المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب شروط الصلاة] - الفتاوى الفقهية الكبرى - جـ ١

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَةُ الفاكهي جامع الفتاوى]

- ‌[كِتَابُ الطَّهَارَةِ]

- ‌[بَابُ النَّجَاسَةِ]

- ‌[بَابُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِنْجَاءِ]

- ‌[بَابُ الْوُضُوءِ]

- ‌[بَابُ الْغُسْلِ]

- ‌[بَابُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ]

- ‌[بَابُ التَّيَمُّمِ]

- ‌[بَابُ الْحَيْضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي النِّفَاسِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ الْمَوَاقِيتِ]

- ‌[بَابُ الْأَذَانِ]

- ‌[بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ]

- ‌[بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ]

- ‌[بَابٌ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ]

- ‌[بَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ]

- ‌[كِتَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ]

- ‌[بَابُ شُرُوطِ الْإِمَامَة وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِر]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ]

- ‌[بَابُ اللِّبَاسِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفَيْنِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ]

الفصل: ‌[باب شروط الصلاة]

يُشَوِّشُ عَلَيْهِمْ هَلْ يُمْنَعُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: السُّنَّةُ فِي أَكْثَرِ الْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ الْإِسْرَارُ إلَّا لِمُقْتَضٍ، وَعِبَارَةُ شَرْحِي لِلْعُبَابِ مَعَ مَتْنِهِ: وَيُسَنُّ الدُّعَاءُ وَالذِّكْرُ سِرًّا، وَيَجْهَرُ بِهِمَا بَعْدَ السَّلَامِ الْإِمَامُ لِتَعْلِيمِ الْمَأْمُومِينَ، فَإِذَا تَعَلَّمُوا أَسَرُّوا.

وَمَا اقْتَضَتْهُ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الذِّكْرِ الْجَهْرُ لَا الْإِسْرَارُ غَيْرُ مُرَادٍ؛ لِمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّصِّ وَالْأَصْحَابِ أَنَّ السُّنَّةَ الْإِسْرَارُ؛ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: السُّنَّةُ فِي سَائِرِ الْأَذْكَارِ الْإِسْرَارُ إلَّا التَّلْبِيَةَ وَالْقُنُوتَ لِلْإِمَامِ وَتَكْبِيرَ لَيْلَتَيْ الْعِيدِ، وَعِنْدَ رُؤْيَةِ الْأَنْعَامِ فِي عَشْرِ الْحِجَّةِ، وَبَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ مِنْ الضُّحَى إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرَ السُّوقِ الْوَارِدَ؛ أَيْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. . . إلَخْ، وَعِنْدَ صُعُودِ الْهَضَبَاتِ وَالنُّزُولِ مِنْ الشُّرُفَاتِ.

قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه أَحَادِيثَ الْجَهْرِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ التَّعْلِيمَ.

وَفِي كَلَامِ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرِهِ مَا يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ رَفْعِ الْجَمَاعَةِ الصَّوْتَ بِالذِّكْرِ، دَائِمًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ؛ أَيْ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: وَإِنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ - أَيْ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ - كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ: وَفِي النَّفْسِ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ رضي الله عنه شَيْءٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي مَحْصُورِينَ.

وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الَّذِي عَلَى الشَّارِعِ مَثَلًا فَلَا؛ لِأَنَّهُ يَطْرُقُهُ مَنْ لَمْ يَدْخُلْهُ قَبْلُ، فَهُوَ كَمَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ كَانَتْ تَرِدُهُ الْأَعْرَابُ وَأَهْلُ الْبَوَادِي، فَفِيهِ يَظْهَرُ نَدْبُ إدَامَةِ الرَّفْعِ؛ لِيَتَعَلَّمَ كُلَّ مَرَّةٍ مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ فِيمَا قَبْلَهَا اهـ وَلَا شَيْءَ فِيهِ، فَقَدْ اسْتَدَلَّ فِي الْأُمِّ عَلَى نَدْبِ الْإِسْرَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء: 110] نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَبِأَنَّ غَالِبَ الرِّوَايَاتِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ تَهْلِيلٌ وَلَا تَكْبِيرٌ؛ أَيْ فَحُمِلَ مَا فِيهِ الْجَهْرُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لِلتَّعْلِيمِ، وَاسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُ لِطَلَبِ الْإِسْرَارِ بِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ «وَقَالَ: إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إنَّهُ مَعَكُمْ، إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ - أَعْنِي الْأَذْرَعِيَّ - آخِرًا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي طَلَبِ الشَّافِعِيِّ الْجَهْرَ لِتَعْلِيمِ الْمَأْمُومِينَ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ ظَاهِرَ مَا مَرَّ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِمَظِنَّةِ وُجُودِ مَنْ يَتَعَلَّمُ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ وُجُودِهِ، وَكَلَامُ الزَّرْكَشِيّ صَرِيحٌ فِي اعْتِمَادِ الْأَوَّلِ، بَلْ جَعَلَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْجَهْرِ أَنْ يُرِيدَ تَأْمِينَهُمْ عَلَى دُعَائِهِ فَيَجْهَرَ حَتَّى يَعْلَمُوا مَا يُؤَمِّنُونَ عَلَيْهِ، انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ. وَالْجَهْرُ بِحَضْرَةِ نَحْوِ مُصَلٍّ أَوْ نَائِمٍ مَكْرُوهٌ، كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ حَيْثُ لَمْ يَشْتَدَّ الْأَذَى، وَإِلَّا فَيَنْبَغِي تَحْرِيمُهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - نَقَلَ التَّاجُ السُّبْكِيّ فِي طَبَقَاتِهِ الْكُبْرَى عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مُذْ صَحَّ عِنْدِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي رَكْعَتَيْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ مَا تَرَكْتُ قِرَاءَتَهُمَا فِيهِمَا، هَلْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ أَوْ لَا؟ وَلَمْ نَرَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ السُّيُوطِيّ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ إنَّهُ يَقْرَأُ فِيهِمَا:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، فَأَيُّهُمَا أَصَحُّ وَأَوْفَقُ لِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: عِبَارَتِي فِي شَرْحِ الْعُبَابِ: صَحَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي عِشَاءِ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَفِي مَغْرِبِهَا الْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً، وَهُوَ مَا اعْتَمَدَهُ التَّاجُ السُّبْكِيّ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ مُدَّةَ إمَامَتِهِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا وَهُوَ أَبُو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتْرُكُ ذَلِكَ سَفَرًا وَلَا حَضَرًا، انْتَهَتْ. وَبِهَا يُعْلَمُ أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ. وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ تَحْرِيفٌ مِنْ النَّاسِخِ إنْ لَمْ يَكُنْ سَهْوًا مِنْ الْمُؤَلِّفِ، وَأَنَّ الْفُقَهَاءَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ هُوَ جَارٍ عَلَى الْقَوَاعِدِ، عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي اعْتِمَادُ الْإِمَامِ أَبِي عُثْمَانَ الْمَذْكُورِ وَالتَّاجِ السُّبْكِيّ وَغَيْرِهِمَا، وَكَمْ مِنْ مَسْأَلَةٍ لَا يَذْكُرُهَا أَوْ يَعْتَمِدُهَا إلَّا وَاحِدٌ وَيَكُونُ مَا قَالَهُ فِيهَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[بَابُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ]

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه وَنَفَعَنَا بِعُلُومِهِ - عَنْ الرُّطُوبَةِ الْمُنْفَصِلَةِ بِقَتْلِ الْعَقْرَبِ مِنْهَا أَيُعْفَى عَنْهَا أَمْ لَا؟

ص: 158

(فَأَجَابَ) - فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - بِأَنَّهُ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِ تِلْكَ الرُّطُوبَةِ كَقَلِيلِ دَمِ الْقَمْلَةِ الْمَقْتُولَةِ عَمْدًا؛ أَخْذًا مِنْ إلْحَاقِهِمْ بِالْبَرَاغِيثِ كُلَّ مَا لَا دَمَ لَهُ سَائِلٌ، وَالْعَقْرَبُ مِمَّا لَا دَمَ لَهُ سَائِلٌ، فَحُكْمُ رُطُوبَتِهَا حُكْمُ دَمِ نَحْوِ الْبَرَاغِيثِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمَقْتُولَ مِنْهَا عَمْدًا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فَكَذَلِكَ الْعَقْرَبُ الْمَقْتُولَةُ عَمْدًا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِ رُطُوبَتِهَا. نَعَمْ، سُمُّهَا لَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُ جَمْعٍ مُتَقَدِّمِينَ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ النَّجَاسَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا إذَا لَاقَتْهَا رُطُوبَةٌ هَلْ يُعْفَى عَنْهَا أَمْ لَا؟ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ رَأْسِ الْمَحْلُوقِ دَمٌ قَلِيلٌ ثُمَّ بَلَّهُ الْحَالِقُ وَحَلَقَهُ هَلْ يُعْفَى عَنْهُ أَمْ لَا فَإِنَّ هَذِهِ كَثِيرَةُ الْبَلْوَى.

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ وَبِعُلُومِهِ - بِقَوْلِهِ: إذَا لَاقَى النَّجَاسَةَ الْمَعْفُوَّ عَنْهَا رُطُوبَةٌ صَارَتْ غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا. نَعَمْ، إنْ كَانَتْ مُلَاقَاةُ تِلْكَ الرُّطُوبَةِ ضَرُورِيَّةً أَوْ يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا؛ كَمُلَاقَاةِ مَلْبُوسِهِ الَّذِي فِيهِ دَمُ بَرَاغِيثَ مَثَلًا لِبَدَنِهِ بَعْدَ الْغُسْلِ، وَكَمُلَاقَاةِ مَا يَتَقَاطَرُ مِنْ نَحْوِ وُضُوئِهِ أَوْ مِنْ حِلَاقَةِ رَأْسِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لِثَوْبِهِ عُفِيَ عَنْهُ؛ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) - مَتَّعَ اللَّهُ بِحَيَاتِهِ - عَمَّنْ خَرَجَ مِنْ لِثَتِهِ دَمٌ قَلِيلٌ فَبَزَقَ حَتَّى صَفَا أَوْ لَمْ يَصْفُ وَبَلَعَ رِيقَهُ، هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُفْطِرُ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ، فَهَلْ يُعْفَى عَنْهُ لَوْ لَمْ يَبْلَعْهُ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ، وَأَمَّا الْعَفْوُ عَنْهُ لَوْ لَمْ يَبْتَلِعْهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ كَمَا ذَكَرْت ذَلِكَ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الرَّوْضِ مَعَ تَحْرِيرِ الْمُعْتَمَدِ مِنْهُ، وَعِبَارَتِي: ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي الْعَفْوِ عَنْ دَمِ الْمَنَافِذِ فَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَطَالَمَا تَوَقَّفْت فِي ذَلِكَ حَتَّى رَأَيْت فِي الْمَجْمُوعِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ فِي مَسْأَلَةِ مَا لَوْ رُعِفَ الْإِمَامُ مَا يُعْلَمُ بِتَأَمُّلِهِ أَنَّ الْأَصْحَابَ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الرُّعَافِ، وَهَذَا قَاطِعٌ لِلنِّزَاعِ، وَكَأَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ - أَيْ الْقَائِلَيْنِ بِالْعَفْوِ وَبِعَدَمِهِ - غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ لِذِكْرِهِ لَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ.

وَرَأَيْت فِي الْمَجْمُوعِ أَيْضًا مَا لَفْظُهُ: وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَدِلَّتِهِمْ فَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَيْ وَهُوَ قَوْلُهَا: مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا فَمَصَصْته أَيْ أَذْهَبْته بِهِ. أَجَابَ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الدَّمِ الْيَسِيرِ لَا تَجِبُ إزَالَتُهُ بَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَهُ، وَيَكُونُ عَفْوًا، وَلَمْ تُرِدْ عَائِشَةُ غَسْلَهُ وَتَطْهِيرَهُ بِالرِّيقِ؛ وَلِهَذَا لَمْ تَقُلْ: كُنَّا نَغْسِلُهُ بِالرِّيقِ، وَإِنَّمَا أَرَادَتْ إذْهَابَ صُورَتِهِ لِقُبْحِ مَنْظَرِهِ، فَبَقِيَ الْمَحَلُّ نَجِسًا كَمَا كَانَ وَلَكِنَّهُ مَعْفُوٌّ فِيهِ لِقِلَّتِهِ اهـ.

لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ فَتَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ صَرِيحًا فِي الْعَفْوِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْفَرْجِ وَمَعَ اخْتِلَاطِهِ بِالرِّيقِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ، وَفِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ فَقَطْ بَلْ عَلَى مَذْهَبِنَا أَيْضًا، فَهَلْ بَقِيَ بَعْدَ هَذَا رِيبَةٌ فِي الْعَفْوِ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْ دَمِ الْمَنَافِذِ؟ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْعَفْوِ عَنْهَا أَيْضًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ غَانِمٍ الْمَقْدِسِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ وَابْنُ الْعِمَادِ، وَعِبَارَةُ الزَّرْكَشِيّ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ الذَّكَرِ، فَإِطْلَاقُهُمْ وُجُوبَ الِاسْتِنْجَاءِ فِيهِ غَفْلَةٌ عَنْ هَذَا، فَانْظُرْ كَيْفَ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْغَفْلَةِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي كَلَامِهِمْ لَمْ يَصِحَّ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْ دَمِ جَمِيعِ الْمَنَافِذِ هُوَ الْمَنْقُولُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَاعْتَمَدَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَنَّ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ مَظِنَّتِهِ كَمَا عَرَفْتَ.

وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْعِمَادِ الَّذِي قَدَّمْته فِي الِاسْتِنْجَاءِ أَنَّ مَحَلَّ الْعَفْوِ عَنْ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ خَارِجًا مِنْ مَعْدِنِ النَّجَاسَةِ؛ كَالْمَثَانَةِ وَمَحَلِّ الْغَائِطِ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ مُلَاقَاتُهُ لِمَجْرَاهَا؛ لِأَنَّ الْبَاطِنَ لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ؛ وَلِأَنَّ مُلَاقَاتَهُ ضَرُورِيَّةٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالدَّمِ فِي ذَلِكَ نَحْوُهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ، وَلَا يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ قَوْلُ الْمَجْمُوعِ نَقْلًا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: إذَا غَسَلَ فَمَهُ الْمُتَنَجِّسَ فَلْيُبَالِغْ فِي الْغَرْغَرَةِ، وَلَا يَبْتَلِعْ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا قَبْلَ غَسْلِهِ لِئَلَّا يَكُونَ آكِلًا نَجَاسَةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَى أَنَّهُ مُتَنَجِّسٌ بِدَمِ لِثَتِهِ مَثَلًا، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَيُحْمَلُ عَلَى دَمِ اللِّثَةِ الْكَثِيرِ بِدَلِيلِ كَلَامِهِ السَّابِقِ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِذَلِكَ وَيَكُونَ مَحَلُّ الْعَفْوِ إذَا لَمْ يَخْتَلِطْ بِمَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى اخْتِلَاطِهِ بِهِ، انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورَةُ، وَهِيَ مُوفِيَةٌ لِلْغَرَضِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَلِرَبِّنَا سُبْحَانَهُ أَتَمُّ الْحَمْدِ وَأَكْمَلُهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ

ص: 159

بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ - عَمَّنْ صَلَّى عَلَى السَّطْحِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّطْحِ أَيْ الْجَانِبِ الَّذِي إلَى الشَّارِعِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ وَلَا حَائِطَ عَلَى السَّطْحِ مُرْتَفِعٌ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ، فَهَلْ يُغْنِي عَنْ السُّتْرَةِ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَكَلَامُ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ مَا ذُكِرَ لَا يُغْنِي عَنْ السُّتْرَةِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ السُّتْرَةِ دَفْعُ الشَّيْطَانِ وَالْمَارِّ حَتَّى لَا يَقْطَعَا عَلَيْهِ صَلَاتَهُ بِاشْتِغَالِهِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهَا تَقْوَى وَتَزِيدُ عِنْدَ عَدَمِ السُّتْرَةِ وَبِمُرُورِ الْمَارِّ.

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى مَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ: إنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصًا فَلْيَخُطَّ خَطًّا ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَا فِي أَمَامِهِ» .

وَصَحَّ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ وَلَا يُبَالِي بِمَا مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ» وَقَالَ «اسْتَتِرُوا فِي صَلَاتِكُمْ وَلَوْ بِسَهْمٍ» وَقَالَ «يُجْزِي مِنْ السُّتْرَةِ مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ وَلَوْ بِدِقَّةِ شَعْرَةٍ» وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ فَيُصَلِّي إلَيْهَا» .

فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَاتِرٍ بَيْن يَدَيْ الْمُصَلِّي؛ حَتَّى يَمْتَنِعَ بِسَبَبِهِ النَّاسُ مِنْ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَشْتَغِلَ بِهِمْ وَالشَّيْطَانُ مِنْ التَّعَرُّضِ لَهُ، فَيَقْطَعُ صَلَاتَهُ بِوَسْوَسَتِهِ لِقُوَّتِهَا حِينَئِذٍ كَمَا مَرَّ، وَأَنَّ قُرْبَهُ مِنْ السَّطْحِ الْمَذْكُورِ لَا يُغْنِي عَنْ السُّتْرَةِ وَإِنْ امْتَنَعَ بِسَبَبِهِ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَادَةً لِبَقَاءِ مُرُورِ الشَّيْطَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ.

وَالْمَحْذُورُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى مُرُورِهِ أَقْوَى مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُرُورِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ الْحَاصِلَةَ بِوَسْوَسَتِهِ أَسْرَعُ وُقُوعًا وَأَقْبَحُ جِنْسًا وَنَوْعًا.

وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ؛ إذْ حَاصِلُ الْمُعْتَمَدِ مِنْهُ أَنَّهُ يُسَنُّ لِمُرِيدِ الصَّلَاةِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى نَحْوِ جِدَارٍ أَوْ عَمُودٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فَإِلَى شَاخِصٍ طُولُهُ ثُلُثَا ذِرَاعٍ بِذِرَاعِ الْيَدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَرْضٌ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَإِلَى مُصَلًّى يَفْتَرِشُهُ كَسَجَّادَةٍ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَإِلَى خَطٍّ يَخُطُّهُ مِنْ قَدَمَيْهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ طُولًا لَا عَرْضًا، وَمَتَى عَدَلَ عَنْ رُتْبَةٍ إلَى دُونِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا كَانَتْ كَالْعَدَمِ.

وَسَكَتُوا عَنْ قَدْرِ الْمُصَلَّى وَالْخَطِّ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُمَا كَالشَّاخِصِ وَيُسَنُّ أَنْ يُمِيلَ السُّتْرَةَ عَنْ وَجْهِهِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً وَيَجِبُ أَنْ لَا يُبْعِدَهَا عَنْ قَدَمَيْهِ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ، وَمَتَى اسْتَتَرَ بِسُتْرَةٍ مُعْتَبَرَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَرَهَا مُقَلِّدُ الْمَارِّ فِيمَا يَظْهَرُ حَرُمَ الْمُرُورُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَلَوْ لِضَرُورَةٍ، وَلَوْ بَعْدَ إزَالَتِهَا فِي الْأَثْنَاءِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ مَا لَمْ يُقَصِّرْ الْمُصَلِّي بِنَحْوِ وُقُوفٍ بِقَارِعَةِ طَرِيقٍ أَوْ شَارِعٍ أَوْ دَرْبٍ ضَيِّقٍ أَوْ بَابِ مَسْجِدٍ أَوْ بِالْمَطَافِ وَقْتَ طَوَافِ النَّاسِ.

هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِمْ وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ الْقُرْبَ مِنْ طَرَفِ السَّطْحِ الْمَذْكُورِ لَا يُغْنِي عَنْ السَّتْرِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(سُئِلَ) - مَتَّعَ اللَّهُ بِحَيَاتِهِ - عَمَّا لَوْ وُجِدَ إمَامُ الْجَامِعِ أَوْ شَخْصٌ آخَرُ يُصَلِّي إلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ، هَلْ يُنْدَبُ لِمَنْ يُصَلِّي مُقْتَدِيًا بِمَنْ ذُكِرَ أَنْ يَقْرَبَ مِنْ سُتْرَةٍ وَإِنْ أَدَّى إلَى الِانْفِرَادِ عَنْ الصَّفِّ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ، فَهَلْ يُرَاعَى التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ فِي الشَّاخِصِ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَبْسُطَ مُصَلًّى وَيَقْرَبَ مِنْ الْأَوَّلِ لَا يَعْدِلُ إلَيْهِ حَتَّى لَا يَجِدَ حَائِطًا أَوْ سَارِيَةً وَإِنْ بَعُدَتْ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْخَطُّ فِي الْمَسْجِدِ لِكَوْنِهِ مُجَصَّصًا، هَلْ لَهُ أَنْ يَخُطَّ فِيهِ بِمِدَادٍ وَنَحْوِهِ؟

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - بِقَوْلِهِ: إنَّ الَّذِي يَتَّجِهُ لِي أَنَّهُ حَيْثُ تَعَارَضَ السُّتْرَةُ وَالِانْفِرَادُ فِي الصَّلَاةِ؛ بِأَنْ كَانَ لَوْ اسْتَتَرَ السُّتْرَةَ الْمُعْتَبَرَةَ وَقَفَ مُنْفَرِدًا، وَلَوْ وَقَفَ فِي الصَّفِّ وَقَفَ بِلَا سُتْرَةٍ - قَدَّمَ الْوُقُوفَ فِي الصَّفِّ؛ لِأَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّارِعِ بِهِ أَكْثَرُ بِدَلِيلِ الْخِلَافِ الشَّهِيرِ فِي أَنَّ مَنْ وَقَفَ مُنْفَرِدًا عَنْ الصَّفِّ مَعَ إمْكَانِ الدُّخُولِ فِيهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِنَا؛ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ عِنْدَهُمْ، بَلْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ لَكِنْ أَجَبْتُ عَنْهُ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الرَّوْضِ بِمَا ظَهَرَ بِهِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - وُضُوحُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَئِمَّتُنَا، بِخِلَافِ مَنْ صَلَّى بِلَا سُتْرَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَجْرِ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ خِلَافٌ، كَذَلِكَ وَمَا جَرَى خِلَافٌ فِي الْإِبْطَالِ بِفَقْدِهِ أَوْلَى مِمَّا لَمْ يَجْرِ فِي فَقْدِهِ خِلَافٌ، بَلْ مَا جَرَى فِي الْإِبْطَالِ بِفَقْدِهِ خِلَافٌ قَوِيٌّ أَوْلَى مِمَّا جَرَى فِي الْإِبْطَالِ بِفَقْدِهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ؛ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُتَفَرِّقَاتُ

ص: 160

كَلَامِهِمْ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَوْ تَعَارَضَ إدْرَاكُ الْجَمَاعَةِ وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الْفَرَائِضِ؛ بِأَنْ دَخَلَ مَنْ عَلَيْهِ فَائِتَةُ الظُّهْرِ مَثَلًا.

وَرَأَى الْجَمَاعَةَ فِي الْعَصْرِ قَدَّمَ التَّرْتِيبَ؛ فَيُصَلِّي الْفَائِتَةَ وَحْدَهُ، وَإِنْ خَشِيَ عَدَمَ إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَنَا وَفَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ أَحْمَدَ لَكِنْ الْقَائِلُ بِذَلِكَ لَا يَرَى بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِفَقْدِهَا، وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يَقُولُ بِهِ أَنَّ مَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ أَثِمَ، بِخِلَافِ تَرْتِيبِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِفَرْضِيَّتِهِ فَإِنَّهُ يَرَى بُطْلَانَ الصَّلَاةِ عِنْدَ فَقْدِهِ. قَالُوا: فَكَانَتْ رِعَايَتُهُ آكَدَ مِنْ رِعَايَةِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ فَقُدِّمَ عَلَيْهَا، وَإِنْ خَشِيَ أَوْ عَلِمَ فَوْتَهَا.

وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ أَنَّ فَقْدَهَا مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهَا، بِخِلَافِ الْإِبْطَالِ بِفَقْدِ التَّرْتِيبِ فَإِنَّهُ مُتَّفِقٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ عَلَى أَنَّ فَقْدَهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؛ فَثَبَتَ أَنَّهُ آكَدُ مِنْ الْجَمَاعَةِ، وَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْته الرَّدُّ عَلَى الْإِسْنَوِيِّ وَغَيْرِهِ فِي قَوْلِهِمْ بِتَقْدِيمِ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ ذَلِكَ تَقَرَّرَ مَا فِي الْجَمَاعَةِ وَالتَّرْتِيبِ، وَعَلِمْت أَنَّ الْأَصَحَّ تَقْدِيمُ التَّرْتِيبِ لِمَا ذَكَرْته.

وَظَهَرَ لَك مِمَّا مَرَّ أَنَّ الدُّخُولَ فِي الصَّفِّ مَعَ عَدَمِ السُّتْرَةِ أَوْلَى مِنْ الْوُقُوفِ مُنْفَرِدًا مَعَ وُجُودِهَا.

نَعَمْ، مَنْ أَحْرَمَ بِلَا سُتْرَةٍ وَأَمْكَنَهُ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ - أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ بِفِعْلٍ قَلِيلٍ إلَى سُتْرَةٍ مُعْتَبَرَةٍ، وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ خُرُوجُهُ مِنْ الصَّفِّ - كَانَ الْأَوْلَى لَهُ التَّقْدِيمَ أَوْ التَّأْخِيرَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْقَلِيلَ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ سُنَّةٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: يُسَنُّ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ سَعَةً إذَا أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا أَنْ يَجُرَّ فِي الْقِيَامِ آخَرَ مِنْ الصَّفِّ إلَيْهِ؛ لِيَصْطَفَّ مَعَهُ، وَكَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: رضي الله عنهما «بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَقُمْت عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ.» وَمِنْ ثَمَّ قُلْتُ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الرَّوْضِ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الْآتِي أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْإِمَامِ إذَا فَعَلَ أَحَدٌ مِنْ الْمَأْمُومِينَ خِلَافَ السُّنَّةِ أَنْ يُرْشِدَهُ إلَيْهَا بِيَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا، لَكِنْ إنْ وَثِقَ مِنْهُ بِالِامْتِثَالِ.

وَقِيَاسُ الْمَأْمُومِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ بَعِيدٍ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ هَذَا مُسْتَثْنَى أَيْضًا مِنْ كَرَاهَةِ الْفِعْلِ الْقَلِيلِ، ثَمَّ رَأَيْته فِي الْمُهَذَّبِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ عَلَّمَهُ الْإِمَامُ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِابْنِ عَبَّاسٍ.

وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته لَكِنْ ظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْجَاهِلِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لَكِنْ قَضِيَّةُ قَوْلِ شَرْحِهِ: فَإِنْ لَمْ يَتَحَوَّلْ الْمَأْمُومُ اُسْتُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَهُ، وَقَوْلُ التَّحْقِيقِ: فَإِنْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ خَلْفَهُ نُدِبَ التَّحَوُّلُ إلَى الْيَمِينِ، وَإِلَّا فَلْيُحَوِّلْهُ الْإِمَامُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَهُوَ الْأَوْجَهُ، انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ تَرَدُّدٌ فِي كُلِّ صَفٍّ هَلْ هُوَ سُتْرَةٌ لِمَا خَلْفَهُ إذَا كَانَ بَيْنَ كُلِّ صَفَّيْنِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ؟ وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّهُ سُتْرَةٌ؛ وَمِنْ ثَمَّ قُلْتُ: فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ: قَالَ فِي التَّتِمَّةِ: وَلَا يُسْتَحَبُّ السَّتْرُ بِآدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ؛ لِشَبَهِهِ بِعِبَادَةِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ.

وَفِي مُسْلِمٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ إلَيْهَا فَيُصَلِّي إلَيْهَا» ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَفْعَلُهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ فَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْ الشَّافِعِيَّ وَمَذْهَبُهُ اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ فَيَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِهِ؛ إذْ لَا مُعَارِضَ لَهُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ الْمُرُورُ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ بِذَلِكَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ بَلْ يُكْرَهُ إنْ اسْتَقْبَلَ الْآدَمِيُّ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً وَرَاءَهُ. وَمِنْهُ يُؤْخَذُ أَنَّ كُلَّ مَا كُرِهَ اسْتِقْبَالُهُ كَجِدَارٍ نَجِسٍ أَوْ مُزَوَّقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ السَّتْرُ بِهِ فَلَا يَحْرُمُ الْمُرُورُ، وَأَنَّ كُلَّ صَفٍّ يَكُونُ سُتْرَةً لِمَا خَلْفَهُ إنْ قَصَدُوا الِاسْتِتَارَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ فِيهِ شَبَهٌ بِمَا مَرَّ عَنْ التَّتِمَّةِ اهـ.

وَحَيْثُ قُلْنَا: يُنْدَبُ لِمَنْ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَقْرُبَ مِنْ السُّتْرَةِ، فَلْيُرَاعِ التَّرْتِيبَ الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْجِدَارَ أَوْ نَحْوَهُ كَالْعَمُودِ؛ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُمَا فَالشَّاخِصُ مِنْ نَحْوِ عَصًا أَوْ مَتَاعٍ يَجْمَعُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ طُولُهُ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ فَأَكْثَرَ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ افْتَرَشَ مُصَلًّى كَسَجَّادَةٍ؛ فَإِنْ عَجَزَ خَطَّ خَطًّا مِنْ قَدَمَيْهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ طُولًا لَا عَرْضًا كَمَا رَجَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ السُّتْرَةَ لَا تَحْصُلُ إذَا جَعَلَهُ عَرْضًا مِنْ يَمِينِهِ إلَى يَسَارِهِ أَوْ عَكْسِهِ لَكِنَّ مُقْتَضَى كَلَامِ الْحَاوِي وَفُرُوعِهِ حُصُولُهَا.

وَاعْتَمَدَهُ بَعْضُهُمْ، وَحَمَلَ عِبَارَةَ الرَّوْضَةِ عَلَى الْأَكْمَلِ، وَعِبَارَةَ غَيْرِهَا عَلَى حُصُولِ أَصْلِ السُّنَّةِ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَمَا ذَكَرْته

ص: 161

مِنْ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالْخَطِّ هُوَ مَا فِي التَّحْقِيقِ وَشَرْحِ مُسْلِمٍ، وَقَوْلُ الْإِسْنَوِيِّ: الْحَقُّ مَا فِي الْإِقْلِيدِ مِنْ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ وَلَا أَثَرٌ وَإِنَّمَا قَاسُوهُ عَلَى الْخَطِّ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ - مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْمَقِيسَ قَدْ يَكُونُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ؛ نَظَرًا لِلْمَقْصُودِ كَمَا فِي الْخَطِّ مَعَ الْإِيتَاءِ فِي الْكِتَابَةِ، وَبِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَوْلَى نَظَرًا لِلْمَعْنَى - وَهُوَ ظُهُورُ السَّتْرِ - لَكِنْ الْخَطُّ خَالَفَ فِيهِ كَثِيرُونَ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَمْنَعُوا الْمُصَلِّيَ؛ لِمَا ذُكِرَ وَلَوْ عَجَزَ عَمَّا عَدَا الْخَطِّ أَوْ كَانَ بِمَحَلٍّ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخُطَّ فِيهِ خَطًّا كَأَنْ يَكُونَ بِمَسْجِدٍ مُجَصَّصٍ ثُمَّ خَطَّ بَيْنَ يَدَيْهِ طُولًا أَوْ عَرْضًا عَلَى مَا مَرَّ خَطًّا بِمِدَادٍ، أَوْ جَعَلَ مَحَلَّ الْخَطِّ عَلَامَةً أُخْرَى؛ كَأَنْ كَانَ مَعَهُ عَصًا وَلَمْ يُمْكِنْهُ نَصْبُهَا فَبَسَطَهَا عَلَى هَيْئَةِ الْخَطِّ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ:

إنَّ ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الْخَطِّ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ إشْعَارُ الْمَارِّ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي، وَبِأَنَّ الْقَصْدَ بِالسُّتْرَةِ لَيْسَ دَفْعَ الْمَارِّ فَحَسْبُ، بَلْ دَفْعُ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَى الْمُصَلِّي الْمُسَبَّبِ مِنْ عَدَمِ السُّتْرَةِ، كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ مَا صَحَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا، لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ» . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ ذَلِكَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْخَطِّ فَلَا تَحْصُلُ سُنَّةُ السَّتْرِ بِذَلِكَ، وَيَحْرُمُ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي؛ لِأَنَّ السَّتْرَ بِهِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فِي الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ الْمَارُّ مَعَ وُجُودِهِ مَعْذُورًا. وَلَعَلَّ الْأَقْرَبَ هُوَ الْأَوَّلُ فَيَحْصُلُ بِهِ سُنَّةُ السَّتْرِ بِذَلِكَ.

وَيَحْرُمُ الْمُرُورُ عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سُتْرَةٌ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ السُّتْرَةَ يُشْتَرَطُ اعْتِيَادُهَا؛ فَإِنَّ الْخَطَّ نَفْسَهُ لَمْ يُعْتَدَّ السَّتْرُ بِهِ إلَّا نَادِرًا، فَتَكُونُ هَذِهِ مُلْحَقَةً بِهِ بِجَامِعِ عَدَمِ ظُهُورِ السُّتْرَةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، فَإِنَّ الْخَطَّ لَيْسَ فِيهِ سُتْرَةٌ ظَاهِرَةٌ؛ وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ الْخِلَافُ الْقَوِيُّ لَوْلَا صِحَّةُ الْحَدِيثِ بِهِ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ. وَمَعَ عَدَمِ ظُهُورِ السُّتْرَةِ فِيهِ جَعَلُوهُ سُتْرَةً؛ تَبَعًا لِلْحَدِيثِ وَأَلْحَقُوا بِهِ الْمُصَلِّيَ الْأَوْلَى مِنْهُ بِالْحُكْمِ؛ لِظُهُورِ السُّتْرَةِ فِيهِ كَمَا مَرَّ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ظُهُورَ السُّتْرَةِ لَيْسَ شَرْطًا، وَعَلَى أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْخَطِّ لَيْسَ تَعَبُّدًا بَلْ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ إشْعَارُ الْمَارِّ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْمُرُورِ وَالشَّيْطَانِ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّسَلُّطِ عَلَى الْمُصَلِّي؛ لِقَطْعِ صَلَاتِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي وَضْعِ الْعَصَا عَلَى هَيْئَةِ الْخَطِّ بِالْمِدَادِ السَّابِقِ وَنَحْوِهِمَا فَظَهَرَ إلْحَاقُهُمَا بِهِ وَالِاعْتِدَادُ بِهِمَا فِي السُّتْرَةِ، وَعَلَيْهِ فَهَلْ هُمَا فِي مَرْتَبَةِ الْخَطِّ؛ لِأَنَّهُمَا مُلْحَقَانِ بِهِ أَوْ فِي مَرْتَبَةِ الْمُصَلِّي؟ الَّذِي يَتَّجِهُ - الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ فِيهِ مِنْ ظُهُورِ السُّتْرَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا فَكَانَ إلْحَاقُهُمَا بِالْخَطِّ وَجَعْلُهُمَا فِي مَرْتَبَتِهِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ فَتْحِ الْمَأْمُومِ عَلَى إمَامِهِ الَّذِي غَلِطَ فِي الْقِرَاءَةِ أَوْ تَوَقَّفَتْ عَلَيْهِ هَلْ تَبْطُلُ بِهِ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ إذَا قَصَدَ الرَّدَّ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَمْ لَا عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ كَالدَّمِيرِيِّ وَابْنِ الْعِمَادِ وَمَا الَّذِي يُفْتَى بِهِ الْأَوَّلُ أَوْ الثَّانِي؟ وَهَلْ نَصَّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمُونَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ قَصْدُ الْقِرَاءَةِ مُخْتَصٌّ بِالْفَاتِحَةِ إذَا تَوَافَقَ مَحَلُّ قِرَاءَتِهَا أَمْ لَا؟ وَالتَّسْبِيحُ لِلتَّنْبِيهِ وَالْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ لِلْإِعْلَامِ كَالْفَتْحِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ تَنَاقَضَ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ بَيِّنُوا لَنَا بَيَانًا شَافِيًا؟

(فَأَجَابَ) - فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - بِقَوْلِهِ: أَمَّا مَسْأَلَةُ الْفَتْحِ وَالتَّنْبِيهِ وَالْإِعْلَامِ بِالتَّكْبِيرِ فَفِيهَا اضْطِرَابٌ، وَحَاصِلُ الْمُعْتَمَدِ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْ نَبَّهَ غَيْرَهُ بِقُرْآنٍ أَوْ ذِكْرٍ؛ كَأَنْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ اسْتَأْذَنُوا فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ: اُدْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ، فَإِنْ قَصَدَ التَّنْبِيهَ وَحْدَهُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، كَمَا فِي تَحْقِيقِ النَّوَوِيِّ وَدَقَائِقِهِ، وَبَحَثَ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ إنْ كَانَ انْتَهَى فِي قِرَاءَتِهِ إلَى تِلْكَ الْآيَةِ لَمْ تَبْطُلْ وَإِلَّا بَطَلَتْ وَاعْتَمَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ، بَلْ حَيْثُ وُجِدَ صَارِفٌ فَلَا بُدَّ مِنْ قَصْدِ الْقُرْآنِ أَوْ الذِّكْرِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّا يَأْتِي، وَيَأْتِي هَذَا التَّفْصِيلُ فِي الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالذِّكْرِ؛ كَأَنْ أُرْتِجَ عَلَيْهِ نَحْوُ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ فِي التَّشَهُّدِ فَقَالَهَا الْمَأْمُومُ، وَفِي الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ الْمُبَلِّغِ فَإِنْ قَصَدَ الْقُرْآنَ أَوْ الذِّكْرَ أَوْ التَّكْبِيرَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ قَصْدِ الْإِعْلَامِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَصَدَ الْإِعْلَامَ وَحْدَهُ أَوْ أَطْلَقَ بَطَلَتْ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَصْلُحُ لِتَخَاطُبِ النَّاسِ بِهِ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ وَمَا يَصْلُحُ، خِلَافًا لِلْإِسْنَوِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ؛

ص: 162

لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الصَّلَاةِ الْخُضُوعُ لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَمُنَاجَاتُهُ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْخَاصِّ الْمَشْرُوعِ كَمَا أَرْشَدَ إلَيْهِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ «إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» ، فَقَصْدُ التَّنْبِيهِ أَوْ الْفَتْحِ مَثَلًا مَعَ قَصْدِ الْقُرْآنِ أَوْ الذِّكْرِ تَابِعٌ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يُؤَثِّرُ، بِخِلَافِ مُجَرَّدِ قَصْدِ التَّنْبِيهِ أَوْ الْفَتْحِ أَوْ الْإِعْلَامِ لِصَرْفِهِ الذِّكْرَ أَوْ الْقُرْآنَ عَنْ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ الْأَصْلِيِّ إلَى مَعْنَى مَا يُتَخَاطَبُ بِهِ، فَأَشْبَهَ كَلَامَ النَّاسِ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُمْ؛ إذْ (سُبْحَانَ اللَّهِ) حِينَئِذٍ بِمَعْنَى تَنْبِيهٍ (وَاَللَّهُ أَكْبَرُ) بِمَعْنَى رَكَعَ الْإِمَامُ.

وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا لِلْإِسْنَوِيِّ هُنَا، ثُمَّ مَا ذُكِرَ مِنْ التَّسْوِيَةِ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ مِنْ الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَقَرَّرَ، هُوَ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَاعْتَمَدَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَنَازَعَ فِيهِ جَمَاعَةٌ كَابْنِ الْمُقْرِي تَبَعًا لِلْبُلْقِينِيِّ وَغَيْرِهِ بِأُمُورٍ طَوِيلَةٍ بَيَّنْتُ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِي لِلرَّوْضَةِ أَنَّهَا كُلَّهَا مَرْدُودَةٌ، وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّ الْفَتْحَ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ كَوْنِهِ سُنَّةً قَصْدُ الْقِرَاءَةِ فَلَا بِدَعَ عِنْدَ انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي الْإِبْطَالِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الْإِفْهَامُ الْمُجَرَّدُ مِنْهُ أَشْبَهَ كَلَامَ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ بِالنَّذْرِ أَوْ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إفْهَامَ أَحَدٍ وَإِنَّمَا هُوَ إنْشَاءُ قُرْبَةٍ؛ وَمِنْ ثَمَّ لَوْ قَصَدَ بِهِ إفْهَامَ الْغَيْرِ الْعِتْقَ أَوْ الْتِزَامَ الصَّدَقَةِ بِحَيْثُ أَخْرَجَهُ مِنْ الْإِنْشَاءِ إلَى الْإِخْبَارِ أَبْطَلَ بِلَا شَكٍّ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ ثَدْيَ الْمُرْضِعَةِ مِنْ رِيقِ الرَّضِيعِ الْمُتَنَجِّسِ؛ كَقَيْءٍ أَوْ ابْتِلَاعِ نَجَاسَةٍ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) - فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - يُعْفَى عَنْ فَمِ الصَّغِيرِ وَإِنْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَقَالَ: يُعْفَى عَمَّا اتَّصَلَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْوَاهِ الصِّبْيَانِ مَعَ تَحَقُّقِ نَجَاسَتِهَا، وَأَلْحَقَ بِهِ غَيْرُهُ أَفْوَاهَ الْمَجَانِينِ وَجَزَمَ بِهِ الزَّرْكَشِيُّ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ نَقْلُ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ عَنْ ابْنِ الصَّبَّاغِ، وَاعْتَمَدَهُ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ جِرَّةِ الْبَعِيرِ فَلَا يَنْجُسُ مَا يُشْرَبُ مِنْهُ، وَيُعْفَى عَمَّا تَطَايَرَ مِنْ رِيقِهِ الْمُتَنَجِّسِ، وَأَلْحَقَ بِهِ فَمَ مَا يُجْتَرُّ مِنْ وَلَدِ الْبَقَرِ وَالضَّأْنِ إذَا الْتَقَمَ أَخْلَافَ أُمِّهِ؛ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْ ذَلِكَ سِيَّمَا فِي حَقِّ الْمُخَالِطِ لَهَا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا تَحَقَّقَ إصَابَةُ بَوْلِ ثَوْرِ الدِّيَاسَةِ لَهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(سُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يُعْفَى فِي حَقِّ مَنْ تَحْضُنُ الطِّفْلَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْ بَوْلِهِ وَغَائِطِهِ وَقَيْئِهِ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) لَا يُعْفَى عَمَّا ذُكِرَ لَا لِلْحَاضِنَةِ وَلَا لِغَيْرِهَا.

(وَسُئِلَ) أَيْضًا مَا حُكْمُ النَّعْلِ الْمُسَلَّمَةِ إلَى الْإِسْكَافِيِّ الطَّهَارَةُ أَوْ النَّجَاسَةُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: حُكْمُ النَّعْلِ الْمُسَلَّمَةِ لِمَنْ ذُكِرَ الطَّهَارَةُ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ.

(وَسُئِلَ) أَيْضًا هَلْ يُعْفَى عَنْ عَرَقِ الرِّجْلِ فِي النِّعَالِ الْمُتَنَجِّسَةِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ الرِّجْلَ مِنْ النِّعَالِ الْمُتَنَجِّسَةِ بِوَاسِطَةِ الْعَرَقِ إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ الَّتِي فِي النِّعَالِ مَعْفُوًّا عَنْهَا؛ وَإِلَّا لَمْ يُعْفَ عَنْ ذَلِكَ.

(وَسُئِلَ) أَيْضًا رضي الله عنه عَنْ حِيَاضِ الْبِرَكِ وَالْآبَارِ الَّتِي يَشْرَبُ فِيهَا الْكِلَابُ وَيَعْسُرُ تَطْهِيرُهَا؛ لِكَثْرَةِ شُرْبِ الْكِلَابِ مِنْ مَائِهَا، وَكَذَلِكَ الْآنِيَةُ الْمَوْضُوعَةُ فِي الْبُيُوتِ لِشُرْبِ نَحْوِ الدَّجَاجِ وَالْكِلَابِ يُشْرَبُ مِنْ مَائِهَا وَيَعْسُرُ تَطْهِيرُهَا بَعْدَ كُلِّ مَرَّةٍ، هَلْ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ لِلْمَشَقَّةِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يُعْفَى عَمَّا يَشْرَبُ مِنْهُ الْكِلَابُ مِمَّا مَاؤُهُ قَلِيلٌ بَلْ هُوَ نَجِسٌ يَجِبُ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ أَنْ يَغْسِلَ الْمَحَلَّ الَّذِي أَصَابَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إحْدَاهَا بِالتُّرَابِ الطَّهُورِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضُوعُ لِشُرْبِ الدَّجَاجِ أَوْ غَيْرِهِ.

(وَسُئِلَ) أَيْضًا عَنْ الشَّارِعِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِينٌ وَفِيهِ سِرْجِينُ وَعَذِرَةُ الْآدَمِيِّينَ وَزِبْلُ الْكِلَابِ هَلْ يُعْفَى إذَا حَصَلَ الْمَطَرُ عَمَّا يُصِيبُ الثَّوْبَ وَالرِّجْلَ مِنْهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: يُعْفَى عَمَّا ذُكِرَ فِي الشَّارِعِ مِمَّا يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ عَمَّ جَمِيعَ الطُّرُقِ، وَلَمْ يُنْسَبْ صَاحِبُهُ إلَى سَقْطَةٍ وَلَا إلَى كَبْوَةٍ وَقِلَّةِ تَحَفُّظٍ.

(وَسُئِلَ) أَيْضًا عَنْ الْأَوَانِي الَّتِي عَلَيْهَا وَنِيمُ الذُّبَابِ إذَا لَمَسَهَا مَعَ رُطُوبَةِ يَدِهِ أَوْ هِيَ هَلْ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: يُعْفَى عَنْ لَمْسِ الْآنِيَةِ الَّتِي عَلَيْهَا وَنِيمُ الذُّبَابِ، وَلَوْ مَعَ رُطُوبَةِ يَدِهِ، لَكِنْ بِعَرَقٍ وَنَحْوِهِ لَا مُطْلَقًا وَلَا مَعَ رُطُوبَةِ الْآنِيَةِ.

(وَسُئِلَ) أَيْضًا عَنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ فِي أَمَاكِنِ الصَّلَاةِ الْمُهَيَّأَةِ لَهَا غَيْرِ الْمَسَاجِدِ، وَفِي الْآبَارِ، وَالْبِرَكِ الْقَلِيلَةِ الْمَاءِ، وَالسِّقَايَاتِ هَلْ يُعْفَى عَنْهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: يُعْفَى عَنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ فِي أَمَاكِنِ

ص: 163

الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَسَاجِدَ، وَمَنْ عَبَّرَ بِالْمَسَاجِدِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ، وَيُعْفَى عَنْهُ أَيْضًا فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ عَنْ قَوْلِهِمْ: تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِحَرْفٍ مُفْهِمٍ؛ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ مُفْهِمًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ مُفْهِمًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ لُغَتِهِ.

(فَأَجَابَ) - أَبْقَاهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ: الَّذِي يَتَّجِهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَتَعْلِيلِهِمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُفْهِمًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصْلُحُ لِلتَّخَاطُبِ بِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمُعْتَقِدِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُفْهَمْ عِنْدَهُ، وَإِنْ أَفْهَمَ عِنْدَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بِحَسَبِ ظَنِّهِ مَا يَقْتَضِي قَطْعَ نَظْمِ الصَّلَاةِ؛ وَبِهَذَا يُعْلَمُ الْجَوَابُ عَمَّا يُورَدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعِبَادَاتِ بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا بِمَا فِي ظَنِّ الْمُكَلَّفِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِي شُرُوطِ الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا، أَمَّا مُبْطِلَاتُهَا فَالْمَدَارُ فِيهَا عَلَى مَا يَقْطَعُ نَظْمَ الصَّلَاةِ، وَالْكَلَامُ لَا يَقْطَعُ نَظْمَهَا إلَّا إنْ كَانَ مُفْهِمًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِنْ جَهِلَ الْإِفْهَامَ بِمَا هُوَ مُفْهِمٌ تَأَتَّى فِيهِ مَا قَالُوهُ فِي الْجَهْلِ؛ لِحُرْمَةِ الْكَلَامِ مِنْ أَنَّهُ إنْ عُذِرَ فِي ذَلِكَ لِقُرْبِ إسْلَامِهِ أَوْ نَشْئِهِ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عُذِرَ وَإِلَّا فَلَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) - فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَنْ الْوَشْمِ هَلْ يَجِبُ كَشْطُهُ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: صَرِيحُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ وَاجِبٌ حَيْثُ لَمْ يَخْشَ ضَرَرًا يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، وَقَضِيَّةُ مَا فِي الشَّامِلِ وَالْبَيَانِ عَنْ نَصِّ الْأُمِّ وَمَا فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ وُجُوبُ إزَالَتِهِ مُطْلَقًا، وَعَلَى كُلٍّ فَمَحَلُّهُ إذَا فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَمَجْلِيٌّ فِي الذَّخَائِرِ فِي نَزْعِ الْعَظْمِ أَمَّا إذَا فُعِلَ بِهِ مُكْرَهًا أَوْ فَعَلَهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَلَا تَجِبُ إزَالَتُهُ مُطْلَقًا، كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ حَيْثُ انْتَفَتْ خَشْيَةُ مَحْذُورِ التَّيَمُّمِ فَأَيُّ عُذْرٍ فِي بَقَاءِ النَّجَاسَةِ؟ وَلَوْ وَشَمَ الْكَافِرُ نَفْسَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ نَزْعُهُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا صُورَتُهُ: كَثِيرٌ مِنْ الْمُوَسْوَسِينَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُبَسْمِلَ يَقُولُ: بِسْ، وَيُكَرِّرُهَا فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْقِرَاءَةَ لَمْ تَبْطُلْ، وَلَا يُنَافِيه قَوْلُهُمْ: إنَّ الْوَسْوَسَةَ فِي الْقِرَاءَةِ لَيْسَتْ بِعُذْرٍ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ ثَمَّ يُمْكِنُهُ الْمُفَارَقَةُ، فَرَبْطُهُ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ مَعَ فُحْشِ التَّخَلُّفِ تَقْصِيرٌ؛ فَأَبْطَلَ بِخِلَافِهِ هُنَا؛ إذْ لَا تَقْصِيرَ مِنْهُ. فَقَوْلُ بَعْضِهِمْ بِالْبُطْلَانِ هُنَا فِيهِ نَظَرٌ.

(وَسُئِلَ) - فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَنْ الْمُصَلِّي إذَا قَالَ فِي دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ: وَجَّهْت وَجْهِي وَأَسْلَمْت قَلْبِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِزِيَادَةِ (وَأَسْلَمْت قَلْبِي) ؟ .

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَذْكَارِهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَسْلَمْت وَجْهِي إلَيْك.»

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَحْرِيكِ الْأَجْفَانِ وَاللِّسَانِ ثَلَاثًا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: أَفْتَى بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُهَا أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الرَّافِعِيِّ وَأَمَّا الْحَرَكَاتُ الْخَفِيفَةُ إذَا كَثُرَتْ وَتَوَالَتْ فَلَا تَضُرُّ، فَشَمِلَ حَرَكَةَ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهَا أَعْضَاءٌ خَفِيفَةٌ؛ إذْ الْمُرَادُ خِفَّةُ الْعُضْوِ الْمُتَحَرِّكِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْمَضْغَ وَحْدَهُ فِعْلٌ يُبْطِلُ كَثِيرُهُ مَعَ خِفَّةِ الْمَضْغِ، لَكِنْ آلَتُهُ، وَهِيَ اللَّحْيُ عُضْوٌ غَيْرُ خَفِيفٍ. نَعَمْ، أَفْتَى غَيْرُهُ بِالْبُطْلَانِ بِتَحْرِيكِ الْأَجْفَانِ، وَقِيَاسُهُ الْبُطْلَانُ بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه أَتَتْ نُخَامَةٌ مُصَلِّيًا؛ إنْ لَفَظَهَا ظَهَرَ حَرْفَانِ، وَإِنْ تَرَكَهَا نَزَلَتْ لِجَوْفِهِ، فَمَا حُكْمُهُ؟

(فَأَجَابَ) بَحَثَ الزَّرْكَشِيُّ جَوَازَ لَفْظِهَا: وَإِنْ ظَهَرَ حَرْفَانِ تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ الصَّوْمِ؛ أَيْ وَلَوْ نَفْلًا؛ أَيْ فَإِنَّ الْفَرْضَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لِحَدِّ الظَّاهِرِ مِنْ الْفَمِ؛ وَهُوَ مَخْرَجُ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إخْرَاجُهَا إلَّا بِظُهُورِ حَرْفَيْنِ مَثَلًا، فَيُغْتَفَرُ أَنَّ لَهُ خَشْيَةً مِنْ نُزُولِهَا لِلْبَاطِنِ فَيَفْسُدُ صَوْمُهُ.

وَظَاهِرٌ أَنَّ مُرَادَهُ بِجَوَازِ ذَلِكَ وَجُوَبُهُ إنْ كَانَ الصَّوْمُ فَرْضًا، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ رِعَايَةِ تَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الصَّوْمِ عَلَى الصَّلَاةِ - قَوْلُهُمْ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ الصَّائِمَةِ إنَّهَا تَتْرُكُ الْحَشْوَ نَهَارًا؛ رِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ الصَّوْمِ دُونَ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قُلْت: يُشْكِلُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمُنْظَرِ وَالْمُنْظَرِ بِهِ تَقْدِيمُهُمْ مَصْلَحَةَ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّوْمِ فِيمَنْ ابْتَلَعَ بَعْضَ خَيْطٍ قَبْلَ الْفَجْرِ وَطَرَفُهُ خَارِجٌ، ثُمَّ أَصْبَحَ صَائِمًا فَإِنَّهُ إنْ ابْتَلَعَ بَاقِيَهُ أَوْ نَزَعَهُ أَفْطَرَ وَإِلَّا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، فَطَرِيقُهُ فِي صِحَّتِهِمَا أَنَّهُ يُنْزَعُ مِنْهُ وَهُوَ غَافِلٌ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَيُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى نَزْعِهِ وَلَا يُفْطِرُ؛ كَالْمُكْرَهِ.

قَالَ: وَلَوْ قِيلَ: لَا يُفْطِرُ وَإِنْ نَزَعَهُ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَبْعُدْ؛ تَنْزِيلًا لِإِيجَابِ الشَّرْعِ مَنْزِلَةَ

ص: 164

الْإِكْرَاهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَطَأَهَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فَوَجَدَهَا حَائِضًا لَا يَحْنَثُ بِتَرْكِ الْوَطْءِ اهـ.

وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ مَحَلَّ تَنْزِيلِ إيجَابِ الشَّرْعِ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ إذَا كَانَ لَا يَجِدُ مَنْدُوحَةً كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي نُظِرَ بِهَا، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ لَهُ مَنْدُوحَةً عَنْ تَعَمُّدِ النَّزْعِ بِرَفْعِ أَمْرِهِ إلَى الْحَاكِمِ أَوْ بِالنَّزْعِ مِنْهُ وَهُوَ غَافِلٌ.

نَعَمْ، إنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا وَلَا مَنْ يَنْزِعُهُ وَهُوَ غَافِلٌ اتَّضَحَ حِينَئِذٍ مَا بَحَثَهُ، قُلْت: قَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْخَيْطِ وَالْحَشْوِ الْمُنْظَرِ بِهَا بِأَنَّ الِاسْتِحَاضَةَ عِلَّةٌ مُزْمِنَةٌ، فَالظَّاهِرُ دَوَامُهَا، فَلَوْ رُوعِيَتْ الصَّلَاةُ فِيهَا؛ لَتَعَذَّرَ قَضَاءُ الصَّوْمِ لِلْحَشْوِ؛ وَلِأَنَّ الْمَحْذُورَ فِيهَا لَا يَنْتَفِي بِالْكُلِّيَّةِ - فَإِنَّ الْحَشْوَ يَتَنَجَّسُ، وَهِيَ حَامِلَتُهُ بِخِلَافِهِ ثَمَّ، وَلَك أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْخَيْطِ وَمَسْأَلَةِ النُّخَامَةِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ عُهِدَ فِيهَا اغْتِفَارُ الْكَلَامِ الْقَلِيلِ، وَلَوْ مَعَ التَّعَمُّدِ وَالْعِلْمِ وَالِاخْتِيَارِ، وَلِلْعُذْرِ كَالتَّنَحْنُحِ لِلْجَهْرِ بِأَذْكَارِ الِانْتِقَالَاتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى سَمَاعِ الْمَأْمُومِينَ، كَمَا بَحَثَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ، وَكَالتَّنَحْنُحِ عِنْدَ تَزَاحُمِ الْبَلْغَمِ بِحَلْقِهِ إذَا خَشِيَ أَنْ يَخْتَنِقَ، كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَكَالضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ وَالْأَنِينِ وَالتَّنَحْنُحِ مَعَ الْغَلَبَةِ.

قَالُوا: لِأَنَّ الْكَثِيرَ يَقْطَعُ نَظْمَهَا دُونَ الْقَلِيلِ، وَكَالتَّلَفُّظِ فِيهَا بِقُرْبَةٍ كَنَذْرٍ وَعِتْقٍ حَيْثُ لَا تَعْلِيقَ وَلَا خِطَابَ.

وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَا يُغْتَفَرُ فِيهِ إدْخَالُ شَيْءٍ إلَى الْجَوْفِ، وَلَا إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْهُ مَعَ التَّعَمُّدِ وَالْعِلْمِ وَالِاخْتِيَارِ، وَلَوْ لِعُذْرٍ، فَعَلِمْنَا انْقِطَاعَ نَظْمِهِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ، فَلَمْ يُغْتَفَرْ لِلصَّائِمِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَعَدَمُ انْقِطَاعِ نَظْمِ الصَّلَاةِ بِالْكَلَامِ الْقَلِيلِ لِلْعُذْرِ فَاغْتَفَرْنَاهُ، وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ فِي الْفَرْضِ، وَأَبَحْنَا لَهُ فِي التَّنَفُّلِ التَّنَخُّمَ، وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ مَثَلًا، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّ مَا مَرَّ عَنْ الزَّرْكَشِيّ فِي التَّنَخُّمِ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْته فِي الْخَيْطِ؛ لَوْلَا مُلَاحَظَةُ هَذَا الْفَرْقِ الْجَلِيِّ.

(وَسُئِلَ) - فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَنْ عَارٍ مُتَنَجِّسٍ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا مُتَنَجِّسًا لَا يُمْكِنُهُ تَطْهِيرُهُ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً يَتَطَهَّرُ بِهِ، هَلْ يُصَلِّي عَارِيًّا أَوْ يَلْبَسُ الثَّوْبَ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ؛ فَقَدْ قِيلَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّهُ يَلْبَسُ الثَّوْبَ؛ تَخْرِيجًا عَلَى قَاعِدَةِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الْأَمْرَيْنِ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضٍ آخَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ لُبْسُ الثَّوْبِ الْمَذْكُورِ؛ أَخْذًا مِنْ إطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ يُصَلِّي عَارِيًّا؛ إذْ ظَاهِرٌ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ بَدَنُهُ طَاهِرًا أَمْ نَجِسًا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: فِي كَلَامِهِمْ إشَارَةٌ إلَى كُلٍّ مِنْ الرَّأْيَيْنِ؛ لَكِنَّهُ إلَى الثَّانِي أَمْيَلُ، وَبَيَانُهُ تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ وَاجِبَانِ أَوْ حَرَامَانِ قُدِّمَ آكَدُهُمَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا تَعَارَضَ حَرَامَانِ: لُبْسُ الثَّوْبِ النَّجِسِ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ، فَيُقَدَّمُ آكَدُهُمَا؛ وَهُوَ عَدَمُ اللُّبْسِ. وَوَجْهُ آكَدِيَّتِهُ قَوْلُهُمْ: هَلْ يُصَلِّي الْعَارِي قَائِمًا وَيُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ مُحَافَظَةً عَلَى الْأَرْكَانِ؟ أَوْ يُصَلِّي قَاعِدًا مُومِيًا مُحَافَظَةً عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ؟ أَوْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا أَوْجُهٌ ثَلَاثَةٌ؟

وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ؛ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَمَامَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ آكَدُ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ صَرَّحُوا فِيمَنْ جَلَسَ عَلَى نَجَاسَةٍ مُمَاسَّةٍ لِبَعْضِ بَدَنِهِ أَوْ مَلْبُوسِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا - أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْهَا قَائِمًا حَتْمًا، وَيَلْزَمُهُ خَفْضُ رَأْسِهِ لِلسُّجُودِ إلَى حَيْثُ لَوْ زَادَ أَصَابَهَا.

وَلَا يَجُوزُ لَهُ إصَابَتُهَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَصَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَالتَّنْقِيحِ وَالتَّحْقِيقِ.

وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ آكَدُ مِنْ اسْتِيفَاءِ السُّجُودِ؛ إذْ قَدْ يَسْقُطُ الْقَضَاءُ مَعَ الْإِيمَاءِ بِخِلَافِهِ مَعَهَا، فَإِذَا كَانَتْ آكَدَ مِنْ اسْتِيفَاءِ السُّجُودِ كَانَتْ آكَدَ مِنْ السَّتْرِ بِالْأَوْلَى؛ لِمَا عَلِمْت أَوَّلًا أَنَّ اسْتِيفَاءَ السُّجُودِ آكَدُ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَإِذَا قَدَّمَ اجْتِنَابَهَا عَلَى الْآكَدِ مِنْ السَّتْرِ فَلَأَنْ تُقَدَّمَ عَلَى السَّتْرِ أَوْلَى، لَا يُقَالُ: هُوَ يَلْزَمُهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَمَا فَائِدَةُ اجْتِنَابِهَا؟ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ - وَإِنْ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ - صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ مُخْرِجَةٌ لِلْعُهْدَةِ عَنْ إثْمِ إخْرَاجِهَا عَنْ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ وَتَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ إنْ اُجْتُنِبَتْ النَّجَاسَةُ فِيهَا مَهْمَا أَمْكَنَ.

وَلَيْسَ مِنْ أَعْذَارِ الْمُتَضَمِّخِ بِالنَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ؛ فَقَدْ عَدُّوا مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِكَشْفِهَا فِي الصَّلَاةِ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا ثَوْبًا مُتَنَجِّسًا، فَوُجُودُ الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ مُبِيحٌ لِلْكَشْفِ، وَتَنَجُّسُ بَعْضِ الْبَدَنِ لَيْسَ مُبِيحًا لِلُبْسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ، فَنَتَجَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْأَوْجَهَ بَلْ الْمُصَرَّحُ بِهِ كَمَا عَلِمْت أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُ الثَّوْبِ النَّجِسِ، وَأَنَّهُ يُصَلِّي عَارِيًّا - وَإِنْ لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ - فَإِنْ قُلْت: يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ - فِي حَاضِرٍ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَا يَكْفِي لِلْحَدَثِ أَوْ النَّجَاسَةِ بِبَدَنِهِ - أَنَّهُ

ص: 165

يَتَخَيَّرُ بَيْنَ صَرْفِهِ لَهَا أَوْ لِلْحَدَثِ؛ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، قُلْت: لَا يُنَافِيهِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ فَبَيْنَهُمَا نَوْعُ تَسَاوٍ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا صَرْفَهُ لَهَا حِينَئِذٍ لَكَانَ مُصَلِّيًا مَعَ الْحَدَثِ فَلَمْ يُفِدْ الْوُجُوبُ شَيْئًا، وَأَمَّا مَا يُتَخَيَّلُ مِنْ أَنَّهُ يُفِيدُ تَخْفِيفًا فَإِنَّهُ لَوْ صُرِفَ لَهَا صَلَّى بِحَدَثٍ عَنْهُ بَدَلٌ؛ وَهُوَ التَّيَمُّمُ، وَلَوْ صُرِفَ لَهُ صَلَّى بِنَجَاسَةٍ لَيْسَ عَنْهَا بَدَلٌ، فَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ تَقَارُبَهُمَا فِي الشَّرْطِيَّةِ - مَعَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ - اقْتَضَى الْمُسَامَحَةَ لَهُ حَتَّى خُيِّرَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا التَّخَيُّلُ هُوَ مَلْحَظَ مَا فِي بَعْضِ كُتُبِ النَّوَوِيِّ أَيْضًا، وَنَقَلَهُ عَنْ الْأَصْحَابِ مِنْ إطْلَاقِ وُجُوبِ تَقْدِيمِهَا، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ ذَرْقِ الذُّبَابِ إذَا وَقَعَ فِي الدَّوَاةِ هَلْ يُعْفَى عَنْهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي النُّكَتِ بِأَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا صُورَتُهُ: مَا الْحُكْمُ فِيمَا لَوْ تَحَرَّكَ فِي الصَّلَاةِ حَرَكَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ، ثُمَّ أَرَادَ حَرَكَةً لِشَيْءٍ مَسْنُونٍ فِي الصَّلَاةِ؛ كَأَنْ رَأَى بَيْنَ قَدَمَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ شِبْرٍ وَأَرَادَ تَقْرِيبَهُمَا، أَوْ رَآهُمَا زَائِلَتَيْنِ عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ وَأَرَادَ تَوَجُّهَهُمَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ خَطَا بِإِحْدَى رِجْلَيْهِ ثُمَّ نَقَلَ الْأُخْرَى إلَى مُحَاذَاتِهَا لَا يُعَدُّ خُطْوَتَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، فَهَلْ حُكْمُ كُلِّ مَسْنُونٍ فِي الصَّلَاةِ كَذَلِكَ؟ وَلَوْ زَالَتْ الْأَقْدَامُ وَأَطْرَافُهَا عَنْ مَحَلِّهَا حَالَ الْقِيَامِ عِنْدَ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ هَلْ يُعَدُّ ذَلِكَ حَرَكَاتٍ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ تَصْفِيقَ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَدَفْعَ الْمُصَلِّي لِلْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَةٍ مَعَ كَوْنِهِمَا مَنْدُوبَتَيْنِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْبُطْلَانُ فِيمَا لَوْ تَحَرَّكَ حَرَكَتَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ عَقَّبَهُمَا بِحَرَكَةٍ أُخْرَى مَسْنُونَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ لَا تُغْتَفَرُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِنِسْيَانٍ وَنَحْوِهِ مَعَ الْعُذْرِ، فَأَوْلَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَشَرْطُ الْحَرَكَةِ الَّتِي تُبْطِلُ ضَمُّ حَرَكَتَيْنِ إلَيْهَا - أَنْ تَكُونَ بِعُضْوٍ مُسْتَقِلٍّ فَلَا أَثَرَ لِحَرَكَةِ نَحْوِ الْأَصَابِعِ وَإِنْ كَثُرَتْ، وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْكَافِي بِأَنَّ الذَّهَابَ وَالْعَوْدَ فِي الْحَكِّ وَالرَّفْعِ وَالْوَضْعِ مُغَايَرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَحِينَئِذٍ فَيُعْرَفُ حُكْمُ مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مِنْ زَوَالِ أَطْرَافِ الْأَقْدَامِ أَوْ نَفْسِهَا عَنْ مَحَلِّهَا.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا صُورَتُهُ: ذَكَرُوا أَنَّ مَحَلَّ الْعَفْوِ فِي النَّجَاسَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا مَا لَمْ يُبَاشِرْهَا مَائِعٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها «مَا كَانَ لِأَحَدِنَا إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ» . . . إلَخْ - فِيهِ الرِّيقُ، وَهُوَ مَائِعٌ، فَهَلْ يُقَالُ: هُوَ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مُطَهِّرٌ لِلنَّجَاسَةِ - يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي التَّنْجِيسِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى التَّطْهِيرِ بِالْمَائِعِ وَلَا عَلَى عَدَمِهِ، وَلَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ الِاخْتِلَاطُ بِهِ أَوْ يُؤَثِّرُ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهَا لَمْ تَقُلْ إنَّهَا صَلَّتْ فِي الثَّوْبِ الَّذِي أَصَابَهُ، ذَلِكَ قَبْلَ تَطْهِيرِهِ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَهُوَ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ، وَهُوَ غَيْرُ حُجَّةٍ عِنْدَنَا.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ؛ مِنْ السَّلَسِ وَغَيْرِهِ، اُبْسُطُوا لَنَا الْجَوَابَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: صَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ سَلَسَ الْبَوْلِ وَالْمَذْيَ وَغَيْرَهُمَا كَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَقَيَّدَهُ فِي الْمَجْمُوعِ بِسَلَسٍ هُوَ عَادَةٌ وَمَرَضٌ، أَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْهُ مَذْيٌ بِسَبَبٍ حَادِثٍ كَنَظَرٍ وَقُبْلَةٍ فَلَهُ حُكْمُ سَائِرِ الْأَحْدَاثِ فِي وُجُوبِ غَسْلِهِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِلنَّفْلِ وَالْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ: وَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِ سَلَسِ الْبَوْلِ فِي الثَّوْبِ وَالْعِصَابَةِ بِالنِّسْبَةِ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ خَاصَّةً، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ الْآتِيَةِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ أَوْ تَجْفِيفُهُ وَغَسْلُ الْعِصَابَةِ أَوْ تَجْدِيدُهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَيُعْفَى عَنْ كَثِيرِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ إنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الْحَشْوُ لِتَأَذِّيهَا بِهِ اهـ.

وَقَوْلُهُ: يُعْفَى عَنْ قَلِيلِ بَوْلِ السَّلَسِ فِي الثَّوْبِ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ التَّنْبِيهِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّرْكَشِيّ اعْتِمَادُهُ، لَكِنْ تَفْرِقَتُهُ فِي الْعَفْوِ بَيْنَ بَوْلِ السَّلَسِ وَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ فِيهَا نَظَرٌ، وَالْوَجْهُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْعَفْوِ؛ عَنْ قَلِيلِهِمَا بِالنِّسْبَةِ لِلثَّوْبِ؛ وَعَنْ كَثِيرِهِمَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِصَابَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ الرَّوْضَةِ: وَأَصْلُهَا الضَّرْبُ السَّادِسُ؛ أَيْ مِنْ النَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا فِي أَنْوَاعٍ مُتَفَرِّقَةٍ، مِنْهَا النَّجَاسَةُ الَّتِي تَسْتَصْحِبُهَا الْمُسْتَحَاضَةُ، وَسَلَسُ الْبَوْلِ، فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْعَفْوِ، وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. عَلَى أَنَّ الرَّافِعِيَّ بَحَثَ الْعَفْوَ عَنْ قَلِيلِ الْبَوْلِ مِنْ الصَّحِيحِ، قَالَ: لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِهِ أَغْلَبُ وَأَعَمُّ مِنْ الدَّمِ.

ص: 166

لَكِنْ أَجَابَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُمْ لَمَحَوَا فِيهِ زِيَادَةَ الِاسْتِقْذَارِ.

وَأَجَابَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الدَّمَ لَيْسَ لَهُ مَخْرَجٌ مَخْصُوصٌ، وَلَا يَخْرُجُ بِالِاخْتِيَارِ غَالِبًا؛ فَيَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْبَوْلِ. وَاعْتَمَدَ الْأَذْرَعِيُّ الْبَحْثَ لَا عَلَى إطْلَاقِهِ فَقَالَ:

(لَا يَبْعُدُ إلْحَاقُ يَسِيرِ الْبَوْلِ بِالدَّمِ الْيَسِيرِ فِي الْعَفْوِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْهَرِمِ وَالشَّيْخَةِ، وَمَنْ اسْتَرْخَى ظَهْرُهُ لِهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ إحْلِيلُهُ لِعُنَّةٍ أَوْ شَلَلٍ؛ فَإِنَّ تَحَفُّظَهُ مِمَّا يَبْقَى فِي الْمَخْرَجِ عَسِرٌ أَوْ مُتَعَذَّرٌ، وَإِنْ اسْتَبْرَأَ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّنْ تَنَجَّسَ بَعْضُ ثَوْبِهِ وَانْبَهَمَ فَمَسَّ بَعْضَهُ رَطْبٌ لَمْ يَتَنَجَّسْ بِهِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى بَعْضِهِ وَصَلَّى لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، فَمَا الْفَرْقُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْفَرْقُ أَنَّ الصَّلَاةَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا ظَنُّ طَهَارَةِ الثَّوْبِ، وَلَمْ يُوجَدْ. وَالنَّجَاسَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَحَقُّقِ مُمَاسَّةِ الْمَحَلِّ النَّجِسِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَاخْتَلَفَ مَأْخَذُهُمَا.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ أَكْلُ دُودِ الطَّعَامِ وَرَوْثِ الْجَرَادِ وَنَحْوِهِ مَعَهُ، هَلْ الْعَفْوُ عَنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَكْلِ فَقَطْ أَوْ مُطْلَقًا حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ غَسْلُ فَمِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، أَوْ إذَا أَكَلَهُ لَيْلًا وَأَصْبَحَ صَائِمًا، وَلَمْ يَغْسِلْ فَمَهُ وَازْدَرَدَ رِيقَهُ، أَوْ مَا الْحُكْمُ فِيهَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنَّ الَّذِي صَرَّحُوا بِهِ فِي دُودِ نَحْوِ الْخَلِّ أَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ مَا هُوَ فِيهِ مِمَّا نُشُوءُهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا؛ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُهُ مَعَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ الْفَمِ مِنْهُ. وَصَرِيحُ هَذَا أَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ الْفَمِ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ، وَلَا لِلصَّوْمِ وَلَا لِغَيْرِهِمَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ جَوَازِ أَكْلِ رَوْثِ الْجَرَادِ وَنَحْوِهِ مَعَهُ - فَهُوَ مَا مَشَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ فِي صِغَارِ السَّمَكِ، وَأَلْحَقَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ الْجَرَادَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ الْقَمُولِيِّ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَتَنَجَّسُ الْفَمُ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ لِلصَّلَاةِ وَلَا لِغَيْرِهَا، نَظِيرَ مَا مَرَّ فِي الدُّودِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّنْ تَنَحْنَحَ؛ لِتَعَذُّرِ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ، فَهَلْ يُعْذَرُ وَإِنْ ظَهَرَ بِهِ حُرُوفٌ كَثِيرَةٌ عُرْفًا أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ؛ كَمَا إذَا غَلَبَهُ الضَّحِكُ وَنَحْوُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ وَالرَّوْضَةِ؛ وَأَصْلِهَا أَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِي التَّنَحْنُحِ لِلذِّكْرِ الْوَاجِبِ إلَّا إذَا لَمْ يَظْهَرْ بِهِ حُرُوفٌ كَثِيرَةٌ عُرْفًا؛ أَخْذًا مِمَّا ذَكَرَاهُ فِي التَّنَحْنُحِ وَنَحْوِهِ لِلْغَلَبَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ. نَعَمْ، لَوْ تَعَذَّرَ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ الْقَوْلِيِّ إلَّا بِتَنَحْنُحٍ كَثِيرٍ - فَيَنْبَغِي عَدَمُ الْبُطْلَانِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَحْوِ الْغَلَبَةِ بِأَنَّ هَذَا لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ ذَاكَ.

(وَسُئِلَ) - فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَنْ الْإِشَارَةِ بِالْعَيْنِ أَوْ الرَّأْسِ وَفِي تَحْرِيكِ الْأَجْفَانِ وَاللِّسَانِ فِي الصَّلَاةِ، هَلْ هِيَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْخَفِيفَةِ حَتَّى لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ بِكَثِيرِهَا، أَوْ لَا حَتَّى تَبْطُلَ بِثَلَاثٍ؟ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْأَنْوَارِ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْعَيْنِ أَوْ الْيَدِ أَوْ الرَّأْسِ قَلِيلٌ، وَهَلْ الْمُرَادُ الْإِشَارَةُ الْوَاحِدَةُ أَوْ أَعَمُّ؟ وَهَلْ الْيَدُ وَالرَّأْسُ وَالْعَيْنُ مِنْ الْأَعْضَاءِ الصِّغَارِ حَتَّى لَا تَبْطُلَ بِكَثِيرٍ مِنْهَا أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: أَمَّا تَحْرِيكُ الرَّأْسِ ثَلَاثًا مُتَوَالِيَةً - فَمُبْطِلٌ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَأَمَّا تَحْرِيكُ الْأَجْفَانِ وَاللِّسَانِ فَقَدْ ذَكَرْت حُكْمَهُمَا فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَغَيْرِهِ، وَعِبَارَتُهُ: قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَمِنْ الْقَلِيلِ إدَامَةُ تَحْرِيكِ الْأَجْفَانِ، وَعِبَارَةُ غَيْرِهِ: وَلَا تَبْطُلُ بِإِدَامَةِ تَحْرِيكِ الْأَجْفَانِ فِي الْأَصَحِّ اهـ وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ بِالْحَرَكَةِ، فَهِيَ كَالْأَصَابِعِ وَيَتَّجِهُ إلْحَاقُ اللِّسَانِ بِهَا فِي ذَلِكَ، انْتَهَتْ. وَوَجْهُ الْإِلْحَاقِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِالْحَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَحَرَّكَ لَا يَتَحَرَّكُ كُلُّهُ بَلْ بَعْضُهُ فَهُمَا كَالْأَصَابِعِ، بِخِلَافِ نَحْوِ الرَّأْسِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّكُ كُلُّهُ، وَبِخِلَافِ الْيَدِ مَثَلًا فَإِنَّهَا كَذَلِكَ؛ وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: شَرْطُ عَدَمِ الْبُطْلَانِ بِتَحْرِيكِ الْأَصَابِعِ أَنْ لَا يَتَحَرَّكَ كَفُّهُ بِالذَّهَابِ وَالْإِيَابِ، كَمَا فِي الْكَافِي. وَقِيلَ: لَا يَضُرُّ تَحْرِيكُهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْبَدَنِ سَاكِنٌ، وَيُرَدُّ بِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِسُكُونِ أَكْثَرِ الْبَدَنِ مَعَ اسْتِقْلَالِ الْعُضْوِ الْمُتَحَرِّكِ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ هُنَا عَلَى الْعُرْفِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعُرْفَ يَعُدُّ تَحَرُّكَ الْيَدِ وَحْدَهَا الْمُتَوَالِي ثَلَاثًا كَثِيرًا، فَأَبْطَلَ لِمُنَافَاتِهِ لِلصَّلَاةِ؛ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ سَاكِنًا. وَبِمَا تَقَرَّرَ يُعْلَمُ أَنَّ مُرَادَ الْأَنْوَارِ بِقَوْلِهِ: الْإِشَارَةُ بِالْيَدِ أَوْ الرَّأْسِ قَلِيلٌ، تَحْرِيكُ أَحَدِهِمَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا غَيْرَ مُتَوَالِيَةٍ؛ أَمَّا الثَّلَاثُ الْمُتَوَالِيَةُ بِأَحَدِهِمَا فَلَا شَكَّ بِالْبُطْلَانِ بِهِ؛ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.

(وَسُئِلَ) - أَدَامَ اللَّهُ النَّفْعَ بِعُلُومِهِ - عَمَّا لَوْ عَرَضَتْ لِلْمُصَلِّي نُخَامَةٌ وَبِإِخْرَاجِهَا يَظْهَرُ حَرْفَانِ، هَلْ يُخْرِجُهَا وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَوْ يَبْتَلِعُهَا وَإِنْ بَطَلَتْ

ص: 167

صَلَاتُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: عِبَارَتِي فِي شَرْحِ الْعُبَابِ: وَبَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّهُ إذَا تَرَاكَمَ الْبَلْغَمُ بِحَلْقِهِ أَوْ غَصَّ بِرِيقِهِ، وَخَشِيَ أَنْ يَنْخَنِقَ إنْ لَمْ يَتَنَحْنَحْ فَتَنَحْنَحَ لِلضَّرُورَةِ لَمْ يَضُرَّ. وَالزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَائِمًا وَحَصَلَتْ نُخَامَةٌ - إنْ تَنَحْنَحَ - خَرَجَتْ فَيَصِحُّ صَوْمُهُ أَنَّهُ يَلْفِظُهَا وَإِنْ لَزِمَ إظْهَارُ حَرْفَيْنِ، وَوَجْهُهُ مَا فِيهِ مِنْ تَصْحِيحِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ؛ إذْ يُبْطِلُهَا مَا يُبْطِلُهُ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الْحَرْفَيْنِ إذَا اُغْتُفِرَ لِتَعَذُّرِ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ - فَلْيُغْتَفَرْ لِصَوْنِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ عَنْ الْإِبْطَالِ سِيَّمَا إنْ كَانَا فَرْضَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا، بَلْ يَنْبَغِي وُجُوبُ لَفْظِهَا إنْ كَانَ الصَّوْم وَاجِبًا، وَكَذَا الصَّلَاةُ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ. وَبِمَا وَجَّهْته بِهِ يُرَدُّ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِيهِ.

وَأَفْتَى الشَّرَفُ الْمُنَاوِيُّ بِأَنَّ مَنْ عَرَضَتْ لَهُ نُخَامَةٌ فَوَصَلَتْ لِحَدِّ الظَّاهِرِ؛ وَلَمْ يُمْكِنْهُ مَجُّهَا إلَّا بِالتَّنَحْنُحِ وَإِلَّا وَصَلَتْ لِلْبَاطِنِ - يَتْرُكُهَا تَنْزِلُ إلَيْهِ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ وَصَلَتْ لِحَدِّ الظَّاهِرِ لِعُذْرِهِ بِسَبَبِ إبْطَالِ الصَّلَاةِ بِالتَّنَحْنُحِ حَالًا اهـ وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْجَلَالِ الْبُلْقِينِيُّ.

(سُئِلْت) عَمَّا لَوْ عَرَضَتْ لَهُ نُخَامَةٌ؛ إنْ قَطَعَهَا وَمَجَّهَا ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ؛ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ. وَإِنْ تَرَكَهَا بَطَلَتْ وَأَفْطَرَ، فَمَا الَّذِي يَرْتَكِبُهُ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَفْسَدَتَيْنِ؟ فَأَجَبْت بِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ التَّرْكَ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ اهـ.

وَلَك رَدُّ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ وُصُولَهَا لِلْبَاطِنِ بَعْدَ خُرُوجِهَا لِحَدِّ الظَّاهِرِ مُبْطِلٌ، وَكَذَا التَّنَحْنُحُ لِإِخْرَاجِهَا عَلَى مَا زَعَمَهُ، فَمَا الْمُرَجِّحُ لِاغْتِفَارِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي؛ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِتَخْيِيرِهِ بَيْنَ تَرْكِ التَّنَحْنُحِ حَتَّى تَنْزِلَ، وَفِعْلِهِ لِإِخْرَاجِهَا؛ لِتَعَارُضِ مُبْطِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ. أَوْ يُقَالُ بِالْبُطْلَانِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ بِاغْتِفَارِ التَّنَحْنُحِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ عُهِدَ اغْتِفَارُ تَعَمُّدِهِ لِأَجْلِ الْعُذْرِ فِي الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ تَعَمُّدِ الْمُفْطِرِ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ. وَالثَّانِي بِأَنَّهُ إذَا ارْتَكَبَ التَّرْكَ؛ فَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: يُقَدَّمُ بُطْلَانُ الصَّلَاةِ - سَاوَى كَلَامَ الْمُنَاوِيِّ فَيُرَدُّ بِمَا رَدَدْته بِهِ؛ وَإِنْ قَالَ بِإِبْطَالِهَا، فَالْقِيَاسُ تَخْيِيرُهُ لَا تَعَيُّنُ التَّرْكِ. ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ فِي مُفْطِرٍ، أَمَّا الصَّائِمُ فَأَمْرُهُ بِالتَّرْكِ الْمُؤَدِّي لِإِفْطَارِهِ وَبُطْلَانِ صَلَاتِهِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي، وَلِإِفْطَارِهِ فَقَطْ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ - لَا وَجْهَ لَهُ. ثُمَّ رَأَيْت أَخَاهُ صَالِحًا قَالَ: مَحَلُّهُ فِي الْمُفْطِرِ، وَإِلَّا ارْتَكَبَ الْقَطْعَ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ، وَلَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ، وَالتَّرْكُ يُبْطِلُهُمَا اهـ.

وَدَعْوَاهُ بُطْلَانُ الصَّلَاةِ إذَا مَجَّ فَظَهَرَ حَرْفَانِ فِيهِ نَظَرٌ لِمَا مَرَّ، وَقَدْ أَفْتَى ابْنُ قَاضِي شُهْبَةَ بِوُجُوبِ الْمَجِّ، فَإِنْ تَرَكَهُ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ لَزِمَ إظْهَارُ حَرْفَيْنِ لِتَصْحِيحِ الصَّوْمِ، وَكَذَا الصَّلَاةُ فِيمَا يَظْهَرُ؛ لِأَنَّ إظْهَارَهُمَا لَا يَضُرُّ لِضَرُورَةٍ؛ كَتَعَذُّرِ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ، وَهُنَا صَوْنُ الصَّوْمِ عَنْ الْإِبْطَالِ وَاجِبٌ، وَقَلْعُ النُّخَامَةِ مِنْ الظَّاهِرِ مُبْطِلٌ، وَكَانَ لَفْظُهَا ضَرُورِيًّا فَلَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ؛ وَإِنْ تَضَمَّنَ إظْهَارَ حَرْفَيْنِ اهـ.

انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ، وَمِنْهَا يُعْلَمُ الْجَوَابُ عَمَّا فِي السُّؤَالِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّنْ سَتَرَ وَرِكَهُ الَّذِي يَلِي الْأَرْضَ بِهَا فَهَلْ يُجْزِئُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إذَا انْكَشَفَ بَعْضُ وَرِكِهِ فِي تَشَهُّدِهِ مَثَلًا فَسَتَرَهُ فَوْرًا بِإِلْصَاقِهِ بِالْأَرْضِ، فَالظَّاهِرُ - وِفَاقًا لِبَعْضِهِمْ - أَنَّهُ يَكْفِي كَالسَّتْرِ بِيَدِهِ، وَكَمَا لَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي حُفْرَةٍ ضَيِّقَةِ الرَّأْسِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ قَوْلِ الْمُصَلِّي: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَنَحْوِهَا، لِدَاخِلٍ، وَقَوْلِ غَيْرِهِ لِذَلِكَ؛ لِلْإِعْلَامِ بِفَرَاغِ مُدَّةِ قِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ، هَلْ تَحْرُمُ أَوْ تُكْرَهُ؟ وَهَلْ قَالَ أَحَدٌ إنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ، كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ؟ .

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يَحْرُمُ ذَلِكَ بَلْ، وَلَا يُكْرَهُ بَلْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يَجِبُ، كَمَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ: مِنْ أَنَّ التَّنْبِيهَ فِي الصَّلَاةِ بِنَحْوِ تَسْبِيحٍ أَوْ تَصْفِيقٍ إنْ كَانَ لِوَاجِبٍ فَوَاجِبٌ، أَوْ لِمُسْتَحَبٍّ فَمُسْتَحَبٌّ، أَوْ لِحَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ وَلِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ.

وَإِذَا جَرَى هَذَا فِي الْمُصَلِّي جَرَى فِي غَيْرِهِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى. وَتَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ الْإِعْلَامَ وَالذِّكْرَ فِي الصَّلَاةِ جَازَ - صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَصْدَ الْإِعْلَامِ وَحْدَهُ لِغَيْرِ الْمُصَلِّي لَا يَحْرُمُ، بَلْ وَكَذَا لِلْمُصَلِّي إنْ كَانَ فِي نَافِلَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ قَطْعُهَا.

وَحُرْمَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْفَرْضِ لَيْسَ إلَّا لِكَوْنِ تَعَمُّدِ قَطْعِهِ حَرَامًا، وَتَوَهُّمُ اغْتِفَارِ قَصْدِ الْإِعْلَامِ مَعَ الذِّكْرِ لِلْمُصَلِّي إنَّمَا هُوَ لِحُرْمَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ يُبْطِلُهُ أَنَّ الْمُصَلِّيَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْإِفْهَامِ بِالْإِشَارَةِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا لِذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْجُنُبَ لَوْ

ص: 168

قَرَأَ آيَةً بِقَصْدِ الْإِعْلَامِ وَحْدَهُ جَازَ، فَإِذَا جَازَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ فَفِي غَيْرِهِ أَوْلَى.

وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَيْقَظَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ؟

(اللَّهُ أَكْبَرُ) رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ؛ بِقَصْدِ الْإِعْلَامِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ إيقَاظُهُ بِنَحْوِ يَدِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ. وَقَدْ جَعَلَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ قَوْلَ الْمُضِيفِ لِلضَّيْفِ؟ (بِسْمِ اللَّهِ)

قَرِينَةً لَفْظِيَّةً عَلَى الْإِذْنِ فِي الْأَكْلِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي جَوَازِهَا بِقَصْدِ الْإِعْلَامِ بِهَا أَنَّهُ أَذِنَ فِي الْأَكْلِ وَلَمْ يُحْفَظْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ إنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ، فَيُؤَدَّبُ مَنْ يَقُولُ عَلَى الْعُلَمَاءِ مَا هُمْ بَرِيئُونَ مِنْهُ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ النُّخَامَةِ الْعَارِضَةِ لِلْمُصَلِّي هَلْ قَطْعُهَا أَوْ بَلْعُهَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: مَتَى لَمْ تَصِلْ لِحَدِّ الظَّاهِرِ لَا يَتَعَرَّضُ لَهَا؛ فَإِنَّ نُزُولَهَا لِلْجَوْفِ حِينَئِذٍ غَيْرُ مُبْطِلٍ، فَإِنْ تَعَرَّضَ لَهَا وَظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ أَوْ حَرْفٌ مُفْهِمٌ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَمَتَى وَصَلَتْ لِحَدِّ الظَّاهِرِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ قَطْعُهَا وَمَجُّهَا فَكَذَلِكَ، وَمَتَى وَصَلَتْ لَهُ وَأَمْكَنَهُ ذَلِكَ جَازَ لَهُ قَطْعُهَا؛ وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ نَحْوُ حَرْفَيْنِ عَلَى الْأَوْجَهِ؛ صَوْنًا لِلصَّلَاةِ عَنْ الْإِبْطَالِ فَإِنْ قُلْت: كُلٌّ مِنْ الْحَرْفَيْنِ وَنُزُولِ أَجْنَبِيٍّ إلَى الْجَوْفِ مُبْطِلٌ، فَلِمَ اغْتَفَرْتُمْ الْحَرْفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ؟ قُلْت: لِأَنَّهُمْ اغْتَفَرُوا النُّطْقَ بِهِمَا فِي مَوَاضِعَ دُونَ تَعَمُّدِ نُزُولِ شَيْءٍ إلَى الْجَوْفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَغْتَفِرُوهُ كَذَلِكَ، فَكَانَتْ مُنَافَاةُ هَذَا لَهَا أَشَدَّ؛ فَلَمْ يُعْفَ عَنْهُ وَعُفِيَ عَنْ النُّطْقِ بِنَحْوِ حَرْفَيْنِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّنْ صَلَّى ثُمَّ بَانَ فِي ثَوْبِهِ قَمْلَةٌ أَوْ بَقَّةٌ مَيْتَةٌ، هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فَيَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا. نَعَمْ، صِئْبَانُ الْقَمْلِ الْمَحْشُوُّ فِي الْخِيَاطَةِ الْمُتَعَذَّرُ الْإِخْرَاجَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْفَى عَنْهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) - أَدَامَ اللَّهُ النَّفْعَ بِهِ - هَلْ يُعْفَى عَنْ كُلِّ مَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَطِينِ الشَّارِعِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ بِتَفْصِيلِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ الْمَبْسُوطَةِ، وَاسْتِيعَابُهُ يَطُولُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - حَيْثُ جَاءَ ذِكْرُ الْعِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَمَا حَدُّهَا الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الْفَضِيلَةُ وَالْإِجْزَاءُ؟ وَهَلْ صَحَّ كَمْ كَانَ قَدْرُ عِمَامَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ وَأَيْضًا فَحَيْثُ قِيلَ بِاسْتِحْبَابِ الْعِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ فَهَلْ يَقُومُ مَقَامَهَا عِنْدَ عَدَمِهَا أَوْ وُجُودِهَا غَيْرُهَا مِنْ قَلَنْسُوَةٍ أَوْ شِبْهِهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ جِلْدٍ، وَأَهْلُ الْمَشْرِقِ يُسَمُّونَ ذَلِكَ خُوذَةً، وَأَيْضًا فَحَيْثُ قِيلَ بِاسْتِحْبَابِ التَّخَتُّمِ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ فَهَلْ يَكْفِي فِي إحْرَازِ الْفَضِيلَةِ التَّخَتُّمُ بِالْحَلْقَةِ وَمَا شَابَهَهَا مِمَّا يَكُونُ فِي مَعْنَاهَا أَمْ لَا، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَدْرَ عِمَامَتِهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَهُوَ عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ؟ .

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: حَدُّ الْعِمَامَةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْفَضِيلَةُ الْمُشَارُ إلَيْهَا بِحَدِيثِ «صَلَاةٌ بِعِمَامَةٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِلَا عِمَامَةٍ» - الْعُرْفُ؛ فَمَا سَمَّاهُ الْعُرْفُ عِمَامَةً - قَلَّ أَوْ كَثُرَ - حَصَلَتْ بِهِ الْفَضِيلَةُ، وَمَا لَا فَلَا. وَتَحْدِيدُهَا بِنَحْوِ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ الْحَاجِّ الْمَالِكِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَدْخَلِهِ: وَإِذَا كَانَتْ الْعِمَامَةُ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ فِعْلِ سُنَنٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا؛ مِنْ تَنَاوُلِهَا بِالْيَمِينِ وَالتَّسْمِيَةِ وَالذِّكْرِ الْوَارِدِ - إنْ كَانَتْ مِمَّا لُبِسَ جَدِيدًا - وَامْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي صِفَةِ التَّعْمِيمِ مِنْ فِعْلِ التَّحْنِيكِ وَالْعَذَبَةِ وَتَصْغِيرِ الْعِمَامَةِ - يَعْنِي سَبْعَةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا - يُخْرِجُونَ مِنْهَا التَّحْنِيكَ وَالْعَذَبَةَ، فَإِنْ زَادَ فِي الْعِمَامَةِ قَلِيلًا؛ لِأَجْلِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَيُتَسَامَحُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ: قَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] : فَعَلَيْك أَنْ تَتَسَرْوَلَ قَاعِدًا، وَتَتَعَمَّمَ قَائِمًا، وَنَحْوُ الْقَلَنْسُوَةِ لَا تُحَصِّلُ فَضِيلَةَ الْعِمَامَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى عِمَامَةً. وَصَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ سُنَّةَ التَّخَتُّمِ بِالْفِضَّةِ تَحْصُلُ بِلُبْسِ الْخَاتَمِ بِفَصٍّ وَبِدُونِ فَصٍّ، وَمَنْ اشْتَرَطَ فِي حِلِّ لُبْسِ الْخَاتَمِ الْفَصَّ فَقَدْ سَهَا.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ الْمُصَلِّي الْمُتَقَمِّصِ إذَا كَانَ مَعَهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، هَلْ الْأَوْلَى أَنْ يَتَعَمَّمَ بِهِ أَوْ يَرْتَدِيَ بِهِ أَوْ يَتَّزِرَ بِهِ أَوْ يَجْعَلَهُ مُصَلًّى أَوْ مَاذَا يَفْعَلُ بِهِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبَيْنِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ أَنْ يُتَزَيَّنَ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيَتَّزِرْ إذَا صَلَّى، وَلَا يَشْتَمِلْ اشْتِمَالَ الصَّمَّاءِ» وَأَنْ

ص: 169

يَتَقَمَّصَ وَيَتَعَمَّمَ.

قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: لِمَا يُرْوَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةٌ بِعِمَامَةٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ عِمَامَةٍ» وَيَتَطَيْلَسُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي وَأَقَرُّوهُ، بَلْ قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ يَنْبَغِي تَفْضِيلُهُ عَلَى الرِّدَاءِ؛ أَيْ لِصَوْنِهِ الْبَصَرَ عَنْ جِهَةِ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي الصَّلَاةِ وَيَرْتَدِي وَيَتَّزِرُ أَوْ يَتَسَرْوَلُ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى ثَوْبَيْنِ فَالْأَفْضَلُ قَمِيصٌ مِنْ رِدَاءٍ أَوْ مَعَ إزَارٍ أَوْ مَعَ سَرَاوِيلَ.

قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ: وَأَفْضَلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْقَمِيصُ مَعَ الرِّدَاءِ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الرِّدَاءِ يَعُمُّ، وَخَالَفَهُ أَبُو زُرْعَةَ فَقَالَ: الْقَمِيصُ مَعَ مِثْلِهِ أَوْ مَعَ إزَارٍ أَوْلَى مِنْ الْقَمِيصِ مَعَ الرِّدَاءِ؛ لِأَنَّ ذَيْنِك أَبْلَغُ فِي السَّتْرِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: قَوْلُهُمْ إنْ اقْتَصَرَ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَالْأَوْلَى قَمِيصٌ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لِلْبَدَنِ، ثُمَّ رِدَاءٌ - وَهُوَ مَا عَلَى الْكَتِفِ - لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيَفْضُلُ مِنْهُ مَا يَكُونُ عَلَى الْكَتِفِ، ثُمَّ إزَارٌ ثُمَّ سَرَاوِيلُ اهـ.

وَيُؤْخَذُ مِنْهُ حَمْلُ كَلَامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا إذَا كَانَ الرِّدَاءُ سَابِغًا؛ لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ مَصْلَحَةَ الْإِزَارِ وَزِيَادَةً. وَكَلَامُ أَبِي زُرْعَةَ فِي الْإِزَارِ أَوْ السَّرَاوِيلِ - عَلَى مَا إذَا كَانَ الرِّدَاءُ لَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، فَكُلٌّ مِنْ الْإِزَارِ وَالسَّرَاوِيلِ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الرِّدَاءِ؛ لِأَنَّ رِعَايَةَ الْمُبَالَغَةِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ مُجَرَّدِ التَّجَمُّلِ بِالرِّدَاءِ.

إذَا تَقَرَّرَ هَذَا عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ الَّذِي مَعَ الْمُتَقَمِّصِ - إنْ كَانَ يَعُمُّ عَوْرَتَهُ إذَا ارْتَدَى بِهِ - فَالِارْتِدَاءُ أَفْضَلُ مِنْ الِاتِّزَارِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعُمُّهَا فَالِاتِّزَارُ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ الِارْتِدَاءِ بِهِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ الِارْتِدَاءِ وَالِاتِّزَارِ أَفْضَلُ مِنْ التَّعَمُّمِ.

وَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْعِمَامَةِ لَمْ يَثْبُتْ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ فَقَدْ حَكَمَ الْحُفَّاظُ عَلَى حَدِيثِ: «صَلَاةٌ بِعِمَامَةٍ تَعْدِلُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، وَجُمُعَةٌ بِعِمَامَةٍ تَعْدِلُ سَبْعِينَ جُمُعَةً» ، وَحَدِيثِ:«الصَّلَاةُ فِي الْعِمَامَةِ بِعَشَرَةِ آلَافِ حَسَنَةٍ» بِأَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ بَاطِلَانِ؛ فَلَوْ وَرَدَ ذَلِكَ اللَّفْظُ لَذَكَرُوهُ. وَلَمْ يُطْلِقُوا الْحُكْمَ بِالْوَضْعِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ. قَالُوا: وَمِنْ الْمَوْضُوعِ أَيْضًا: «صَلَاةٌ بِخَاتَمٍ تَعْدِلُ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ خَاتَمٍ.» ثُمَّ رَأَيْت الدَّيْلَمِيَّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ، وَلَفْظُهُ:«رَكْعَتَانِ بِعِمَامَةٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةً بِلَا عِمَامَةٍ.» وَفِي أَحَادِيثِ الدَّيْلَمِيِّ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا مَا هُوَ مَشْهُورٌ.

وَقَوْلُ ابْنِ الْعِمَادِ (يَنْبَغِي تَفْضِيلُ الطَّيْلَسَانِ عَلَى الرِّدَاءِ) فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الرِّدَاءِ أَعْظَمُ، فَالْأَوْجَهُ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ مِنْ تَفْضِيلِ الرِّدَاءِ.

هَذَا كُلُّهُ إنْ وَجَدَ سُتْرَةً فِي صَلَاتِهِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَجِدْهَا وَلَا أَمْكَنَهُ الْخَطُّ الْمُحَصِّلُ لِفَضْلِهَا فَهَلْ الْأَوْلَى جَعْلُهُ سُتْرَةً يُصَلِّي إلَيْهِ أَوْ زِيَادَةُ التَّجَمُّلِ بِهِ؟ كُلٌّ مُحْتَمَلٌ.

وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ السُّتْرَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْأَحَادِيثَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَضَعْ السُّتْرَةَ ضَرَّهُ مَا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ لِتَقْصِيرِهِ.

قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَلَعَلَّ سَبَبَ هَذَا الضَّرَرِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِهِ، وَأَنَّهُ يَأْثَمُ؛ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ السُّتْرَةِ؛ لِأَنَّهُ - بِتَرْكِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا - مُعِينٌ عَلَى حَرَامٍ؛ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَوْ صَلَّى لِغَيْرِ سُتْرَةٍ وَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ مَارٌّ - أَثِمَا جَمِيعًا إلَّا إنْ وَقَفَ بِطَرِيقٍ فَيَأْثَمُ الْمُصَلِّي فَقَطْ اهـ وَفِيهِ - أَعْنِي مَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ نَظَرٌ.

وَالْوَجْهُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ قَطْعُ الصَّلَاةِ بِالْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَبِالضَّرَرِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْأَحَادِيثِ قَطْعُ الْخُشُوعِ.

وَضَرَرُ الِاشْتِغَالِ بِالْمَارِّ بَلْ وَتَمَكُّنُ الشَّيْطَانِ مِنْهُ بِالْوَسْوَسَةِ وَالْمُخَادَعَةِ وَإِلْفَاتِهِ عَمَّا هُوَ فِيهِ؛ حَتَّى لَا يَعْقِلَ مِنْ صَلَاتِهِ شَيْئًا أَوْ إلَّا أَقَلَّهَا فَيَفُوتَ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، فَكُلُّ ذَلِكَ هُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ» فَاتَّضَحَ بِذَلِكَ أَنَّ جَعْلَ الثَّوْبِ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ سِتْرَةً - إذَا لَمْ يَجِدْ سِتْرَةً غَيْرَهُ يُصَلِّي إلَيْهَا - أَوْلَى مِنْ الِارْتِدَاءِ وَالتَّعَمُّمِ وَالِاتِّزَارِ بِهِ؛ لِمَا عَلِمْت مِنْ الْخِلَافِ فِي وُجُوبِهِ، بَلْ الْخَبَرُ الصَّحِيحُ:«اسْتَتِرُوا فِي صَلَاتِكُمْ وَلَوْ بِسَهْمٍ» ، يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ هَذَا الْخِلَافِ، فَكَانَتْ رِعَايَتُهُ أَوْلَى.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ (إذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا) : «كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَاقِدِي أُزُرِهِمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ كَهَيْئَةِ الصِّبْيَانِ» وَقَالَ لِلنِّسَاءِ: «لَا تَرْفَعْنَ رُؤْسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا» اهـ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ وَغَيْرُهُ: إنَّمَا نُهِينَ عَنْ الرَّفْعِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَلْمَحْنَ شَيْئًا مِنْ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ عِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ اهـ فَهَلْ يُفْهَمُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِانْكِشَافِ شَيْءٍ مِنْ الْعَوْرَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، أَوْ لِضِيقِ ثَوْبٍ

ص: 170

أَوْ لِقِلَّتِهِ، أَوْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي لَمْ يَسْتَقِرَّ فِيهِ أَمْرُ الشَّرْعِ، أَوْ لَا؟ وَإِنْ قُلْتُمْ: لَا، فَأَيُّ مَعْنًى لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:«لَا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ» عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ الَّتِي هِيَ آكَدُ الْأُمُورِ فِي الْقُدْوَةِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا» فَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ؛ لِاحْتِمَالِ الِانْكِشَافِ، فَهَلْ يُمْنَعُ عَنْ السُّنَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِلِاحْتِمَالِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ أَمْ لَا؟ .

وَهَلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ بِهِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْمُصَلِّي سَتْرُ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ فِي الْأَعْلَى فَهَلْ يَجِبُ سَتْرُ الْمَوْضِعِ الْمُنْخَفِضِ عِنْدَ فَقَارِ الظَّهْرِ؛ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَهُ انْخِفَاضٌ كَثِيرٌ هُنَاكَ، وَإِذَا اتَّزَرَ هَذَا لَمْ يُلْصِقْ ثَوْبَهُ إلَى فَقَارِ الظَّهْرِ وَيَكُونُ هُنَاكَ فُرْجَةٌ فَهَلْ يَجِبُ سَتْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ - إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَمِيصٌ - أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِانْكِشَافِ عَوْرَاتِهِمْ بَلْ بِخَشْيَةِ انْكِشَافِ شَيْءٍ مِنْهَا وَأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ لَا يَضُرُّ، وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِذَلِكَ؛ فَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ مَنْ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ بِلَا تَقْصِيرٍ فَسَتَرَهَا فَوْرًا - بِأَنْ لَمْ يَمْضِ زَمَنٌ مَحْسُوسٌ عُرْفًا - لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ الِانْكِشَافُ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ.

وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ رُؤْيَةَ الْعَوْرَةِ مِنْ الْأَسْفَلِ لَا تَضُرُّ؛ حَتَّى قَالُوا: لَوْ وَقَفَ عَلَى سَطْحٍ، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ مِنْ تَحْتِهِ وَيَنْظُرُونَ إلَى عَوْرَتِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَخَالَفَهُمْ الْإِمَامُ فَاخْتَارَ بُطْلَانَهَا.

قَالَ: لِأَنَّهُ مُنْهَتِكٌ لَا مُسْتَتِرٌ، إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ انْكِشَافُ شَيْءٍ مِنْ عَوْرَاتِهِمْ فِي سُجُودِهِمْ - كَانَ غَيْرَ ضَارٍّ؛ إمَّا لِأَنَّهُ انْكَشَفَ وَرَدُّوهُ فَوْرًا؛ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ انْكِشَافًا مِنْ الْأَسْفَلِ، وَهُوَ لَا يَضُرُّ مُطْلَقًا؛ وَحِينَئِذٍ فَمِنْ الْوَاضِحِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ بِوَجْهٍ لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ يُغْتَفَرُ ظُهُورُ رُبْعِ الْعَوْرَةِ أَوْ نِصْفِهَا أَوْ دُونَ دِرْهَمٍ مِنْ السَّوْأَتَيْنِ، وَعَلَى مُدَّعِي وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآرَاءِ الثَّلَاثَةِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ وُجُوبُ سَتْرِ جَمِيعِهَا، فَدَعْوَى اغْتِفَارِ ظُهُورِ بَعْضِهَا تَخْصِيصٌ، وَهُوَ لَا يُقْبَلُ إلَّا بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ.

وَمَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ مِنْ أَنَّ حِكْمَةَ نَهْيِهِنَّ عَنْ الْمُبَادَرَةِ بِالرَّفْعِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَلْمَحْنَ شَيْئًا مِنْ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ عِنْدَ الرَّفْعِ - صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ، وَوُقُوعُ نَظَرِهِنَّ عَلَى بَعْضِ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ - بِفَرْضِ وُقُوعِهِ - مِنْ بَابِ الْمَفَاسِدِ وَأَيِّ الْمَفَاسِدِ وَقَدْ قَرَّرَ الْأَئِمَّةُ أَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، فَطُلِبَ مِنْهُنَّ عَدَمُ الْمُبَادَرَةِ بِالرَّفْعِ؛ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ فَاتَ بِهِ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ؛ تَقْدِيمًا لِمَا هُوَ أَخْطَرُ وَأَعْظَمُ.

عَلَى أَنَّ لَنَا أَنْ نَمْنَعَ أَنَّ أَمْرَهُنَّ بِالْمُكْثِ إلَى ارْتِفَاعِ الرِّجَالِ يُفَوِّتُ الْمُتَابَعَةَ؛ إذْ مِنْ الْوَاضِحِ أَنَّهَا لَا تَفُوتُ إلَّا بِالتَّقَدُّمِ بِرُكْنٍ أَوْ بِالتَّخَلُّفِ بِهِ أَوْ بِمَا تَفْحُشُ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ؛ كَمَا بَسَطُوهُ فِي مَبْحَثِهَا. وَلَيْسَ فِي تَأَخُّرِهِمْ أَدْنَى زَمَنٍ إلَى رَفْعِ الرِّجَالِ تَفْوِيتُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَلْ وَلَا كَمَالُ الْمُتَابَعَةِ، بَلْ كَمَالُهَا حَاصِلٌ لَهُنَّ - وَإِنْ تَأَخَّرْنَ كَمَا أُمِرْنَ - لِأَنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ الْإِمَامِ بِعُذْرٍ لَا يَمْنَعُ كَمَالَ الْمُتَابَعَةِ، وَهَذَا تَخَلُّفٌ بِعُذْرٍ؛ وَهُوَ امْتِثَالُ النَّهْيِ عَنْ الْمُبَادَرَةِ بِالرَّفْعِ.

عَلَى أَنَّ هَذَا تَأَخُّرٌ يَسِيرٌ جِدًّا، وَهُوَ مُغْتَفَرٌ لَوْ فُرِضَ أَنْ لَا عُذْرَ فَكَيْفَ مَعَ الْعُذْرِ؟ فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يُقَدَّمُ الْمَوْهُومُ مِنْ خَشْيَةِ النَّظَرِ عَلَى الْمُحَقَّقِ مِنْ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ؟ قُلْت: بِمَا قَرَّرْتُهُ مِنْ حُصُولِ الْمُتَابَعَةِ مَعَ ذَلِكَ التَّأَخُّرِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ هُنَا مَوْهُومٌ عَلَى مُحَقَّقٍ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالْمَوْهُومُ - بِفَرْضِ وُقُوعِهِ - قَدْ تَعْظُمُ مَفْسَدَتُهُ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْمُحَقَّقِ الَّذِي لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ.

وَقَوْلُ السَّائِلِ - زَادَ تَوْفِيقُهُ وَالنَّفْعُ بِهِ - فَهَلْ يَجِبُ سَتْرُ الْمَوْضِعِ الْمُنْخَفِضِ. . . إلَخْ - جَوَابُهُ: نَعَمْ، يَجِبُ عَلَيْهِ مَتَى كَانَ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يُرَى مِنْهُ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَجِبُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ مِنْ الْأَعْلَى بِسَائِرِ جِهَاتِهِ، وَمِنْ الْجَوَانِبِ بِسَائِرِ جِهَاتِهَا؛ فَحَيْثُ كَانَتْ تُرَى مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ لِأَحَدِ الْجَوَانِبِ وَجَبَ سَتْرُ ذَلِكَ الْمَحَلِّ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ ثَوْبٍ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يُعْلَمُ مَحَلُّهَا، فَوَضَعَ الْمُصَلِّي يَدَهُ عَلَيْهِ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ كَالْبِسَاطِ، أَمْ لَا؛ كَالْيَدِ الرَّطْبَةِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِذَلِكَ، وَفَارَقَ عَدَمُ تَنَجُّسِ مُمَاسِّ الرَّطْبِ لِبَعْضِهِ بِأَنَّ الْمَدَارَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى ظَنِّ الطَّهَارَةِ، وَبِمَسِّ ذَلِكَ الْبَعْضِ زَالَ ذَلِكَ الظَّنُّ، وَفِي النَّجَاسَةِ عَلَى تَيَقُّنِ مُمَاسَّتِهَا وَلَمْ يُوجَدْ.

(وَسُئِلَ) - فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَمَّنْ احْتَجَمَ وَوَصَلَ مَحَلَّ الْحَجْمِ مَاءٌ أَوْ دُهْنٌ بِسَبَبِ الْحَجْمِ، هَلْ يُعْفَى عَنْهُ لِلْحَاجَةِ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ)

ص: 171

بِقَوْلِهِ: يُعْفَى عَمَّا اُحْتِيجَ إلَيْهِ فِيهَا كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّنْ طَافَ وَهُوَ حَامِلٌ مَائِعًا فِيهِ مَيْتَةٌ مَعْفُوٌّ عَنْهَا هَلْ يَبْطُلُ طَوَافُهُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ - الَّذِي حَرَّرْته فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ - أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْ حَمْلِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ فِي صَلَاةٍ وَلَا طَوَافٍ، لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، لَكِنَّهُ خَصَّهُ بِأَيَّامِ الِابْتِلَاءِ بِكَثْرَةِ الذُّبَابِ كَثْرَةً يَتَعَسَّرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ عَنْ مُمَاسَّتِهَا لِمَحْمُولِهِ أَوْ مُمَاسِّهِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا إذَا سَجَدَ الْمُصَلِّي وَخَرَجَتْ عَوْرَتُهُ مِنْ ذَيْلِ ثَوْبِهِ؛ بِحَيْثُ إنَّ الَّذِي وَرَاءَهُ يَنْظُرُهَا هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا تَضُرُّ رُؤْيَةُ الْعَوْرَةِ مَا دَامَتْ تُسَمَّى مَسْتُورَةً، بِخِلَافِ مَا لَوْ انْكَشَفَ الثَّوْبُ عَنْهَا وَلَمْ يُرَدَّ فَوْرًا.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّا إذَا فَتَحَ الْمَأْمُومُ عَلَى إمَامِهِ بِقَصْدِ الرَّدِّ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ؟ أَمْ لَا كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَالدَّمِيرِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْمَنْقُولُ الْمُعْتَمَدُ: الْبُطْلَانُ؛ حَتَّى فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ فَضْلًا عَنْ قَصْدِ الرَّدِّ وَحْدَهُ. وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ، وَكَذَا فِي شَرْحِ الْعُبَابِ لَكِنْ بِمَا هُوَ أَبْسَطُ وَأَوْضَحُ. وَعِبَارَةُ الْمَتْنِ وَالشَّرْحِ:(وَلَوْ أَعْلَمَ) غَيْرَهُ غَرَضًا (بِنَظْمِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ) وَقَدْ رَأَى عَجَبًا لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، أَوْ وَقَدْ قَعَدَ إمَامُهُ فِي الثَّانِيَةِ مَثَلًا {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ؛ لِقُعُودِ إمَامِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ أَوْ {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] أَوْ {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} [مريم: 12] . (لِمُسْتَأْذِنٍ) عَلَيْهِ فِي الدُّخُولِ أَوْ فِي أَخْذِ شَيْءٍ.

قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ، وَتَبِعَهُ جَمْعٌ: وَهُوَ وَاضِحٌ (أَوْ حَمِدَ اللَّهَ لِعُطَاسٍ أَوْ تَجَدُّدِ نِعْمَةٍ أَوْ اسْتَرْجَعَ لِمُصِيبَةٍ) قَالَ الشَّيْخَانِ فِي الرَّوْضَةِ. وَأَصْلِهَا: أَوْ نَبَّهَ إمَامَهُ أَوْ غَيْرَهُ أَوْ فَتَحَ عَلَى مَنْ أُرْتِجَ عَلَيْهِ (فَإِنْ قَصَدَ) فِي الْكُلِّ (الْإِعْلَامَ وَحْدَهُ بَطَلَتْ بِلَا خِلَافٍ وَلَا نَظَرٍ إلَى كَوْنِهِ فِي نَحْوِ التَّنْبِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ، خِلَافًا لِجَمْعٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُشْبِهُ كَلَامَ الْبَشَرِ، وَهُوَ يُبْطِلُهَا، وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَتِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ (أَوْ أَطْلَقَ بَطَلَتْ) أَيْضًا كَمَا فِي التَّحْقِيقِ وَالدَّقَائِقِ، وَقَالَ: هِيَ نَفِيسَةٌ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ بَيَانِهَا وَزَادَ فِي التِّبْيَانِ فَنَسَبَ ذَلِكَ لِلْأَصْحَابِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْكَافِي.

وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - أَيْ صَاحِبِ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرِهِ - الْبُطْلَانُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ انْتَهَى فِي قِرَاءَتِهِ إلَيْهَا فَلَا تَبْطُلُ، أَوْ لَا فَتَبْطُلُ.

وَاعْتَمَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ قَالَ: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ أَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْقُرْآنِ، أَوْ كَانَ ذِكْرًا مَحْضًا فَلَا تَبْطُلُ بِهِ قَطْعًا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، قَالَ: وَلْيَنْظُرْ فِيمَا لَوْ أَطْلَقَ فِي الْمُحْتَمَلِ، وَلَا قَرِينَةَ تَنْصَرِفُ إلَيْهَا؛ بِأَنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] وَنَحْوَهَا ثُمَّ رَكَعَ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ اهـ وَفِيمَا اعْتَمَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَبَحَثَهُ - نَظَرٌ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّهُ فِي الْمَجْمُوعِ لَمَّا بَحَثَ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَدَلِيلُ إطْلَاقِ الْبُطْلَانِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ يُشْبِهُ كَلَامَ الْآدَمِيِّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي تَحْرِيمِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجُنُبِ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ - أَنَّ مِثْلَ هَذَا النَّظْمِ لَا يَكُونُ قُرْآنًا إلَّا بِالْقَصْدِ، فَإِذَا أَطْلَقَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ شَيْئًا لَا يَحْرُمُ اهـ.

فَهَذَا التَّقْرِيرُ مِنْهُ - أَعْنِي الْمَجْمُوعَ - صَرِيحٌ فِي اعْتِمَادِهِ الْبُطْلَانَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُطْلَقًا. وَفَرَّقَ الْمَطْلَبُ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالْجُنُبِ بِأَنَّ كَوْنَهُ فِي الصَّلَاةِ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ ذَلِكَ لِلْقُرْآنِ؛ لِامْتِنَاعِ كَلَامِ الْآدَمِيِّ فِيهَا، وَالْجَنَابَةُ تَصْرِفُهُ لِغَيْرِ الْقِرَاءَةِ؛ لِتَحْرِيمِ الْقِرَاءَةِ مَعَهَا يُرَدُّ بِأَنَّ الْقَرِينَةَ الْعَارِضَةَ كَالِاسْتِئْذَانِ أَقْوَى فِي الصَّرْفِ عَنْ الْقُرْآنِيَّةِ إلَيْهَا، فَاحْتِيجَ حِينَئِذٍ إلَى نِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ.

عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ قَرِينَتَيْهِ خَفِيَّةٌ فَلَا تَصْلُحُ لِلتَّخْصِيصِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ حَيْثُ لَمْ يُوجَدْ صَارِفٌ لَمْ يُشْتَرَطْ الْقَصْدُ وَلَوْ فِي الْمُحْتَمَلِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُنُبِ بِأَنَّ هُنَا قَرِينَةً ظَاهِرَةً تَصْرِفُهُ إلَى الْقُرْآنِيَّةِ، وَهِيَ تَلَبُّسُهُ بِالصَّلَاةِ الْمَوْضُوعَةِ بِخِلَافِهِ فِي الْجُنُبِ، وَحَيْثُ وُجِدَ صَارِفٌ اُشْتُرِطَ قَصْدُ الْقُرْآنِ، وَلَوْ فِي غَيْرِ الْمُحْتَمَلِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ؛ نَظَرًا إلَى الصَّارِفِ، وَبِمَا تَقَرَّرَ عَنْ الْمَجْمُوعِ. وَيُرَدُّ اعْتِمَادُ جَمْعٍ مُتَأَخِّرِينَ عَدَمَ الْبُطْلَانِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُشْبِهُ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ، وَلَا يَكُونُ قُرْآنًا إلَّا بِالْقَصْدِ، وَيُوَافِقُهُ مَا مَرَّ مِنْ جَوَازِ الْقِرَاءَةِ حِينَئِذٍ لِلْجُنُبِ، وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْمِنْهَاجِ وَاعْتَمَدَهُ جَمْعٌ؛ مِنْ الْحِنْثِ فِيمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا، وَأَتَى بِآيَةٍ يَفْهَمُ

ص: 172

مِنْهَا زَيْدٌ مُرَادَهُ بِلَا قَصْدٍ فَثَبَتَ لَهُ مَعَ الْإِطْلَاقِ حُكْمُ كَلَامِ الْآدَمِيِّ فَأُبْطِلَ هُنَا، وَأُبِيحَ لِلْجُنُبِ، وَحَنِثَ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ.

وَبَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ عُذْرَ عَامِّيٍّ جَهِلَ الْإِبْطَالَ بِالْقُرْآنِ أَوْ الذِّكْرِ، وَلَوْ مَعَ قَصْدِ الْإِعْلَامِ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ اهـ وَمَا بَحَثَهُ غَيْرُ بَعِيدٍ؛ لِمَا وَرَدَ فِي التَّنَحْنُحِ (وَإِلَّا) بِأَنْ قَصَدَ الْقُرْآنَ أَوْ الذِّكْرَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ التَّنْبِيهِ فَلَا تَبْطُلُ؛ سَوَاءٌ انْتَهَى فِي قِرَاءَتِهِ إلَيْهَا أَمْ أَنْشَأَهَا حِينَئِذٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ، قَالَ: لِعُمُومِ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ السَّابِقِ، وَعِبَارَتُهُمَا - أَعْنِي مَتْنَ الْعُبَابِ وَشَرْحِي لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ -:(لَا إنْ فَتَحَ) الْمَأْمُومُ مَثَلًا (عَلَى مَنْ) أَيْ إمَامٍ لَهُ أَوْ غَيْرِهِ (أُرْتِجَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ مَعَ تَخْفِيفِ الْجِيمِ، وَتَشْدِيدُهَا قَلِيلٌ لَا لَحْنٌ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ؛ فَقَدْ نَقَلَهَا ابْنُ هِشَامٍ فِي شَرْحِ الْفَصِيحِ عَنْ الْمُبَرِّدِ؛ أَيْ أُغْلِقَ (عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَوْ نَبَّهَ نَاسِيًا لِذِكْرِ) آخِرِ كَلِمَةٍ فِي التَّشَهُّدِ (أَوْ جَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ أَوْ بِالتَّسْمِيعِ) أَيْ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَلَوْ لِمَحْضِ الْإِعْلَامِ؛ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ عَلَى مَا قَالَهُ جَمْعٌ مُتَقَدِّمُونَ، وَاعْتَمَدَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ؛ لِخَبَرِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيّ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ يُلَقِّنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّلَاةِ وَاحْتَجَّ لَهُ ابْنُ الْمُقْرِي بِمَا يَأْتِي مَعَ رَدِّهِ.

وَزَعَمَ الدَّمِيرِيُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ فِي الْفَتْحِ، وَنُقِلَ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَا يَتَخَرَّجُ عَلَى مَا مَرَّ، قَالَ: وَبِهِ صَرَّحَ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا؛ حَيْثُ قَالَ: لَوْ صَلَّى حَالِفٌ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا خَلْفَهُ فَفَتَحَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ قَرَأَ آيَةً فُهِمَ مِنْهَا مَقْصُودُهُ - لَمْ يَحْنَثْ إنْ قَصَدَ الْقِرَاءَةَ وَإِلَّا حَنِثَ اهـ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ. أَمَّا نَفْيُهُ الْخِلَافَ فِيهِ فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِمَا عَلِمْت وَسَتَعْلَمُهُ. وَأَمَّا مَا قَالَاهُ فِي الْأَيْمَانِ فَمَحْمُولٌ كَقَوْلِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لَوْ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ وَقَصَدَ إعْلَامَ النَّاسِ لَمْ تَبْطُلْ؛ عَلَى مَا قَرَّرَاهُ هُنَا مِنْ التَّفْصِيلِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا قَدَّمْته عَنْهُمَا فِي الْفَتْحِ وَالتَّنْبِيهِ. وَقَدْ اعْتَمَدَ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ - حَتَّى الْفَتْحِ عَلَى إمَامِهِ - التَّفْصِيلَ السَّابِقَ فِيمَا لَوْ أُعْلِمَ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ، وَبِهِ - أَعْنِي الْفَتْحَ - صَرَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ فَإِنَّهُ أَدْرَجَهُ مَعَ مَا مَرَّ فِيمَنْ أُعْلِمَ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ، وَاسْتَدَلَّ لِلْإِطْلَاقِ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ بِمَا قَدَّمْته عَنْهُ؛ فَإِنْ قَصَدَ الْقُرْآنَ أَوْ الذِّكْرَ أَوْ التَّكْبِيرَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ قَصْدِ الْفَتْحِ أَوْ التَّبْلِيغِ - لَمْ تَبْطُلْ، وَإِنْ قَصَدَ أَحَدَ هَذَيْنِ وَحْدَهُ أَوْ أَطْلَقَ بَطَلَتْ.

وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُحَرَّرِ وَالْحَاوِي وَغَيْرِهِمَا أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ هُنَا وَفِيمَا مَرَّ يَجْرِي، وَلَوْ فِيمَا لَا يَصْلُحُ لِتَخَاطُبِ النَّاسِ بِهِ؛ مِنْ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ؛ إذْ الْقَصْدُ مِنْ الصَّلَاةِ الْخُضُوعُ لِلْحَقِّ سبحانه وتعالى وَمُنَاجَاتُهُ بِتِلَاوَةِ كِتَابِهِ وَذِكْرُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْخَاصِّ الْمَشْرُوعِ كَمَا أَرْشَدَ إلَيْهِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ:«إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» . فَقَصْدُ التَّنْبِيهِ أَوْ الْفَتْحِ أَوْ التَّبْلِيغِ مَعَ قَصْدِ الذِّكْرِ تَابِعٌ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، بِخِلَافِ قَصْدِ مُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ مَثَلًا؛ لِصَرْفِهِ الْقُرْآنَ أَوْ الذِّكْرَ عَنْ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ الْأَصْلِيِّ إلَى مَعْنَى مَا يُتَخَاطَبُ بِهِ، فَأَشْبَهَ كَلَامَ النَّاسِ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ تَعْلِيلُهُمْ؛ إذْ (سُبْحَانَ اللَّهِ) مَثَلًا بِمَعْنَى تَنَبَّهْ، (وَاَللَّهُ أَكْبَرُ) بِمَعْنَى رَكَعَ الْإِمَامُ، وَكَذَا إذَا قَصَدَ الْفَتْحَ فَقَطْ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لِلْإِمَامِ: الَّذِي نَسِيتَهُ كَذَا، وَصَوَابُ التِّلَاوَةِ كَذَا.

فَأَشْبَهَ كَلَامَ النَّاسِ، فَانْدَفَعَ بِهَذَا قَوْلُ الْإِسْنَوِيِّ الْمُتَّجِهُ اخْتِصَاصُ التَّفْصِيلِ بِمَا يَصْلُحُ لِتَخَاطُبِ النَّاسِ بِهِ؛ مِنْ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ نَحْوُ (سُبْحَانَ اللَّهِ) وَإِنْ تَجَرَّدَ لِقَصْدِ الْإِفْهَامِ. كَمَا صَرَّحَ بِهَذَا التَّخْصِيصِ الْمَاوَرْدِيُّ وَدَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُهَذَّبِ، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا تَعْلِيلُهُمْ الْبُطْلَانَ فِي نَحْوِ {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} [الحجر: 46] بِأَنَّهُ يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ اهـ وَانْدَفَعَ بِهِ أَيْضًا تَأْيِيدُ ابْنِ الْمُقْرِي لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ بِقَوْلِ الشَّامِلِ: إذَا أَفْهَمَ الْآدَمِيِّينَ بِالتَّسْبِيحِ وَالْقُرْآنِ لَمْ تَبْطُلْ، وَبِتَعْلِيلِهِمْ الْبُطْلَانَ فِي {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} [الحجر: 46] بِأَنَّهُ يُشْبِهُ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ وَإِنْ وَافَقَ نَظْمَ الْقُرْآنِ، قَالَ: وَاَلَّذِي يَفْتَحُ لَمْ يَنْطِقْ بِكَلَامِنَا وَلَا قَصَدَهُ، وَبِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا عَلَى مَنْ سَبَّحَ لِمَا نَابَهُ، وَلَا عَلَى إمَامٍ جَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ بِنِيَّةِ الذِّكْرِ أَوْ التَّكْبِيرِ؛ مَعَ أَنَّ هَذَا أَوْلَى مِنْ الْفَاتِحِ؛ لِقَصْدِهِ بِالْقُرْآنِ تَفْهِيمَ الْقُرْآنِ، بِخِلَافِ هَذَا، وَبِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَكَيْفَ تَبْطُلُ وَكَيْفَ يَنْوِي بِفِعْلِهَا غَيْرَهَا؟ وَبِمَا يَأْتِي مِنْ عَدَمِ الْبُطْلَانِ بِالنَّذْرِ وَنَحْوِهِ؛ لِتَضَمُّنِهِ الْقُرْبَةَ، وَإِنْ كَانَ صَرِيحَ كَلَامِنَا فَكَيْفَ تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ أَتَى بِكَلَامِ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَامْتِثَالِ

ص: 173

الْأَمْرِ اهـ وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ أَنَّ كَلَامَ الشَّامِلِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا قَصَدَ مَعَ الْإِفْهَامِ التَّسْبِيحَ وَالْقِرَاءَةَ، أَوْ الْبَاءُ فِيهِ بِمَعْنَى مَعَ؛ لِيُوَافِقَ كَلَامَ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: الَّذِي يَفْتَحُ. . . إلَخْ مَمْنُوعٌ عِنْد تَجْرِيدِ الْقَصْدِ لِلْإِفْهَامِ فَقَطْ.

وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ كَمَنْ قَصَدَ بِنَحْوِ {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} [الحجر: 46] الْإِذْنَ بِعَيْنِ مَا قَالُوهُ فِي تَعْلِيلِ الْبُطْلَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِنَا وَإِنْ وَافَقَ نَظْمَ الْقُرْآنِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(لَمْ يَشْتَرِطُوا. . . إلَخْ) مَمْنُوعٌ أَيْضًا؛ فَقَدْ جَزَمَ الْإِسْنَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ بِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِيمَنْ سَبَّحَ لِمَا نَابَهُ، وَسَبَقَهُ إلَيْهِ فِي الْجَوَاهِرِ كَمَا قَدَّمْته. وَشَرْطُ كَوْنِ الْفَتْحِ سُنَّةً قَصْدُ الْقِرَاءَةِ، فَلَا بِدَعَ عِنْدَ انْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي الْإِبْطَالِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِحُصُولِ الْإِفْهَامِ الْمُجَرَّدِ مِنْهُ أَشْبَهَ كَلَامَ الْبَشَرِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْ جَرَّدَ قَصْدَهُ لِإِفْهَامِ الْآيَةِ عَنْ الْقِرَاءَةِ قَدْ امْتَثَلَ الْأَمْرَ فِي الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ حِينَئِذٍ خَارِجٌ عَنْ سُنَنِ الْقُرْآنِ وَالْقِرَاءَةِ وَعَمَّا قَصَدَ لَهُ، وَمَا يَأْتِي بِهِ فِي نَحْوِ النَّذْرِ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إفْهَامَ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إنْشَاءُ قُرْبَةٍ، فَهُوَ بِالتَّسْبِيحِ أَشْبَهُ؛ وَمِنْ ثَمَّ لَوْ قَصَدَ بِهِ إفْهَامَ الْغَيْرِ الْعِتْقَ أَوْ الْتِزَامَ الصَّدَقَةِ؛ بِحَيْثُ أَخْرَجَهُ مِنْ الْإِنْشَاءِ إلَى الْإِخْبَارِ أَبْطَلَ بِلَا شَكٍّ. (تَنْبِيهٌ) قَدْ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْته غَرَابَةُ قَوْلِ جَمْعٍ مُتَقَدِّمِينَ: لَا يَضُرُّ قَصْدُ الْإِفْهَامِ وَالتَّنْبِيهِ وَالتَّبْلِيغِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصٌ لِلَّهِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَعْنَى الذِّكْرِ، بِخِلَافِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ - بِحَمْدِ اللَّهِ - عَلَى نَفَائِسَ وَتَحْقِيقَاتٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا، فَلْيَتَأَمَّلْهَا السَّائِلُ - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - فَإِنَّهُ إذَا تَأَمَّلَهَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا - التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ نَحْوَ الْإِعْلَامِ أَوْ الْفَتْحِ، أَوْ لَا يَقْصِدَ شَيْئًا؛ فَتَبْطُلَ صَلَاتُهُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ؛ وَبَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ الْقُرْآنَ أَوْ الذِّكْرَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الْإِعْلَامِ أَوْ الْفَتْحِ مَثَلًا فَلَا تَبْطُلُ؛ لِمَا ظَهَرَ وَتَقَرَّرَ وَاتَّضَحَ وَتَحَرَّرَ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، وَفَّقَنَا اللَّهُ لِطَاعَتِهِ؛ إنَّهُ هُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ وَصْلِ الْمَرْأَةِ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ نَجِسٍ أَوْ شَعْرِ آدَمِيٍّ؛ هَلْ يَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ الْوَصْلِ وَصْلَ كُلِّ شَعْرَةٍ لَهَا بِشَعْرَةٍ مِنْ الْخَارِجِ، أَوْ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ نِسَاءُ مِليِبَارَ؛ فَإِنَّهُنَّ يَفْتِلْنَ شُعُورَهُنَّ وَتَكُونُ مُرْسَلَةً عَلَى حَالِهَا، ثُمَّ يَجْمَعْنَ شُعُورًا أَوْ حَرِيرًا أَوْ صُوفًا عَلَى حِدَةٍ فِي مِثْلِ نِصْفِ حَجْمِ شُعُورِهِنَّ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ يَضَعْنَ ذَلِكَ مَعَ الشُّعُورِ وَيَرْبِطْنَهَا مَعًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ؛ فَهَلْ هَذَا مِنْ الْوَصْلِ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: يَحْرُمُ وَصْلُ الشَّعْرِ بِشَعْرٍ نَجِسٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّ رُطُوبَةٌ، وَلَا وَصَلَتْ فِيهِ، وَكَذَا بِشَعْرِ آدَمِيٍّ وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ أَوْ السَّيِّدُ. وَيَحْرُمُ أَيْضًا بِشَعْرِ غَيْرِهِمَا وَبِصُوفٍ وَخِرَقٍ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْحَلِيلُ، وَخَرَجَ بِالْوَصْلِ رَبْطُهُ بِخَيْطِ حَرِيرٍ أَوْ نَحْوِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ؛ إذْ لَا وَصْلَ فِيهِ، كَذَا ذَكَرَهُ أَئِمَّتُنَا، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ مَتَى تَمَيَّزَ ذَلِكَ الْحَرِيرُ أَوْ نَحْوُهُ؛ كَالشَّعْرِ لِلْأَجْنَبِيِّ عَنْ شَعْرِ الرَّأْسِ؛ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِهِ - كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ وَصْلٍ فَلَا نَهْيَ عَنْهُ، وَمَتَى اتَّصَلَ بِهِ كَانَ وَصْلًا وَإِنْ تَمَيَّزَ عَنْهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ لَوْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ كُرِهَ رَدُّهُ، لَكِنْ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ وَهَذَا لَفْظُهُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْفِعْلُ الْقَلِيلُ الَّذِي لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مَكْرُوهٌ إلَّا لِوُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا: أَنْ يَفْعَلَهُ نَاسِيًا، الثَّانِي: أَنْ يَفْعَلَهُ لِحَاجَةٍ مَقْصُودَةٍ، الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ؛ كَقَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهِمَا؛ وَكَدَفْعِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالصَّائِلِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ اهـ وَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ - فِي بَابِ الْخُطْوَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ -: إذَا كَانَ لِحَاجَةٍ. وَقَالَ أَيْضًا فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ (الَّذِي سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَجَعَلُوا - يَعْنِي الصَّحَابَةَ - يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ؛ يَعْنِي فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُسْكِتُوهُ) : وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ الْقَلِيلِ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ إذَا كَانَ لِحَاجَةٍ اهـ فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْإِحْيَاءِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِسُقُوطِ الرِّدَاءِ انْكِشَافُ الْعَاتِقِ فَالرَّدُّ مُسْتَحَبٌّ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ الَّذِي سَبَقَ عَنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِسُقُوطِهِ انْكِشَافُ الْعَاتِقِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْحَاجَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي بَلْ لَوْ قِيلَ

ص: 174