الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْهُمَا لَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ غَسْلُهُ تَبَعًا لَا أَصَالَةً. اهـ. وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا قَدَّمْته فَسَادَ الْقِيَاسِ عَلَى الْجِلْدَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ فَإِذَا صَارَتْ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ نُسِبَتْ إلَيْهِ وَعُدَّتْ مِنْهُ فَوَجَبَ غَسْلُهَا لِذَلِكَ، وَأَمَّا أَنْفُ النَّقْدِ فَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ بِحَالٍ فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ وَلَا جَامِعُهُ الْمَذْكُورَانِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، وَأَمْعِنْ النَّظَرَ فِيمَا قَرَّرْته لَك فَإِنَّهُ مُهِمٌّ إذْ لَمْ يُصَرِّحُوا فِيهِ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا أَخَذْنَا ذَلِكَ مِنْ فَحَوَى كَلَامِهِمْ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى هُوَ الْمُوَفِّقُ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - عَنْ الدَّاخِلِ إلَى بَيْتِهِ وَالْخَارِجِ مِنْهُ مَا الَّذِي يُقَدِّمُ مِنْ رِجْلَيْهِ.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَمْ أَرَ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ كَلَامًا لِأَصْحَابِنَا وَرَأَيْت لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ يَمِينَهُ فِيهِمَا.
وَاَلَّذِي يَجْرِي عَلَى قَوَاعِدِنَا أَنَّهُ يُقَدِّمُ يَمِينَهُ فِي الدُّخُولِ وَيَسَارَهُ فِي الْخُرُوجِ لِأَنَّ مَنْزِلَ الْإِنْسَانِ يَشْرُفُ بِشَرَفِهِ؛ وَلِذَا طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ لِمَنْزِلِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ وَأَنْ لَا يَتَّخِذَهُ قَبْرًا، أَيْ كَالْقَبْرِ يَهْجُرُهُ عَنْ وُقُوعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِيهِ فَطَلَبُ الشَّارِعُ ذَلِكَ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى شَرَفِهِ، وَأَيْضًا طَلَبَ الشَّارِعُ مِنْ دَاخِلِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ الْأَذْكَارِ عِنْدَ دُخُولِهِ وَرَتَّبَ عَلَى بَعْضِهَا أَنَّهُ إذَا قَالَهُ ارْتَحَلَ الشَّيْطَانُ عَنْهُ وَصَارَ مُنَزَّهًا عَنْهُ وَهَذَا فِيهِ تَشْرِيفٌ لَهُ أَيُّ تَشْرِيفٍ.
وَإِذَا ثَبَتَ شَرَفُهُ عَلَى مَا يَلِيه بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ الَّتِي ذَكَرْتهَا لَزِمَ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ مَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ يَمِينَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ لَهُ وَيَسَارَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْهُ قِيَاسًا لَهُ عَلَى الْمَسْجِدِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهِ فَإِنْ قُلْت: الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ وَاضِحٌ.
قُلْت: لَا نَظَرَ لِخُصُوصِ الْمَسْجِدِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْرَسَةَ وَمُصَلَّى الْعِيدِ وَنَحْوَهُمَا مِنْ مَحَالِّ الْعِبَادَةِ يَجُوزُ الْمُكْثُ فِيهِمَا لِلْجُنُبِ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُمَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَسْجِدِيَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ يُقَدِّمُ يَمِينَهُ دُخُولًا وَيَسَارَهُ خُرُوجًا فِيهِمَا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ كَلَامِهِمْ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِيهِمَا نَظَرًا إلَى أَنَّهُمَا مَحَلُّ عِبَادَةٍ طُلِبَتْ فِيهِمَا، فَكَذَلِكَ الْمَنْزِلُ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِعِبَادَاتِ مَخْصُوصَةٍ طُلِبَتْ فِيهِ بِخُصُوصِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَتَأَمَّلْهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا شَرَفَ فِيهِ هُوَ لَا خِسَّةَ فِيهِ اتِّفَاقًا، وَكُلُّ مَا لَا شَرَفَ فِيهِ وَلَا خِسَّةَ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْيَمِينِ كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ، وَإِذَا بَدَأَ فِي دُخُولِهِ بِالْيَمِينِ بَدَأَ فِي الْخُرُوج مِنْهُ بِالْيَسَارِ.
[بَابُ الْغُسْلِ]
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه وَمَتَّعَ بِحَيَاتِهِ الْمُسْلِمِينَ - عَنْ رَجُلٍ يَجْمَعُ عِدَّةً مِنْ الْأَطْفَالِ بِأَلْوَاحِهِمْ وَفُرُشِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ لِإِقْرَائِهِمْ الْقُرْآنَ، وَتَارَةً يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ فَيُشَوِّشُونَ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَكَثِيرًا يُلَوِّثُونَ الْمَسْجِدَ بِالْمِيَاهِ فَهَلْ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ بِالْمَسْجِدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَرَامٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُمْنَعُ الْمُعَلِّمُ مِنْ ذَلِكَ وَيُمْنَعُ الْأَطْفَالُ عَنْهُ فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ عُزِّرَ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ إقْرَاءُ الْقُرْآنِ فِي الْمَسْجِدِ قُرْبَةٌ عَظِيمَةٌ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» قَالَ تَعَالَى: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] وَهَذَا عَامٌّ فِي إقْرَاءِ الْبَالِغِينَ وَغَيْرِهِمْ بِشَرْطِهِمْ الْآتِي.
وَأَمَّا مَا رَآهُ مَالِكٌ رضي الله عنه مِنْ كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْحَجَّاجُ وَأَنْ يُقَامُوا إذَا اجْتَمَعُوا لِلْقِرَاءَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ رَأْيٌ انْفَرَدَ بِهِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلْفُ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْمِيرِهَا بِالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، أَيْ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ هَذَا كُلُّهُ حَيْثُ كَانَ الْمُتَعَلِّمُونَ مُمَيِّزِينَ يُؤْمَنُ مِنْهُمْ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ وَتَقْذِيرُهُ وَعَدَمُ التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ غَيْرُ مُمَيِّزِينَ لَا يُؤْمَنُ تَنْجِيسُهُمْ أَوْ تَقْذِيرُهُمْ لَهُ حَرُمَ عَلَى الْمُعَلِّمِ إدْخَالُهُمْ وَعَلَى الْحَاكِمِ - وَفَّقَهُ اللَّهُ وَسَدَّدَهُ - زَجْرُهُ وَرَدْعُهُ عَنْ إدْخَالِهِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ، وَكَذَلِكَ عَلَيْهِ نَهْيُهُ أَيْضًا عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ لِإِقَامَةِ صَلَاةٍ فِيهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ أَوَّلًا مِنْ تَمْكِينِهِ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ أَوْ تَقْذِيرِهِ بِمَنْ يَدْخُلُ إلَيْهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْ تَمْكِينِهِ مَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ إذَا كَانَ ثَمَّ مَنْ يُصَلِّي فَإِذَا أَصَرَّ الْمُعَلِّمُ عَلَى مَا مُنِعَ مِنْهُ، وَرَأَى الْحَاكِمُ أَنَّ نَهْيَهُ وَزَجْرَهُ عَمَّا ذُكِرَ لَا يُفِيدُ جَازَ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ بِالْكُلِّيَّةِ لِعِصْيَانِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَلِعِنَادِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ أَكَلَ نَحْوَ ثُومٍ أَوْ بَصَلٍ
أَوْ كُرَّاثٍ أَوْ فُجْلٍ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ مَعَ كَرَاهَةِ دُخُولِهِ: فَقِيَاسُهُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ مَنْعُ الْمُعَلِّمِ الْمَذْكُورِ إذَا وُجِدَ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ السُّنَّةِ فِي نَحْوِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ عَلَى غَسْلِ جَمِيعِ بَدَنِهِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ السُّنَّةِ عَلَى غَسْلِ جَمِيعِهِ لَا صِحَّةَ الْغُسْلِ عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ غَسَلَ بَعْضَهُ صَحَّ غُسْلُهُ، لَكِنْ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ حَتَّى يُكْمِلَ غَسْلَ الْبَاقِي مِنْهُ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّنْ عَلِمَ أَنَّ فِي الْحَمَّامِ مَنْ يَكْشِفُ عَوْرَتَهُ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُهُ وَيَجِبُ الْإِنْكَارُ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: يَجُوزُ دُخُولُهُ فَإِنْ قَدَرَ أَنْكَرَ، وَإِلَّا كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ عَلَى مَنْ كَشَفَ السَّوْأَتَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ فَاعِلُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ كَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَنَقَلَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ وَأَقَرَّهُ، فَإِنْ قُلْت: هَذَا ظَاهِرٌ إنْ اُحْتُمِلَ تَقْلِيدُ الْعَارِي لِلْقَائِلِ بِالْحِلِّ بِخِلَافِ الْعَوَامّ الَّذِينَ لَا يُحْتَمَلُ فِيهِمْ ذَلِكَ. قُلْت: حَيْثُ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ اعْتِقَادُ التَّحْرِيمِ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مُعْتَقِدٌ الْإِبَاحَةَ أَوْ لَيْسَ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمًا وَلَا إبَاحَةً، وَالْحَالَةُ الْأُولَى وَاضِحَةٌ وَكَذَا الثَّانِيَةُ لِأَنَّ شُبْهَةَ الْخِلَافِ أَسْقَطَتْ وُجُوبَ الْإِنْكَارِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ لَا يُفَسَّقُ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا بَلْ شَاذًّا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ فِيهِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ هَلْ هُمَا سُنَّتَانِ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ حَتَّى لَوْ أَتَى بِهِ مُجَرَّدًا عَنْ الْوُضُوءِ سُنَّ لَهُ الْإِتْيَانُ بِهِمَا، فَإِنْ قُلْتُمْ: لَا فَذَاكَ، وَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ.
فَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِمَا أَنْ تُقَارِنَهُمَا نِيَّةُ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ لِيَخْرُجَ مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُمَا أَمْ لَا؟ وَعَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ الْمُقَارَنَةِ أَوْ عَدَمِهَا، فَهَلْ يَدْخُلَانِ فِي مَضْمَضَةِ الْوُضُوءِ وَاسْتِنْشَاقِهِ سَوَاءٌ قَدَّمَهُ أَوْ وَسَّطَهُ أَوْ أَخَّرَهُ إذْ لَا مَعْنَى لِتَوَالِي مَضْمَضَتَيْنِ وَاسْتِنْشَاقَيْنِ فِي طَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُنَّةٌ مَقْصُودَةٌ كَسُنَّةِ الْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ مَثَلًا.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: بِأَنَّ الْمَنْقُولَ الْمُعْتَمَدَ فَقَدْ جَزَمَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَنَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُنْدَبُ فِي الْغُسْلِ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ ثُمَّ الْوُضُوءُ كَامِلًا بِأَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ سُنَنِهِ، وَمِنْهَا التَّسْمِيَةُ وَمَا بَعْدَهَا كَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْكُ كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ كُلًّا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، فَيُعِيدُ الثَّلَاثَةَ لَكِنْ نَدْبُ إعَادَةِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ آكَدُ، وَمِنْ ثَمَّ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه عَلَى نَدْبِ إعَادَتِهِمَا وَسَكَتَ عَنْ إعَادَةِ الْوُضُوءِ وَوَجَّهَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي وُجُوبِهِمَا كَانَ فِي زَمَنِهِ رضي الله عنه فَأَحَبَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ بِخِلَافِ الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ وَصَلَ مَوْضِعَ الْوُضُوءِ دُونَ مَوْضِعِهِمَا فَأَمَرَ بِإِيصَالِهِ إلَى مَحَلِّهِمَا، وَبِهَذَا يُعْلَمُ سُقُوطُ مَا فَهِمَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ وَيَأْتِي بِهِمَا.
وَشَرْطُ الِاعْتِدَادِ بِالثَّلَاثَةِ لِيُثَابَ عَلَيْهَا تَأَخُّرُهَا عَنْ نِيَّةِ نَحْوِ الْجَنَابَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَيُوَجَّهُ نَدْبُ طَلَبِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ مُسْتَقِلَّيْنِ مَعَ اشْتِمَالِ الْوُضُوءِ الْمَنْدُوبِ عَلَيْهِمَا بِأَنَّ مَحَلَّهُمَا يَكْثُرُ فِيهِ الْأَذَى وَالْقَذَرُ فَطُلِبَ مَزِيدَ التَّنَظُّفِ فِيهِ بِتَكْرَارِ غَسْلِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ؛ وَلِذَا جَرَى خِلَافٌ فِي وُجُوبِهِمَا وَخِلَافٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يَجْرِ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَعْضَاءِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ: وَيَجِبُ قَرْنُهَا، أَيْ نِيَّةِ الْجَنَابَةِ بِأَوَّلِ فَرْضٍ وَفِي تَقْدِيمِهَا عَلَى السُّنَنِ وَعُزُوبِهَا مَا مَرَّ فِي الْوُضُوءِ، هَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّهَا عِنْدَ إفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُهُ كَالْوَجْهِ فَكَمَا لَا يَكْفِي اقْتِرَانُ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ بِسُنَّةٍ قَبْلَ الْوَجْهِ كَذَلِكَ، وَلَا يَكْفِي اقْتِرَانُهَا هُنَا بِسُنَّةٍ قَبْلَ الْإِفَاضَةِ كَغَسْلِ الْكَفَّيْنِ فِيمَا إذَا قَدَّمَ الْوُضُوءَ يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مَعَ سَائِرِ بَدَنِهِ، وَإِنْ غَسَلَهَا بِنِيَّةِ رَفْعِ الْجَنَابَةِ مَثَلًا فَيَكْتَفِي حِينَئِذٍ بِاقْتِرَانِهَا بِغَسْلِ الرَّأْسِ دُونَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَالْكُلُّ مَحَلٌّ لِلْحَدَثِ؛ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ تَحِلُّ جَمِيعَ الْبَدَنِ فَنَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ أَوْ مُرَادُهُ بِأَوَّلِ فَرْضٍ غَسْلُ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ وَلَوْ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَفِي تَقْدِيمِهَا عَلَى السُّنَنِ وَعُزُوبِهَا مَا مَرَّ فِي الْوُضُوءِ فَهُوَ مَتَى نَوَى عِنْد غَسْلِ الْكَفَّيْنِ كَفَى، فَلَا يَبْقَى
لِقَوْلِهِ وَفِي تَقْدِيمِهَا عَلَى السُّنَنِ وَعُزُوبِهَا بِهَا مَا مَرَّ فِي الْوُضُوءِ مَعْنًى إذْ لَمْ يَبْقَ لَنَا سُنَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى غَسْلِ الْكَفَّيْنِ تُقَارِنُ غُسْلًا؟
(فَأَجَابَ) بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الرَّوْضِ كَأَصْلِهِ وَيَجِبُ قَرْنُهَا. .. إلَخْ أَنَّهُ يَجِبُ قَرْنُهَا بِأَوَّلِ مَفْرُوضٍ وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُغْسَلُ مِنْ الْبَدَنِ مِنْ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِمَا وَإِنَّمَا وَجَبَ قَرْنُهَا فِي الْوُضُوءِ بِالْوَجْهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ التَّرْتِيبُ وَلَا يُمْكِنُ خُلُوُّ أَوَّلِ الْوَاجِبَاتِ عَنْهَا فَلَوْ جَوَّزْنَا اقْتِرَانَهَا بِغَسْلِ الْيَدِ لَخَلَا الْوَجْهُ عَنْهَا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِهِ هُنَا فَإِنَّهُ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ فَأَيُّ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ غَسَلَهُ نَاوِيًا مَعَهُ وَقَعَ غُسْلُهُ عَنْ الْجَنَابَةِ، فَأَوَّلُ مَغْسُولٍ هُنَا كَالْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ، فَلَوْ نَوَى بَعْدَ غَسْلِ جُزْءٍ وَجَبَ إعَادَةُ الْمَغْسُولِ، فَوَجَبَ قَرْنُهَا بِالْأَوَّلِ لِيُعْتَدَّ بِهِ لَا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ قَرْنُهَا بِمَا بَعْدَهُ نَظِيرُ مَا قَالُوهُ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَفِي تَقْدِيمِهَا عَلَى السُّنَنِ. .. إلَخْ أَنَّهُ لَوْ خُلِّيَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ السُّنَنِ بِأَنْ أَتَى بِهِ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِالنِّيَّةِ لَمْ يُثَبْ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهَا فِي أُولَاهُنَّ كَالسِّوَاكِ لَكِنَّهَا عَزَبَتْ قَبْلَ غَسْلِ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا، فَتَجِبُ إعَادَتُهَا عِنْدَ غَسْلِ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ، فَعُلِمَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ فَنَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ، وَعَنْ قَوْلِهِ: إذْ لَمْ يَبْقَ لَنَا سُنَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى غَسْلِ الْكَفَّيْنِ تُقَارِنُ غُسْلًا.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - بِمَا صُورَتُهُ إذَا أَتَى الْمُغْتَسِلُ بِالْأَكْمَلِ فِي الْغُسْلِ وَقَدَّمَ الْوُضُوءَ فَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَنْوِي عِنْدَ غَسْلِ الْكَفَّيْنِ نِيَّةَ رَفْعِ الْجَنَابَةِ، وَنِيَّةَ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ إنْ لَمْ تَتَجَرَّدْ جَنَابَتُهُ عَنْهُ أَوْ نِيَّةُ الْغُسْلِ إنْ تَجَرَّدَتْ وَيَسْتَصْحِبُ نِيَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى فَرَاغِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ أَوْ يَكْتَفِي بِنِيَّةِ الْغُسْلِ عَنْ الْجَنَابَةِ أَوْ مَا الْحُكْمُ فِيهَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنَّ جَنَابَتَهُ تَارَةً تَتَجَرَّدُ عَنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ كَأَنْ يَلُوطَ أَوْ يَطَأَ بَهِيمَةً أَوْ يُنْزِلَ بِنَحْوِ ضَمِّ امْرَأَةٍ بِحَائِلٍ، وَحِينَئِذٍ فَيَنْوِي بِالْوُضُوءِ سُنَّةَ الْغُسْلِ، وَتَارَةً لَا تَتَجَرَّدُ وَحِينَئِذٍ فَيَنْوِي بِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَنْدَرِجُ فِي الْغُسْلِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَتَصْرِيحُ ابْنُ الرِّفْعَةِ كَابْنِ خَلَفٍ الطَّبَرِيِّ بِمَا ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ مُؤَوَّلٌ، وَلَيْسَتْ النِّيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقِسْمَيْنِ وَاجِبَةٌ بَلْ مَنْدُوبَةٌ فِي أَوَّلِ كُلٍّ وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِصْحَابُهَا إلَى آخِرِهِ قِيَاسًا عَلَى نَحْوِ الطَّوَافِ فِي الْحَجِّ لِشُمُولِ نِيَّةِ الْغُسْلِ لِلْوُضُوءِ، وَقَوْلُ الْإِسْنَوِيِّ لَا يُتَصَوَّرُ شُمُولُ نِيَّةِ الْغُسْلِ لِلْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ ارْتَفَعَتْ الْجَنَابَةُ عَنْ الْمَغْسُولِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَيَكُونُ الْمَأْتِيُّ بِهِ غُسْلًا لَا وُضُوءً غَلَطٌ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْجَنَابَةِ لَا يُنَافِي الْإِتْيَانَ بِصُورَةِ الْوُضُوءِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ حُصُولَ صُورَتِهِ لَا يُنَافِي ارْتِفَاعَ الْجَنَابَةِ فِي أَعْضَائِهِ، فَبَحَثَ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَدَمَ ارْتِفَاعِهَا؛ لِأَنَّهُ غَسَلَهَا بِنِيَّةِ السُّنَّةِ يُرَدُّ بِأَنَّ قَصْدَ ذَلِكَ لَا يُنَافِي نِيَّةَ رَفْعِ الْحَدَثِ إذْ هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهَا، وَإِذَا لَمْ تَتَجَرَّدْ جَنَابَتُهُ وَأَخَّرَ الْوُضُوءَ إلَى مَا بَعْدَ الْغُسْلِ فَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِسْنَوِيِّ أَنَّهُ يَنُوبُ رَفْعُ الْحَدَثِ هُنَا أَيْضًا، وَلَيْسَ بِتَلَاعُبٍ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ النَّوَوِيُّ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ ذَلِكَ إنَّمَا هِيَ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ الْقَائِلِ بِعَدَمِ انْدِرَاجِ الْأَصْغَرِ فِي الْأَكْبَرِ، وَالْأَصْغَرُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَرْتَفِعْ عِنْدَ الْقَائِلِ بِذَلِكَ فَشُرِعَتْ نِيَّتُهُ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِهِ وَلَوْ بَعْدَ الْغُسْلِ لِيَرْتَفِعَ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَائِلِ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ قَوْلِ الْأَصْحَابِ، وَالْعِبَارَةُ لِلْإِرْشَادِ (وَنُدِبَ لِجُنُبٍ غَسْلُ فَرْجٍ وَوُضُوءٌ لِنَوْمٍ وَوَطْءٍ وَطُعْمٍ هَلْ يَنْوِي الْوُضُوءَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ؟ كَمَا أَنَّهُ يَنْوِي فِي الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ أَسْبَابَهَا إلَّا الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فَيَنْوِي كُلٌّ مِنْهُمَا رَفْعَ الْجَنَابَةِ؟) فَإِنْ قُلْتُمْ بِهِ فَذَاكَ وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: قَدْ ذَكَرْت الْمَسْأَلَةَ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ مَعَ نَظَائِرِهَا مِنْ كُلِّ وُضُوءٍ مَسْنُونٍ، وَعِبَارَةُ الشَّرْحِ مَعَ الْمَتْنِ (وَالْمُرَادُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ الَّتِي قُلْنَا يُسَنُّ الْوُضُوءُ فِيهَا الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي نَحْوِ الْغِيبَةِ وَصَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ مُسْتَنِدًا إلَى مَا يَأْتِي عَنْ الشَّاشِيِّ، وَهُوَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ النِّيَّةِ وَالتَّرْتِيبِ لَا اللُّغَوِيِّ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ النَّظَافَةِ خِلَافًا لِلْمُتَوَلِّي وَابْنِ الصَّبَّاغِ، فَقَدْ اسْتَبْعَدَ الشَّاشِيُّ فِي الْمُعْتَمَدِ حَمْلَ الثَّانِي اسْتِحْبَابَ الشَّافِعِيِّ الْوُضُوءَ مِنْ الْكَلَامِ الْخَبِيثِ عَلَى غَسْلِ الْفَمِ بِأَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّرْعِيُّ قَالَ: وَالْمَعْنَى يُؤَيِّدُهُ فَإِنَّ غَسْلَ الْفَمِ لَا يُؤَثِّرُ فِيمَا جَرَى وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بِهِ التَّكْفِيرُ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالتَّطْهِيرُ مِنْ الذُّنُوبِ) اهـ.
نَعَمْ قَالَ الْحَلِيمِيُّ: (الْمُرَادُ بِهِ لِمُعَاوَدَةِ الْوَطْءِ
اللُّغَوِيِّ لِلتَّصْرِيحِ بِهِ فِي رِوَايَةٍ) اهـ.
وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِخَبَرِ «فَلْيَغْسِلْ فَرْجَهُ» مَكَانَ " فَلْيَتَوَضَّأْ " وَنَقَلَ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرَادَ بِوُضُوءِ الْجُنُبِ لِلْأَكْلِ غَسْلُ يَدَيْهِ لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ، وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ غَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ» اهـ. وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّ الْمُرَادَ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ فِي الْكُلِّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْفِيفِ الْحَدَثِ، وَأَنَّ غَسْلَ الْفَرْجِ فِي الْأَوَّلِ وَالْيَدَيْنِ فِي الثَّانِي يَحْصُلُ بِهِ أَصْلُ السُّنَّةِ لَا كَمَالُهَا) انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ، وَبِمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ وَأَنَّهُ النِّيَّةُ، وَغَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ التَّرْتِيبِ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْوِي بِهِ نِيَّةً مِنْ نِيَّاتِهِ الْمُجْزِئَةِ لَا أَسْبَابَهَا؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَا رَفْعُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ إمَّا لِيُخِفَّ حَدَثَهُ الْأَكْبَرَ فِي صُورَةِ الْجُنُبِ الْمَذْكُورَةِ فِي السُّؤَالِ، وَإِمَّا لِتَحْصُلَ لَهُ حَقِيقَةُ الطَّهَارَةِ، فَيُكَفَّرُ إثْمُهُ فِي نَحْوِ التَّكَلُّمِ بِكَلَامٍ فِيهِ إثْمٌ أَوْ يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ فِي الصُّوَرِ الَّتِي جَرَى فِيهَا خِلَافٌ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ، أَوْ يَزْدَادُ تَأَهُّلُهُ وَتَعْظِيمُهُ فِي نَحْوِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ الْأَذَانِ وَالذِّكْرِ بِمَا تَقَرَّرَ هُنَا مِنْ هَذِهِ الْفَوَائِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ يَنْوِي بِالْوُضُوءِ نَحْوَ رَفْعِ الْحَدَثِ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ نِيَّته فِي الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ أَسْبَابُهَا إلَّا الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُ الْفَرْقَ اسْتِثْنَاءُ هَذَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي أَمْرِهِمَا بِالْغُسْلِ رَفْعُ الْجَنَابَةِ الْمُحْتَمَلَةِ؛ فَلِذَلِكَ طُلِبَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا نِيَّةُ رَفْعِهَا، فَكَذَا الْقَصْدُ بِالْوُضُوءِ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ مَا مَرَّ مِنْ تَخْفِيفِ الْحَدَثِ وَمَا بَعْدَهُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِنِيَّةِ رَفْعِهِ أَوْ نَحْوِهَا فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَرْقَ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا إذَا وَقَفَ جُنُبٌ عَلَى سَطْحٍ أَطْرَافُ جُذُوعِهِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ عَلَى جِدَارٍ بِجَانِبِهِ أَيَجُوزُ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَقْلًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِالْجَوَازِ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَاقِفًا فِي الْمَسْجِدِ وَلَا فِيمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمَسْجِدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِالْحُرْمَةِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ وَقَفَ بِجَنَاحٍ بِجِدَارِهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ، وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ فِي هَوَاءِ الشَّارِعِ كَمَا يَقْتَضِيه كَلَامُ الْمَجْمُوعِ فِي الِاعْتِكَافِ، وَعَلَى مَا لَوْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْأُخْرَى خَارِجَهُ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا فَإِنَّ الْأَوْجَهَ الْحُرْمَةُ، وَيُجَابُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَهَاتَيْنِ.
أَمَّا الْجَنَاحُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَصْلُهُ جَمِيعُهُ فِي جِدَارِ الْمَسْجِد، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ خَارِجٌ عَنْ الْمَسْجِدِ كَانَ يُعَدُّ مِنْ تَوَابِعِ الْمَسْجِدِ نَظَرًا لِأُصُولِهِ وَلَمْ يُنْظَرْ لِخُرُوجِ هَوَائِهِ عَنْ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ فَأَعْرَضَ النَّظَرَ عَنْهُ وَنَظَرَ لِلْمَتْبُوعِ فَقَطْ بِخِلَافِ صُورَةِ السُّؤَالِ فَإِنَّ أُصُولَ السَّطْحِ الْوَاقِفِ عَلَيْهِ لَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا فِيهِ وَبَعْضَهَا فِي غَيْرِهِ فَلَمْ تَكُنْ نِسْبَتُهَا لِلْمَسْجِدِ أَوْلَى مِنْ نِسْبَتِهَا لِغَيْرِهِ بَلْ تَعَارَضَا، وَالْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ.
وَأَمَّا الْوُقُوفُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا فَلِأَنَّهُ بَاشَرَ بِبَدَنِهِ أَرْضَ الْمَسْجِدِ مَعَ الِاعْتِمَادِ فَكَانَ كَالْوَاقِفِ كُلُّهُ فِيهِ فَحَرُمَ بِخِلَافِ صُورَةِ السُّؤَالِ، فَإِنَّ الْوَاقِفَ عَلَى السَّطْحِ لَمْ يُبَاشِرْ الْمَسْجِدَ، وَلَا مَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْحُرْمَةِ مُقْتَضٍ حَتَّى تُنَاطَ بِهِ فَاَلَّذِي يَتَّجِهُ حِينَئِذٍ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ الْجَوَازُ لِمَا عَلِمْته مِمَّا تَقَرَّرَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا صُورَتُهُ مَا الْحِكْمَةُ فِي قَوْلِ الْحَاوِي: (مَقْرُونًا فِي الْغُسْلِ هُنَا) ، وَتَأْنِيثُهُ فِي الْوُضُوءِ، وَالْجَمِيعُ صِفَةٌ لِلنِّيَّةِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: قَوْلُ الْحَاوِي مَقْرُونَةٌ فِي الْوُضُوءِ وَمَقْرُونًا فِي الْغُسْلِ نَبَّهَ عَلَى فَائِدَةٍ حَسَنَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْفِعْلَ وَمَا تَفَرَّعَ عَنْهُ فِي الْعَمَلِ كَاسْمِ الْمَفْعُولِ هُنَا إذَا أُسْنِدَ إلَى مُؤَنَّثٍ ظَاهِرٍ مَفْصُولٍ مِنْهُ جَازَ تَأْنِيثُ الْعَامِلِ وَتَذْكِيرُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُؤَنَّثُ حَقِيقِيُّ التَّأْنِيثِ فَمَجَازِيُّهُ أَوْلَى؛ لِجَوَازِ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ بِلَا فَصْلٍ أَيْضًا لَكِنْ الْأَوْلَى التَّأْنِيثُ، وَمِنْ ثَمَّ بَدَأَ بِهِ الْحَاوِي فِي الْوُضُوءِ، ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي الْغُسْلِ؛ تَنْبِيهًا عَلَى اللُّغَتَيْنِ، وَأَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالْأَفْصَحِ أَوْلَى، وَبِمَا تَقَرَّرَ انْدَفَعَ قَوْلُ السَّائِلِ، وَالْجَمِيعُ صِفَةٌ لِلنِّيَّةِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا لَفْظُهُ: صَرَّحَ الْبَغَوِيّ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ مَنِيُّهُ لِقَصَبَةِ ذَكَرِهِ فَرَبَطَهُ بِخِرْقَةٍ صَحَّ غُسْلُهُ هَلْ هُوَ مُعْتَمَدٌ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَيْسَ بِمُعْتَمَدٍ بَلْ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ قَطْعًا لِإِطْبَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُسْلِ هُوَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ، وَهَذَا مُخْرِجٌ لِنُزُولِهِ إلَى قَصَبَةِ الذَّكَرِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ وَلَوْ أَحَسَّ مُتَوَضِّئٌ بِبَوْلٍ فِي قَصَبَةِ ذَكَرِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ حِينَئِذٍ كَمَا هُوَ صَرِيحُ كَلَامِهِمْ، وَفِيهِ أَبْلَغُ رَدٍّ أَيْضًا
لِمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - هَلْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَنَوَّرَ أَوْ لَا، كَمَا أَفْتَى بِهِ النَّوَوِيُّ.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ كَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا طَلَى بَدَأَ بِعَوْرَتِهِ فَطَلَاهَا وَطَلَى سَائِرَ جَسَدِهِ أَهْلُهُ» .
وَفِي رِوَايَةٍ مُرْسَلَةٍ سَنَدُهَا جَيِّدٌ أَيْضًا «أَنَّهُ أَطْلَى وَوَلِيَ عَانَتَهُ بِيَدِهِ» وَفِي أُخْرَى عِنْدَ الْخَرَائِطِيِّ وَابْنِ سُفْيَانَ وَابْنِ عَسَاكِرَ «أَنَّهُ قِيلَ لِثَوْبَانَ مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَدْخُلُ الْحَمَّامَ، وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الْحَمَّامَ، وَكَانَ يَتَنَوَّرُ» وَفِي أُخْرَى عِنْدَ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ وَاثِلَةَ «لَمَّا فَتَحَ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ أَكَلَ مُتَّكِئًا، وَأَطْلَى وَأَصَابَتْهُ الشَّمْسُ وَلَبِسَ الظُّلَّةَ» ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِ " أَصَابَتْهُ " الشَّمْسُ أَنَّهَا أَثَّرَتْ فِيهِ لِكِبَرِ سِنِّهِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ تُؤَثِّرُ فِيهِ قَبْلُ، وَمِنْ ثَمَّ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ لَبِسَ الظُّلَّةَ، أَيْ مَا يُجْعَلُ عَلَى الرَّأْسِ مِمَّا لَهُ ظِلٌّ يَقِي الْوَجْهَ وَالْعُنُقَ وَنَحْوَهُمَا عَنْ الشَّمْسِ.
وَفِي أُخْرَى مُرْسَلَةٍ رَوَاهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ «كَانَ إذَا أَطْلَى وَلِيَ عَانَتَهُ بِيَدِهِ» وَفِي أُخْرَى مُرْسَلَةٍ أَيْضًا رَوَاهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ «أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ خَيْبَرَ أَكَلَ مُتَّكِئًا وَتَنَوَّرَ» وَفِي أُخْرَى مُرْسَلَةٍ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ وَالْبَيْهَقِيِّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى «أَنَّ رَجُلًا نَوَّرَ رَسُولَ اللَّهِ فَلَمَّا بَلَغَ الْعَانَةَ كَفَّ الرَّجُلُ، وَنَوَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ» وَفِي أُخْرَى سَنَدُهَا ضَعِيفٌ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَوَّرُ كُلَّ شَهْرٍ وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ كُلَّ خَمْسَ عَشَرَةَ» قِيلَ: وَفِيهَا فَائِدَةٌ نَفِيسَةٌ وَهِيَ ذِكْرُ التَّوْقِيتِ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ بَدَنَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي غَايَةِ الِاعْتِدَالِ فَلَا يُقَاسُ بِهِ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ نَظِيرُ مَا قَالُوهُ فِيمَا صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يُوَضِّئُهُ الْمُدُّ وَيُغَسِّلُهُ الصَّاعُ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِمَنْ بَدَنُهُ كَبَدَنِهِ صلى الله عليه وسلم لُيُونَةً وَاعْتِدَالًا وَإِلَّا زِيدَ وَنَقَصَ بِحَسَبِ التَّفَاوُتِ، فَكَذَا هُنَا وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْأَئِمَّةُ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ وَالْإِبْطِ وَالْقَلْمِ وَقَصِّ الشَّارِبِ:(أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَقَيَّدُ بِمُدَّةٍ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَبَدَانِ وَالْمَحَالِّ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ الْحَاجَةِ إلَى إزَالَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ) فَتَأَمَّلْهُ وَمَا قِيلَ: أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّنَوُّرُ فِي أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ أَخْذًا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُرَدُّ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ تَحْتَاجُ إلَى نَهْيٍ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْكَرَاهَةُ الْإِرْشَادِيَّةُ لِمَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ آثَرَ الْحَلْقَ عَلَى التَّنَوُّرِ، أَيْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَقَالَ: إنَّ التَّنَوُّرَ يُرِقُّ الْجِلْدَ كَانَ صَحِيحًا، وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ الْحَمَّامِيَّ كَانَ يُنَوِّرُهُ فَإِذَا بَلَغَ حِقْوَهُ قَالَ لَهُ اُخْرُجْ، أَيْ وَتَوَلَّى الْعَوْرَةَ بِنَفْسِهِ اقْتِدَاءً بِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي أَوَّلِ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَطْلِ إلَّا عَانَتَهُ فَقَطْ، وَأَنَّهُ مَكَّنَ الرَّجُلَ مِنْ إطْلَاءِ مَا عَدَاهَا مِنْ بَقِيَّةِ الْعَوْرَةِ عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْقَائِلِ بِأَنَّ الْعَوْرَةَ مَا عَدَا السَّوْأَتَيْنِ وَلَا يُعَارِضُ مَا مَرَّ خَبَرُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما كَانُوا لَا يَطْلُونَ» ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ وَمَا مَرَّ إثْبَاتٌ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ هَذَا مُرْسَلٌ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، وَوَرَدَ رِوَايَتَانِ أُخْرَيَانِ كَذَلِكَ سَنَدُهُمَا مُنْقَطِعٌ، وَأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَنَوَّرُ فَإِذَا كَبِرَ شَعْرُهُ حَلَقَهُ، وَهِيَ مَوْصُولَةٌ لَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ ذَلِكَ كَانَ يَتَنَوَّرُ فِي وَقْتٍ وَيَحْلِقُ فِي وَقْتٍ وَجَاءَ فِي رِوَايَاتٍ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَرِهَ التَّنُّورَ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ مِنْ النَّعِيمِ فِي رِوَايَةٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إنَّمَا كَرِهَ كَثْرَةَ طِلَاءِ النُّورَةِ، وَجَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَا أَطْلَى نَبِيٌّ قَطُّ، وَمَعْنَاهُ مَا مَالَ نَبِيٌّ إلَى هَوًى لِأَنَّهُ مِنْ أَطْلَى الرَّجُلُ إذَا مَالَتْ عُنُقُهُ لِلْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِلْمَيْلِ عَنْ الْحَقِّ وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: أَصْلُهُ مِنْ مَيْلِ الطِّلَاءِ، وَهِيَ الْأَعْنَاقُ وَاحِدَتُهَا طِلَاءَةٌ يُقَالُ: أَطْلَى الرَّجُلُ إطْلَاءً إذَا مَالَتْ عُنُقُهُ إلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ عَدِيٍّ وَالطَّبَرَانِيُّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَوَّلُ مَنْ صُنِعَتْ لَهُ النُّورَةُ وَدَخَلَ الْحَمَّامَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ " أَنَّ بِلْقِيسَ كَانَتْ شَعْرَاءَ فَاسْتَقْبَحَ سُلَيْمَانُ حَلْقَهُ بِالْمُوسَى لِقُبْحِ أَثَرِهِ فَجَعَلَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ النُّورَةَ مِنْ أَصْدَافٍ " وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ قَوْلِ الشَّيْخِ زَكَرِيَّا رحمه الله فِي فَتَاوِيهِ: (وَلَا يُسَنُّ الْوُضُوءُ لِلْغُسْلِ الْمَسْنُونِ بَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْوَاجِبِ كَمَا قَيَّدَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ) اهـ كَلَامُهُ.
لَكِنْ ذَكَرَ الْمُزَجَّدُ فِي عُبَابِهِ مَا لَفْظُهُ: (وَصِفَتُهُ يَعْنِي الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ فَيُتَوَضَّأُ قَبْلَهُ اهـ. وَغَيْرُ خَافٍ عَلَى سَيِّدِي تَدَافُعُ الْكَلَامَيْنِ فَمَا الْمُعْتَمَدُ مِنْ ذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: مَذْكُورٌ فِي شَرْحِي لِلْعُبَابِ وَعِبَارَتُهُ (هَذَا وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا يَكُونُ سُنَّةً فِي الْغُسْلِ الْوَاجِبِ، وَبِهِ صَرَّحَ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُ تَبَعًا لِلْمَحَامِلِيِّ، وَقَدْ يَقْتَضِيه قَوْلُ الرَّافِعِيِّ، وَإِنَّمَا بَعْدَ الْوُضُوءِ مِنْ مَنْدُوبَاتِ الْغُسْلِ إذَا كَانَ جُنُبًا غَيْرَ مُحْدِثٍ أَوْ قُلْنَا بِالِانْدِرَاجِ وَإِلَّا فَلَا، وَعَلَى هَذَا يَحْتَاجُ إلَى إفْرَادِهِ بِنِيَّةٍ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَعَلَى الْأَصَحِّ لَا ا. هـ.
فَقَوْلُهُ وَإِلَّا يَشْمَلُ غَيْرَ الْجُنُبِ أَصْلًا، وَلَوْ قِيلَ بِنَدْبِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ السُّنَنِ الَّتِي ذَكَرُوهَا هُنَا فِي الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ أَيْضًا لَمْ يَبْعُدْ، بَلْ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ الْمَذْكُورِ أَنَّ وَجْهَ تَخْصِيصِ الْوَاجِبِ بِالذِّكْرِ الِاكْتِفَاءُ بِنِيَّتِهِ عَنْ نِيَّةِ الْوُضُوءِ بِخِلَافِ نِيَّةِ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ فَإِنَّهَا لَا تَكْفِي عَنْ نِيَّةِ الْوُضُوءِ فَهُوَ أَعْنِي الْوُضُوءَ إنْ قِيلَ: بِنَدْبِهِ يَكُونُ مَنْدُوبًا عِنْدَ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ لَا فِيهِ إذْ لَا يُكْتَفَى بِنِيَّتِهِ عَنْهُ ثُمَّ رَأَيْت الْمُصَنِّفَ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ جَزَمَ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ) انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ وَبِهَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ مُرَادَ مَنْ قَالَ بِنَدْبِهِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْغُسْلِ، وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِهِ عَدَمُ نَدْبِهِ فِي الْغُسْلِ.
فَتَأَمَّلْهُ يَظْهَرُ لَك أَنَّهُ لَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ أَصْلًا وَلِمَا ذَكَرْت فِي شَرْحِ الْعُبَابِ قَوْلُهُ فَيُتَوَضَّأُ قَبْلَهُ قُلْت عَقِبَهُ: نَدْبًا بِنَاءً عَلَى مَا قَدَّمْته فِي بَابِ الْغُسْلِ مِنْ نَدْبِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْغُسْلِ الْمَسْنُونِ وَعَلَيْهِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ النِّيَّةِ اهـ. فَأَشَرْت هُنَا أَيْضًا إلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه مَاذَا يَنْوِي الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ إذَا تَوَضَّأَ لِلْوَطْءِ وَالطُّعْمِ هَلْ يَنْوِي سُنَّةَ الْغُسْلِ أَوْ رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ عَنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَخْذًا مِنْ تَعْلِيلِهِمْ بِتَقْلِيلِ الْحَدَثِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنَّهُ لَا يَنْوِي شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَهُ السَّائِلُ وَإِنَّمَا يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُ الْمَجْمُوعِ.
وَعِبَارَةُ شَرْحِي لِلْعُبَابِ (وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ تَخْفِيفُ الْحَدَثِ غَالِبًا وَالتَّنْظِيفُ إذْ الْأَصَحُّ أَنَّ الْوُضُوءَ يُؤَثِّرُ فِي حَدَثِ الْجُنُبِ وَيُزِيلُهُ عَنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ خِلَافًا لِقَوْلِ الْإِمَامِ لَا يَرْتَفِعُ شَيْءٌ مِنْ الْحَدَثِ حَتَّى تَكْمُلَ الطَّهَارَةُ ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ، وَضَمِيرُ يُزِيلُهُ لِلْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، فَعَلَيْهِ لَا إشْكَالَ وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِ الْقَاضِي وَابْنِ الصَّبَّاغِ: (وُضُوءُ الْجُنُبِ يُزِيلُ الْجَنَابَةَ عَنْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ وَأَطْلَقَ أَوْ يُؤَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ يَصْلُحُ لِإِزَالَتِهَا عَنْ غَالِبِ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ فِيمَا إذَا ظَنَّ حَدَثَهُ الْأَصْغَرَ فَنَوَاهُ.
وَقِيلَ الْحِكْمَةُ لَعَلَّهُ يَنْشَطُ لِلْغُسْلِ ثُمَّ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرُوهُ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ هُوَ مَا فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مُفَسَّرًا بِهِ فِي خَبَرِ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ هُوَ فِي الْعَوْدِ لِلْوَطْءِ غَسْلُ فَرْجِهِ لِرِوَايَةٍ بِهِ، قِيلَ: وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَيَرُدُّهُ خَبَرُ مُسْلِمٍ «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءً» فَأُكِّدَ بِالْمَصْدَرِ؛ دَفْعًا لِإِرَادَةِ الْمَجَازِ انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ. وَبِتَأَمُّلِ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ وَاسْتِشْكَالِ مَا بَعْدَهُ مَعَ الْجَوَابِ عَنْهُ يَتَّضِحُ انْدِفَاعُ قَوْلِ السَّائِلِ: أَوْ رَفْعُ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ. .. إلَخْ. وَمُرَادُهُمْ بِتَقْلِيلِ الْحَدَثِ تَقْلِيلُهُ بِرَفْعِ الْأَصْغَرِ، فَإِنْ قُلْت: هَذَا ظَاهِرٌ إنْ كَانَ عَلَيْهِ أَصْغَرُ أَمَّا إذَا تَجَرَّدَتْ جَنَابَتُهُ عَنْهُ فَتَبْقَى نِيَّةُ رَفْعِ الْأَكْبَرِ إذْ التَّقْلِيلُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ قُلْت: الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَعَلَيْهِ قَدْ يُحْمَلُ قَوْلُ السَّائِلِ: أَوْ رَفْعُ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ. .. إلَخْ. فَإِنْ قُلْت: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ يَنْوِي بِالْوُضُوءِ هُنَا سُنَّةَ الْوُضُوءِ كَمَا فِي نِيَّةِ الْوُضُوءِ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ؟ قُلْت: يُمْكِنُ ذَلِكَ لَوْلَا قَوْلُهُمْ: الْقَصْدُ مِنْ هَذَا الْوُضُوءِ تَقْلِيلُ الْحَدَثِ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ يَنْوِي الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ إنْ وُجِدَ وَإِلَّا فَالْأَكْبَرُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ هَذَا وَالْوُضُوءِ وَالْمُقَدِّمَةِ لِلْغُسْلِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ الْقَصْدَ بِهَذَا شَيْئَانِ: الْخُرُوجُ مِنْ خِلَافِ مَنْ مَنَعَ الِانْدِرَاجَ وَزِيَادَةَ النَّظَافَةِ لِيَكُونَ مُقَدِّمَةً لِلْغُسْلِ فَإِذَا فَاتَ الْأَوَّلُ بَقِيَ الثَّانِي وَكَفَتْ فِيهِ نِيَّةُ السُّنَّةِ، وَأَمَّا ذَاكَ فَالْقَصْدُ بِهِ تَخْفِيفُ الْحَدَثِ فَحَيْثُ أَمْكَنَتْ نِيَّتُهُ لَمْ يَنْوِ غَيْرَهُ وَإِذَا تَعَيَّنَ فِي الْوُضُوءِ الْمَسْنُونِ لِنَحْوِ الْقِرَاءَةِ وَالْمُجَدَّدِ نِيَّةً مِمَّا يُجْزِئُ فِي الْأَصْلِ فَأَوْلَى هَذَا عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ الْمُقَدَّمَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِإِجْزَاءِ نِيَّةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ عَنْهُ كَمَا