمَّ تَعْطِيلُ الرَّافِعِيِّ كَوْنَ كَرَاهَةِ الْبَوْلِ أَشَدَّ بِمَا ذُكِرَ قَدْ يُنَازَعُ فِيهِ وَيُقَالُ: بَلْ كَرَاهَةُ الْغَائِطِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ الْعَافِيَةَ فِيهِ أَشَدُّ أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النُّفُوسِ لَا تَعَافُ أَكْلَ الَّذِي غُسِلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْبَوْلِ، وَتَكْرَهُ أَكْلَ مَا تَلَوَّثَ بِالْغَائِطِ وَإِنْ غُسِلَ وَأُمْعِنَ فِي غَسْلِهِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِمَا صُورَتُهُ قَوْلُهُمْ: إذَا هَبَّتْ رِيحٌ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ أَوْ شِمَالِهَا جَازَ مُحَاذَاتُهَا مُشْكِلٌ، فَإِنَّ مُحَاذَاةَ الْقِبْلَةِ حَرَامٌ، وَمُحَاذَاةَ الرِّيحِ مَكْرُوهَةٌ، وَلَوْ فِي حَالِ هُبُوبِهَا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَعِبَارَتُهُ:
(يُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الرِّيحِ بِالْبَوْلِ فَكَيْفَ جَازَ ارْتِكَابُ الْحَرَامِ لِاجْتِنَابِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنَّمَا جَازَ الِاسْتِقْبَالُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَهُ يَعُودُ إلَى ضَرَرٍ يَلْحَقُ الْمُكَلَّفَ، وَهُوَ عَوْدُ الرَّشَاشِ عَلَيْهِ الْمُنَجِّسِ لِبَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ؛ فَسَقَطَ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ، وَقَوْلُ الْمَجْمُوعِ: مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ يُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ عَوْدُ رَشَاشٍ يُنَجِّسُهُ وَإِلَّا حُرِّمَ
كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ الِاسْتِنْجَاءِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ هَلْ يَحْرُمُ أَوْ لَا؟ كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ الْمُدَرِّسِينَ وَفَعَلَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُمْ: الِاسْتِتَارُ أَدَبٌ وَيَحْصُلُ وَلَوْ بِإِرْخَاءِ الذَّيْلِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ لِذَلِكَ لِتَنَجُّسِ مَاءِ الْبُيُوتِ بِمَا تُلْقِيه الْفِئْرَانُ فِي حِيضَانِهَا مَعَ قِلَّةِ مَائِهَا، وَلِأَنَّهُ يَبْعُدُ مِنْ النَّاسِ النَّظَرُ إلَى عَوْرَةِ الْمُسْتَنْجِي كَاشِفًا لِعَوْرَتِهِ بَلْ كُلُّهُمْ يَغُضُّونَ عَنْهُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ النَّظَرِ إلَيْهِ فَالْحُرْمَةُ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْهِ فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟ اُبْسُطُوهُ مَعَ دَلِيلِهِ.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ يَحْرُمُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالِاسْتِنْجَاءِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي بَابِ جَوَازِ الِاغْتِسَالِ عُرْيَانًا فِي الْخَلْوَةِ، وَعِبَارَتُهُ: (يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ فِي الْخَلْوَةِ، وَذَلِكَ كَحَالَةِ الِاغْتِسَالِ وَحَالَةِ الْبَوْلِ وَحَالِ مُبَاشَرَةِ الزَّوْجَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ فِيهِ التَّكَشُّفُ فِي الْخَلْوَةِ، وَأَمَّا بِحَضْرَةِ النَّاسِ فَيَحْرُمُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي كُلِّ ذَلِكَ اهـ.
فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ - تَجِدْهُ صَرِيحًا فِي الْمُدَّعِي، وَأَبْلُغَ رَادٍّ عَلَى مَنْ زَعَمَ إبَاحَةَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ إطْلَاقُهُمْ تَحْرِيمَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَوُجُوبَ سَتْرِهَا وَلَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْكَشْفَ فِي الْخَلْوَةِ لِحَاجَةٍ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِعْيَارُ الْعُمُومِ، فَنَتَجَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَلَامَهُمْ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَلَا يُقَالُ أَنَّهُ مِنْ تَفَرُّدَاتِهِ، وَأَمَّا عَدُّهُمْ السَّتْرَ مِنْ الْأَدَبِ الْمُسْتَحَبِّ لِقَاضِي الْحَاجَةِ، فَمُرَادُهُمْ بِهِ السَّتْرُ فِي الْخَلْوَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا مَرَّ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ وَالْأَصْحَابِ، فَإِذَا قَضَى الْحَاجَةَ خَالِيًا بِالصَّحْرَاءِ وَنَحْوِهَا سُنَّ لَهُ السَّتْرُ بِشَرْطِهِ مِنْ الِارْتِفَاعِ وَالْقُرْبِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَكْفِي فِيهِ إرْخَاءُ الذَّيْلِ، وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُمْ تَعْلِيلُهُمْ النَّدْبَ بِقَوْلِهِمْ؛ لِئَلَّا يَمُرَّ بِهِ أَحَدٌ فَيَرَى عَوْرَتَهُ.
أَمَّا مَنْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فِي نَحْوِ الصَّحْرَاءِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَدَبَانِ الْإِبْعَادِ وَالِاسْتِتَارِ بِجُمْلَتِهِ عَنْ الْأَعْيُنِ وَاِتِّخَاذِ السُّتْرَةِ إذَا صَارَ مُسْتَتِرًا عَنْ الْأَعْيُنِ؛ لِئَلَّا يَمُرَّ بِهِ أَحَدٌ فَيَرَى عَوْرَتَهُ، وَذَلِكَ لِمَا صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ طُرُقٍ «أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ انْطَلَقَ حَتَّى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ» وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبَ رَمْلٍ - فَلْيَسْتَتِرْ بِهِ» .
وَأَدَبُ السَّتْرِ فِي حَقِّ قَاضِي الْحَاجَةِ فِي الْبُنْيَانِ أَنْ يَسْتَتِرَ بِجُمْلَتِهِ فِي بِنَاءٍ مُسَقَّفٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَأَمَّا سَتْرُ الْعَوْرَةِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى حُكْمِهِ مِنْ الْوُجُوبِ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ فِي الظُّهُورِ بِحَيْثُ لَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ سِوَاهُ؛ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ فِي بَابِ الِاسْتِطَابَةِ؛ اكْتِفَاءً بِإِطْلَاقِهِمْ وُجُوبَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَنَقْلَهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهَا، وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ حُصُولَ الْفَرْضِ مِنْ السَّتْرِ بِإِرْخَاءِ الذَّيْلِ لَا يُنَافِي وُجُوبَهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ أَدَبًا بَلْ هُوَ مِمَّا يَتَأَدَّى بِهِ وَاجِبُ السَّتْرِ فَلَا يُؤَيِّدُ زَعْمَ مَنْ ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ، وَزَعْمُهُ الِاحْتِيَاجَ لِذَلِكَ بِمَا ذَكَرَ بَاطِلٌ فَإِنَّ الزَّرْكَشِيّ صَرَّحَ بِأَنَّ مَا تُلْقِيه الْفِئْرَانُ فِي حِيَاضِ الْبُيُوتِ الْقَلِيلَةِ الْمَاءِ مِنْ الْغَائِطِ يُعْفَى عَنْهُ، أَيْ إنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنْ قُلْت هَذَا ظَاهِرٌ إنْ تَحَقَّقَ إلْقَاءُ الْفِئْرَانِ لَهُ.
قُلْت: هُوَ الظَّاهِرُ وَلَا نَظَرَ لِاحْتِمَالِ خِلَافِهِ؛ لِبُعْدِ صُدُورِ ذَلِكَ مِنْ عَاقِلٍ، وَزَعْمُهُ أَنَّهُ يَبْعُدُ مِنْ النَّاسِ النَّظَرُ إلَيْهِ زَعْمٌ بَاطِلٌ أَيْضًا فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، نَعَمْ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَثِقُ مِنْهُ بِعَدَمِ النَّظَرِ إلَيْهِ - جَازَ التَّكَشُّفُ لِلِاسْتِنْجَاءِ وَنَحْوِهِ بِحَضْرَتِهِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ الَّتِي يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَزَعْمُهُ أَنَّهُ إذَا كَشَفَ عَوْرَتَهُ كَانَتْ الْحُرْمَةُ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْهِ بَاطِلٌ أَيْضًا، بَلْ الْحُرْمَةُ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ فِي الْحَرَامِ وَمُعِينٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْت: قَدْ لَا يُوجَدُ فِي حِيضَانِ الْبُيُوتِ مَاءٌ وَيَضِيقُ الْوَقْتُ أَوْ يَخْشَى فَوَاتَ الْجُمُعَةِ لَوْ لَمْ يَسْتَنْجِ إلَّا مَعَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فَهَلْ يُبَاحُ لَهُ حِينَئِذٍ الِاسْتِنْجَاءُ مَعَ كَشْفِهَا لِلضَّرُورَةِ قُلْت: يُحْتَمَلُ الْجَوَازُ حِينَئِذٍ حَيْثُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ مَاءٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ وَلَا حَجَرٌ يُجْزِئُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ؛ لِلضَّرُورَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى حَالِهِ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَيُعِيدُ، فَإِنْ قُلْت: هَذَانِ الِاحْتِمَالَانِ هَلْ هُمَا فِي الْجَوَازِ أَوْ الْوُجُوبِ؟ قُلْت: يُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُهُمَا بِالْجَوَازِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَطْعًا؛ لِأَنَّ فِي تَكْلِيفِهِ كَشْفَ عَوْرَتِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ مَشَقَّةٌ وَخَرْمُ مُرُوءَةٍ لَا يُطَاقُ تَحَمُّلُهَا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ أَوْ مَرْتَبَةٌ تَأْبَى ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ جَرَيَانُهُمَا فِي الْوُجُوبِ أَيْضًا لِأَنَّ هَذَا كَشْفٌ لِضَرُورَةٍ، وَمَعَ الضَّرُورَةِ لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ، وَاَلَّذِي يَنْقَدِحُ الْآنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ لِمَا ذَكَرَتْهُ، وَأَنَّ
الْجَوَازَ مُحْتَمَلٌ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه كَيْفَ قَوْلُهُمْ يُكْرَهُ لِقَاضِي الْحَاجَةِ مُحَاذَاةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ أَنَّ الْقِبْلَةَ إنَّمَا كَانَتْ صَخْرَتَهُ لَا هُوَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا الصَّخْرَةُ، فَإِطْلَاقُ اسْمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَيْهَا مَجَازٌ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ هَلْ يَجُوزُ غَسْلُ الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ بِمَطْعُومٍ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ «امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْدَفَهَا عَلَى حَقِيبَةٍ فَحَاضَتْ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْسِلَ الدَّمَ بِمَاءٍ وَمِلْحٍ الْحَدِيثُ.» قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ نَقْلًا عَنْ الْخَطَّابِيِّ: الْمِلْحُ مَطْعُومٌ فَقِيَاسُهُ جَوَازُ غَسْلِ الثَّوْبِ بِالْعَسَلِ كَثَوْبِ الْإِبْرَيْسَمِ الَّذِي يُفْسِدُهُ الصَّابُونُ، وَبِالْخَلِّ إذَا أَصَابَهُ حِبْرٌ وَنَحْوُهُ، قَالَ: وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا التَّدَلُّكُ بِالنُّخَالَةِ، وَغَسْلُ الْأَيْدِي بِدَقِيقِ الْبَاقِلَّاءِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَهُ قُوَّةُ الْجِلَاءِ، وَحَدَّثُونَا عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ دَخَلْت الْحَمَّامَ بِمِصْرَ فَرَأَيْت الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه يَتَدَلَّكُ بِالنُّخَالَةِ اهـ. فَعُلِمَ بِهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمَطْعُومِ فِي إزَالَةِ الْأَوْسَاخِ وَالنَّجَاسَةِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ، وَيُفَارِقُ الِاسْتِنْجَاءَ بِأَنَّهُ أَفْحَشُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْمُزِيلَ هُوَ الْمَاءُ بِوَاسِطَتِهِ فَلَمْ يُبَاشِرْ النَّجَاسَةَ كَمُبَاشَرَتِهِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِكُتُبِ الْمَنْطِقِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؟ وَهَلْ يَحْرُمُ مُطَالَعَةُ هَذَيْنِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَوَّلَيْنِ أَوْ لَا؟ الْقَصْدُ بَسْطُ ذَلِكَ وَتَحْرِيرُهُ.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ مِمَّنْ صَرَّحَ بِجَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَوَّلَيْنِ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ فِي كُتُبِ الْفَلْسَفَةِ وَاضِحٌ، وَأَمَّا فِي كُتُبِ الْمَنْطِقِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى مَا يَأْتِي عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِهِ فَشَرْطُهُ كَالْأَوَّلِ أَنْ يَخْلُوَ ذَلِكَ الطِّرْسُ الْمُسْتَنْجَى بِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ اسْمٌ مُعَظَّمٌ كَمَا شَمِلَهُ قَوْلُ الْكِفَايَةِ وَغَيْرُهَا: يَحْرُمُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمَا عَلَيْهِ اسْمٌ مُعَظَّمٌ كَاسْمِ اللَّهِ أَوْ اسْمِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ الْمَلَائِكَةِ.
وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: التَّقْيِيدُ بِذَلِكَ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي كَلَامِ مُتَقَدِّمٍ وَلَا مُتَأَخِّرٍ، بَلْ كُلُّهُمْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِجَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِذَلِكَ وَهْمٌ، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا قَيَّدْنَا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَطْرٍ وَنَحْوِهِ فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى التَّقْيِيدِ بِهِ حِينَئِذٍ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِجَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالتَّوْرَاةِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَقَيَّدَهُ مَنْ بَعْدَهُ بِمَا عُلِمَ تَبْدِيلُهُ مِنْهَا وَإِلَّا فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ، وَوَاضِحٌ مِمَّا مَرَّ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ أَيْضًا بِمَا إذَا خَلَا عَنْ اسْمٍ مُعَظَّمٍ، ثُمَّ فِي تَبْدِيلِهَا أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا كُلَّهَا بُدِّلَتْ، فَلَعَلَّ الْقَاضِيَ اعْتَمَدَ هَذَا؛ فَأَطْلَقَ مَا مَرَّ.
ثَانِيهَا: بُدِّلَ أَكْثَرُهَا، وَأَدِلَّتُهُ كَثِيرَةٌ، وَالْأَوَّلُ قِيلَ: مُكَابَرَةً إذْ الْأَخْبَارُ وَالْآيَاتُ كَثِيرَةٌ فِي أَنَّهُ بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يُبَدَّلْ. ثَالِثُهَا: بُدِّلَ أَقَلُّهَا وَنَصَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَابِعُهَا: بُدِّلَ مَعْنَاهَا فَقَطْ دُونَ لَفْظِهَا، وَاخْتَارَهُ الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ صَحِيحِهِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَاغْتَرَّ بِهَذَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي حُجَجِهِ وَجَوَّزَ مُطَالَعَتَهَا، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، وَالِاشْتِغَالُ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَبِكِتَابَتِهَا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ «، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ صَحِيفَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْهَا وَقَالَ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا وَمَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ مَا غَضِبَ مِنْهُ اهـ. لَكِنْ تَعَقَّبَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: إنْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ فَلَا كَلَامَ، وَقَدْ قَيَّدَهُ بِالِاشْتِغَالِ بِكِتَابَتِهَا وَنَظَرِهَا فَإِنْ أَرَادَ مَنْ يَتَشَاغَلُ بِذَلِكَ فَقَطْ فَلَا يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ؛ لِأَنَّهُ يُفْهِمُ الْجَوَازَ إذَا تَشَاغَلَ بِغَيْرِهِ مَعَهُ، وَإِنْ أَرَادَ مُطْلَقَ التَّشَاغُلِ فَهُوَ مَحَلُّ النَّظَرِ، وَفِي وَصْفِهِ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ بِالْبُطْلَانِ نَظَرٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ نُسِبَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالتَّوْرَاةِ وَلِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ تَرْكُ الدَّفْعِ بِالصَّدْرِ، وَلَا دَلَالَةَ فِي قَضِيَّةِ عُمَرَ إذْ قَدْ يَغْضَبُ مِنْ فِعْلِ الْمَكْرُوهِ، وَخِلَافِ الْأَوْلَى مِمَّنْ لَا يَلِيقُ بِهِ كَتَطْوِيلِ مُعَاذٍ الصُّبْحَ بِالْقِرَاءَةِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ كَرَاهَةَ ذَلِكَ لِلتَّنْزِيهِ، وَالْأَوْلَى التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الرَّاسِخِ فِي الْإِيمَانِ فَلَهُ النَّظَرُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ نَقْلُ الْأَئِمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ التَّوْرَاةِ وَإِلْزَامُهُمْ الْيَهُودَ بِالتَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِمَا يَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ كِتَابِهِمْ، وَلَوْلَا اعْتِقَادُهُمْ جَوَازَ النَّظَرِ فِيهِ لَمَا فَعَلُوهُ وَتَوَارَدُوا عَلَيْهِ اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ وَاضِحٌ فَلَا مَحِيدَ عَنْهُ، وَإِنْ اعْتَمَدَ السُّبْكِيّ مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَأَطَالَ فِي الِانْتِصَارِ لَهُ، وَنَقَلَهُ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَالشَّافِعِيُّ
وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ:
(وَبَعْضُ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ نَظَرَهُ فِي ذَلِكَ فَضِيلَةٌ، وَهُوَ عَيْنُ النُّقْصَانِ) وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ احْتِجَاجًا عَلَى وُجُوبِ إعْدَامِهَا:
(إذَا دَخَلَتْ تَحْتَ أَيْدِينَا أَنَّهَا جَمَعَتْ شَيْئًا مِنْ كَلَامٍ بَاطِلٍ قَطْعًا، وَقَدْ اخْتَلَطَ بِمَا لَمْ يُبَدَّلْ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ فَوَجَبَ إعْدَامُ الْجَمِيعِ وَلَا يَتَوَقَّفُ فِي هَذَا إلَّا جَاهِلٌ اهـ. فَلْيُحْمَلْ مَا ذَكَرَهُ هُوَ وَالزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ أَوْ مُتَمَكِّنٍ لَمْ يَقْصِدْ بِالنَّظَرِ فِيهَا مَصْلَحَةً دِينِيَّةً أَمَّا مُتَمَكِّنٌ قَصَدَ ذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ وَيَأْتِي مَا ذُكِرَ فِيهَا فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِالْفَلْسَفَةِ وَالْمَنْطِقِ فَقَدْ أَفْتَى بِتَحْرِيمِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَشَنَّعَ عَلَى الْمُشْتَغِلِ بِهِمَا وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ، وَفِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إخْرَاجُ أَهْلِهِمَا مِنْ مَدَارِسِ الْإِسْلَامِ وَسَجْنُهُمْ وَكِفَايَةُ شَرِّهِمْ قَالَ: وَإِنْ زَعَمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِعَقَائِدِهِمْ، فَإِنَّ يُكَذِّبُهُ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالَاتُ الِاصْطِلَاحَاتِ الْمَنْطِقِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَمِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُسْتَشْنَعَةِ، وَلَيْسَ بِهَا افْتِقَارٌ إلَى الْمَنْطِقِ أَصْلًا، وَمَا يَزْعُمُهُ الْمَنْطِقِيُّ لِلْمَنْطِقِ مِنْ الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ فَقَعَاقِعُ قَدْ أَغْنَى اللَّهُ عَنْهَا كُلَّ صَحِيحِ الذِّهْنِ لَا سِيَّمَا مَنْ خَدَمَ نَظَرِيَّاتِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ هَذَا حَاصِلُ شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْفَلْسَفَةِ صَحِيحٌ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَمَا ذَكَرْته مِنْ تَحْرِيمِهَا هُوَ الصَّحِيحُ أَوْ الصَّوَابُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الشَّيْخُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ، وَنُصُوصُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه نَاصَّةٌ عَلَى تَقْبِيحِ تَعَاطِيهِ، وَنُقِلَ عَنْهُ التَّعْزِيرُ عَلَى ذَلِكَ اهـ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَنْطِقِ فَمُعَارَضٌ بِقَوْلِ الْغَزَالِيِّ فِي مُقَدِّمَةِ الْمَنْطِقِ فِي أَوَّلِ الْمُسْتَصْفَى:
(هَذِهِ مُقَدِّمَةُ الْعُلُومِ كُلِّهَا وَمَنْ لَا يُحِيطُ بِهَا فَلَا ثِقَةَ لَهُ بِمَعْلُومِهِ أَصْلًا) . وَقَوْلُهُ فِي الْمُنْقِذِ مِنْ الضَّلَالِ.
(وَأَمَّا الْمَنْطِقِيَّاتُ فَلَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي الدِّينِ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا، بَلْ وَهُوَ نَظَرٌ فِي طُرُقِ الْأَدِلَّةِ وَالْمَقَايِيسِ وَشُرُوطِ مُقَدِّمَةِ الْبُرْهَانِ وَكَيْفِيَّةِ تَرْكِيبِهَا وَشُرُوطِ الْحَدِّ الصَّحِيحِ وَكَيْفِيَّةِ تَرْتِيبِهَا، وَإِنَّ الْعِلْمَ، إمَّا تَصَوُّرٌ وَسَبِيلُ مَعْرِفَتِهِ الْحَدُّ، وَإِمَّا تَصْدِيقٌ وَسَبِيلُ مَعْرِفَتِهِ الْبُرْهَانُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْكَرَ فَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْمُتَكَلِّمُونَ، وَأَهْلُ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَإِنَّمَا يُفَارِقُونَهُمْ فِي الْعِبَارَاتِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ، وَبِزِيَادَةِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي التَّفْرِيعَاتِ وَالتَّشْعِيبَاتِ، وَمِثَالُ كَلَامِهِمْ فِيهِ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ لَزِمَ مِنْهُ أَنَّ بَعْضَ الْحَيَوَانِ إنْسَانٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ إنْسَانٌ ثَبَتَ أَنَّهُ حَيَوَانٌ وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُوجَبَةَ الْكُلِّيَّةَ تَسْتَلْزِمُ مُوجَبَةً جُزْئِيَّةً، وَهَذَا حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ فَكَيْفَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْحَدَ وَيُنْكَرَ؟ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمُهِمَّاتِ الدِّينِ ثُمَّ مَتَى أُنْكِرَ مِثْلُ هَذَا لَزِمَ مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ سُوءُ الِاعْتِقَادِ فِي عَقْلِ الْمُنْكِرِ بَلْ فِي دِينِهِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ فِيهِ إبْطَالُ مِثْلِ هَذَا) اهـ. فَتَأَمَّلْهُ تَأَمُّلًا خَالِيًا عَنْ التَّعَصُّبِ تَجِدْهُ رحمه الله قَدْ أَوْضَحَ الْمَحَجَّةَ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يُنْكَرُ وَلَا مِمَّا يَجُرُّ إلَى مَا يُنْكَرُ، وَعَلَى أَنَّهُ يَنْفَعُ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَأُصُولِ الدِّينِ وَالْفِقْهِ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَا يَنْفَعُ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مُحْتَرَمٌ يَحْرُمُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، وَيَجِبُ تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالطِّبِّ وَالنَّحْوِ وَالْحِسَابِ وَالْعَرُوضِ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ كَالْإِسْنَوِيِّ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَطْرَيْنِ:
(إنَّ الْمَنْطِقَ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْمَنْطِقُ الَّذِي لَا يَنْفَعُ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ الَّذِي يَعُودُ مِنْهُ ضَرَرٌ عَلَى الدِّينِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ مَنْطِقِ الْفَلَاسِفَةِ الْأُوَلِ يَبْحَثُونَ فِيهِ عَنْ نَحْوِ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ ثُمَّ يُدْرِجُونَ فِيهِ الْبَحْثَ عَنْ حَالِ الْمَوْجُودَاتِ وَكَيْفِيَّةِ تَرَاكِيبِهَا وَمَفَاهِيمِهَا وَأَعْرَاضِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُونَ فِيهِ عُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ حَتَّى انْتَصَبُوا لَهُمْ، وَرَدُّوا جَمِيعَ مَقَالَاتِهِمْ الْفَظِيعَةِ الشَّنِيعَةِ، فَمِثْلُ هَذَا الْفَنِّ مِنْ الْمَنْطِقِ هُوَ الَّذِي يَحْرُمُ الِاشْتِغَالُ بِهِ.
وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِيمَا مَرَّ عَنْهُ:(كِفَايَةُ شَرِّهِمْ)، وَقَوْلُهُ:(وَإِنْ زَعَمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِعَقَائِدِهِمْ فَإِنَّ يُكَذِّبُهُ) فَعَلِمْنَا أَنَّ كَلَامَهُ فِي مَنْطِقٍ لَهُ شَرٌّ وَلَهُ أَهْلٌ يَعْتَقِدُونَ خِلَافَ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ النَّوْعُ الَّذِي ذَكَرْته لَا غَيْرَ، وَأَمَّا الْمَنْطِقُ الْمُتَعَارَفُ الْآنَ بَيْنَ أَيْدِي أَكَابِرِ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يُنْكَرُ وَلَا شَيْءٌ مِنْ عَقَائِدِ الْمُتَفَلْسِفِينَ، بَلْ هُوَ عِلْمٌ نَظَرِيٌّ يَحْتَاجُ لِمَزِيدِ رِيَاضَةٍ وَتَأَمُّلٍ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْ الْخَطَإِ فِي الْفِكْرِ مَا أَمْكَنَ فَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَلَا أَدْوَنَ مِنْهُ وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْنِيعُ عَلَيْهِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ جَهِلُوهُ فَعَادَوْهُ كَمَا قِيلَ:
(مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ) وَكَفَى بِهِ نَافِعًا فِي الدِّينِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُرَدَّ شُبْهَةٌ مِنْ شُبَهِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْفَرْقِ إلَّا بِمُرَاعَاتِهِ
وَمُرَاعَاةِ قَوَاعِدِهِ وَكَفَى الْجَاهِلُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّفَوُّهِ مَعَ الْفَلْسَفِيِّ وَغَيْرِهِ الْعَارِفِ بِهِ بِبِنْتِ شَفَةٍ بَلْ يَصِيرُ نَحْوَ الْفَلْسَفِيِّ يَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ، وَذَلِكَ الْجَاهِلُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْأَكَابِرِ سَاكِتًا لَا يُحِيرُ جَوَابًا وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَرَافِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَأَجَادَ حَيْثُ جَعَلَهُ شَرْطًا مِنْ شَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَتَى جَهِلَهُ سُلِبَ عَنْهُ اسْمُ الِاجْتِهَادِ فَقَالَ فِي بَحْثِ شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ:
(يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ شَرَائِطِ الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَمَنْ عَرَفَهُمَا اسْتَضَاءَ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ هِيَ الَّتِي تَضْبِطُ الْحَقَائِقَ التَّصَوُّرِيَّةَ فَمَنْ عَلِمَ ضَابِطَ شَيْءٍ اسْتَضَاءَ بِهِ، فَأَيُّ مَحَلٍّ وَجَدَهُ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ عَلِمَ أَنَّهُ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ وَمَا لَا فَلَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ إذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الْحَقَائِقِ فَحَكِّمُوا الْحُدُودَ، وَالْمُجْتَهِدُ يَحْتَاجُ فِي كُلِّ حُكْمٍ لِذَلِكَ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِيهِ إنْ كَانَ حَقِيقَةً بَسِيطَةً - فَلَا يَضْبِطُهَا إلَّا الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ تَصْدِيقًا بِبَعْضِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ - فَكُلُّ تَصْدِيقٍ مُفْتَقِرٌ لِتَصَوُّرَيْنِ فَيَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهِمَا لِضَابِطِهِمَا، فَهُوَ مُحْتَاجٌ لِلْحَدِّ كَيْفَ اتَّجَهَ فِي اجْتِهَادِهِ، وَشَرَائِطُهُ مَعْلُومَةٌ فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ، وَهُوَ وُجُوبُ الِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ، وَأَنْ لَا يُحَدَّ بِالْأَخْفَى وَلَا بِالْمُسَاوِي فِي الْخَفَاءِ، وَلَا بِمَا لَا يُعْرَفُ الْمَحْدُودُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ وَأَنْ لَا يَأْتِيَ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ، وَلَا بِالْمَجَازِ الْبَعِيدِ وَأَنْ يُقَدَّمَ الْأَعَمُّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَأَمَّا شَرَائِطُ الْبُرْهَانِ فَيَحْتَاجُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّهُ عَلَى الْحُكْمِ قَطْعِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ، وَكُلُّ دَلِيلٍ فَلَهُ شُرُوطٌ مُحَرَّرَةٌ فِي عِلْمِ الْمَنْطِقِ مَنْ أَخَطَأَ شَرْطًا مِنْهَا فَسَدَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَهُوَ يَعْتَقِدُهُ صَحِيحًا، وَتِلْكَ الشُّرُوطُ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَوَارِدِ الْأَدِلَّةِ وَضُرُوبِ الْأَشْكَالِ الْقِيَاسِيَّةِ
وَبَسَطَ ذَلِكَ عِلْمُ الْمَنْطِقِ، فَيَكُونُ الْمَنْطِقُ شَرْطًا فِي مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يُمْكِنُ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ: الِاشْتِغَالُ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ لَمْ يَكُونُوا عَالَمِينَ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي حُصُولِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ لَهُمْ، نَعَمْ هَذِهِ الْعِبَارَاتُ الْخَاصَّةُ وَالِاصْطِلَاحَاتُ الْمُعَيَّنَةُ فِي زَمَانِنَا لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهَا، بَلْ مَعْرِفَةُ مَعَانِيهَا فَقَطْ اهـ. فَتَأَمَّلْ هَذَا الْكَلَامَ الْجَلِيلَ مِنْ هَذَا الْإِمَامِ الْجَلِيلِ - تَجِدْهُ قَدْ أَشْفَى الْعَيَّ وَأَزَالَ الْغَيَّ، وَنَاهِيك بِالسُّبْكِيِّ جَلَالَةً حَيْثُ قَالَ: (يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الِاشْتِغَالِ فِيهِ الِاشْتِغَالُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ حَتَّى يَتَرَوَّى مِنْهَا وَيَرْسَخَ فِي ذِهْنِهِ الِاعْتِقَادَاتُ الصَّحِيحَةُ، وَيَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ صِحَّةَ الذِّهْنِ بِحَيْثُ لَا تَرُوجُ عِنْدَهُ الشُّبْهَةُ عَلَى الدَّلِيلِ، فَإِذَا وَجَدَ شَيْخًا نَاصِحًا دَيِّنًا حَسَنَ الْعَقِيدَةِ جَازَ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْمَنْطِقِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ وَيُعِينُهُ عَلَى الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْعُلُومِ، وَأَنْفَعِهَا فِي كُلِّ بَحْثٍ، وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ كُفْرٌ أَوْ حَرَامٌ فَهُوَ جَاهِلٌ فَإِنَّهُ عِلْمٌ عَقْلِيٌّ مَحْضٌ كَالْحِسَابِ، غَيْرَ أَنَّ الْحِسَابَ لَا يَجُرُّ إلَى فَسَادٍ وَلَيْسَ مُقَدِّمَةً لِعِلْمٍ آخَرَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ، وَالْمَنْطِقُ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ تُصِبْهُ سَابِقَةٌ صَحِيحَةٌ خُشِيَ عَلَيْهِ التَّزَنْدُقُ أَوْ التَّغَلْغُلُ بِاعْتِقَادٍ فَلْسَفِيٍّ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُ أَوْ لَا يَشْعُرُ، قَالَ: وَفَصْلُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ كَالسَّيْفِ يُجَاهِدُ بِهِ شَخْصٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَقْطَعُ بِهِ آخَرُ الطَّرِيقَ ا.
هـ. بِتَأَمُّلِهِ تَجِدُهُ نَصًّا فِيمَا قَدَّمْته مِنْ أَنَّ الْمَنْطِقَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ: مِنْهُ لَا يُخْشَى عَلَى الْمُشْتَغِل بِهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَهُ، وَالْقِسْمُ الْآخَرُ: وَهُوَ الْمُدْرَجُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعَقَائِدِ الْفَلْسَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ الْخَوْضُ فِيهِ إلَّا لِمَنْ أَتْقَنَ مَا ذَكَرَهُ وَوَجَدَ شَيْخًا بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ الِاشْتِغَالُ حَتَّى بِهَذَا الْقِسْمِ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ إذَا وُجِدَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْمَيْلُ إلَى مَا فِيهِ مِنْ الشُّبَهِ الْفَاسِدَةِ، وَلَقَدْ اشْتَغَلَ بِهَذَا الْقِسْمِ كَثِيرٌ مِنْ فَحَوْلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى أَحْكَمُوهُ وَتَمَكَّنُوا بِهِ مِنْ تَمَامِ الرَّدِّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ وَتَزْيِيفِ مَقَالَاتِهِمْ الْبَاطِلَةِ، وَتَأَمَّلْ تَجْهِيلَهُ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ حَرَامٌ يُعَرِّضُ بِذَلِكَ لِابْنِ الصَّلَاحِ، لَكِنْ إذَا حُمِلَ كَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ عَلَى مَا قَدَّمْته اتَّجَهَ عَلَى أَنَّهُ بَانَ لَك مِنْ كَلَامِ السُّبْكِيّ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهَذَا النَّوْعِ أَيْضًا بِشَرْطِهِ السَّابِقِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يَحْرُمُ إخْرَاجُ النَّجِسِ لِلْقِبْلَةِ كَالْقَيْءِ وَالْفَصْدِ؟ أَوْ هُوَ خَاصٌّ بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: هُوَ خَاصٌّ بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَشَرْطُ عَدَمِ السَّاتِرِ الشَّرْعِيِّ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا الْفَصْدُ وَالْقَيْءُ وَنَحْوُهُمَا لِلْقِبْلَةِ فَلَا حُرْمَةَ فِيهَا، لِأَنَّ اسْتِقْذَارَهَا لَيْسَ كَاسْتِقْذَارِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَمِنْ ثَمَّ أَبَاحُوا الْفَصْدَ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ - إذَا أُمِنَ تَلْوِيثُهُ - وَلَمْ يُبِيحُوا الْبَوْلَ فِيهِ فِي إنَاءٍ - وَإِنْ أُمِنَ تَلْوِيثُهُ - وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْبَوْلَ أَقْذَرُ وَلِذَا عُفِيَ عَنْ قَلِيلِ الدَّمِ وَكَثِيرِهِ فِي صُوَرٍ وَلَمْ يُعْفَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْبَوْلِ، وَالْغَائِطُ أَوْلَى مِنْهُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ