الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَهَلْ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ سُؤْرِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ كَسَائِرِ أَحْوَالِهَا أَوْ لَا؛ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُغَلَّظَةِ وَالْمُخَفَّفَةِ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَمَسْأَلَةِ طِينِ الشَّوَارِعِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ فَمِهَا بِغَيْبَتِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلَا فِي غَيْرِهَا خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ بَعْضُ الْعِبَارَاتِ، وَكَأَنَّ السَّائِلَ تَوَهَّمَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَمَدُ الْمَنْقُولُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْهِرَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَخْتَلِطُ بِالنَّاسِ وَغَيْرِهَا إذَا أَكَلَتْ نَجَاسَةً، ثُمَّ غَابَتْ وَاحْتُمِلَ فِي الْعَادَةِ وُلُوغُهَا فِيمَا يُطَهِّرُ فَمَهَا بِأَنْ يَكُونَ كَدَرًا بِالنِّسْبَةِ لِلنَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ فَإِذَا غَابَتْ وَاحْتُمِلَ طُهْرُ فَمِهَا كَمَا ذُكِرَ، ثُمَّ عَادَتْ وَوَلَغَتْ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَوْ مَائِعٍ، أَوْ مَسَّتْ بِفَمِهَا ثَوْبًا مَثَلًا فَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ مَا لَاقَى فَمُهَا، وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى نَجَاسَتِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهَا.
وَإِنَّمَا لَمْ نَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ مَا لَاقَى فَمَهَا مَعَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ أَعْنِي الْفَمَ عَمَلًا بِالْأَصْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا مَسَّتْهُ الطَّهَارَةُ، وَالْأَصْلُ فِي فَمِهَا النَّجَاسَةُ، وَلَكِنْ بِغَيْبَتِهَا ضَعُفَ أَصْلُ النَّجَاسَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ التَّنْجِيسُ فَبَقِيَ مَا مَسَّتْهُ عَلَى طَهَارَتِهِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ كَطِينِ الشَّوَارِعِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مُتَيَقَّنَةً فِيهِمَا؛ لِأَنَّ طِينَ الشَّوَارِعِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مَعَ تَحَقُّقِ نَجَاسَتِهِ وَعَدَمِ مَا يُعَارِضُهَا لَكِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُعْفَى عَمَّا يَتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ مَلْحَظُ الْعَفْو فِيهِ، وَأَمَّا فَمُ الْهِرَّةِ فَلَا يُقَالُ إنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: نَجِسٌ لَمْ يُنَجِّسْ لِضَعْفِهِ بِاحْتِمَالِ زَوَالِهِ بِالْوُلُوغِ فِي مَاءٍ يُطَهِّرُهُ عِنْدَ الْغَيْبَةِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ النَّجِسُ الَّذِي أَكَلَهُ نَحْوَ الْهِرَّةِ مُغَلَّظًا أَوْ غَيْرَهُ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي الْمُغَلَّظِ احْتِمَالُ وُلُوغِهِ فِي مَاءٍ كَدِرٍ بِتُرَابٍ يَكْفِي فِي النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ فَإِذَا اُحْتُمِلَ وُلُوغُهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يُنَجِّسْ مَا وَلَغَ فِيهِ، وَلَا مَا مَسَّهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ الِاجْتِهَادِ]
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ رَجُلٍ تَحْتَ يَدِهِ غَلَّاتُ أَوْقَافٍ مُتَّحِدَةُ الْمَصَارِفِ أَوْ مُخْتَلِفَتُهَا مِنْ شَخْصٍ أَوْ أَشْخَاصِ، فَوَضَعَ غَلَّاتِهَا فِي مَوَاضِعَ فَالْتُبِسَتْ عَلَيْهِ فَهَلْ يَسُوغُ لَهُ التَّحَرِّي فِيهَا فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ فَلَوْ تَحَرَّى فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ دَلِيلٌ، هَلْ يَضْمَنُ كَمَا لَوْ نَسِيَ الْوَدِيعَةَ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ فَمَا يَكُونُ حُكْمُ الْغَلَّاتِ الْمُشْتَبِهَةِ، هَلْ يَمْلِكُهَا النَّاظِرُ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفَهُ فِيهَا قَبْلَ الضَّمَانِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ مَنْ تَحْتَ يَدِهِ الْغَلَّاتُ الْمَذْكُورَةُ يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي فِيهَا إذَا كَانَ نَاظِرًا عَلَيْهَا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ سِوَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي فِي الْأَمْوَالِ الْمُشْتَبِهَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ شَرْطٌ لِصِحِّيَّةِ التَّصَرُّفِ وَيُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِالِاجْتِهَادِ لِأَنَّ لِلْعَلَامَةِ فِيهَا مَجَالًا فَشُرِعَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ بِعَلَامَةٍ تُغَلِّبُ ظَنَّ الْمِلْكِ فِي الْمَأْخُوذِ.
وَغَلَبَةُ الظَّنِّ كَافِيَةٌ فِي الْأَمْوَالِ بِدَلِيلِ اعْتِمَادِهِ عَلَى خَطِّ أَبِيهِ الْمَوْثُوقِ بِهِ بِدَيْنٍ وَحَلَّفَهُ عَلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ جَازَ الِاجْتِهَادُ فِي الْمَالَيْنِ مَعَ انْتِفَاءِ أَصْلِ الْحِلِّ فِي أَحَدِهِمَا اهـ. وَهَذَا ظَاهِرٌ إنْ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّاظِرِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنْ قُلْت: لَا نُسَلِّمُ ظُهُورَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ عَبِّرُوا بِالْمِلْكِ فِي قَوْلِهِمْ، لِأَنَّ الْمِلْكَ، وَقَوْلُهُمْ: يُغَلِّبُ ظَنَّ الْمِلْكِ، وَهَذَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ قُلْت: التَّعْبِيرُ بِالْمِلْكِ، إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ الشَّامِلِ لِمِلْكِ الْعَيْنِ، وَلِلْوِلَايَةِ عَلَيْهَا وَأَمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مِلْكَ الْعَيْنِ فَقَطْ، وَكَلَامُهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَطَ لِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ هُوَ عُمُومُ الْأَوَّلِ لَا خُصُوصُ الثَّانِي.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُمْ: وَغَلَبَةُ الظَّنِّ كَافِيَةٌ فِي الْأَمْوَالِ أَيْ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهَا فَإِنْ قُلْت: يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّ أَبَا ثَوْرٍ لَمَّا سَأَلَ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه عَمَّنْ اشْتَرَى بَيْضَةً مِنْ رَجُلٍ وَبَيْضَةً مِنْ آخَرَ، وَوَضَعَهُمَا فِي كُمِّهِ فَانْكَسَرَتْ إحْدَاهُمَا فَخَرَجَتْ مَذِرَةً فَعَلَى مَنْ يَرُدُّهَا؟
قَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ اُتْرُكْهُ حَتَّى يُدْعَى قَالَ: يَقُولُ: لَا أَدْرِي قَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ أَقُولُ لَهُ انْصَرِفْ حَتَّى تَدْرِيَ فَإِنَّا مُفْتُونَ لَا مُعْلِمُونَ وَهُوَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى صَرِيحٌ فِي أَنْ لَا يُجْتَهَدَ فِي بَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَرُدَّهَا بِالِاجْتِهَادِ قُلْت: لَا يُنَافِي مَا قَرَّرْتُهُ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يُمْنَعْ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لِذَاتِهِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ لَمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الْغَيْرِ بِالِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْأَمْوَالِ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ قَالَ: وَمِثْلُهُ لَوْ قَبَضَ مِنْ شَخْصٍ دَرَاهِمَ فَخَلَطَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا نُحَاسًا.
وَيُحْتَمَلُ هُنَا أَنْ يُجْتَهَدَ إنْ كَانَ ثَمَّ أَمَارَةً اهـ. وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ فِي هَذِهِ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الِاجْتِهَادَ؛ لِإِلْزَامِ الْغَيْرِ بِجَعْلِ النُّحَاسِ لَهُ لَمْ يُفِدْهُ اجْتِهَادُهُ ذَلِكَ.
وَإِنْ أَرَادَ بِهِ تَمْيِيزَ حَقِّهِ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى يَحِلَّ لَهُ تَنَاوُلُ مَا ظَهَرَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ أَنَّهُ لَهُ جَازَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ قُلْت: هَلْ يَلْحَقُ بِالنَّاظِرِ الْوَلِيُّ مِنْ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ وَالْحَاكِمِ وَقَيِّمِهِ إذَا كَانَ تَحْتَ يَدِهِ أَمْوَالُ لِمَحَاجِيرِهِ وَالْتُبِسَتْ، أَوْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْمُلَّاكَ هُنَا يُرْجَى كَمَالُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ فَلَا حَاجَةَ إلَى اجْتِهَادِ الْوَلِيِّ بِخِلَافِ مَصَارِفِ الْوَقْفِ إذَا كَانَتْ جِهَاتٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا اجْتِهَادٌ، قُلْت: قَضِيَّةُ تَسْوِيَتِهِمْ فِي بَابِ الْوَقْفِ بَيْنَ النَّاظِرِ وَالْوَلِيِّ فِي مَسَائِلِ إلْحَاقِهِ بِهِ هُنَا فِي أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي، نَعَمْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ إلَّا فِيمَا اُضْطُرَّ إلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَأَمَّا مَا لَا يُضْطَرُّ إلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْهَا فَيُبْقِيه عَلَى اشْتِبَاهِهِ الَّذِي لَا يُضَرُّ بِهِ إلَى كَمَالِ مَالِكِيهِ وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يَجِبُ فِيمَا اُضْطُرَّ إلَى تَنَاوُلِهِ كَشَاةٍ مَيْتَةٍ اُلْتُبِسَتْ بِمَذْبُوحَةٍ وَاضْطُرَّ إلَى الْأَكْلِ، وَيَجُوزُ فِيمَا لَمْ يُضْطَرَّ إلَيْهِ فَكَذَا يُقَالُ بِنَظِيرِ ذَلِكَ فِي النَّاظِرِ وَالْوَلِيِّ فَإِنْ قُلْت: مَا ذُكِرَ فِي النَّاظِرِ إنَّمَا يَتَّجِهُ إذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَاتٍ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ.
أَمَّا إذَا كَانَ عَلَى مُسْتَحَقِّينَ كَامِلِينَ يُمْكِنُ اجْتِهَادُهُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الِاجْتِهَادُ لِلنَّاظِرِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ قُلْت: هُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ يَمْلِكُ الْغَلَّةَ فَإِذَا كَانَ كَامِلًا وَاشْتُبِهَتْ غَلَّتُهُ الَّتِي مَلَكَهَا بِغَلَّةِ غَيْرِهِ اجْتَهَدَ هُوَ؛ لِأَنَّهُ الْمَالِكُ لَا النَّاظِرُ فَإِذَا ظَهَرَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنَّ الْغَلَّةَ الَّتِي صِفَتُهَا كَذَا هِيَ الَّتِي مَلَكَهَا تَوَلَّى النَّاظِرُ حِينَئِذٍ إعْطَاءَهَا إلَيْهِ وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي: أَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ كَانَتْ تَحْتَ يَدِهِ أَمْوَالٌ لِمُوَكِّلِهِ أَوْ لِمُوَكِّلِيهِ وَاشْتَبَهَتْ لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا، بَلْ يُبْقِيهَا عَلَى حَالِهَا حَتَّى يَجْتَهِدَ فِيهَا مُلَّاكُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى ذَلِكَ الَّذِي قَدْ يَقَعُ بِسَبَبِهِ نَقْصٌ وَتَنَازُعٌ بَيْنَ الْمُلَّاكِ لَا غَايَةَ لَهُ: فَإِنْ قُلْت: هَذَا أَعْنِي اجْتِهَادَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ إنْ كَانَ مُتَّحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْعَلَامَةِ الْمُمَيِّزَةِ لِمِلْكِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَلَامَةِ مَا حُكْمُهُ؟
قُلْت: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ النَّاظِرِ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ الْآتِي وَقَدْ أُشْكِلَ عَلَى الْوَدِيعِ مُسْتَحِقُّهُ مِنْهُمَا إذْ قَضِيَّتُهُ: أَنَّ الْوَدِيعَ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي التَّعْيِينِ، وَإِذَا رَجَعَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَالنَّاظِرُ أَوْلَى بِهَذَا مِنْهُ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ أَقْوَى، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ اشْتَبَهَ مَالُهُ بِمَالِ غَيْرِهِ وَاجْتَهَدَ فَظَهَرَ لَهُ أَنَّ أَحَدَ الْمَالَيْنِ بِعَيْنِهِ هُوَ مَالُهُ وَنَازَعَهُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ فَإِنْ قُلْت: فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ النَّاظِرُ مُمَيِّزًا لِأَحَدِ الْمَالَيْنِ هُنَا أَوْ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ مَا حُكْمُهُ؟
قُلْت: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تُوقَفُ الْأَمْوَالُ الْمُشْتَبِهَةُ حَتَّى يَصْطَلِحَ مُلَّاكُهَا عَلَى شَيْءٍ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُمْ: وَإِنْ اُسْتُوْقِفَ مَالَ إلَى اصْطِلَاحِ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهِ كَمَالِ وُقِفَ لِشَخْصَيْنِ عِنْدَ وَدِيعٍ وَقَدْ أُشْكِلَ عَلَى الْوَدِيعِ مُسْتَحِقُّهُ مِنْهُمَا فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ أَحَدُهُمَا، فَيُعْطِي الْآخَرَ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ بَيْعَ لَهُ، وَشَرْطُهُ تَحَقُّقُ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ عَلَى أَنْ يَتَفَاضَلَا فِيهِ جَازَ لِلضَّرُورَةِ؛ وَلِأَنَّهُ نُزُولٌ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ وَقَوْلُهُمْ: لَوْ مَاتَ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ قَبْلَ التَّعْيِينِ وُقِفَ لَهُنَّ مِيرَاثُ الزَّوْجَاتِ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ؛ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِعَيْنِ مُسْتَحِقِّهِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُنَّ بِحَسَبِ اصْطِلَاحِهِنَّ بِتَسَاوٍ أَوْ تَفَاوُتٍ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُنَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِنَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهَا لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ وَصَالَحَ عَنْهَا وَلِيُّهَا فَيَمْتَنِعُ بِدُونِ حُصُولٍ مِنْ عَدَدِهِنَّ اهـ.
فَيَأْتِي نَظِيرُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنْ قَلَّتْ: إنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْوَقْفُ إلَى الصُّلْحِ إذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ يُمْكِنُ اصْطِلَاحُهُمْ فَإِنْ كَانَ نَحْوَ جِهَاتٍ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا ذَلِكَ مَا حُكْمُهُ؟ قُلْت: الَّذِي يَظْهَرُ حِينَئِذٍ أَنَّ النَّاظِرَ يَقْسِمُ تِلْكَ الْأَمْوَالَ بَيْنَ تِلْكَ الْجِهَاتِ عَلَى السَّوَاءِ أَخْذًا مِمَّا قَالُوهُ فِيمَا إذَا انْدَرَسَتْ شُرُوطُ الْوَاقِفِ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَى جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ أَوْ جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ قُسِمَتْ الْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ.
فَإِنْ قُلْت: إذَا قُلْت: بِالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ النَّاظِرِ وَادَّعَى أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مُمَيِّزًا فَهَلْ لِلْمُسْتَحِقِّينَ تَحْلِيفُهُ؟ قُلْت: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ لَهُمْ تَحْلِيفَهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ إنْ ادَّعَوْهُ عَلَيْهِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ قَالَ مَنْ تَحْتَ يَدِهِ عَيْنٌ لِاثْنَيْنِ ادَّعَيَا عَلَيْهِ هِيَ وَدِيعَةٌ عِنْدِي وَلَا أَدْرِي أَهِيَ لَكُمَا أَمْ لِأَحَدِكُمَا أَمْ لِغَيْرِكُمَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ إنْ ادَّعَيَاهُ وَتُرِكَتْ فِي يَدِهِ لِمَنْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بِهَا وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا تَحْلِيفُ
الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدٌ وَلَا اسْتِحْقَاقٌ اهـ وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: فَلَوْ تَحَرَّى فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ دَلِيلٌ وَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ عَلَى السَّوِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهَا شَيْءٌ بِالِاشْتِبَاهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ بِالِاشْتِبَاهِ أَوْ تَلِفَ مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ الِاشْتِبَاهِ فَقِيَاسُ كَلَامِهِمْ فِي بَابِ الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ يَضْمَنُ النَّقْصَ فِي الْأُولَى، وَالتَّالِفَ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ نَاشِئٌ عَنْ نِسْيَانِهِ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بِهِ لِأَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ فَإِنْ قُلْت: هَلْ هَذَا الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الضَّمَانُ عَامٌّ سَوَاءٌ أَصَدَّقَهُ الْمُسْتَحِقُّونَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الِاشْتِبَاهِ النِّسْيَانُ أَمْ كَذَّبُوهُ أَوْ خَاصٌّ بِمَا إذَا كَذَّبُوهُ؟ قُلْت: الَّذِي يَظْهَرُ لِي تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ مَا تَلِفَ بِالِاشْتِبَاهِ يَضْمَنُهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ كَمَا تَقَرَّرَ وَمَا تَلِفَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ لَا فَرْقَ فِي الضَّمَانِ بَيْنَ أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمَالِكُ عَلَى أَنَّهُ تَلِفَ بِذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبَهُ وَمَا تَلِفَ بَعْدَ الِاشْتِبَاهِ لَا يَضْمَنُهُ إلَّا إنْ كَذَّبَهُ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي النِّسْيَانِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَدَّقُوهُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ الْوَدِيعَةَ فَصَدَّقَ الْوَدِيعُ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ فَلِلْآخَرِ تَحْلِيفُهُ وَإِنْ صَدَّقَاهُ فَالْيَدُ لَهُمَا وَالْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قَالَ هِيَ لِأَحَدِكُمَا وَنَسِيتُهُ فَإِنْ كَذَّبَاهُ فِي النِّسْيَانِ ضَمِنَ كَالْغَاصِبِ لِتَقْصِيرِهِ بِنِسْيَانِهِ.
وَإِنْ صَدَّقَاهُ فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اهـ. وَالْجَامِعُ بَيْنَ هَذِهِ وَمَسْأَلَتِنَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَمْ يَكُنْ النِّسْيَانُ فِيهَا سَبَبًا لِلتَّلَفِ وَإِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْجَهْلِ بِالْمُسْتَحِقِّ فَكَمَا فَصَلُوا فِي هَذِهِ بَيْنَ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ كَذَلِكَ يُفْصَلُ فِي مَسْأَلَتِنَا بَيْنَ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ فَمَا يَكُونُ حُكْمُ الْغَلَّاتِ الْمُشْتَبِهَةِ. .. إلَخْ. فَجَوَابُهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْتُهُ سَابِقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَا نَضْمَنُهُ إلَّا مَا تَلِفَ بِسَبَبِ الِاشْتِبَاهِ أَوْ مَا تَلِفَ بَعْدَ الِاشْتِبَاهِ.
وَأَمَّا مَا بَقِيَ مُشْتَبِهًا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ عَلَامَةٌ تُمَيِّزُ بَعْضَهُ عَنْ بَعْضٍ يَقْسِمُهُ بَيْنَ الْمُسْتَحَقِّينَ أَوْ يَتْرُكُهُ إلَى أَنْ يَصْطَلِحُوا كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ ضَمَانٌ فِي الْبَاقِي بِلَا نَقْصٍ هَذَا كُلُّهُ حَيْثُ كَانَ هُنَاكَ مُجَرَّدُ اشْتِبَاهٍ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَاطٍ، أَوْ مَعَ اخْتِلَاطٍ لَا بِفِعْلِ النَّاظِرُ، وَأَمْكَنَ التَّمْيِيزُ أَمَّا إذَا كَانَ مَعَ اخْتِلَاطٍ لَا بِفِعْلِ النَّاظِرِ وَلَمْ يُمْكِنْ التَّمْيِيزُ فَإِنَّهَا تَصِيرُ مُشْتَرَكَةً كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ وَسَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ عَنْ الشَّيْخَيْنِ فِي الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ، أَوْ بِفِعْلِ النَّاظِرِ وَلَمْ يُمْكِنْ التَّمْيِيزُ فَإِنَّ تِلْكَ الْغَلَّاتِ تَصِيرُ كَالْهَالِكَةِ سَوَاءٌ اخْتَلَطَ كُلٌّ مِنْهَا بِمِثْلِهِ أَمْ بِأَجْوَدَ أَمْ بِأَرْدَأَ لِتَعَذُّرِ رَدِّهِ فَيَمْلِكُهَا النَّاظِرُ وَلَهُ إبْدَالُهَا أَوْ إعْطَاءُ الْمُسْتَحَقِّينَ مِمَّا اخْتَلَطَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَجْوَدَ لَا بِأَرْدَأَ إلَّا بِرِضَاهُمْ فَلَهُ ذَلِكَ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْأَرْشُ، وَمَا قَرَّرْتُهُ هُنَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ مُخْتَصِرِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهِ فِيمَنْ غَصَبَ مِنْ اثْنَيْنِ زَيْتَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا كَدِرْهَمَيْنِ وَخَلَطَهُمَا بِحَيْثُ صَارَا لَا يَتَمَيَّزَانِ فَيَكُونُ الْمَخْلُوطُ كَالْهَالِكِ وَيَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ خِلَافًا لِقَوْلِ الْبُلْقِينِيُّ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهُ وَلَا يَكُونُ كَالْهَالِكِ، نَعَمْ صَرَّحَ جَمْعٌ بِأَنَّهُ وَإِنْ مَلَكَهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ إلَّا بَعْدَ إيفَاءِ صَاحِبِهِ حَقَّهُ.
وَصَرَّحَ الشَّيْخَانِ فِي الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ بِأَنَّهُ لَوْ اخْتَلَطَ نَحْوُ زَيْتَيْنِ لِمَالِكَيْنِ بِانْصِبَابٍ وَنَحْوِهِ كَصَبِّ بَهِيمَةٍ أَوْ بِرِضَا مَالِكِيهِمَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا؛ لِعَدَمِ التَّعَدِّي اهـ. فَكَذَا يُقَالُ بِنَظِيرِهِ هُنَا إذَا لَمْ يَتَعَدَّ النَّاظِرُ بِالْخَلْطِ كَمَا مَرَّ وَفِي صُورَةِ الِاخْتِلَاطِ بِغَيْرِ تَعَدٍّ يُجْبَرُ صَاحِبُ الْأَرْدَإِ عَلَى الْأَخْذِ مِنْ عَيْنِ الْمُخْتَلِطِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ عَيْنُ حَقِّهِ وَبَعْضَهُ خَيْرٌ مِنْهُ بِخِلَافِ صَاحِبِ الْأَجْوَدِ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ وَلَا الْبَدَلِ مِنْ الْمُخْتَلَطِ، بَلْ يُبَاعُ الْمُخْتَلَطُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ الْقِيمَةِ، وَلَا يَجُوزُ قِسْمَةُ عَيْنِ الْمُتَفَاضِلَيْنِ عَلَى نِسْبَةِ الْقِيمَةِ لِلتَّفَاضُلِ فِي الْكَيْلِ وَنَحْوِهِ.
وَيَأْتِي فِي الْخَلْطِ بِغَيْرِ الْجِنْسِ كَالزَّيْتِ بِالشَّيْرَجِ مَا تَقَرَّرَ فِي خَلْطٍ أَوْ اخْتِلَاطٍ نَحْوُ الزَّيْتَيْنِ مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ كَالْهَالِكِ وَمِنْ أَنَّ الْمُتَعَدِّي بِالْخَلْطِ يَمْلِكُهُمَا، وَمِنْ أَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا فِي صُورَةِ الِاخْتِلَاطِ بِلَا تَعَدٍّ وَهُنَا يَجُوزُ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْمُفَاضَلَةِ فِي الْقِسْمَةِ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ جَائِزٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِبَرَكَاتِهِ - عَنْ شَاةٍ مَذْبُوحَةٍ وُجِدَتْ فِي مَحَلَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِبَلَدِ كُفَّارٍ وَثَنِيَّةٍ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَجُوسِيٌّ وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، فَهَلْ يَحِلُّ أَكْلُ تِلْكَ الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي تِلْكَ الْمَحَلَّةِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِأَنَّهُ حَيْثُ كَانَ بِبَلَدٍ فِيهِ مَنْ يَحِلُّ ذِبْحُهُ كَمُسْلِمٍ أَوْ
يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ، وَمَنْ لَا يَحِلُّ ذِبْحُهُ كَمَجُوسِيٍّ أَوْ وَثَنِيٍّ أَوْ مُرْتَدٍّ أَوْ مُتَوَلَّدٍ بَيْنَ مَنْ يَحِلُّ ذِبْحُهُ وَمَنْ لَا يَحِلُّ ذِبْحُهُ، وَرُئِيَ بِتِلْكَ الْبَلَدِ شِيَاهٌ مَذْبُوحَةٌ مَثَلًا وَشُكَّ هَلْ ذَبَحَهَا مَنْ يَحِلُّ ذِبْحُهُ لَمْ تَحِلَّ لِلشَّكِّ فِي الذَّبْحِ الْمُبِيحِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ نَعَمْ بَحَثَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مَنْ يَحِلُّ ذِبْحُهُ لَوْ كَانَ أَغْلِبَ فِي تِلْكَ الْبَلَدِ كَأَنْ كَانَ أَكْثَرُهَا مُسْلِمِينَ أَوْ كِتَابِيِّينَ حَلَّتْ تِلْكَ الشِّيَاهُ الْمَذْبُوحَةُ مَثَلًا، وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِالْبَلَدِ دُونَ الْمَحَلَّةِ مِنْهَا حَتَّى لَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ مَحَلَّةٌ كُلُّ أَهْلِهَا مُسْلِمُونَ وَبَقِيَّةُ مَحَالِّهَا كُفَّارٌ أَوْ كُفَّارٌ وَمُسْلِمُونَ، وَمَنْ لَا يَحِلُّ ذِبْحُهُ أَكْثَرُ حُرِّمَتْ تِلْكَ الشَّاةُ وَإِنْ وُجِدَتْ فِي مَحَلَّةٍ مِنْ الْبَلَدِ، وَلَيْسَ بِتِلْكَ الْمَحَلَّةِ كَافِرٌ. لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لَيْسَ بِالْمَحَلَّةِ وَحْدَهَا، بَلْ بِجَمِيعِ الْبَلَدِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الشَّكِّ فَحَيْثُ شُكَّ فِي ذَابِحِ تِلْكَ الشَّاةِ، وَمَنْ لَا يَحِلُّ ذِبْحُهُ أَكْثَرُ حُرِّمَتْ وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ أَرْضٍ بَعْضُهَا صَدَقَةٌ عَلَى جِهَةٍ أَوْ مُعَيَّنٍ، وَبَاقِيهَا مِلْكٌ لِطَائِفَةٍ وَجَهِلَ كَمْ قَدْرُ الصَّدَقَةِ مِنْ الْأَرْضِ، أَيَجُوزُ التَّحَرِّي هُنَا أَوْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ فَتَحَرَّى فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ مَا حُكْمُهُ؟ وَكَذَلِكَ نَخْلَةٌ عَلَى جِهَةٍ أَوْ مُعَيَّنٍ فِي نَخَلَاتٍ مَمْلُوكَةٍ.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: يَجُوزُ التَّحَرِّي فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا صَرَّحُوا بِمَا يَعُمُّ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَجْوِبَةِ أَسْئِلَةِ الْفَقِيهِ الْإِمَامِ عُثْمَانَ، وَيُوَافِقُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي بَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ لَوْ اخْتَلَطَ حَمَامُهُ بِحَمَامِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَتَمَيَّزَا فَلَهُ أَخْذُ قَدْرِ مِلْكِهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْوَرَعِ لَا يَخْفَى، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَحَرَّى وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ شَيْءٌ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ إلَّا مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ صَدَقَةٌ وَمَا شَكَّ فِيهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ هَذَا إنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْبَعْضِ الصَّدَقَةَ وَالْبَعْضُ الْمِلْكَ مُفْرَزًا عَنْ الْآخَرِ قَبْلَ الِاشْتِبَاهِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَرْضِ صَدَقَةً مَشَاعًا وَبَعْضُهَا مِلْكًا مَشَاعًا، وَانْبَهَمَ فَيَجُوزُ الِاجْتِهَادُ أَيْضًا وَلَهُ أَخْذُ مَا ظَنَّهُ حَقَّهُ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ: لَوْ اخْتَلَطَ دِرْهَمٌ أَوْ دُهْنٌ حَرَامٌ بِدَرَاهِمِهِ أَوْ دُهْنِهِ مَثَلًا فَلَهُ إفْرَازُ غَيْرِ مِلْكِهِ، وَصَرْفُهُ لِجِهَةِ اسْتِحْقَاقِهِ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْبَاقِي وَجَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الشَّرِيكَ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْقِسْمَةِ فَلْيَرْفَعْهُ إلَى الْقَاضِي؛ لِيُقَاسِمَهُ عَنْ الْمَالِكِ إذَا تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ أَوْ حُضُورُهُ، فَإِلْحَاقُ الرَّافِعِيِّ لَهُ بِالِاخْتِلَاطِ الْحَمَامَيْنِ كَأَنَّهُ أَرَادَ فِي طَرِيقِ التَّصَرُّفِ اهـ.
وَيُجَابُ بِأَنَّ الْأَوْجَهَ بَقَاءُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِالْقِسْمَةِ هُنَا عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ؛
لِلضَّرُورَةِ
إذْ لَوْ كَلَّفْنَاهُ الرَّفْعَ لِلْقَاضِي احْتَاجَ إلَى إثْبَاتِ مِلْكِهِ وَالِاخْتِلَاطِ مَعَ مَا فِي الرَّفْعِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْكُلْفَةِ؛ فَلِذَلِكَ سَاغَ لَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِالْقِسْمَةِ فِيمَا ذُكِرَ كَمَا جَازَ لِلدَّائِنِ الظَّفَرُ بِمَالِ مَدِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ وَيَجْرِي نَظِيرُ هَذَا فِي صُورَتِنَا فِيمَا يَظْهَرُ فَلَهُ الِاسْتِقْلَالُ بِأَخْذِ جُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ مَثَلًا بِقَدْرِ حِصَّةِ حَقِّهِ ظَنًّا، وَلَا يَلْزَمُهُ الرَّفْعُ لِلْقَاضِي
لِلضَّرُورَةِ
قَالَ الْبَغَوِيّ وَلَوْ اخْتَلَطَ حَمَامُهُ بِحَمَامَةٍ فَلَهُ أَكْلُهُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ فِيهِ إلَّا وَاحِدَةً، وَصَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ كَمَا لَوْ اخْتَلَطَ ثَمَرُ غَيْرِهِ بِثَمَرِهِ وَحَكَى الرُّويَانِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَاحِدَةً حَتَّى يُصَالِحَ ذَلِكَ الْغَيْرَ أَوْ يُقَاسِمَهُ، وَلِنَاظِرِ الصَّدَقَةِ وَالْمَالِكِ الْقِسْمَةُ بِالرِّضَا إنْ رَأَى النَّاظِرُ الْمَصْلَحَةَ فِي الْقِسْمَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ فِي اخْتِلَاطِ الْحَمَامِ: لِلْمَالِكَيْنِ ذَلِكَ مَعَ الْجَهْلِ
لِلضَّرُورَةِ
وَإِنَّمَا اشْتَرَطْت فِي النَّاظِرِ مَا ذَكَرْته؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ عَنْ الْغَيْرِ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ لَهُ إلَّا بِالْمَصْلَحَةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ كُلِّ مُتَصَرِّفٍ عَنْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - بِمَا لَفْظُهُ هَلْ غَلَبَةُ الظَّنِّ تُخَالِفُ مُجَرَّدَ الظَّنِّ إذْ هُوَ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: جَرَى ابْنُ الرِّفْعَةِ عَلَى اتِّحَادِهِمَا حَيْثُ قَالَ فِي قَوْلِ الْغَزَالِيِّ فِي الْقَذْفِ:
(وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ زِنَاهَا) اسْتَعْمَلَ هُوَ وَغَيْرُهُ الظَّنَّ هُنَا فِي مُطْلَقِ التَّرَدُّدِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الرَّاجِحِ مِنْهُ، وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمُتَقَدِّمِينَ إذْ جَعَلَ غَلَبَةَ الظَّنِّ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ، وَلَوْ اسْتَعْمَلَهُ بِحَسَبِ اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَقْيِيدِهِ بِالْغَلَبَةِ لِأَنَّ أَوَّلَ الدَّرَجَاتِ تَكْفِي فِيهِ إذَا لَا ضَابِطَ بَعْدَهَا وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِي اكْتِفَائِهِ هُنَا بِمُجَرَّدِ الرُّجْحَانِ نَظَرًا، بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ خِلَافُهُ، وَأَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى مُجَرَّدِ الرُّجْحَانِ وَكَذَا فَهِمَهُ صَاحِبُ الْإِمَامِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْهُ فَقَالَ: إذَا عَلِمَ زِنَاهَا يَقِينًا أَوْ