الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سَلْبَ الطَّهُورِيَّةِ فِيهَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِ الرَّوْضَةِ (أَنَّ الْمَاءَ إذَا جَرَى مِنْ عُضْوِ الْمُتَوَضِّئِ إلَى عُضْوٍ آخَرَ صَارَ مُسْتَعْمَلًا) فَكَيْفَ يُصَوِّبُ خِلَافَ ذَلِكَ الْمُوَافِقِ لِلْوَجْهِ الشَّاذِّ الْمُتَقَدِّمِ قَرِيبًا، وَبِسَبْرِ هَذِهِ الصُّوَرِ مَعَ بَيَانِ عَدَمِ صِحَّةِ تَأَتِّي كَلَامِ الْإِسْنَوِيِّ فِيهَا (بِأَنَّ فَسَادَ عِبَارَتِهِ هَذِهِ كَمَا تَقَرَّرَ وَبَعْدَ أَنْ تَتَأَمَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ يَظْهَرُ لَك انْدِفَاعُ قَوْلِ السَّائِلِ فَمَا فِي الْمُهِمَّاتِ. .. إلَخْ.
وَوَجْهُ انْدِفَاعِهِ مَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ لَا مَعْنَى لَهُ وَبِفَرْضِ صِحَّتِهِ فَهُوَ فِي الِاغْتِرَافِ، وَالْمَسْئُولُ عَنْهُ لَيْسَ فِيهِ اغْتِرَافٌ وَانْدِفَاعُ قَوْلِهِ أَعْنِي السَّائِلَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ. .. إلَخْ. وَوَجْهُ انْدِفَاعِ هَذَا أَيْضًا أَنَّ كَلَامَ الرَّوْضَةِ يَشْمَلُ الِاغْتِرَافَ بِإِحْدَى الْيَدَيْنِ وَالصَّبَّ عَلَيْهِمَا لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى الْأُخْرَى، وَكُلُّهُ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ فَتَأَمَّلْهُ يَظْهَرْ لَك الصَّوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - أَيُّمَا أَفْضَلُ الْأَنْهَارِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نِيلُ مِصْرَ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما " نِيلُ مِصْرَ سَيِّدُ الْأَنْهَارِ سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ نَهْرٍ مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ".
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه أَيُّمَا أَفْضَلُ مَاءُ زَمْزَمَ أَوْ الْكَوْثَرُ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْبُلْقِينِيُّ مَاءُ زَمْزَمَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَسَّلُوا بِهِ قَلْبَهُ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَقُّوهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى مَاءِ الْكَوْثَرِ فَاخْتِيَارُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ وَلَا يُعَارِضُهُ أَنَّهُ عَطِيَّةُ اللَّهِ لِإِسْمَاعِيلَ، وَالْكَوْثَرُ عَطِيَّةُ اللَّهِ لِنَبِيِّنَا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي عَالَمِ الدُّنْيَا لَا الْآخِرَةِ وَلَا مِرْيَةَ أَنَّ الْكَوْثَرَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَعْظَمِ مَزَايَا نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] بِنُونِ الْعَظَمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَبِمَا قَرَّرْتُهُ عُلِمَ الْجَوَابُ عَمَّا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَى الْبُلْقِينِيُّ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ أَرْوَاثِ الْفِئْرَانِ إذْ عَمَّتْ الْبَلْوَى بِهَا فِي بِلَادِ مِلِيبَارَ هَلْ يُعْفَى عَنْهَا لِأَنَّ عُمُومَ الْبَلْوَى بِهَا أَكْثَرُ وَأَظْهَرُ مِنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ - صَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ بِأَنَّهُ يُعْفَى عَنْ النَّجَاسَةِ الَّتِي عَلَى مَنْفَذِ الْفَأْرِ إذَا وَقَعَتْ تِلْكَ الْفَأْرَةُ وَعَلَى مَنْفَذِهَا النَّجَاسَةُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَوْ مَائِعٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْأَصْحَابِ.
وَلَمَّا ذَكَرْت ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ قُلْتُ عَقِبَهُ: (وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ بِالْأَوْلَى الْعَفْوُ عَمَّا تُلْقِيه الْفَأْرَةُ فِي بُيُوتِ الْأَخْلِيَةِ مِنْ النَّجَاسَةِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الْفَزَارِيّ يُعْفَى عَنْ بَعْرِهَا إذَا وَقَعَ فِي مَائِعٍ وَعَمَّتْ الْبَلْوَى بِهَا، وَيُوَافِقُهُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْعِمَادِ عَنْ مَشَايِخِ مَشَايِخِهِ مِنْ الْعَفْوِ عَنْ بَعْرِ الشِّيَاهِ الْوَاقِعِ فِي اللَّبَنِ حَالَ الْحَلْبِ، لَكِنْ فِي هَذَا نَظَرٌ فَإِنَّ الِاحْتِرَازَ لَا يُعْسِرُ عَنْ ذَلِكَ عُسْرًا يُلْحِقُهُ بِمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، وَنَقَلَ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ مُمَاسَّةِ الْعَسَلِ لِلْكُوَّارَةِ الْمَجْعُولَةِ مِنْ رَوْثِ الْبَقَرِ وَنَحْوِهِ اهـ.
الْمَقْصُودُ مِنْ عِبَارَةِ شَرْحِ الْعُبَابِ وَبِهَا عُلِمَ أَنَّ الْفَزَارِيّ وَهُوَ مِنْ مَعَاصِرِي النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَائِلٌ بِالْعَفْوِ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ وَهُوَ مُتَّجِهٌ فِي الْمَعْنَى لَكِنْ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ خِلَافُهُ، وَعَلَيْهِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَرْقِ الطُّيُورِ بِأَنَّ الْبَلْوَى بِهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَحَلٍّ وَيَتَعَذَّرُ الصَّوْنُ عَنْهَا وَلَا كَذَلِكَ الْفِئْرَانُ فَإِنَّ الْبَلْوَى بِهَا مُخْتَصَّةٌ بِبَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَمَعَ ذَلِكَ يَسْهُلُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا بِتَغْطِيَةِ الْإِنَاءِ وَإِحْكَامِ غِطَائِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ سَهْلٌ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ فَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَسْمَحْ الْأَصْحَابُ بِالْعَفْوِ عَنْ زِبْلِ الْفِئْرَانِ وَإِنْ سَمَحُوا بِالْعَفْوِ عَمَّا عَلَى مَنَافِذِهَا إلْحَاقًا لَهَا بِسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فِي ذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِذِي الْوَرَعِ الِاحْتِيَاطُ وَالتَّحَرُّزُ عَمَّا وَقَعَ فِيهِ بَعْرُهَا، وَلَا يُقَلِّدُ الْفَزَارِيّ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ لِمَا عَلِمْت أَنَّ كَلَامَ الْأَصْحَابِ ظَاهِرٌ فِي رَدِّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ النَّجَاسَةِ]
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه وَنَفَعَ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ الْمُسْلِمِينَ - عَنْ مَسْأَلَةٍ، قَالَ سَائِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَقَعَ فِي نَفْسِي بِسَبَبِهَا شَيْءٌ مَعَ كَثْرَةِ النَّقْلِ فِيهَا فَتْوَى وَغَيْرُهَا وَهِيَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الشَّعْرَ طَاهِرٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ مُذَكَّاةٍ دُونَ بَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا تَصِيرُ أَجْزَاؤُهَا طَاهِرَةً إلَّا بِالذَّكَاةِ، وَنَحْنُ نَجِدُهُمْ يَأْتُونَ بِالسَّمْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ وَغَيْرِهَا وَكَذَا الزَّبَادُ مِنْ السَّوَاحِلِ فِي بِطَاطٍ وَقُرُونٍ مِنْ بَلَدٍ فِيهَا مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ أَوْ خَالِصُ أَحَدِهِمَا يَأْتِي بِهِ الْمُسْلِمُ أَوْ غَيْرُهُ وَيَشْتَرِيه الْمُسْلِمُ أَوْ غَيْرُهُ وَكَالشِّفَارِ بِمَكَّةَ تُبَاعُ، وَأَنْصِبَتُهَا عِظَامٌ أَوْ بَعْضُهَا وَفِي نَفْسِي مِنْ هَذِهِ أَكْثَرُ فَإِنَّ عِظَامَ صَيْدِ الْبَحْرِ طَاهِرَةٌ فَكَيْفَ يُقَالُ بِالنَّجَاسَةِ مُطْلَقًا فِي الْعِظَامِ؟ بَيِّنُوا ذَلِكَ وَابْسُطُوهُ
(فَأَجَابَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ بِأَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ أَنَّ الشَّعْرَ طَاهِرٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ مُذَكَّاةٍ دُونَ بَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا تَصِيرُ أَجْزَاؤُهَا طَاهِرَةً إلَّا بِالذَّبْحِ لَمْ أَرَهُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ الشَّعْرَ أَيْ وَنَحْوَهُ كَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ وَالرِّيشِ إذَا كَانَ مِنْ مَأْكُولٍ، وَانْفَصَلَ فِي الْحَيَاةِ يَكُونُ طَاهِرًا بِخِلَافِ نَحْوِ الْقَرْنِ وَالْعَظْمِ وَالظِّلْفِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ طَاهِرَةً مِنْ الْمَأْكُولِ إلَّا إذَا انْفَصَلَتْ بَعْدَ الذَّبْحِ دُونَ مَا إذَا انْفَصَلَتْ قَبْلَهُ فَقَدْ عُهِدَ لِنَحْوِ الشَّعْرِ حَالَةٌ يُحْكَمُ لَهُ فِيهَا بِالطَّهَارَةِ مَعَ الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِنَحْوِ الْعَظْمِ فَمِنْ ثَمَّ افْتَرَقَا فَهَذَا الْفَرْقُ، وَإِنْ تُخُيِّلَ لَكِنَّهُ لَا يُجْدِي مَا ذُكِرَ مِنْ الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ لِنَحْوِ الشَّعْرِ وَالنَّجَاسَةِ لِنَحْوِ الْعَظْمِ.
فَإِنَّ هَذَا الْفَرْقَ إنَّمَا يَتَأَتَّى فِي نَحْوِ شَعْرٍ عُلِمَ حَالُهُ وَنَحْوِ عَظْمٍ كَذَلِكَ وَهَذَا لَا كَلَامَ فِيهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا جُهِلَ حَالُهُ مِنْهُمَا فَلَمْ يُدْرَ هَلْ هُوَ مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ انْفَصَلَ قَبْلَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ الْمَوْتِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا حِينَئِذٍ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ؛ لِأَنَّا إنْ نَظَرْنَا لِحَالَةِ اتِّصَالِهِمَا فَهُمَا طَاهِرَانِ أَوْ لِحَالَةِ انْفِصَالِهِمَا بَعْدَ الذَّبْحِ، وَهُمَا مِنْ مَأْكُولٍ فَهُمَا كَذَلِكَ أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُمَا نَجِسَانِ أَوْ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَأَمْرُهُمَا مَشْكُوكٌ، فَهُمَا عِنْدَ الْجَهْلِ بِحَالِهِمَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِطَهَارَتِهِمَا أَوْ نَجَاسَتِهِمَا، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْكُلَّ طَاهِرٌ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولٍ، وَأَنَّهُ انْفَصَلَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا طَهَارَتَهُ عِنْدَ اتِّصَالِهِ وَشَكَكْنَا فِي مُوجِبِ نَجَاسَتِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولٍ انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ فِي حَيَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِنَحْوِ الْعَظْمِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ طَرْقِ مَا يُنَجِّسُهُ فَهُوَ مِنْ قَاعِدَةٍ تُعَارِضُ الْأَصْلَ وَغَيْرَهُ.
وَحَاصِلُ مَا فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ فِيهَا عَنْ الْأَصْحَابِ، أَنَّ الْأَصْلَ وَالْيَقِينَ لَا يُتْرَكُ حُكْمُهُ بِالشَّكِّ إلَّا فِي مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ لِأَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ، وَبَعْضُهَا إذَا حُقِّقَ كَانَ دَاخِلًا فِي الْقَاعِدَةِ فَلَوْ كَانَ مَعَهُ نَحْوُ مَاءٍ أَوْ عَصِيرٍ مِمَّا أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ وَتَرَدَّدَ فِي نَجَاسَتِهِ لَمْ يَضُرَّ تَرَدُّدُهُ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ تَرَدُّدُهُ بَيْنَ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ مُسْتَوِيًا أَوْ تَرَجَّحَ احْتِمَالُ النَّجَاسَةِ حَتَّى غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ الْحُكْمُ بِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَإِنْ اسْتَنَدَ الْحُكْمُ بِهَا إلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ لَا بِقَيْدِهِ الْآتِي، كَمَقْبَرَةٍ شُكَّ فِي نَبْشِهَا وَثِيَابِ مُتَدَيِّنِينَ بِالنَّجَاسَةِ وَمُدْمِنِي الْخَمْرِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْقَصَّابِينَ وَالْجُوخِ، وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَمَلُهُ بِشَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْوَرَقِ يُنْشَرُ رَطْبًا عَلَى الْحِيطَانِ النَّجِسَةِ وَالْخَزَفِ الْآجُرِّ خِلَافًا لِمَنْ قَطَعَ بِنَجَاسَتِهِ كَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِ نَظَرًا لِاطِّرَادِ الْعَادَةِ بِاسْتِعْمَالِ السِّرْجِينِ فِيهِ وَالْجُبْنِ الْمَجْلُوبِ مِنْ بِلَادِ الْفِرِنْجِ.
وَإِنْ اُشْتُهِرَ عَمَلُهُ بِإِنْفَحَةِ الْخِنْزِيرِ أَوْ الْمِلْحِ الَّذِي فِي جِلْدِهَا وَالْفِرَاءِ السِّنْجَابِ وَنَحْوِهَا وَإِنْ اُشْتُهِرَ أَنَّهَا لَا تُذْبَحُ وَإِنَّمَا تُخْنَقُ، فَكُلُّ هَذِهِ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهَا عَمَلًا بِالْأَصْلِ نَعَمْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ مَا غَلَبَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ، ثُمَّ مَحَلُّ الْعَمَلِ بِالْأَصْلِ إذَا اسْتَنَدَ ظُنَّ النَّجَاسَةُ إلَى غَلَبَتِهَا فَحَسْبُ. أَمَّا لَوْ اسْتَنَدَ إلَى عَلَامَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فَيُعْمَلُ بِهَا كَمَا لَوْ رَأَى ظَبْيَةً تَبُولُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ فَوَجَدَهُ عَقِبَ الْبَوْلِ مُتَغَيِّرًا وَشَكَّ فِي أَنَّ تَغَيُّرَهُ بِهِ أَوْ بِنَحْوِ طُولِ الْمُكْثِ وَاحْتُمِلَ تَغَيُّرُهُ بِهِ فَحِينَئِذٍ يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ؛ لِاسْتِنَادِهِ إلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ كَخَبَرِ الْعَدْلِ بِخِلَافِ مَا لَمْ يُوجَدْ عَقِبَ الْبَوْلِ مُتَغَيِّرًا بِأَنْ غَابَ عَنْهُ زَمَنًا ثُمَّ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا أَوْ وُجِدَ عَقِبَ الْبَوْلِ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ ثُمَّ تَغَيَّرَ، وَلَمْ يَقُلْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ تَغَيُّرَهُ مِنْهُ أَوْ وُجِدَ عَقِبَهُ مُتَغَيِّرًا وَلَمْ يُحْتَمَلْ تَغَيُّرُهُ بِهِ لِقِلَّتِهِ فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَمْ يُعَارِضْهُ شَيْءٌ.
وَكَمَا لَوْ وَجَدَ قِطْعَةَ لَحْمٍ مَكْشُوفَةً فِي غَيْرِ إنَاءٍ أَوْ كَانَتْ فِي إنَاءٍ أَوْ خِرْقَةٍ لَكِنْ فِي بَلَدٍ فِيهِ مَنْ لَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ وَمَنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ سَوَاءٌ اسْتَوَيَا أَوْ غَلَبَ مَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ حِينَئِذٍ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ أَمَّا عِنْدَ غَلَبَةِ مَنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا عِنْدَ اسْتِوَائِهِمَا فَتَغْلِيبًا لِلْمَانِعِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مَنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ أَغْلَبُ فَإِنَّهَا تَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا ذَبِيحَةُ مُسْلِمٍ، وَكَمَا لَوْ جَرَحَ صَيْدًا فَغَابَ عَنْهُ ثُمَّ وُجِدَ مَيِّتًا فَإِنْ وُجِدَ الْمَوْتُ عَقِبَ الْجُرْحِ أُحِيلَ عَلَى السَّبَبِ وَإِلَّا فَلَا فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ وَنَحْوِهَا أَعْنِي مَسْأَلَةَ الظَّبْيَةِ وَمَا بَعْدَهَا حُكِمَ فِيهَا بِالنَّجَاسَةِ أَوْ عَدَمِ الْحِلِّ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ أَوْ سَبَبٍ قَوِيٍّ اقْتَضَى ذَلِكَ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَيْنِ الظَّاهِرِ أَثَرُهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِمَّا مَرَّ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ سَبَبٌ قَوِيٌّ كَذَلِكَ يَقْتَضِي الْخُرُوجَ عَنْ الْأَصْلِ فَحُكِمَ بِطَهَارَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ فَكَذَا يُقَالُ فِي نَحْوِ الشَّعْرِ وَالْعِظَامِ: الْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَلَمْ يُوجَدَ سَبَبٌ قَوِيٌّ كَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ الْأَصْلِ فَعُمِلَ بِهِ فِيهِ.
فَإِنْ قُلْت لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ وُجُودِ
سَبَبٍ فِيهِ كَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ الْأَصْلِ بَلْ وُجِدَ مَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ، نَظِيرُ مَا تَقَرَّرَ فِي مَسْأَلَةِ الْقِطْعَةِ اللَّحْمِ الْمَذْكُورَةِ قُلْتُ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي طَعْمِ اللَّحْمِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِحِلِّ أَكْلِهَا وَعَدَمِهِ كَمَا قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَيْهِ بِفَرْضِ الْحُكْمِ فِي حِلِّ الْأَكْلِ وَعَدَمِهِ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّجَاسَةِ فَلَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ مُخْتَصَرِي الرَّوْضَةِ حَيْثُ قَالَ عَقِبَ التَّفْصِيلِ فِي الْقِطْعَةِ اللَّحْمِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْأَكْلِ أَمَّا لَوْ أَصَابَتْ شَيْئًا فَلَا تُنَجِّسُهُ اهـ. فَإِنْ قُلْتَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ حِلِّ الْأَكْلِ وَحُرْمَتِهِ وَالطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ؟ قُلْتُ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّحْمِ حَالَ اتِّصَالِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ حُرْمَةُ أَكْلِهِ؛ فَعَمِلْنَا فِيهِ بِالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ حَتَّى يُوجَدَ سَبَبٌ قَوِيٌّ يَقْتَضِي حِلَّهُ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي إنَاءٍ وَمَنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ أَغْلَبُ.
وَالْأَصْلُ فِي نَحْوِ الشَّعْرِ وَالْعَظْمِ حَالَ اتِّصَالِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ الطَّهَارَةُ فَعَمِلْنَا بِهَا فِيهِ حَتَّى يُوجَدَ سَبَبٌ قَوِيٌّ يَقْتَضِي نَجَاسَتَهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيهِ؛ فَأَبْقَيْنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ وَلَمْ نَنْظُرْ إلَى أَنَّ مَا يُوجَدُ مِنْهُمَا مَرْمِيًّا مَثَلًا الْغَالِبُ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ مَيْتَةٍ عَلَى أَنَّهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْغَالِبَ ذَلِكَ فَظَهَرَ فَرْقَانِ: مَا بَيْنَ حِلِّ الْأَكْلِ وَحُرْمَتِهِ وَالطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ فَلَا يُشْكِلُ عَلَيْك بَعْدَ ذَلِكَ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى. وَمَا قُلْنَاهُ فِي قِطْعَةِ اللَّحْمِ يَأْتِي حَرْفًا بِحَرْفٍ فِيمَا قَالُوهُ فِي صَيْدٍ جَرَحَهُ فَغَابَ عَنْهُ ثُمَّ وُجِدَ مَيِّتًا وَبِهَذَا الْفَرْقِ الَّذِي ذَكَرْته هُنَا اتَّضَحَ قَوْلِي فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الرَّوْضِ بَعْدَ ذِكْرِ التَّفْصِيلِ فِي قِطْعَةِ اللَّحْمِ: وَهَلْ نَحْوُ الْجِلْدِ وَالشَّعْرِ وَالْعِظَامِ الْمُلْقَاةِ فِي الشَّوَارِعِ كَاللَّحْمِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ التَّفْصِيلِ أَوْ هِيَ طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا؟ لِأَنَّ كَوْنَ قِطْعَةِ اللَّحْمِ مَرْمِيَّةً بِلَا إنَاءٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا مَيْتَةٌ بِخِلَافِ هَذِهِ، الظَّاهِرُ الثَّانِي اهـ. وَبِمَا قَرَّرْته يُعْلَمُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ - حَفِظَهُ اللَّهُ - وَنَحْنُ نَجِدُهُمْ يَأْتُونَ بِالسَّمْنِ. . . إلَخْ.
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ؛ الْمَعْلُومُ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ أَيْضًا وَأَنَّ الْقَوْلَ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا عَلِمْته عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ نَحْوِ الشَّعْرِ وَنَحْوِ الْعَظْمِ جَرَى فِي ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالْمُزَنِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الشَّعْرَ وَالْوَبَرَ وَالصُّوفَ وَالرِّيشَ مِنْ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ، وَالْعَظْمُ وَالْقَرْنُ وَالسِّنُّ وَالظُّفْرُ نَجِسَةٌ وَقَالَ آخَرُونَ: إنَّ هَذِهِ نَجِسَةٌ لَكِنَّهَا تَطْهُرُ بِالْغُسْلِ وَقَدْ اُسْتُوْفِيَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ حِكَايَةُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ وَالِاسْتِدْلَالُ لِمَذْهَبِنَا مِنْ أَنَّ الْحَيَاةَ تُحِلُّ الْجَمِيعَ بِمَا لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ بَسْطِهِ. وَعَلَى التَّنَزُّلِ وَالْقَوْلِ بِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ نَحْوَ الْعَظْمِ نَجَسٌ مَا لَمْ يُعْلَمَ أَنَّهُ انْفَصَلَ مِنْ مُذَكَّاةٍ فَلَا نَقُولُ بِنَجَاسَةِ السَّمْنِ وَالزَّبَادِ وَوِعَائِهِمَا وَأَنْصِبَةِ الشِّفَارِ وَلِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ مُذَكًّى وَمَا هُوَ مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ اشْتَبَهَ إنَاءُ بَوْلٍ بِأَوَانِي بَلَدٍ أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّيَاتِهِ أَخَذَ مِنْهُمَا مَا شَاءَ بِلَا اجْتِهَادٍ إلَّا وَاحِدًا، وَذِكْرُ الْإِنَاءِ مِثَالٌ فَلَوْ اشْتَبَهَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ أَخَذَ مَا عَدَا الْعَدَدِ الْمُشْتَبَهِ فَكَذَا يُقَالُ هُنَا: قَدْ اشْتَبَهَ أَعْيَانٌ نَجِسَةٌ بِأَعْيَانٍ طَاهِرَةٍ فَيَجُوزُ الْأَخْذُ مِنْهَا بِلَا اجْتِهَادٍ وَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَةِ بَعْضِهَا عَلَى التَّعْيِينِ. وَقَدْ نُقِلَ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ بَالَغَ فِي ذَمِّ مَنْ يَغْسِلُ فَاهُ بَعْدَ أَكْلِ الْخُبْزِ زَاعِمًا أَنَّ الْحِنْطَةَ تُدَاسُ بِالْبَقَرِ وَهِيَ تَبُولُ وَتَرُوثُ عَلَيْهَا أَيَّامًا طَوِيلَةٍ، وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ قَالَ:(وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا بِأَيْدِي النَّاسِ مِنْ الْقَمْحِ الْمُتَنَجِّسِ بِذَلِكَ قَلِيلٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَمْحِ السَّالِمِ مِنْ النَّجَاسَةِ فَقَدْ اشْتَبَهَ إذًا وَاخْتَلَطَ قَمْحٌ قَلِيلٌ مُتَنَجِّسٌ بِقَمْحٍ طَاهِرٍ وَلَا يَنْحَصِرُ وَلَا مَنْعَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ التَّنَاوُلُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَرَادَ كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ بِنِسَاءٍ لَا يَنْحَصِرْنَ؛ فَلَهُ نِكَاحُ مَنْ شَاءَ وَهَذَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ) اهـ. هـ. وَبِهِ يَتَأَيَّدُ مَا ذَكَرْته وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى ضَعِيفٍ وَهُوَ أَنَّ بَوْلَ الْبَقَرِ عَلَى الْحِنْطَةِ مَثَلًا وَهِيَ تَدُوسُهَا لَا يُعْفَى عَنْهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) - مَتَّعَ اللَّهُ بِحَيَاتِهِ - عَنْ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ الْمَنْصُوصِ عَلَى طَهَارَتِهَا هَلْ تَشْمَلُ الرُّطُوبَةَ الْوَاقِعَةَ حَالَ الْجِمَاعِ الَّتِي قَدْ تَخْرُجُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) - حَشَرَنِي اللَّهُ فِي زُمْرَتِهِ - بِأَنَّ الَّذِي صَرَّحُوا بِهِ أَنَّ رُطُوبَةَ فَرْجِ الْحَيَوَانِ الطَّاهِرِ طَاهِرَةٌ إنْ كَانَتْ فِي الظَّاهِرِ، وَهِيَ مَا يُوجَدُ عِنْدَ مُلْتَقَى الشَّفْرَيْنِ وَلَا فَرْقَ فِي طَهَارَةِ هَذِهِ بَيْنَ الْمُنْفَصِلَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ بِخِلَافِ رُطُوبَةِ الْبَاطِنِ الَّذِي وَرَاءَ مُلْتَقَى الشَّفْرَيْنِ فَإِنَّهَا نَجِسَةٌ لَكِنْ لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهَا إلَّا إنْ انْفَصَلَتْ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْجَوْفِ لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ حَتَّى يَنْفَصِلَ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَةٍ
ذَكَرِ الْمُجَامِعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ خُرُوجِ الرُّطُوبَةِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي هِيَ نَجِسَةٌ، فَإِنْ عُلِمَ خُرُوجُهَا مَعَ الْجِمَاعِ نَجَّسَتْ ظَاهِرَ الْفَرْجِ وَذَكَرَ الْمُجَامِعِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الرُّطُوبَةَ الْخَارِجَةَ حَالَ الْجِمَاعِ إنْ عُلِمَ أَنَّهَا مِنْ الظَّاهِرِ أَوْ شُكَّ هَلْ هِيَ مِنْهُ أَوْ مِنْ الْبَاطِنِ؟ حُكِمَ بِطَهَارَتِهَا وَشَمَلَهَا قَوْلُهُمْ: وَرُطُوبَةُ الْفَرْجِ طَاهِرَةٌ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهَا مِنْ الْبَاطِنِ كَانَتْ نَجِسَةً كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَلَمْ يَشْمَلْهَا كَلَامُهُمْ الْأَوَّلُ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْعَقْرَبِ حَالَةَ قَتْلِهَا هَلْ هُوَ دَمٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يُعْفَى عَنْهُ وَلَوْ خَالَطَتْهُ رُطُوبَةٌ أُخْرَى أَجْنَبِيَّةٌ؟ فَإِنَّهُ قَدْ عَمَّ الْبَلَاءُ بِقَتْلِ الْعَقْرَبِ فِي الْمَسْجِدِ فَيُلَاقِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا رِجْلَ الْمُتَطَهِّرِ حَالَ رُطُوبَتِهَا أَمْ لَا يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِأَنَّ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا: أَنَّ الْعَقْرَبَ لَيْسَ لَهُ دَمٌ يَسِيلُ قَالَ الْغَزَالِيُّ وَخَرَجَ بِيَسِيلُ مَا فِيهِ رُطُوبَةٌ حَمْرَاءُ لَا تُفَارِقُهُ بِالسَّيَلَانِ فَلَا أَثَرَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى دَمًا إذْ الدَّمُ مَا يَجْتَمِعُ فِي عِرْقٍ وَيَخْرُجُ بِفَتْقِ ذَلِكَ الْعِرْقِ؛ أَيْ وَمَعَ كَوْنِ هَذِهِ الرُّطُوبَةِ لَا تُسَمَّى دَمًا هِيَ نَجِسَةٌ فَلَوْ تَحَقَّقَ بِقَتْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ إصَابَةُ هَذِهِ الرُّطُوبَةِ لِشَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ حَرُمَ قَتْلُهَا فِيهِ، وَكَوْنُ الشَّارِعِ نَدَبَ إلَى قَتْلِهَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ فِي عَدَمِ تَنَجُّسِ الْمَسْجِدِ وَإِذَا أَصَابَتْ هَذِهِ الرُّطُوبَةُ بَدَنَ الْمُصَلِّي أَوْ ثَوْبَهُ عُفِيَ عَنْ قَلِيلِهَا كَدَمِ الْأَجْنَبِيِّ، بَلْ أَوْلَى نَعَمْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُلَاقِيَهَا رُطُوبَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ، لَكِنْ الرُّطُوبَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ مَاءِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِمَّا يُضْطَرُّ لِمُلَاقَاتِهِ لَا يَمْنَعُ مُلَاقَاتُهُ الْعَفْوَ عَنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) - أَمَدَّنَا اللَّهُ مِنْ مَدَدِهِ - مَا الْحِكْمَةُ فِي تَنَجُّسِ الْكَلْبِ؟ وَهَلْ سُمُّ الْحَيَّاتِ وَنَحْوِهَا نَجَسٌ؟
(فَأَجَابَ) - أَفَاضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ فَيْضِ مَدَدِهِ - الْحِكْمَةُ فِي تَنَجُّسِ الْكَلْبِ التَّنْفِيرُ مِمَّا كَانَ يَعْتَادُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْقَبَائِحِ كَمُؤَاكَلَةِ الْكِلَابِ، وَزِيَادَةِ إلْفِهَا وَمُخَالَطَتِهَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الدَّنَاءَةِ وَالْخِسَّةِ الْمَانِعَةِ لِذَوِي الْمُرُوآت وَأَرْبَابِ الْعُقُولِ مِنْ مُعَاشَرَةِ مَنْ تَحَلَّى بِهِمَا وَمِنْ ثَمَّ حَرُمَ الْجُلُوسُ عَلَى نَحْوِ جِلْدِ النُّمُورِ وَالسِّبَاعِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِعْلَ الْمُتَكَبِّرِينَ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ التَّأَسِّي بِهِمْ فِي ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي التَّأَسِّي بِهِمْ هُنَا مَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ الدَّنَاءَةِ ثُمَّ كَانَ ثَمَّ حُرْمَةٌ وَنَجَاسَةٌ، وَهُنَا حُرْمَةٌ فَقَطْ. وَسُمُّ نَحْوِ الْحَيَّاتِ نَجَسٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ مُتَقَدِّمُونَ وَمُتَأَخِّرُونَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِحَافِرِ الْمَيْتَةِ وَعَظْمِهَا؟
(فَأَجَابَ) - فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - يَجُوزُ التَّدَاوِي بِحَافِرِ الْمَيْتَةِ وَعِظَامِهَا بِسَائِرِ النَّجَاسَاتِ صِرْفِهَا وَمَخْلُوطِهَا إلَّا الْخَمْرَ فَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِصِرْفِهَا وَيَجُوزُ بِمَخْلُوطِهَا.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّنْ تَنَجَّسَ بِكَلْبِيَّةٍ فَمَا حُكْمُهُ؟
(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ حُكْمِيَّةً طَهُرَتْ بِمُرُورِ الْمَاءِ عَلَيْهَا سَبْعًا مَعَ التَّرْتِيبِ فِي إحْدَاهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنِيَّةً لَمْ تَطْهُرْ إلَّا إذَا زَالَتْ الْعَيْنُ وَصِفَاتُهَا، ثُمَّ غُسِلَتْ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْعَيْنَ لَمْ تَزُلْ إلَّا بِسِتِّ غَسَلَاتٍ كَانَتْ كُلُّهَا غَسْلَةً وَاحِدَةً عَلَى الْأَصَحِّ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه إذَا كُحِّلَ بِنَجَسٍ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ بَاطِنِ عَيْنِهِ؟
(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِحَيَاتِهِ - يَجِبُ غَسْلُ بَاطِنِ الْعَيْنِ مِنْ النَّجَاسَةِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ لِنُدْرَةِ النَّجَاسَةِ وَتَكَرُّرِهِمَا فَلَوْ أُمِرَ بِغَسْلِهِ فِيهِمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى ضَرَرٍ؛ مِنْ ثَمَّ لَمْ يُنْدَبْ غَسْلُهُ فِيهِمَا لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ خِلَافٌ لِقَوْلِ جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِنَا بِنَدْبِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي نَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه لِأَنَّهُ لَيْسَ ظَاهِرًا فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَلَا فِي فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ لِأَنَّهُ مَذْهَبٌ لَهُ بَلْ صَرَّحَ الدَّارِمِيَّ بِكَرَاهَةِ غَسْلِهِ أَيْ لِمَنْ تَأَذَّى بِهِ أَذًى خَفِيفًا وَإِلَّا فَالْوَجْهُ تَحْرِيمُهُ. ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ أَشَارَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ أَخَذَ بِقَضِيَّةِ إطْلَاقِ الدَّارِمِيِّ فَصَرَّحَ بِكَرَاهَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَأَذَّ بِهِ لَكِنْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَضَرَّرَ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - وَبَرَكَتِهِ إذَا أَكَلَ لَحْمَ كَلْبٍ أَوْ شَرِبَ لَبَنَهُ فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَسْفَلَ عَلَى صُورَتِهِ هَلْ يَجِبُ تَسْبِيعُ الْمَخْرَجِ أَوْ يَكْفِي غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ؟
(فَأَجَابَ) رضي الله عنه مَنْ أَكَلَ لَحْمَ كَلْبٍ مَثَلًا طَهُرَ فَمُهُ بِالتَّسْبِيعِ وَيَكْفِيه فِي الْفَرْجَيْنِ الِاسْتِنْجَاءُ مِنْ فَضْلَتِهِ وَلَوْ بِالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ؛ لِزَوَالِ حُكْمِ الْمُغَلَّظِ بِاسْتِحَالَتِهِ.
قَالَ الرُّويَانِيُّ بَعْد نَقْلِهِ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ: وَعَلَى ذَلِكَ الْعَمَلُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَتَشْكِيكُ النَّفْسِ فِيهِ مِنْ الْوَسْوَاسِ اهـ.
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ فِي الْمَعِدَةِ كَالْمُسْتَحَالِ إلَيْهِ طَهَارَةً وَنَجَاسَةً
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّبَنَ النَّجِسَ لَمَّا اسْتَحَالَ إنْفَحَةً صَارَ مِثْلَهَا فِي الطَّاهِرِيَّةِ فَكَذَا اللَّحْمُ الْمُغَلَّظُ لَمَّا اسْتَحَالَ غَائِطًا صَارَ مِثْلَهُ، وَبِهَذَا يُرَدُّ عَلَى ابْنِ الْعِمَادِ قَوْلُهُ لَوْ تَقَيَّأَ لَزِمَهُ إعَادَةُ تَسْبِيعِ فَمِهِ وَتَتْرِيبِهِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ قَبْلَ الِاسْتِحَالَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا لِمَا مَرَّ مِنْ نَجَاسَةِ الْقَيْءِ بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِ لِلْمَعِدَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، إعْطَاءٌ لَهُ حُكْمَ مَا فِيهَا بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاتِهِ لَهَا فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اسْتِحَالَتِهِ وَعَدَمِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ فِي تَنَجُّسِ مَا لَاقَاهَا وَمَا لَاقَتْهُ مِنْ نَجَاسَةٍ هِيَ أَغْلَظُ مِنْ أَنَّهُ لَوْ شَرِبَتْ شَاةٌ مَاءً مُتَنَجِّسًا بِمُغَلَّظٍ فَذُبِحَتْ فَوْرًا لَمْ يَجِبْ تَسْبِيعُ مَا وَصَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْمَاءُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَمِ وَالسَّبِيلَيْنِ حَيْثُ يَجِبُ تَسْبِيعُهُ دُونَهُمَا كَمَا مَرَّ وَإِنْ خَرَجَ الْمَأْكُولُ عَلَى هَيْئَتِهِ فَإِنَّهُمَا لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُمَا بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَكَلَ نَجَسًا غَيْرَ مُغَلَّظٍ يُجْزِئُهُ الْحَجَرُ وَيَتَعَيَّنُ غَسْلُ الْفَمِ بِالْمَاءِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ هَذَا وَاسْتِحَالَةِ الْكَلْبِ مِلْحًا فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى تَغْلِيظِهِ فِي حَالِ انْقِلَابِهِ إلَى الْمِلْحِ أَيْضًا بِأَنَّ مَحَلَّ النَّجَسِ وَرَدَ التَّخْفِيفُ فِيهِ رُخْصَةً فَعَمَّ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ الْمُغَلَّظَ وَغَيْرَهُ بِعَدَمِ تَعَرُّضِ النُّصُوصِ فِيهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، بَلْ وَتَبِعَهُ التَّخْفِيفُ فِي غَيْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ عَذِرَةَ لَحْمِ الْمُغَلَّظِ الْخَارِجَةَ مِنْ أَكْلِهِ لَا تَسْبِيعَ عَلَى مُمَاسِّهَا كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُ النَّصِّ، وَأَمَّا قَوْلُ الْبُلْقِينِيُّ:(يَجِبُ التَّسْبِيعُ وَالتَّتْرِيبُ حَتَّى فِي الْفَرْجِ) فَضَعِيفٌ وَقَدْ بَيَّنْت مَا فِي كَلَامِهِ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ مَسْأَلَةٍ صُورَتُهَا: سُئِلَ قَاضِي مَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ بُرْهَانُ الدِّينِ إبْرَاهِيمُ بْنُ ظَهِيرَةَ رحمه الله عَنْ الْأَمْعَاءِ مِنْ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا هَلْ يَجِبُ غَسْلُهَا بَعْدَ إزَالَةِ الْفَرْثِ مِنْهَا أَمْ يُعْفَى عَنْهَا؟ وَهَلْ صَرَّحَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِذَلِكَ.
فَأَجَابَ الْقَاضِي الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ: يَجِبُ فِيهَا بَعْدَ إزَالَةِ الْفَرْثِ الْغُسْلُ وَلَا يُعْفَى عَمَّا هُنَاكَ مِنْ الْأَثَرِ؛ إذْ لَا مَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْإِنْفَحَةِ اسْتِطْرَادًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ انْتَهَى جَوَابُهُ.
وَسُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّمْهُودِيُّ شَيْخُ الْحَرَمِ النَّبَوِيِّ عَمَّا إذَا رُئِيَ عَلَيْهَا أَثَرُ الْغَسْلِ وَالنَّظَافَةِ وَطِيبِ الرَّائِحَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هَلْ يَجِبُ السُّؤَالُ عَنْ غَسْلِهَا قَبْلَ الْأَكْلِ مِنْهَا أَمْ لَا؟ حَيْثُ رُئِيَ عَلَيْهَا مَا سَبَقَ.
فَأَجَابَ رحمه الله فَقَالَ الظَّاهِرُ عَدَمُ وُجُوبِ السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ حَيْثُ شَاهَدَ نَظَافَةَ الْمَطْبُوخِ مِنْ ذَلِكَ وَطِيبَ رِيحِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا آثَارٌ دَالَّةٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْغَسْلِ كَمَا قَالُوهُ فِي الْمُجْتَازِينَ بِمَيِّتٍ فِي صَحْرَاءَ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْغُسْلِ وَالْكَفَنِ وَالْحَنُوطِ فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَدْفِنُونَهُ فَإِنْ انْتَفَى الْأَثَرُ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ الْغُسْلُ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى جَوَابُ السَّمْهُودِيِّ. فَعَلَى هَذَا إذَا وَجَدْنَا عَلَى ثَوْبٍ كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ أَثَرَ الْغَسْلِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَلْ يَكْفِي عَنْ السُّؤَالِ عَنْ طَهَارَتِهِ كَالْأَمْعَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا أَوْ لَا؟ بَيِّنُوا ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا أَثَابَكُمْ اللَّهُ.
(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - أَمَّا مَا قَالَهُ الْمُجِيبُ الْأَوَّلُ مِنْ عَدَمِ الْعَفْوِ عَنْ الْأَثَرِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَدْ ذَكَرْت فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَغَيْرِهِ مَا يُوَافِقُهُ، وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ (وَأَفْتَى جَمْعٌ يَمَنِيُّونَ بِأَنَّ مَا يَبْقَى فِي نَحْوِ الْكَرِشِ مِمَّا يَشُقُّ غَسْلُهُ وَتَنْقِيَتُهُ مِنْهُ يُعْفَى عَنْهُ بَلْ بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ مَنْ عَلِمْت مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ جَوَازُ أَكْلِ الْمَصَارِينِ وَالْأَمْعَاءِ إذَا نُقِّيَتْ عَمَّا فِيهَا مِنْ الْفَضَلَاتِ وَإِنْ لَمْ تُغْسَلْ بِخِلَافِ الْكَرِشِ) اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْوَجْهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهَا إذْ لَا مَشَقَّةَ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَنْقِيَةِ نَحْوِ الْكَرِشِ مِمَّا فِيهِ مَا لَمْ يَبْقَ فِيهِ رِيحٌ يَعْسُرُ زَوَالُهُ انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ. وَمَا ذَكَرَهُ السَّمْهُودِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ السُّؤَالُ، فَهُوَ مُتَّجِهٌ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ الْفِعْلِيُّ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِمْ وَغَيْرِهِمْ؛ لِلْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ أَنَّهَا لَا تُطْبَخُ إلَّا بَعْدَ غَسْلِهَا وَتَنْقِيَتِهَا، بَلْ وَمَزِيدِ الْمُبَالَغَةِ فِي نَظَافَتِهَا وَلَا يُقَاسُ بِهَا الثَّوْبُ إذَا عَلِمْنَا نَجَاسَتَهَا ثُمَّ رَأَيْنَاهَا مَغْسُولَةً مُطَيَّبَةً وَلَمْ نَدْرِ مَنْ غَسَلَهَا بَلْ نَحْكُمُ مَعَ ذَلِكَ بِبَقَائِهَا عَلَى نَجَاسَتِهَا إلَّا أَنَّ قِيَاسَ مَا قَالُوهُ فِي الْهِرَّةِ: أَنَّهُ إذَا غَابَتْ عَنَّا وَأَمْكَنَ تَطْهِيرُ فَمِهَا لَا تُنَجِّسُ مَا وَقَعَتْ فِيهِ لَكِنَّا نَحْكُمُ بِبَقَائِهَا عَلَى نَجَاسَتِهَا اسْتِصْحَابًا لِلْأَصْلِ الَّذِي عَمِلْنَاهُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَرِشِ بِأَنَّ ذَلِكَ سُومِحَ فِيهِ لِلْمَشَقَّةِ فِي السُّؤَالِ عَنْهُ وَلِاطِّرَادِ الْعَادَةِ فِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَكَانَ الْوَجْهُ عَدَمَ إلْحَاقِهِ بِالْكَرِشِ فِيمَا ذُكِرَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) أَيْضًا - أَدَامَ اللَّهُ وُجُودَهُ - سُؤَالًا صُورَتُهُ إذَا كَانَ مَوْضِعٌ مِنْ أَرْضٍ أَوْ ثَوْبٍ مَثَلًا مُتَنَجِّسًا فَوَقَعَ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ الْمُتَنَجِّسِ مَاءٌ فَهَلْ يَطْهُرُ ذَلِكَ فَقَطْ أَمْ لَا يَطْهُرُ إلَّا بِغَسْلِ الْجَمِيعِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إذَا وَقَعَ
الْمَاءُ عَلَى بَعْضِ الْمُتَنَجِّسِ فَإِنْ كَانَتْ نَجَاسَتُهُ حُكْمِيَّةً طَهُرَ مَا أَصَابَهُ الْمَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنِيَّةً وَزَالَتْ يَجِبُ فِي غَسْلِ الْبَاقِي إدْخَالُ جُزْءٍ مِمَّا أَصَابَهُ الْمَاءُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا إذَا مَاتَ النَّحْلُ وَفِيهِ عَسَلٌ فَهَلْ يَنْجُسُ؟
(فَأَجَابَ) الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ؛ لِأَنَّ مَيْتَتَهَا لَا تُنَجِّسُ مَا مَسَّتْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - بِمَا صُورَتُهُ فُرِضَ آدَمِيٌّ مُتَوَلَّدٌ بَيْنَ آدَمِيٍّ وَكَلْبٍ فَمَا حُكْمُهُ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْوَجْهُ كَمَا اقْتَضَاهُ صَرِيحُ كَلَامِهِمْ وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ يَكُونُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ حَتَّى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَحُرْمَةِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ إلَّا مَعَ أَمْنِ التَّلْوِيثِ، وَتُغْتَفَرُ نَجَاسَتُهُ بِالْقِيَاسِ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَا تُغْتَفَرُ بِالنَّظَرِ إلَى غَيْرِهِ وَلَوْ نَحْوَ زَوْجَتِهِ فِيمَا يَظْهَرُ قَالَ بَعْضُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ صَلَاتِهِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى الِاقْتِدَاءِ اهـ.
وَفِيهِ نَظَرٌ وَمُقْتَضَى قَوْلِهِمْ: كُلُّ مَنْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ مِنْ غَيْرِ إعَادَةٍ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ صِحَّةَ الْقُدْوَةِ بِهِ وَهُوَ الْأَوْجَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالسَّلَسِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ.
(وَسُئِلَ) - فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَنْ ثَوْبٍ بِهِ نَجَاسَةٌ مَعْفُوٌّ عَنْهَا كَدَمِ بَرَاغِيثَ، فَوَقَعَ فِيهِ نَجَسٌ آخَرُ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ وَأُرِيدَ غَسْلُهُ فَهَلْ يَجِبُ أَيْضًا إزَالَةُ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ تَبَعًا أَمْ لَا؟ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْسُرُ زَوَالُهُ وَقَدْ يَشُقُّ لِكَثْرَتِهِ
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إزَالَتُهُ، لَكِنْ أَفْتَى بَعْضُ الْيَمَنِيِّينَ بِخِلَافِهِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ قَدْ يَنْتَشِرُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ بِمَاءِ التَّطْهِيرِ فَهُوَ كَانْتِشَارِهِ بِالْعَرَقِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ تَخَيَّلَ مُتَخَيِّلٌ أَنَّ الْمَاءَ يَتَأَثَّرُ بِوُصُولِهِ إلَى الْمَعْفُوِّ عَنْهُ ثُمَّ يَسْرِي إلَى بَاقِي الثَّوْبِ فَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيّ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى مَوْضِعَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ مِنْ بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ فَصَبَّ الْمَاءَ عَلَى أَعْلَاهُمَا فَمَرَّ عَلَيْهِ ثُمَّ انْحَدَرَ لِلْأَسْفَلِ فَإِنَّهُمَا يَطْهُرَانِ جَمِيعًا، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ فِيمَا ذَكَرَهُ يُطَهِّرُ النَّجِسَ الْأَسْفَلَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُطَهِّرُ الْأَعْلَى وَلَا يَتَأَثَّرُ بِهِ، فَصُورَتُنَا أَوْلَى بِعَدَمِ التَّأَثُّرِ هَذَا إنْ كَانَتْ النَّجَاسَتَانِ عَلَى مَوْضِعَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ وَإِلَّا فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَجِبُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْغَسْلِ بِحَيْثُ تَزُولُ أَوْصَافُهُمَا أَوْ يَبْقَى مَا تَعَسَّرَ إزَالَتُهُ مِنْ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِيمَا إذَا بَقِيَ لَوْنُ إحْدَاهُمَا وَرِيحُ الْأُخْرَى فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ قَدْ يُفْهِمُ الطَّهَارَةَ اهـ. وَفِيهِ تَأَمُّلٌ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَقِيهِ.
(وَسُئِلَ) - فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَنْ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ الَّتِي هِيَ مَاءٌ أَبْيَضُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمَذْيِ وَالْعَرَقِ هَلْ يُفَرَّقُ فِي طَهَارَتِهَا بَيْنَ الْمُنْفَصِلَةِ وَغَيْرِهَا؟ وَهَلْ قَوْلُ الْأَقْفَهْسِيِّ فِي شَرْحِ مَنْظُومَتِهِ فِي النَّجَاسَاتِ، وَأَمَّا رُطُوبَةُ الْفَرْجِ فَالصَّحِيحُ طَهَارَتُهَا مَا لَمْ تَنْفَصِلْ مُعْتَمَدٌ أَعْنِي تَقْيِيدَهُ بِعَدَمِ الِانْفِصَال حَتَّى إذَا انْفَصَلَتْ عَنْ الْفَرْجِ تَكُونُ نَجِسَةً، وَكَذَا نَقَلَ شَيْخُنَا الْعَلَامَةُ مُوسَى بْنُ زَيْنِ الْعَابِدِينَ عَنْ الْخَادِمِ مَا لَفْظُهُ:(هَذَا كُلُّهُ فِي حَالِ اتِّصَالِهَا فَلَوْ انْفَصَلَتْ فَفِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهَا نَجِسَةٌ بِلَا شَكٍّ يَعْنِي بِلَا خِلَافٍ) اهـ.
هَلْ كَلَامُهُ هَذَا فِي الرُّطُوبَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ قَعْرِ الرَّحِمِ الْمَوْصُوفَةِ أَنَّهَا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْعَرَقِ وَالْمَذْيِ أَوْ فِي الرُّطُوبَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْبَاطِنِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْأُولَى فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهَا وَهِيَ مَقِيسَةٌ عَلَى الْعَرَقِ، وَالْعَرَقُ طَاهِرٌ مُطْلَقًا انْفَصَلَ أَوْ لَمْ يَنْفَصِلْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ سَيِّدَنَا الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ ذَكَرَ فِي الْمُهَذَّبِ لَمَّا حَكَى الْخِلَافَ فِيهَا مَا لَفْظُهُ:(وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ كَسَائِرِ رُطُوبَاتِ الْبَدَنِ) اهـ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُطُوبَاتِ الْبَدَنِ طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا وَإِنْ انْفَصَلَتْ، وَعِبَارَةُ الرَّوْضِ (وَكَذَا رُطُوبَةُ فَرْجِ الْمَرْأَةِ قَالَ فِي شَرْحِهِ فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ كَعَرَقِهِ وَمَنِيِّهِ) لَكِنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ (وَأَمَّا الرُّطُوبَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ بَاطِنِ الْفَرْجِ فَنَجِسَةٌ) اهـ.
فَقَوْلُهُ: (بَاطِنُ الْفَرْجِ) هَذِهِ الْعِبَارَةُ عَبَّرَ بِهَا هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ - نَفَعَ اللَّهُ بِهِمْ - وَلَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَبْقَى الْإِنْسَانُ مَعَهُ فِي الْحَيْرَةِ الْعَظِيمَةِ؛ لِأَنَّ الرُّطُوبَةَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا الْمُصَحَّحَ فِيهَا الطَّهَارَةُ لَا شَكَّ أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ بَاطِنِ الْفَرْجِ، وَعِبَارَةُ الْجَوْجَرِيِّ بَعْدَ قَوْلِ الْإِرْشَادِ وَلَا مُتَرَشَّحَ مِنْ طَاهِرٍ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ رُطُوبَةُ الْفَرْجِ طَاهِرَةٌ مِنْ الْحَيَوَانِ الطَّاهِرِ وَنَجِسَةٌ مِنْ النَّجِسِ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ (وَهِيَ مَاءٌ أَبْيَضُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمَذْيِ وَالْعَرَقِ قَالَ، وَأَمَّا الرُّطُوبَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ بَاطِنِ الْمَرْأَةِ فَهِيَ نَجِسَةٌ اهـ. كَلَامُ الْجَوْجَرِيِّ، وَعِبَارَةُ الْإِسْعَادِ (أَمَّا الرُّطُوبَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ جَوْفِ الْمَرْأَةِ مَثَلًا إلَى دَاخِلِ الْفَرْجِ فَإِنَّهَا نَجِسَةٌ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَالشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ ذَكَرِ الْمُجَامِعِ لِأَصْلِ الطَّهَارَةِ) اهـ فَالْقَصْدُ مِنْ تَفَضُّلِكُمْ تَحْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الِانْفِصَالِ وَعَدَمِهِ فِي الرُّطُوبَةِ
الْخَارِجَةِ مِنْ قَعْرِ الرَّحِمِ فِيهِ بُعْدٌ عَظِيمٌ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ أَمَّا الرُّطُوبَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ بَاطِنِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ فَحَرِّرُوا لَنَا ذَلِكَ تُؤْجَرُوا وَلَمْ أَزَلْ أَسْتَشْكِلُ كَلَامَهُمْ هُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
(فَأَجَابَ - شَكَرَ اللَّهُ سَعْيَهُ - بِقَوْلِهِ: مَأْخَذُ الْخِلَافِ فِي طَهَارَةِ الرُّطُوبَةِ وَنَجَاسَتِهَا هُوَ كَوْنُهَا مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ الْمَذْيِ وَالْعَرَقِ فَالْقَائِلُونَ بِنَجَاسَتِهَا غَلَّبُوا شَبَهَهَا بِالْمَذْيِ، وَالْقَائِلُونَ بِطَهَارَتِهَا غَلَّبُوا شَبَهَهَا بِالْعَرَقِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَمَّا كَانَ شَبَهُهَا بِالْعَرَقِ أَقْوَى لِكَوْنِهَا مُجَرَّدَ رُطُوبَةٍ لَا تَنْفَصِلُ غَالِبًا كَالْعَرَقِ كَانَ الْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالرُّطُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي وَقَعَ هَذَا الْخِلَافُ فِيهَا هِيَ الَّتِي تُوجَدُ عِنْدَ مُلْتَقَى الشَّفْرَيْنِ وَهَذَا الْمَحَلُّ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ عِنْدَ جُلُوسِ الثَّيِّبِ عَلَى قَدَمَيْهَا؛ وَمِنْ ثَمَّ وَجَبَ غَسْلُهُ فِي الْغُسْلِ مِنْ نَحْوِ الْجَنَابَةِ أَمَّا الرُّطُوبَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ الْبَاطِنِ الَّذِي وَرَاءَ هَذَا الْمَحَلِّ فَهِيَ نَجِسَةٌ، وَلَا فَرْقَ فِي طَهَارَةِ الْأُولَى بَيْنَ الْمُنْفَصِلَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهَا إلَّا إنْ انْفَصَلَتْ؛؛ لِأَنَّ مَا فِي الْجَوْفِ لَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ حَتَّى يَنْفَصِلَ.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ لِابْنِ الْعِمَادِ وَالزَّرْكَشِيِّ مِنْ تَقْيِيدِ الْأُولَى بِعَدَمِ الِانْفِصَالِ فَهُوَ وَهْمٌ مُنْشَؤُهُ عَدَمُ التَّأَمُّلِ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ وَفِي كَلَامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ النَّاقِلِ لِذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ فَإِنَّ ابْنَ الرِّفْعَةِ وَتَبِعَهُ ابْنُ النَّقِيبِ فِي مُخْتَصَرِ الْكِفَايَةِ لَمَّا شَرَحَا قَوْلَ التَّنْبِيهِ (وَرُطُوبَةُ فَرْجِ الْمَرْأَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَبَيَّنَّا وَجْهَ الْخِلَافِ فِيهَا وَتَعْلِيلَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ) قَالَا: فِي آخِرِ كَلَامِهِمَا بَعْدَ أَنْ فَرَغَا مِنْ ذَلِكَ (وَلَوْ خَرَجَ مِنْ بَاطِنِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ رُطُوبَةٌ قَالَ الْإِمَامُ: فَلَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِالطَّهَارَةِ. .. إلَخْ) وَبِتَأَمُّلِ صَرِيحِ كَلَامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ فِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ تَقْيِيدًا لِلْأُولَى بِحَالِ الِاتِّصَالِ يَظْهَرُ مَا قَدَّمْته وَقَدْ تَبِعَ ابْنَ الرِّفْعَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَالْحِكَايَةِ لِكَلَامِ الْإِمَامِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْقَمُولِيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ الرَّحِمِ ثُمَّ قَالَ قَالَ الْإِمَامُ: أَمَّا الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ الْبَاطِنِ فَلَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا اهـ.
وَكَذَلِكَ الْأَذْرَعِيُّ لَكِنْ بِزِيَادَةٍ، وَعِبَارَتُهُ قَالَ الْإِمَامُ:(وَتَسَاهَلَ الْأَئِمَّةُ فِي إطْلَاقِهِمْ الْخِلَافَ فِي رُطُوبَةِ الْفَرْجِ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّ تِلْكَ الرُّطُوبَةِ هَلْ ثَبَتَ لَهَا حُكْمٌ؟ وَهَلْ تُنَجِّسُ مَا خَرَجَ؟ ثُمَّ قَالَ وَلَوْ خَرَجَ مِنْ بَاطِنِ فَرْجِهَا رُطُوبَةٌ فَلَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا) اهـ. وَكَذَلِكَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ فَإِنَّهُ حَكَى الْخِلَافَ فِي نَجَاسَتِهَا وَطَهَارَتِهَا ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا إذَا خَرَجَ مِنْ بَاطِنِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ رُطُوبَةٌ قَالَ الْإِمَامُ: لَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِالطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّا لَا نَقْطَعُ بِخُرُوجِهَا اهـ. فَأَفْهَمَتْ هَذِهِ الْعِبَارَاتُ الصَّرِيحَةُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ فِيهِ بِالنَّجَاسَةِ إنَّمَا هُوَ الرُّطُوبَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ الْبَاطِنِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاطِنِ غَيْرُ الْمُرَادِ بِقَعْرِ الرَّحِمِ، وَأَنَّ الْإِمَامَ نَفْسَهُ قَائِلٌ بِالطَّهَارَةِ مُطْلَقًا انْفَصَلَتْ أَوْ اتَّصَلَتْ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ خُرُوجُهَا مِنْ الْبَاطِنِ وَإِلَّا كَانَتْ رُطُوبَةُ الْفَرْجِ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ نَجِسَةً أَمَّا الْبَاطِنَةُ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَلِاتِّصَالِهَا بِهَا وَأَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ عِبَارَةُ ابْنِ الْعِمَادِ، وَخِلَافُ قَوْلِ الزَّرْكَشِيّ هَذَا كُلُّهُ فِي حَالِ اتِّصَالِهَا فَإِنْ انْفَصَلَتْ فَفِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْإِمَامِ أَنَّهَا نَجِسَةٌ بِلَا شَكٍّ يَعْنِي بِلَا خِلَافٍ اهـ.
فَقَوْلُهُ: هَذَا كُلُّهُ فِي حَالِ اتِّصَالِهَا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الرُّطُوبَةِ الظَّاهِرَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ إنَّمَا هُوَ فِي الرُّطُوبَةِ الْبَاطِنَةِ كَمَا عَلِمْته مِمَّا مَرَّ فَكَيْفَ يُقَيَّدُ هَذَا بِذَلِكَ؟ ثُمَّ قَوْلُهُ: بِلَا شَكٍّ يَعْنِي بِلَا خِلَافٍ غَيْرُ صَحِيحٍ فَقَدْ ذَكَرَ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ خِلَافًا فِي الْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مَعَ الْوَلَدِ، وَاعْتَمَدَ فِيهِ النَّجَاسَةَ وَهُوَ مِنْ الرُّطُوبَةِ الْبَاطِنَةِ قَطْعًا. إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَاتَّضَحَ الْحَقُّ فِيهِ وَأَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُ مَا وَقَعَ لِابْنِ الْعِمَادِ وَالزَّرْكَشِيِّ فَلْنَرْجِعْ إلَى مَا فِي السُّؤَالِ فَقَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ فِي الْأُولَى فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهَا وَهِيَ مَقِيسَةٌ عَلَى الْعَرَقِ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي الْأُولَى كَمَا تَقَرَّرَ مُوَضَّحًا وَقَوْلُهُ: وَلَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَبْقَى الْإِنْسَانُ مَعَهُ فِي الْحَيْرَةِ لِأَنَّ الرُّطُوبَةَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا الْمُصَحَّحَ فِيهَا الطَّهَارَةُ لَا شَكَّ أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ بَاطِنِ الْفَرْجِ يُجَابُ عَنْهُ أَيْضًا بِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الْخَارِجَةِ مِنْ الْمَحَلِّ الَّذِي يَجِبُ غَسْلُهُ، وَأَنَّ الْخَارِجَةَ مِنْ الْجَوْفِ نَجِسَةٌ قَطْعًا أَوْ مَعَ خِلَافٍ ضَعِيفٍ جِدًّا، وَمَنْ عَبَّرَ عَنْ الْأُولَى بِرُطُوبَةِ بَاطِنِ الْفَرْجِ أَرَادَ بِالْبَاطِنِ مَا هُوَ مَسْتُورٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ الظَّاهِرِ وَهَذَا هُوَ مُرَادُ مَنْ عَبَّرَ أَيْضًا بِقَعْرِ الرَّحِمِ وَمَنْ عَبَّرَ عَنْ الثَّانِيَةِ بِرُطُوبَةِ بَاطِنِ الْفَرْجِ أَيْضًا أَرَادَ بِالْبَاطِنِ الْجَوْفَ. فَحِينَئِذٍ قَوْلُ السَّائِلِ لَا شَكَّ أَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ بَاطِنِ الْفَرْجِ إنْ أَرَادَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ فَمُسَلَّمٌ وَإِنْ أَرَادَ
الْمَعْنَى الثَّانِيَ فَمَمْنُوعٌ لِتَصْرِيحِهِمْ بِخِلَافِهِ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - عَنْ لَفْظِ الْخَمْرِ الْوَاقِعِ عِنْدَ ذِكْرِ طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِالتَّخَلُّلِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَيْهِمَا حَتَّى يَشْمَلَ النَّبِيذَ؟ وَهَلْ يَلْزَمُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَيْهِمَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا فِي لَفْظٍ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ؟ وَهَلْ الْأَصَحُّ طَهَارَةُ النَّبِيذِ بِالتَّخَلُّلِ أَوْ لَا؟ وَهَلْ الْمُسْكِرُ الْمَائِعُ الْمَحْلُوبُ مِنْ أَشْجَارِ النَّارْجِيلِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَاطِ شَيْءٍ بِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ النَّبِيذِ أَوْ هُوَ مِنْ النَّبِيذِ أَوْ هُوَ خَمْرٌ كَالْمُشْتَدِّ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ؟
وَمَا قَوْلُكُمْ فِيمَا إذَا كَانَ فِي إنَاءٍ خَمْرٌ فَأُدْخِلَ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى ارْتَفَعَتْ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهَا وَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ ثُمَّ تَخَلَّلَتْ فَهَلْ تَطْهُرُ أَوْ لَا؟ إلَّا إذَا صُبَّ عَلَيْهَا خَمْرٌ وَارْتَفَعَتْ إلَى الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْجَفَافِ كَمَا حُكِيَ عَنْ الْبَغَوِيِّ أَوْ بَعْدَ الْجَفَافِ أَيْضًا وَهَلْ الْمُعْتَمَدُ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ أَوْ لَا؟ وَمَا قَوْلُكُمْ فِيمَا إذَا كَانَ فِي إنَاءٍ خَمْرٌ ثُمَّ أُرِيقَتْ ثُمَّ صُبَّ فِيهِ خَمْرٌ أُخْرَى قَبْلَ غَسْلِهِ ثُمَّ نُقِلَتْ مِنْهُ إلَى إنَاءٍ آخَرَ طَاهِرٍ ثُمَّ تَخَلَّلَتْ فِيهِ فَهَلْ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا أَوْ لَا؟ لِمُلَاقَاتِهَا الْمَحَلَّ الْمُتَنَجِّسَ بِالْخَمْرِ فِي الْإِنَاءِ الْأَوَّلِ، وَهَلْ يُفَرَّقُ هُنَا بَيْنَ مَا إذَا صُبَّتْ قَبْلَ الْجَفَافِ وَبَيْنَ مَا إذَا صُبَّتْ بَعْدَهُ أَوْ لَا؟ وَهَلْ الْحُكْمُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مُخْتَصٌّ بِإِنَاءِ التَّخَلُّلِ أَوْ شَامِلٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْخَمْرُ حَقِيقَتُهُ هِيَ الْمُشْتَدُّ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ ثُمَّ إلْحَاقُ غَيْرِهَا مِنْ الْأَنْبِذَةِ بِهَا؛ إمَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لُغَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللُّغَةَ تَثْبُتُ قِيَاسًا وَهُوَ مَا عَلَيْهِ جَمْعٌ مُحَقِّقُونَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِنَا كَابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَالْإِمَامِ الرَّازِيِّ وَنَقَلَهُ ابْنُ بُرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا قَالُوا: فَإِذَا اشْتَمَلَ مَعْنَى اسْمٍ عَلَى وَصْفٍ مُنَاسِبٍ لِلتَّسْمِيَةِ كَالْخَمْرِ أَيْ الْمُسْكِرِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ لِتَخْمِيرِهِ أَيْ تَغْطِيَتِهِ لِلْعَقْلِ وَوُجِدَ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِي مَعْنًى آخَرَ كَالنَّبِيذِ أَيْ الْمُسْكِرُ مِنْ غَيْرِ مَاءِ الْعِنَبِ ثَبَتَ لَهُ بِالْقِيَاسِ ذَا الِاسْمُ لُغَةً، فَيُسَمَّى النَّبِيذُ خَمْرًا فَيَجِبُ اجْتِنَابُهُ بِآيَةِ {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الْآيَةَ لَا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخَمْرِ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ؛ فَالنَّبِيذُ يُسَمَّى خَمْرًا حَقِيقَةً فَيَشْمَلُهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا: تَطْهُرُ الْخَمْرُ بِالتَّخَلُّلِ؛ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ شَرْعًا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ وَهُوَ: أَنَّ اللُّغَةَ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا وَعَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيِّ وَنَقَلَهُ فِي الْمَحْصُولِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ؛ فَعَلَيْهِ لَا يُسَمَّى النَّبِيذُ خَمْرًا وَإِنْ أُعْطِيَ حُكْمُهَا فَلَا يَشْمَلُهُ قَوْلُهُمْ: تَطْهُرُ الْخَمْرُ بِالتَّخَلُّلِ بَلْ قِيَاسًا فَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْته. أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ عَلَى الْأَوَّلِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمُسْكِر مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ وَالْمُسْكِرِ مِنْ غَيْرِهِ وَعَلَى الثَّانِي حَقِيقَةٌ فِي الْأَوَّلِ مَجَازٌ فِي الثَّانِي وَفِي اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مَعْنَيَيْهِ خِلَافٌ فِي الْأُصُولِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ - لُغَةً - إطْلَاقُهُ عَلَى مَعْنَيَيْهِ مَثَلًا مَعًا، بِأَنْ يُرَادَا بِهِ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ إنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَكِنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لَهُمَا مَعًا، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ نَظَرًا لِوَضْعِهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيهِمَا عِنْدَ التَّجَرُّدِ عَنْ الْقَرَائِنِ الْمُعَيِّنَةِ لِأَحَدِهِمَا، وَفِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ الْخِلَافُ فِي الْمُشْتَرَكِ، فَعَلَى الْأَصَحِّ يَصِحُّ لُغَةً مَجَازًا أَنْ يُرَادَا مَعًا بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ كَمَا فِي قَوْلِك: رَأَيْت الْأَسَدَ وَتُرِيدُ الْحَيَوَانَ الْمُفْتَرِسَ وَالرَّجُلَ الشُّجَاعَ، وَقَوْلُ الْبَاقِلَّانِيِّ:
(لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ حَيْثُ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعُ لَهُ أَيْ أَوَّلًا، وَغَيْرُ الْمَوْضُوعِ لَهُ مَعًا مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَ هَذَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ يَمْنَعْ الْبَاقِلَّانِيُّ اسْتِعْمَالَهُ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَإِنَّمَا مَنَعَ حَمْلَهُ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ قَرِينَةٍ قِيلَ: وَمَوْضِعُ الْخِلَافِ مَا إذَا سَاوَى الْمَجَازُ الْحَقِيقَةَ لِشُهْرَتِهِ وَإِلَّا امْتَنَعَ الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يُعْلَمُ تَنَاوُلُ اللَّفْظِ لَهُ إلَّا بِتَقْيِيدٍ، وَالْحَقِيقَةُ تُعْلَمُ بِالْإِطْلَاقِ وَمَحَلِّهِ أَيْضًا حَيْثُ لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ بِالْحَمْلِ عَلَيْهِمَا كَمَا فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه حَيْثُ حَمَلَ الْمُلَامَسَةَ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] عَلَى الْجَسِّ بِالْيَدِ وَالْوَطْءِ.
فَعُلِمَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالْحَمْلِ عَلَيْهِمَا فِي لَفْظٍ بِاعْتِبَارٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ السَّائِلِ - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - ثُمَّ ذَكَرْته أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الْخَمْرَ حَقِيقَةً هِيَ الْمُعْتَصَرُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ وَالنَّبِيذُ هُوَ الْمُعْتَصَرُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ هُوَ مَا حَكَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ الْأَكْثَرِينَ فِي الْأَشْرِبَةِ؛ لَكِنْ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَهْلِ الْأَثَرِ رضي الله عنهم أَنَّ الْخَمْرَ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ وَعَلَيْهِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى التَّخْرِيجِ السَّابِقِ عَلَى أَنَّ اللُّغَةَ تَثْبُتُ قِيَاسًا أَوَّلًا وَعَلَيْهِ أَيْضًا فَلَيْسَ هُنَا
جَمْعٌ بَيْنَ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَعَلَى كُلٍّ فَالْمُعْتَمَدُ طَهَارَةُ النَّبِيذِ بِالتَّخَلُّلِ كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَعِبَارَتُهُ بَعْدَ قَوْلِ الْعُبَابِ.
(وَإِلَّا الْخَمْرَ وَكَذَا النَّبِيذُ فِي الْمُخْتَارِ مِنْ الْمُعْتَمَدِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ كَالْأَصْحَابِ فِي بَابَيْ الرِّبَا وَالسَّلَمِ لِإِطْبَاقِهِمْ عَلَى صِحَّةِ السَّلَمِ فِي خَلِّ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ الْمُسْتَلْزِمَةِ طَهَارَتُهُمَا، إذْ النَّجِسُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَا السَّلَمُ فِيهِ اتِّفَاقًا وَعَلَى الصِّحَّةِ تَارَةً وَالْبُطْلَانِ أُخْرَى فِي مَسْأَلَةِ الْخُلُولِ الْعَشَرَةِ الْآتِي بَيَانُهَا فِي بَابِ الرِّبَا. فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِطَهَارَةِ خَلِّ النَّبِيذِ بِالتَّخَلُّلِ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ مَذْهَبًا وَدَلِيلًا لَا دَلِيلًا فَحَسْبُ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ كَالسُّبْكِيِّ بِالْمُخْتَارِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْبَغَوِيّ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَالْقَمُولِيُّ وَغَيْرُهُمَا:
(وَإِنْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ لَمْ أَرَهُ فِي تَهْذِيبِهِ وَلَا فِي فَتَاوِيهِ إذَا أُلْقِيَ فِي الْعَصِيرِ مَاءٌ حَالَ الْعَصْرِ طَهُرَ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ ضَرُورَتِهِ) وَسَبَقَهُ أَيْ الْبَغَوِيّ لِذَلِكَ شَيْخُهُ الْقَاضِي فَقَالَ لَوْ صُبَّ الْمَاءُ فِي الْعَصِيرِ وَاسْتَحَالَ لِلْخَلِّ فَهُوَ طَاهِرٌ اهـ. وَوَجْهُ كَوْنِ الْمَاءِ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ اسْتِقْصَاءِ عَصْرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ جَمِيعُ مَا فِيهِ. إذْ لَوْ كُلِّفَ النَّاسُ الْإِعْرَاضَ عَمَّا بَقِيَ فِيهِ
لَشَقَّ
بِهِمْ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ مَالِيَّةٍ عَلَيْهِمْ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ ضَرُورَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِإِخْرَاجِ مَا بَقِيَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ مِنْ أَصْلِ ضَرُورَةِ عَصْرِهِ لِسُهُولَتِهِ بِدُونِهِ وَإِذَا تُسُومِحَ فِي هَذَا الْمَاءِ وَقِيلَ فِيهِ بِالْمُسَامَحَةِ كَمَا عَرَفْت فَأَوْلَى مَاءُ النَّبِيذِ لِتَوَقُّفِ الْعَصْرِ عَلَيْهِ وَبِمَا وَجَّهْت بِهِ كَلَامَهُ انْدَفَعَ اعْتِرَاضُ الزَّرْكَشِيّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّيْخَيْنِ لَوْ طُرِحَ عَصِيرٌ عَلَى خَلٍّ فَغَلَبَهُ الْعَصِيرُ وَانْغَمَرَ الْخَلُّ فِيهِ عِنْدَ الِاشْتِدَادِ فَانْقَلَبَ خَلًّا لَمْ يَطْهُرْ قَالَ فَإِذَا كَانَ لَا يَطْهُرُ بِخَلْطِ الْخَلِّ مَعَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ فَأَوْلَى لَا يَطْهُرُ فِي الْمَاءِ اهـ. وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ فَضْلًا عَنْ الْأَوْلَوِيَّةِ لِأَنَّ خَلْطَ الْخَلِّ بِالْعَصِيرِ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَخَلْطَ الْمَاءِ بِهِ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ فَضْلًا عَنْ الِاحْتِيَاجِ فَكَيْفَ يُشْكَلُ هَذَا بِهَذَا؟ وَقَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ:
(لَا يَطْهُرُ النَّبِيذُ بِالتَّخَلُّلِ لِوُجُودِ الْمَاءِ فِيهِ) ضَعِيفٌ وَإِنْ حَكَاهُ عَنْ الْأَصْحَابِ لِمَا عَلِمْت مِنْ تَصْرِيحِهِمْ بِخِلَافِهِ وَلَا نَظَرَ لِوُجُودِ الْمَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِ كَمَا تَقَرَّرَ وَعَجِيبٌ مِنْ السُّبْكِيّ حَيْثُ تَبِعَ الْبَغَوِيَّ عَلَى هَذَا هُنَا وَاعْتَرَضَهُ فِي بَابِ الْغَصْبِ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْمَاءِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْمَاءِ لَعَلَّهُ سَهْوٌ وَإِلَّا فَالْوَجْهُ أَنَّهُ قَاضٍ بِالْحَاجَةِ، بَلْ الضَّرُورَةُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى خَلِّ النَّبِيذِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَاءِ فِي عَصْرِ مَا مِنْهُ النَّبِيذُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّظَرُ إلَى ذَلِكَ تَأْبَاهُ جَلَالَتُهُ.
وَلَوْ حَصَرْنَا الْأَمْرَ فِي خَلِّ الْعِنَبِ
لَشَقَّ ذَلِكَ
عَلَى النَّاسِ لِأَنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِخَلِّ غَيْرِهِ فَإِنْ قُلْت: مَا قَالُوهُ فِي السَّلَمِ وَالرِّبَا لَا يُنَافِي مَا قَالَهُ أَبُو الطَّيِّبِ لِإِمْكَانِ حَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى مَا إذَا تَحَقَّقَ التَّخَمُّرُ ثُمَّ التَّخَلُّلُ، وَكَلَامُهُمْ عَلَى خِلَافِهِ قُلْت: وَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَكِنَّهُ أَعْنِي التَّخَمُّرُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلٍ نَادِرٌ لِمَا يَأْتِي عَنْ الْحَلِيمِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّ الْعَصِيرَ لَا يَصِيرُ خَلًّا مِنْ غَيْرِ تَخَمُّرٍ إلَّا فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ قَلِيلٌ فِعْلُهَا فَكَانَ التَّخَلُّلُ مِنْ غَيْرِ تَخَمُّرٍ نَادِرًا جِدًّا؛ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ بَلْ صَرَّحَ الشَّيْخَانِ كَمَا يَأْتِي بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَوَسُّطِ الشِّدَّةِ وَسَيَأْتِي أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ، وَقَضِيَّةُ تَعْلِيلِ أَبِي الطَّيِّبِ أَنَّ نَبِيذَ الرُّطَبِ يَطْهُرُ بِالتَّخَلُّلِ قَطْعًا لِأَنَّهُ لَا مَاءَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ كَالْأَصْحَابِ فِي الرِّبَا لَكِنْ مَنَعَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَقَالُوا لَا يَأْتِي إلَّا بِالْمَاءِ.
وَمَالَ إلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ نَوْعَانِ ثُمَّ رَأَيْت مَا وَجَّهْت بِهِ كَلَامَ الْبَغَوِيِّ فِي الْمَاءِ مُصَرَّحًا بِهِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْعِمَادِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا وُضِعَ مَاءٌ فِي الْعَصِيرِ لَا لِحَاجَةٍ أَوْ لِاسْتِعْجَالِ التَّخَلُّلِ فَوَجْهَانِ، أَيْ وَالرَّاجِحُ عَدَمُ الطَّهَارَةِ فَإِنْ وَضَعَهُ لِحَاجَةٍ طَهُرَ بِلَا خِلَافٍ وَعَلَيْهِ يُنَزَّلُ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ: (لَوْ أُلْقِيَ الْمَاءُ حَالَ الْعَصْرِ طَهُرَ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَتِهِ بِخِلَافِ نَحْوِ الْبَصَلِ وَبِخِلَافِ إلْقَاءِ مَا بَعْدَ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ، وَمُرَادُهُ بِإِلْقَائِهِ حَالَ الْعَصْرِ مَا يُصَبُّ عَلَى الثُّفْلِ لِيُسْتَخْرَجَ بِهِ مَا بَقِيَ فِيهِ مِنْ الْحَلَاوَةِ وَبَقِيَّةِ مَاءِ الْعِنَبِ وَسَأَلْت عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ: إنَّهُمْ يَسْتَخْرِجُونَ حَلَاوَةَ الثُّفْلِ بِصَبِّ الْمَاءِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُصَبُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَصِيرِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا يُوضَعُ عَلَى الْعَصِيرِ مِنْ الْمَاءِ تَكْثِيرًا لَهُ وَمَا يُوضَعُ فِيهِ مِنْ السُّكَّرِ وَنَحْوِهِ تَكْثِيرًا لِلْحَلَاوَةِ فَفِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ يَطْهُرُ اهـ.
وَتَنْزِيلُهُ الضَّرُورَةَ فِي كَلَامِ الْبَغَوِيِّ عَلَى الْحَاجَةِ مُوَافِقٌ لِمَا قَدَّمْته، وَمَا ذُكِرَ فِي إلْقَاءِ الْمَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَاضِحٌ إذْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَضْلًا عَنْ الضَّرُورَةِ، وَبِهِ يُرَدُّ مَا ذَكَرَهُ فِي وَضْعِهِ عَلَى الْعَصِيرِ تَكْثِيرًا لَهُ لَكِنْ سَبَقَهُ لِنَحْوِ ذَلِكَ الْقَاضِي فَقَالَ: لَا يَضُرُّ صَبُّ الْمَاءِ فِي الْعَصِيرِ اسْتِعْجَالًا لِلنَّحْلِ وَلَا صَبُّ الْمَاءِ فِي الْعَصِيرِ حَالَ
عَصْرِهِ تَكْثِيرًا لِلْخَلِّ أَوْ لِاسْتِخْرَاجِ الْحَلَاوَةِ مِنْ الثُّفْلِ فَإِنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضًا صَحِيحًا اهـ. وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأَوَّلَيْنِ لَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْيِهِ الضَّعِيفِ الْآتِي أَنَّ مُصَاحَبَةَ الْعَيْنِ لَا تَضُرُّ لَكِنَّ تَعْلِيلَهُ يُفْهِمُ أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصَحِّ وَحِينَئِذٍ فَالْأَوْجَهُ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ الْمَلْحَظَ الْحَاجَةُ، وَلَا حَاجَةَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ مُجَرَّدُ الْغَرْضِ حَاجَةً كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ.
وَحَاصِلُهَا أَنَّ الْمَنْقُولَ الْمُعْتَمَدَ طَهَارَةُ سَائِرِ الْأَنْبِذَةِ بِالتَّخَلُّلِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ ضَرُورَتِهَا، وَإِنَّ مِثْلَهَا فِي ذَلِكَ ثُفْلُ الْعِنَبِ الَّذِي يَحْتَاجُ فِي اسْتِقْصَاءِ عَصْرِهِ إلَى مَاءٍ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ اسْتِخْرَاجِ بَقِيَّةِ مَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ يَضُرُّ طَرْحُهُ فَإِذَا تَخَلَّلَ مَا طُرِحَ فِيهِ لَا يَطْهُرُ وَإِنْ وُضِعَ عَلَيْهِ الْمَاءُ قَبْلَ التَّخَمُّرِ؛ لِأَنَّهُ صَاحَبَتْهُ عَيْنٌ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فَنَجَّسَتْهُ وَمِثْلُ الْمَاءِ فِي ذَلِكَ نَحْوُ السُّكَّرِ الَّذِي يُوضَعُ فِي الْعَصِيرِ تَكْثِيرًا لِلْحَلَاوَةِ فَيَضُرُّ إلَّا إنْ فُرِضَ تَخَمُّرِهِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِالتَّخَلُّلِ وَمِنْهُ يُؤْخَذُ أَنَّهُ لَوْ عَصَرَ أَنْبِذَةً مُخْتَلِفَةً ثُمَّ خَلَطَهَا وَهِيَ عَصِيرٌ فَتَخَمَّرَتْ ثُمَّ تَخَلَّلَتْ طَهُرَتْ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ وَلَا يُنَافِيهِ كَلَامُهُمْ فِيمَا لَوْ طُرِحَ عَلَى الْخَلِّ عَصِيرٌ؛ لِأَنَّ الْخَلَّ يَسْتَحِيلُ تَخَمُّرُهُ فَنَظَرُوا ثَمَّ لِلْغَالِبِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْكُلَّ يَتَخَمَّرُ فَإِذَا تَخَلَّلَ طَهُرَ أَخْذًا مِنْ كَلَامِهِمْ فِيمَا لَوْ وُضِعَ خَمْرٌ عَلَى خَمْرٍ أُخْرَى فَإِنَّهُمَا يَطْهُرَانِ.
وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَمَا يَأْتِي وَأَنَّ الرُّطَبَ إذَا اُعْتُصِرَ وَلَمْ يَخْتَلِطْ بِهِ مَاءٌ وَتَخَمَّرَ ثُمَّ تَخَلَّلَ طَهُرَ قَطْعًا وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ خِلَافُ النَّبِيذِ وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مَاءَ النَّارْجِيلِ إذَا لَمْ يُخَالِطْهُ غَيْرُهُ فَتَخَمَّرَ ثُمَّ تَخَلَّلَ طَهُرَ قَطْعًا أَيْضًا وَلَا يَأْتِي فِيهِ خِلَافُ النَّبِيذِ لِمَا عَلِمْت مِنْ الْفَرْقِ أَنَّ ذَاكَ فِيهِ مَاءٌ وَهَذَا لَا مَاءَ فِيهِ، وَالْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الرُّطَبِ لَيْسَ فِي طَهَارَةِ خَلِّهِ بِالتَّخَلُّلِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ عَصِيرَهُ هَلْ يَأْتِي مِنْهُ خَلٌّ مِنْ غَيْرِ مَاءٍ أَوْ لَا؟
فَالْقَائِلُونَ لَا يَأْتِي مِنْهُ إلَّا بِالْمَاءِ يَقُولُونَ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ أُتِيَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ مَاءٍ طَهُرَ قَطْعًا، فَالْخِلَافُ لَيْسَ فِي طَهَارَتِهِ بِفَرْضِ أَنَّهُ جَاءَ مِنْهُ خَلٌّ فَكَذَا يُقَالُ فِي مَاءِ النَّارْجِيلِ، وَقَوْلُ السَّائِلِ وَمَا قَوْلُكُمْ فِيمَا إذَا كَانَ فِي إنَاءٍ خَمْرٌ إلَى آخِرِ جَوَابِهِ ذَكَرْته فِي الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ وَعِبَارَتُهُ قَالَ الْبَغَوِيّ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ وَالْغَزِّيُّ وَإِنْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ شُهْبَةَ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ وَغَيْرِهِمَا وَاعْتَمَدَهُ لَوْ نَقَصَ مِنْ خَمْرِ الدَّنِّ أَوْ أُدْخِلَ فِيهِ شَيْءٌ فَارْتَفَعَتْ بِسَبَبِهِ ثُمَّ أُخْرِجَ فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ أَيْ فَلَا تَطْهُرُ إلَّا إنْ صُبَّ عَلَيْهَا خَمْرٌ قَبْلَ الْجَفَافِ حَتَّى ارْتَفَعَتْ إلَى الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ اهـ.
لَكِنْ عِبَارَةُ أُولَئِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهِيَ مَسْأَلَةُ النَّقْصِ وَلَوْ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا وَهِيَ أَوْلَى مِنْ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِالنَّقْصِ لِشُمُولِهِ لِمَا لَوْ كَانَ بِسَبَبِ تَشَرُّبِ الدَّنِّ أَوْ انْعِقَادِهَا بِوَاسِطَةِ هَوَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَالْحُكْمُ بِعَدَمِ طَهَارَةِ الْخَلِّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، بَلْ الَّذِي يَتَّجِهُ الطَّهَارَةُ هُنَا نَظِيرُ الِارْتِفَاعِ بِالْغَلَيَانِ؛ لِأَنَّ كُلًّا لَيْسَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ فَسُومِحَ بِهِ قَالَ أَعْنِي الْبَغَوِيَّ وَإِنَّمَا لَمْ يَطْهُرْ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى وَهِيَ مَا لَوْ ارْتَفَعَتْ بِفِعْلِ فَاعِلٍ كَأَنْ وُضِعَ فِي الدَّنِّ ظَرْفٌ فَارْتَفَعَتْ بِسَبَبِهِ، أَمَّا الدَّنُّ فَلِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَأَمَّا الْخَمْرُ فَلِاتِّصَالِهَا بِنَجَسٍ بِخِلَافِهِ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ مَا لَوْ غُمِرَ الْمُرْتَفِعُ قَبْلَ جَفَافِهِ بِخَمْرٍ أُخْرَى فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِالتَّخَلُّلِ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الدَّنِّ الْمُلَاقِيَةِ لِلْخَلِّ لَا خِلَافَ فِي طَهَارَتِهَا تَبَعًا لَهُ اهـ.
وَقَوْلُهُ: قَبْلَ جَفَافِهِ الَّذِي تَبِعَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ فِيمَا لَوْ غَمَرَهُ بِهَا بَعْدَ جَفَافِهِ، وَتَعْلِيلُهُ يَقْتَضِي خِلَافَهُ.
قَالَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا - سَقَى اللَّهُ عَهْدَهُ -: (وَالْمُوَافِقُ لِكَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ مُطْلَقًا لِمُصَاحِبَتِهَا عَيْنًا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِهَا) وَقَالَ غَيْرُهُ لَعَلَّهُ تَصْوِيرٌ لِتَحَقُّقِ انْغِمَارِ مَوْضِعِ الِارْتِفَاعِ وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ فِي كَلَامِ شَيْخِنَا الْمَذْكُورِ وَلَعَلَّ مَأْخَذَهُ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ وَابْنِ الْعِمَادِ
وَاحْتَرَزَ الشَّيْخَانِ بِفَرْضِهِمَا التَّفْصِيلَ الْآتِي فِي طَرْحِ الْعَصِيرِ عَلَى خَلٍّ عَمَّا لَوْ طُرِحَ خَمْرٌ فَوْقَ خَمْرٍ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ، وَيُحْتَمَلُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخَمْرُ مِنْ جِنْسِهَا فَتَطْهُرُ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا كَمَا إذَا صُبَّ النَّبِيذُ عَلَى خَمْرٍ فَلَا تَطْهُرُ اهـ.
وَكَأَنَّ مَا قَالَاهُ أَوَّلًا مُسَاوٍ لِمَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ إطْلَاقِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ طَرْحُ خَمْرٍ فَوْقَ خَمْرٍ انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ، وَبِهَا يُعْلَمُ أَنَّ الِارْتِفَاعَ مَتَى كَانَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ لَا تَطْهُرُ إذَا لَمْ يُغْمَرْ الْمُرْتَفِعُ بِخَمْرٍ أُخْرَى، وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا نِزَاعَ فِيهَا وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا لَوْ غَمَرَهَا بِخَمْرٍ أُخْرَى وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ تَرْجِيحُهُ الطَّهَارَةُ حِينَئِذٍ سَوَاءٌ مَا قَبْلَ الْجَفَافِ وَمَا بَعْدَهُ لِمَا عَلَّلَ بِهِ الْبَغَوِيّ الْمُقْتَضِي أَنَّ فَرْضَهُ الْكَلَامَ قَبْلَ الْجَفَافِ إنَّمَا هُوَ لِلتَّصْوِيرِ لَا لِلِاحْتِرَازِ وَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا يُنَازِعُ فِيهِ كَلَامَ الزَّرْكَشِيّ وَابْنِ الْعِمَادِ فَإِنَّهُمَا ذَكَرًا الطَّهَارَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ نَقْلِ الْمَذْهَبِ، ثُمَّ أَبْدَيَا فِي مُقَابَلَتِهِ احْتِمَالًا لَهُمَا مُفَصَّلًا وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ إلَّا أَنَّ مَا أَطْلَقَاهُ مِنْ الطَّهَارَةِ الْمُوَافِقَ لِعِلَّةِ الْبَغَوِيِّ السَّابِقَةِ هُوَ اللَّاحِقُ بِالِاعْتِمَادِ؛ لِأَنَّهُ الْمَنْقُولُ، وَتَعْلِيلُ شَيْخِنَا بِمُصَاحَبَةِ الْعَيْنِ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ تِلْكَ الْمُصَاحَبَةِ لَا تَضُرُّ لِاشْتِرَاكِ كُلٍّ مِنْ الْعَيْنَيْنِ فِي التَّخَلُّلِ الْمُقْتَضِي لِلطَّهَارَةِ فَلَيْسَتْ كَمُصَاحَبَةِ عَيْنٍ غَيْرَ خَمْرٍ نَعَمْ قَدْ يُقَالُ فِي خُصُوصِ مِثَالِهِمَا وَهُوَ النَّبِيذُ: إذَا وُضِعَ عَلَى خَمْرٍ وَمِثْلُهُ عَكْسُهُ أَنَّ الْأَوْجَهَ فِيهِ عَدَمُ الطَّهَارَةِ لِأَنَّ النَّبِيذَ فِيهِ الْمَاءُ فَفِي ذَلِكَ وَضْعُ الْمَاءِ عَلَى الْخَمْرِ بِلَا حَاجَةٍ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَضُرُّ.
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَمَّا اُغْتُفِرَ فِيهِ الْمَاءُ لِلْحَاجَةِ كَانَ كَالْعَدَمِ فَلَمْ يَضُرَّ طَرْحُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ النَّبِيذِ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ وَيُغْتَفَرُ فِي الشَّيْءِ تَابِعًا مَا لَا يُغْتَفَرُ فِيهِ مَقْصُودًا وَبِهَذَا الَّذِي تَقَرَّرَ فِي مَسْأَلَةِ الْبَغَوِيِّ تُعْلَمُ الطَّهَارَةُ فِيمَا لَوْ أُرِيقَتْ الْخَمْرُ مِنْ دَنٍّ ثُمَّ صُبَّ فِيهِ خَمْرٌ أُخْرَى قَبْلَ الْجَفَافِ أَوْ بَعْدَهُ ثُمَّ نُقِلَتْ مِنْهُ إلَى إنَاءٍ طَاهِرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا عُلِمَ أَنَّ الْمَنْقُولَ فِيمَا إذَا صُبَّتْ خَمْرٌ عَلَى خَمْرٍ أُخْرَى الطَّهَارَةُ مُطْلَقًا فَمَا هُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ صَبَّهَا فِي الدَّنِّ الْمُتَنَجِّسِ بِالْخَمْرِ غَايَتُهُ أَنَّهُ كَصَبِّهَا فِي دَنٍّ ارْتَفَعَتْ إلَيْهِ بِفِعْلِ فَاعِلٍ ثُمَّ نَزَلَتْ عَنْهُ.
وَقَدْ مَرَّ أَنَّ ظَاهِرَ الْمَنْقُولِ طَهَارَتُهُ سَوَاءٌ أَصَبَّهَا عَلَيْهِ قَبْلَ الْجَفَافِ أَمْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْجِنْسِ أَمْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ عَلَى مَا مَرَّ فِيهِ هَذَا عَلَى مَا اعْتَمَدْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْبَغَوِيِّ، وَأَمَّا عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ شَيْخُنَا فِيهَا مِنْ عَدَمِ الطَّهَارَةِ مُطْلَقًا، فَقِيَاسُهُ هُنَا النَّجَاسَةُ وَأَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِالتَّخَلُّلِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ يَجْعَلُ مُلَاقَاةَ الْخَمْرِ لِأُخْرَى كَمُلَاقَاةِ الْعَيْنِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَاَلَّذِي مَرَّ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَالزَّرْكَشِيِّ وَابْنِ الْعِمَادِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ الْخَمْرَ الْأُخْرَى تُشَارِكُ الْأُولَى فِي التَّخَلُّلِ الْمُقْتَضِي لِطَهَارَتِهِمَا فَلَمْ تَكُنْ كَالْعَيْنِ الْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ، وَبِمَا تَقَرَّرَ يُعْلَمُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ وَهَلْ الْحُكْمُ الْمُتَقَدِّمُ. .. إلَخْ وَهُوَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ لِمَا تَلَا عَلَيْك وَاضِحًا مُبَيَّنًا.
وَفِي الْأَنْوَارِ لَوْ نُقِلَتْ مِنْ دَنٍّ إلَى آخَرَ طَهُرَتْ بِالتَّخَلُّلِ قَالَ الْبَغَوِيّ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ، ثُمَّ صُبَّ فِيهِ عَصِيرٌ فَتَخَمَّرَ ثُمَّ تَخَلَّلَ لَا يَطْهُرُ اهـ. وَلَا يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي وَضْعِ الْخَمْرِ عَلَى خَمْرٍ أُخْرَى لِمَا سَبَقَ مِنْ الْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه أَخْبَرَهُ عَدْلٌ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ حَدَثٌ فَهَلْ يَلْزَمُهُ قَبُولُ خَبَرِهِ أَوْ لَا كَمَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْيَمَنِ.
(فَأَجَابَ) - مَتَّعَ اللَّهُ بِحَيَاتِهِ - الصَّوَابُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ وَزَعَمَ أَنَّ خَبَرَهُ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ، بَلْ الظَّنَّ وَلَا يُرْفَعُ يَقِينُ طُهْرٍ بِظَنِّ حَدَثٍ يُبْطِلُهُ أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَهُ بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ فِي الْمَاءِ لَزِمَهُ قَبُولُ خَبَرِهِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَنًّا إلَّا أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْيَقِينِ شَرْعًا فِي أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ - مَا حُكْمُ اسْتِعْمَالِ الْوَرَقِ الْبَالِي مِنْ الْكُتُبِ أَغْشِيَةً لَهَا؟
(فَأَجَابَ) رضي الله عنه اسْتِعْمَالُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْوَرَقِ أَغْشِيَةً جَائِزٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قُرْآنٌ وَلَا عِلْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا اسْمُ اللَّهِ أَوْ نَبِيِّهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ كُلِّ اسْمٍ مُعَظَّمٍ وَإِلَّا فَهُوَ حَرَامٌ وَمَنْ أَطْلَقَ الْإِفْتَاءَ بِالْجَوَازِ فَقَدْ أَبْعَدَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يُكْرَهُ لِدَاخِلِ الْخَلَاءِ حَمْلُ مَا كُتِبَ عَلَيْهِ ذِكْرٌ؟ وَهَلْ يَعُمُّ مَا إذَا قَصَدَ حَمْلَ الْأَمْتِعَةِ فَقَطْ أَوْ لَا؟ كَحَمْلِ الْمُصْحَفِ فِي أَمْتِعَةٍ.
(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْأَوْجَهَ الْفَرْقُ بِأَنَّ الْمُحْدِثَ إنَّمَا مُنِعَ مِنْ الْحَمْلِ الْمُخِلِّ بِالتَّعْظِيمِ، وَلَا إخْلَالَ إذَا كَانَ الْمُصْحَفُ تَابِعًا، وَمَنَاطُ الْكَرَاهَةِ هُنَا اسْتِصْحَابُ مَا عَلَيْهِ الذِّكْرُ وَإِدْخَالُهُ الْمَكَانَ الْخَسِيسَ الْمُقْتَضِي لِامْتِهَانِهِ، وَالْإِخْلَالِ بِتَعْظِيمِهِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يَحْرُمُ دَوْسُ الْوَرَقِ أَوْ الْخِرْقَةِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ وَاسْمُ رَسُولِهِ. صلى الله عليه وسلم
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ يَحْرُمُ دَوْسُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إهَانَةً لَهُ فَهُوَ كَجَعْلِ الدَّرَاهِمِ فِيهِ، بَلْ أَوْلَى وَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِذَلِكَ كُلُّ اسْمٍ مُعَظَّمٍ كَمَا قَالُوهُ فِي دُخُولِ الْخَلَاءِ بِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْرُمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ الْإِهَانَةِ مَا فِي دَوْسِهِ.
(وَسُئِلَ) فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ عَمَّنْ وَجَدَ وَرَقَةً مُلْقَاةً فِي الطَّرِيقِ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ مَا الَّذِي يَفْعَلُ بِهَا
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْأَوْلَى غَسْلُهَا لِأَنَّ وَضْعَهَا فِي الْجِدَارِ تَعْرِيضٌ لِسُقُوطِهَا وَالِاسْتِهَانَةِ بِهَا، وَقِيلَ: تُجْعَلُ فِي حَائِطٍ وَقِيلَ: يُفَرِّقُ حُرُوفَهَا وَيُلْقِيهَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ، فَأَمَّا كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فَهُوَ مُتَّجِهٌ لَكِنَّ مُقْتَضَى كَلَامِهِ حُرْمَةُ جَعْلِهَا فِي حَائِطٍ وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ خِلَافُهُ وَأَنَّ
الْغَسْلَ أَفْضَلُ فَقَطْ، وَأَمَّا التَّمْزِيقُ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَلِيمِيُّ فِي مِنْهَاجِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَمْزِيقُ وَرَقَةٍ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ أَوْ اسْمُ رَسُولِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْطِيعِ الْحُرُوفِ وَتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ وَفِي ذَلِكَ إزْرَاءٌ بِالْمَكْتُوبِ، فَالْوَجْهُ الثَّالِثُ شَاذٌّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ فَإِنْ قُلْت: وَجْهُ الضَّعِيفِ أَيْضًا أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ لَمَّا رُكِّبَ مِنْهَا هَذَا الِاسْمُ الْمُعَظَّمُ ثَبَتَ لَهَا التَّعْظِيمُ، فَتَفْرِيقُهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ إهْدَارَ مَا ثَبَتَ لَهَا.
قُلْت إنَّمَا يَأْتِي ذَلِكَ عَلَى مَا مَالَ إلَيْهِ السُّبْكِيّ مِنْ أَنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الْكَلِمَاتِ الشَّرِيفَةِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ خِلَافُهُ فَإِنْ قُلْت: يُنَافِي ذَلِكَ حُرْمَةُ تَلَفُّظِ الْجُنُبِ بِحَرْفٍ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ، وَأَصْلُهَا وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ.
قُلْت: لَا يُنَافِيه؛ لِأَنَّ تَلَفُّظَهُ بِهِ بِقَصْدِ الْقِرَاءَةِ شُرُوعٌ فِي الْمَعْصِيَةِ؛ فَالتَّحْرِيمُ لِذَلِكَ لَا لِكَوْنِهِ يُسَمَّى قَارِئًا وَبِهَذَا أَيْضًا يُجَابُ عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا ثَوَابَ فِي قِرَاءَةِ أَحَدِ جُزْأَيْ الْكَلِمَةِ فَمَا تَوَهَّمَهُ الْإِسْنَوِيُّ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ يُخَالِفُ مَا مَرَّ وَأَنَّ الْأَوْجَهَ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ التَّلَفُّظُ يُرَدُّ بِمَا ذَكَرْتُهُ، وَيُرَدُّ بِهِ أَيْضًا عَلَى مَنْ اعْتَمَدَ كَلَامَ الْإِسْنَوِيِّ وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ احْتِرَامُهُ مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ الْجُمَلُ الْمُفِيدَةُ، بَلْ هَذَا الْأَخِيرُ زَلَّةٌ يُسْتَغْفَرُ مِنْهَا.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّا إذَا وَجَدَ الْقَارِئُ غَلَطًا فِي شَكْلِ الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ أَوْ حُرُوفِهِ هَلْ يَلْزَمُهُ إصْلَاحُهُ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنْ كَانَ مِلْكَهُ أَوْ عَلِمَ رِضَا مَالِكِهِ لَزِمَهُ إصْلَاحُهُ وَكَذَا لَوْ كَانَ وَقْفًا، وَخَطُّهُ لَا يَعِيبُهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ إصْلَاحُهُ وَهَذَا التَّفْصِيلُ ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ ثُمَّ رَأَيْتنِي ذَكَرْت فِي شَرْحِ الْعُبَابِ مَا لَفْظُهُ: وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْعَبَّادِيِّ أَنَّ مَنْ اسْتَعَارَ كِتَابًا فَوَجَدَ فِيهِ خَطَأً لَمْ يَجُزْ لَهُ إصْلَاحُهُ وَإِنْ كَانَ مُصْحَفًا وَجَبَ، وَقَيَّدَهُ الْبَدْرُ بْنُ جَمَاعَةَ وَالسَّرَّاجُ الْبُلْقِينِيُّ بِالْمَمْلُوكِ قَالَا أَمَّا الْمَوْقُوفُ فَيَجُوزُ إصْلَاحُهُ وَظَاهِرٌ أَنَّ مَحَلَّهُ إذَا كَانَ خَطُّهُ مُسْتَصْلَحًا اهـ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْعَبَّادِيِّ أَنَّ الْمُصْحَفَ يَجِبُ إصْلَاحُهُ مُطْلَقًا وَلَهُ وَجْهٌ إنْ لَمْ يُعِبْهُ ذَلِكَ الْإِصْلَاحُ فَإِنَّ عَيَّبَهُ لِرَدَاءَةِ خَطِّ الْمُصْلِحِ فَيَنْبَغِي تَحْرِيمُهُ وَظَاهِرٌ أَنَّ مَحَلَّ الْوُجُوبِ أَيْضًا مَا إذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِصْلَاحُ قَلِيلًا لَا يُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا بِحَيْثُ يُقَابَلُ بِهَا فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا إنْ جَعَلَ لَهُ مَالِكُ الْمُصْحَفِ أَوْ نَاظِرُهُ أُجْرَةً فِي مُقَابَلَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُمْ لَوْ سُئِلَ فِي تَعْلِيمِ الْفَاتِحَةِ لِمَنْ يَجْهَلُهَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَعْلِيمُهُ إيَّاهَا وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُهُ لَكِنْ لَا مَجَّانًا بَلْ بِأُجْرَةٍ فَلَمْ يَجْعَلُوا التَّعَيُّنَ مَانِعًا مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا لَفْظُهُ صَرَّحُوا بِأَنَّ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ كَبِيرَةٌ فَكَيْفَ ذَلِكَ مَعَ خَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ لَا يَقُولُ أَحَدُكُمْ نَسِيت آيَةَ كَذَا وَكَذَا، بَلْ يَقُولُ نُسِّيت وَخَبَرُهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ فَقَالَ رحمه الله لَقَدْ أَذْكَرَنِي آيَةً كُنْت أَسْقَطْتُهَا وَمَا الْمُرَادُ بِالنِّسْيَانِ وَهَلْ يُعْذَرُ بِهِ إذَا كَانَ لِاشْتِغَالِهِ بِمَعِيشَةِ عِيَالِهِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا؟ وَهَلْ يَشْمَلُ ذَلِكَ نِسْيَانَ الْخَطِّ بِأَنْ كَانَ يَقْرَؤُهُ غَيْبًا، وَمِنْ الْمُصْحَفِ فَصَارَ لَا يَقْرَؤُهُ إلَّا غَيْبًا وَفِي عَكْسِهِ هَلْ يَحْرُمُ أَيْضًا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَالْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ نِسْيَانَ الْقُرْآنِ كَبِيرَةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَنْ يَقُولَ نُسِّيتُ بِتَشْدِيدِ السِّينِ أَوْ أُنْسِيت إنَّمَا هُوَ لِرِعَايَةِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي إضَافَةِ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَنِسْبَتُهَا لِلْعَبْدِ إنَّمَا هِيَ مِنْ حَيْثُ الْكَسْبُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَأَمَرَنَا بِرِعَايَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْعَظِيمَةِ النَّفْعِ الْعَزِيزَةِ الْوَقْعِ الَّتِي ضَلَّ فِيهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ كَالزَّيْدِيَّةِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النِّسْيَانَ كَبِيرَةٌ وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ كَبِيرَةٍ كَمَا اتَّضَحَ مِمَّا قَرَّرْته.
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ الْمُحَرَّمِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ مُعَاوَدَةُ حِفْظِهِ الْأَوَّلِ إلَّا بَعْدَ مَزِيدِ كُلْفَةٍ وَتَعَبٍ لِذَهَابِهِ عَنْ حَافِظَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَمَّا النِّسْيَانُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعَهُ التَّذَكُّرُ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ أَوْ إعْمَالِ الْفِكْرِ فَهَذَا سَهْوٌ لَا نِسْيَانٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يَكُونُ مُحَرَّمًا وَتَأَمَّلْ تَعْبِيرَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَسْقَطْتُهَا دُونَ أُنْسِيتهَا يَظْهَرُ لَك مَا قُلْنَاهُ وَلَا يُعْذَرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لِاشْتِغَالِهِ بِمَعِيشَةٍ ضَرُورِيَّةٍ لِأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يُمْكِنُهُ الْمُرُورُ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ أَوْ قَلْبِهِ فَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمَعَايِشِ مَا يُنَافِي هَذَا الْمُرُورَ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا عُذْرًا فِي النِّسْيَانِ نَعَمْ الْمَرَضُ الْمُشْغِلُ أَلَمُهُ لِلْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْمُضْعِفُ لِلْحَافِظَةِ عَنْ أَنْ يَثْبُتَ فِيهَا مَا كَانَ فِيهَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ النَّاشِئَ مِنْ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ بِهِ مُقَصِّرًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ شُغِلَ قَهْرًا عَنْهُ بِمَا لَمْ يُمْكِنْهُ
مَعَهُ تَعَهُّدَهُ وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْتُهُ أَنَّ الْمَدَارَ فِي النِّسْيَانِ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْإِزَالَةِ عَنْ الْقُوَّةِ الْحَافِظَةِ بِحَيْثُ صَارَ لَا يَحْفَظُهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ كَالصِّفَةِ الَّتِي كَانَ يَحْفَظُهُ عَلَيْهَا قَبْلُ.
وَنِسْيَانُ الْكِتَابَةِ لَا شَيْءَ فِيهِ وَلَوْ نَسِيَهُ عَنْ الْحِفْظِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْرَأَهُ فِي الْمُصْحَفِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ عَنْهُ إثْمُ النِّسْيَانِ لِأَنَّا مُتَعَبَّدُونَ بِحِفْظِهِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّ حِفْظَهُ كَذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْأُمَّةِ، وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ كَانُوا لَا يَكْتُبُونَ وَإِنَّمَا يَحْفَظُونَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ الْحَدِيثِ الثَّانِي بِأَنَّ نِسْيَانَ مِثْلِ الْآيَةِ أَوْ الْآيَتَيْنِ لَا عَنْ قَصْدٍ لَا يَخْلُو مِنْهُ إلَّا النَّادِرُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نِسْيَانٌ يُنْسَبُ فِيهِ إلَى تَقْصِيرٍ، وَهَذَا غَفْلَةٌ عَمَّا قَرَّرْتُهُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْإِسْقَاطِ، فَالنِّسْيَانُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْته حَرَامٌ بَلْ كَبِيرَةٌ وَلَوْ لِآيَةٍ مِنْهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، بَلْ وَلَوْ لِحَرْفٍ كَمَا جَزَمْت بِهِ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ مَتَى وَصَلَ بِهِ النِّسْيَانُ وَلَوْ لِلْحَرْفِ إلَى أَنْ صَارَ يَحْتَاجُ فِي تَذَكُّرِهِ إلَى عَمَلٍ وَتَكْرِيرٍ فَهُوَ مُقَصِّرٌ آثِمٌ، وَمَتَى لَمْ يَصِلْ إلَى ذَلِكَ بَلْ يَتَذَكَّرُهُ بِأَدْنَى تَذْكِيرٍ فَلَيْسَ بِمُقَصِّرٍ وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَلَّ مَنْ يَخْلُو عَنْهُ مِنْ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ؛ فَسُومِحَ بِهِ وَمَا قَدَّمْته مِنْ حُرْمَةِ النِّسْيَانِ وَإِنْ أَمْكَنَ مَعَهُ الْقِرَاءَةُ مِنْ الْمُصْحَفِ نَقَلَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ مُحَقِّقِي الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - هَلْ يَجُوزُ كِتَابَةُ قُرْآنٍ أَوْ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حِرْزٍ لِكَافِرٍ يَعْتَقِدُ بِهِ حُصُولَ الْخَيْرِ لَهُ؟ وَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يُكْتَبُ تَكْسِيرًا حَرْفِيًّا أَوْ عَدَدِيًّا أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الَّذِي صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ بِالِاتِّفَاقِ السَّفَرُ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْكُفْرِ سَوَاءٌ كَانَ أَهْلُهَا ذِمِّيِّينَ أَمْ حَرْبِيِّينَ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ.
(وَمَحَلُّهُ إذَا خِيفَ وُقُوعُهُ بِأَيْدِيهِمْ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِهِ لِلِامْتِهَانِ) وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إنْ أُمِنَ ذَلِكَ كَدُخُولِهِ فِي الْجَيْشِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِمْ فَلَا مَنْعَ وَلَا كَرَاهَةَ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا بِالنَّهْيِ مُطْلَقًا لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَخَشْيَةً مِنْ أَنْ تَنَالَهُ الْأَيْدِي قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ اهـ.
قَالَ أَئِمَّتُنَا: وَلَا يَحْرُمُ بِالِاتِّفَاقِ كِتَابَةُ نَحْوِ آيَتَيْنِ ضِمْنَ مُكَاتَبَتِهِمْ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ إلَى هِرَقْلَ؛ وَلِأَنَّهُ لَا امْتِهَانَ فِيهِ اهـ. إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، فَكِتَابَةُ مَحْضِ الْقُرْآنِ حِرْزًا لِكَافِرٍ مَمْنُوعَةٌ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ لَا يَمْتَهِنُهُ فَإِذَا اخْتَلَى بِهِ امْتَهَنَهُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ الْأَسْمَاءُ الْمُعَظَّمَةُ، فَإِنْ قُلْت يَجُوزُ إسْمَاعُهُ الْقُرْآنَ وَتَعْلِيمُهُ شَيْئًا مِنْهُ إنْ رُجِيَ إسْلَامُهُ فَهَلْ فَصَّلْت كَذَلِكَ فِي كِتَابَةِ بَعْضِ الْقُرْآنِ حِرْزًا لَهُ قُلْت: مُجَرَّدُ الْإِسْمَاعِ أَوْ التَّعْلِيمِ لَا يَقْبَلُ امْتِهَانًا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ أَمَّا لَوْ كَتَبَ آيَةً أَوْ آيَتَيْنِ ضِمْنَ حِرْزٍ، فَقِيَاسُ مَا تَقَرَّرَ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ ضِمْنَ غَيْرِهِ صَيَّرَهُ تَابِعًا غَيْرَ مُعَرَّضٍ بِذَاتِهِ لِلِامْتِهَانِ، وَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الْجَوَازِ هُنَا أَيْضًا لِأَنَّ كِتَابَةَ نَحْوِ الْآيَةِ فِي ضِمْنِ مُكَاتَبَاتِهِمْ يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي وَعْظِهِمْ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا كِتَابَةُ الرُّقَى لَهُمْ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَيْهَا فَحُرِّمَتْ مُطْلَقًا، ثُمَّ إذَا قُلْنَا بِحُرْمَةِ الْكِتَابَةِ إلَيْهِمْ فَمَحَلُّهَا فِي كِتَابَةٍ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُكَسَّرَةً تَكَسُّرًا حَرْفِيًّا، أَوْ غَيْرَهُ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - عَنْ رُقْيَةِ الْكَافِرِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ كُفْرًا هَلْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَعْمِلَ رُقْيَةً سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ أَوْ غَيْرِهِ إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى كُفْرٍ أَوْ مُحَرَّمٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ «أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رُقَاهُمْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِيهَا حَتَّى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَعْرِضُوهَا عَلَيْهِ فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ فَقَالَ لَا بَأْسَ» ، وَحَيْثُ كَانَ فِي الرُّقْيَةِ اسْمٌ سُرْيَانِيٌّ مَثَلًا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهَا قِرَاءَةً وَلَا كِتَابَةً إلَّا إنْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ: إنَّ مَدْلُولَ ذَلِكَ الِاسْمِ مَعْنًى جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ الْمَجْهُولَةَ الْمَعْنَى قَدْ تَكُونُ دَالَّةً عَلَى كُفْرٍ أَوْ مُحَرَّمٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَئِمَّتُنَا فَلِذَلِكَ حَرَّمُوهَا قَبْلَ عِلْمِ مَعْنَاهَا.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا إذَا بَانَ عَظْمُ أَجْنَبِيَّةٍ فَهَلْ يُنْقِضُ مَسُّهُ الْوُضُوءَ.
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الَّذِي مِلْت إلَيْهِ فِي كُتُبِي الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُنْقِضُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَظِنَّةً لِلشَّهْوَةِ بِوَجْهٍ فَهُوَ كَالسِّنِّ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهَا يُلْتَذُّ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا، وَهَذَا لَا يُلْتَذُّ بِهِ. وَلَا بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا يُلْتَذُّ بِمَسِّهِ دُونَ نَظَرِهِ، وَأَمَّا مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ مَنْ أَنَّهُ يُنْقِضُ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِكَلَامِ الْأَنْوَارِ، فَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - هَلْ تَحْرُمُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِالْعَجَمِيَّةِ كَقِرَاءَتِهِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: قَضِيَّةُ مَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ التَّحْرِيمُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ:
وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه (أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْفُرْسِ سَأَلُوهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فَكَتَبَ لَهُمْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بِالْفَارِسِيَّةِ، فَأَجَابَ عَنْهُ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ كَتَبَ تَفْسِيرَ الْفَاتِحَةِ لَا حَقِيقَتَهَا اهـ.
فَهُوَ ظَاهِرٌ أَوْ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ كِتَابَتِهَا بِالْعَجَمِيَّةِ فَإِنْ قُلْت: كَلَامُ الْأَصْحَابِ إنَّمَا هُوَ جَوَابٌ عَنْ حُرْمَةِ قِرَاءَتِهَا بِالْعَجَمِيَّةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ بِهَا فَلَا دَلِيلَ لَكُمْ فِيهِ قُلْت: بَلْ هُوَ جَوَابٌ عَنْ الْأَمْرَيْنِ، وَزَعْمُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْعَجَمِيَّةِ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْكِتَابَةِ بِهَا مَمْنُوعٌ بِإِطْلَاقِهِ، فَقَدْ يُكْتَبُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَيُقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَعَكْسُهُ، فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ كَانَ الْجَوَابُ عَمَّا فَعَلَهُ سَلْمَانُ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ ظَاهِرًا فِيمَا قُلْنَاهُ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُصَرَّحُ بِهِ أَيْضًا أَنَّ مَالِكًا رضي الله عنه سُئِلَ هَلْ يُكْتَبُ الْمُصْحَفُ عَلَى مَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ مِنْ الْهِجَاءِ؟
فَقَالَ لَا إلَّا عَلَى الْكَتْبَةِ الْأُولَى أَيْ كَتْبَةِ الْإِمَامِ، وَهُوَ الْمُصْحَفُ الْعُثْمَانِيُّ قَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ وَنَسَبْتُهُ إلَى مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ الْمَسْئُولُ وَإِلَّا فَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ هُوَ الْحَقُّ إذْ فِيهِ بَقَاءُ الْحَالَةِ الْأُولَى إلَى أَنْ يَتَعَلَّمَهَا الْآخَرُونَ، وَفِي خِلَافِهَا تَجْهِيلُ آخِرِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهُمْ، وَإِذَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ كَمَا تَرَى عَلَى مَنْعِ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ الْيَوْمَ مِنْ مِثْلِ كِتَابَةِ الرِّبَا بِالْأَلْفِ مَعَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ الْهِجَاءِ، فَمَنْعُ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْهِجَاءِ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَفِي كِتَابَتِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ الْمُعْجِزِ الَّذِي حَصَلَ التَّحَدِّي بِهِ بِمَا لَمْ يَرِدْ بَلْ بِمَا يُوهِمُ عَدَمَ الْإِعْجَازِ، بَلْ الرَّكَاكَةَ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْعَجَمِيَّةَ فِيهَا تَقْدِيمُ الْمُضَافِ إلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُخِلُّ بِالنَّظْمِ وَيُشَوِّشُ الْفَهْمَ. وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ التَّرْتِيبَ مِنْ مَنَاطِ الْإِعْجَازِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي حُرْمَةِ تَقْدِيمِ آيَةٍ عَلَى آيَةٍ كِتَابَةً كَمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ قِرَاءَةً، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بِعَكْسِ السُّوَرِ مَكْرُوهَةٌ وَبِعَكْسِ الْآيَاتِ مُحَرَّمَةٌ وَفَرَّقُوا بِأَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ عَلَى النَّظْمِ الْمُصْحَفِيِّ مَظْنُونٌ، وَتَرْتِيبُ الْآيَاتِ قَطْعِيٌّ. وَزَعْمُ أَنَّ كِتَابَتَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ فِيهَا سُهُولَةٌ لِلتَّعْلِيمِ كَذِبٌ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ وَالْمُشَاهَدَةِ فَلَا يُلْتَفَتُ لِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ صِدْقُهُ لَمْ يَكُنْ مُبِيحًا لِإِخْرَاجِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَمَّا كُتِبَتْ عَلَيْهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا السَّلَفُ وَالْخَلَفُ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ مُدْخِلِي الْمَيِّتِ قَبْرَهُ إذَا أَصَابَهُمْ شَيْءٌ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ مَعَ رُطُوبَةٍ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ نَبْشُ الْقَبْرِ هَلْ يُنَجِّسُ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يُنَجِّسُ إذْ لَا نَجَاسَةَ مَعَ الشَّكِّ، ثُمَّ إنْ قَرُبَ احْتِمَالُ النَّجَاسَةِ فَالْأَوْلَى غَسْلُ ذَلِكَ وَإِلَّا الْأَوْلَى تَرْكُ غَسْلِهِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ.
(مِنْ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ غَسْلُ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ، أَيْ الَّذِي لَا يَقْرُبُ احْتِمَالُ نَجَاسَتِهِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَاجِبٌ غَسْلُ حَصَى الْجِمَارِ، أَيْ لِقُرْبِ احْتِمَالِ تَنَجُّسِهَا لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي مِثْلِهَا أَنْ تُصِيبَهُ نَجَاسَةُ الْمَارِّينَ وَنَحْوِهِمْ فَافْهَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَلَا يُعَارِضُهُ مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ كَانُوا يَمْشُونَ حُفَاةً فِي الطُّرُقَاتِ وَالطِّينِ وَيُصَلُّونَ مِنْ غَيْرِ غَسْلِ أَرْجُلِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِذَلِكَ، إمَّا بَيَانُ الْعَفْوِ عَنْ طِينِ الشَّوَارِعِ وَنَحْوِهِ أَوْ أَنَّ هَذَا الدِّينَ سَهْلٌ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ عَلَيْنَا فِيهِ مِنْ حَرَجٍ خِلَافًا لِقَوْمٍ غَلَبَ الشَّيْطَانُ عَلَى عُقُولِهِمْ فَزَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْوَسْوَسَةَ فِي الطِّهَارَاتِ مِنْ شَعَائِرِ الْمُتَّقِينَ، وَمَا دَرَوْا أَنَّهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى فَسَادِ الْعَقْلِ وَقِلَّةِ الدِّينِ، نَعَمْ هِيَ شِعَارٌ، أَيْ شِعَارٌ عِنْدَ الشِّيعَةِ الَّذِينَ خَذَلَهُمْ اللَّهُ وَأَرْكَسَهُمْ وَمِنْ خَيْرِ مَا عِنْدَهُ حَرَمَهُمْ وَعَنْهُ طَرَدَهُمْ فَيَلْحَقُ بِهِمْ الْمُوَسْوَسُونَ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْمٍ حُشِرَ مَعَهُمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُنَا لِمَرْضَاتِهِ وَيَمُنُّ عَلَيْنَا بِجَزِيلِ هِبَاتِهِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ هَلْ يَتَيَمَّمُ لِلصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ أَوْ يُصَلِّي بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ مَعَ النَّجَاسَةِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ يَتَيَمَّمُ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَقَوْلُهُمْ لَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ مِمَّنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ مَحَلُّهُ فِيمَنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ لَا يَكْفِيه إلَّا لِإِزَالَتِهَا دُونَ الْوُضُوءِ مَثَلًا فَهَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَيَمَّمَ عَنْ الْوُضُوءِ ثُمَّ بَعْدَ التَّيَمُّمِ يَغْسِلُ بِمَا مَعَهُ نَجَاسَةَ بَدَنِهِ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ؛ لِأَنَّهُ؛ لِلْإِبَاحَةِ، وَلَا إبَاحَةَ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهَا وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلتُّرَابِ فَعَلَيْهِ التَّيَمُّمُ بِهِ ثُمَّ الصَّلَاةُ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ ثُمَّ الْقَضَاءُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ كَلْبٍ مَسَّ دَرَجَةَ بِرْكَةٍ كَبِيرَةٍ وَفِيهَا مَاءٌ كَثِيرٌ فَهَلْ يَنْجُسُ مَا لَاقَاهُ مِنْ
الْمَاءِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يَنْجُسُ مُلَاقِي الْكَلْبِ فِي خِلَالِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْمَاءِ مَانِعَةٌ مِنْ وُصُولِ أَثَرِ النَّجَسِ إلَى غَيْرِهِ لِتَضَادِّ مَا بَيْنَهُمَا.
(وَسُئِلَ) - أَدَامَ اللَّهُ النَّفْعَ بِهِ - عَمَّنْ تَنَجَّسَ بَاطِنُ عَيْنِهِ هَلْ يَلْزَمُهُ غَسْلُهُ وَإِنْ خَافَ مِنْهُ تَلَفًا أَوْ بُطْءَ بُرْءٍ أَوْ قِلَّةَ ضَوْءٍ؟ (فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ: يَلْزَمُهُ غَسْلُهُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ النَّجَاسَةَ أَفْحَشُ مِنْ الْحَدَثِ لِأَنَّهُ مَعْنَوِيٌّ وَهِيَ حِسِّيَّةٌ فَشُدِّدَ فِيهَا مَا لَمْ يُشَدَّدْ فِي الْحَدَثِ، وَمَحَلُّ وُجُوبِ غَسْلِهَا مِنْ النَّجَاسَةِ حَيْثُ لَمْ يُخْشَ مُبِيحٌ تَيَمَّمَ، وَالْأَصْلِيُّ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ وَأَعَادَ وُجُوبًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ مُصْحَفٍ لِيَتِيمٍ أَوْ مَوْقُوفٍ بَالَ عَلَيْهِ كَلْبٌ مَثَلًا وَلَمْ يُمْكِنْ تَطْهِيرُهُ إلَّا بِإِزَالَةِ حُرُوفِ كِتَابَتِهِ وَبُطْلَانِ مَالِيَّتِهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَوْ النَّاظِرِ التَّطْهِيرُ الْمُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ - بِقَوْلِهِ: الَّذِي مِلْت إلَيْهِ الْوُجُوبُ ثُمَّ رَأَيْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أَفْتَى بِهِ أَخْذًا بِعُمُومِ قَاعِدَةِ أَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَقِيَاسًا عَلَى إزَالَةِ نَجَاسَةِ بَدَنِ الشَّهِيدِ وَإِنْ أَدَّى إلَى إزَالَةِ دَمِهِ وَأَقُولُ لَا يُحْتَاجُ لِذَلِكَ، بَلْ لِلْأَصْحَابِ فِي النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ كَلَامٌ يَعُمُّ مَسْأَلَتَنَا.
وَقَدْ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا دَخَلَتْ تَحْتَ عُمُومِ كَلَامِ الْأَصْحَابِ كَانَتْ مَنْقُولَةً، وَذَلِكَ الْكَلَامُ الشَّامِلُ لِمَسْأَلَتِنَا هُوَ قَوْلُهُمْ يَجِبُ التَّتْرِيبُ وَإِنْ أَدَّى إلَى فَسَادِ نَحْوِ الثَّوْبِ وَإِذْهَابِ مَالِيَّتِهِ.
وَهَذَا شَامِلٌ لِمَسْأَلَتِنَا فَيَكُونُونَ مُصَرِّحِينَ فِيهَا بِوُجُوبِ التَّطْهِيرِ وَإِنْ أَدَّى إلَى إزَالَةِ الْكِتَابَةِ وَإِبْطَالِ الْمَالِيَّةِ فَإِنْ قُلْت: صَرَّحُوا بِأَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ لَا تَجِبُ إلَّا فِي صُوَرٍ وَلَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ مِنْهَا فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ لَا تَجِبُ إزَالَتُهَا.
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْمُصْحَفَ لَا تَعَبُّدَ عَلَيْهِ، فَبَقَاءُ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ لِهَذَا الْعُذْرِ وَهُوَ بَقَاءُ الْمَالِيَّةِ لِلْيَتِيمِ، وَالِانْتِفَاعُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا قُلْت: هُوَ كَذَلِكَ لَوْلَا مَا عَارَضَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّ بَقَاءَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمُصْحَفِ فِيهِ ازْدِرَاءٌ، وَعَدَمُ الْقِيَامِ بِاحْتِرَامِهِ فَاقْتَضَتْ رِعَايَةُ ذَلِكَ وُجُوبَ تَطْهِيرِهِ وَإِنْ أَدَّى إلَى مَحْوِهِ وَبُطْلَانِ مَالِيَّتِهِ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَعَارَضَ مَعَنَا حَقُّ آدَمِيٍّ وَهُوَ النَّظَرُ؛ لِبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ تَعْظِيمُ الْمُصْحَفِ وَإِزَالَةُ مَا يُنَافِي تَعْظِيمَهُ، فَتَقْدِيمُنَا هَذَا الثَّانِي عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ مِنْ تَقْدِيمِ حَقِّ الْآدَمِيِّ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْخَطَرَ فِي بَقَاءِ النَّجَاسَةِ هُنَا أَعْظَمُ مِنْ خَطَرِ فَوَاتِ الْمَالِيَّةِ عَلَى أَنَّ فَوَاتَهَا لِأَجْلِ تَعْظِيمِ مَا أُمِرْنَا بِهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْمُصْحَفِ لَا خَطَرَ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ قِنَّ الْيَتِيمِ يَجِبُ قَتْلُهُ بِنَحْوِ تَرْكِ الصَّلَاةِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَقِّ الْآدَمِيِّ، وَكَذَلِكَ الْقِنُّ الْمَوْقُوفُ فَعَلِمْنَا أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا بَدَلَ لَهَا وَلَا تُسْتَدْرَكُ مَفْسَدَتُهَا تُقَدَّمُ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّ، وَبِهَذَا ظَهَرَ مَا قُلْنَاهُ وَاتَّضَحَ مَا حَرَّرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ الْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَتْ هَلْ يُقَالُ انْقَلَبَتْ عَيْنُهَا أَمْ لَا؟ كَمَا قَالَ بِكُلٍّ قَائِلٌ.
(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ: إنْ أُرِيدَ بِانْقِلَابِهَا مَعَ التَّخَلُّلِ أَنَّ جِسْمَهَا عَادَ بِعَيْنِهِ جِسْمًا آخَرَ هُوَ الْخَلُّ فَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَصِيرُ جِسْمًا آخَرَ، كَمَا أَنَّ الْجَوْهَرَ لَا يَصِيرُ جَوْهَرًا آخَرَ، وَكَمَا لَا يَرْجِعُ الْجَوْهَرُ عَرَضًا وَعَكْسُهُ، بَلْ وَلَا الْعَرَضُ عَرَضًا آخَرَ كَالْبَيَاضِ سَوَادًا أَوْ عَكْسِهِ، بَلْ وَلَا الْبَيَاضِ بَيَاضًا آخَرَ فَإِذَا صَارَ ثَوْبٌ أَبْيَضُ أَسْوَدَ لَمْ يَنْقَلِبْ الْبَيَاضُ سَوَادًا، لَكِنْ أَعْدَمَ اللَّهُ الْبَيَاضَ وَأَخْلَفَ مَكَانَهُ سَوَادًا بِقُدْرَتِهِ، وَكَذَا سَائِرُ الصِّفَاتِ.
وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ جِسْمَ الْخَمْرِ انْعَدَمَ وَخَلَّفَ الْخَلَّ مَكَانَهُ بِغَيْرِ فَصْلٍ فَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَإِنْ جَازَ فِي الْقُدْرَةِ إذْ لَيْسَ كُلُّ جَائِزٍ فِيهَا وَاقِعًا إلَّا أَنْ يُعْلَمَ بِالْحِسِّ أَوْ بِخَبَرِ الصَّادِقِ أَلَا تَرَى أَنَّ إعْدَامَ الْخَمْرِ وَإِخْلَافَ مَكَانِهِ الْخَلَّ جَائِزٌ فِي الْقُدْرَةِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ وَجَبَ تَكْذِيبُ مُدَّعِيهِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَضْرَتِنَا خَلْقًا وَلَا يَخْلُقُ لَنَا إدْرَاكًا لَهُ وَلَوْ ادَّعَاهُ مُدَّعٍ لَمْ نُصَدِّقْهُ، بَلْ لَا نَشُكُّ فِي كَذِبِهِ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ جِنْسَ الْخَمْرِ بَعْدَ التَّخَلُّلِ هُوَ الْخَمْرُ بِعَيْنِهِ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَوْ جَازَ الشَّكُّ فِيهِ لَشَكَّ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ إذَا تَغَيَّرَتْ حَالُهُ مِنْ صِحَّةٍ لِمَرَضٍ وَعَكْسِهِ هَلْ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ؟ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ ضَرُورَةً عَاقِلًا أَنْ يَتَوَهَّمَهُ وَكَذَا الْخَمْرُ، وَإِنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ صِفَاتِ الْخَلِّ الْوَارِدَةِ عَلَيْهِ غَيْرَ صِفَاتِ الْخَمْرِ
الْمَوْجُودِ قَبْلَ التَّخَلُّلِ فُقِدَتْ وَأَخْلَفَتْهَا صِفَةُ الْخَلِّ ضَرُورِيٌّ، وَلَا يَشُكُّ فِي هَذَا إلَّا مُعَانِدٌ أَوْ مَخْذُولٌ فَذَاتُ الْخَمْرِ بَاقِيَةٌ وَهُوَ جِسْمُهَا، وَصِفَاتُهَا مَعْدُومَةٌ وَأَخْلَفَتْهَا صِفَاتُ الْخَلِّ وَاسْمُ الْخَمْرِ لَا يُطْلَقُ عَلَى ذَاتِهَا دُونَ صِفَاتِهَا وَلَا عَكْسِهِ بَلْ عَلَى مَجْمُوعِهَا فَإِطْلَاقُ الِانْقِلَابِ عَلَيْهَا إذَا تَخَلَّلَتْ تَجُوزُ فِي الْعِبَارَةِ إذْ هُوَ حَقِيقَةً الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا} [المطففين: 31] الْآيَةَ {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 174]{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] .
وَفِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ «ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْلِبُهَا» وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ حِينَ عَاتَبَهُ عُمَرُ رضي الله عنهما لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ إلَى أَنْ طَلَعَ عُمَرُ الْمِنْبَرَ انْقَلَبْت مِنْ السُّوقِ، فَسَمِعْت النِّدَاءَ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَلَبْت الْإِنَاءَ لِأَنَّ مَا فِيهِ انْتَقَلَ مِنْ فَوْقَ إلَى أَسْفَلَ وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الِانْقِلَابَ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا فِي الْأَعْرَاضِ، فَالْمُرَادُ بِانْقَلَبَتْ مِنْ الْخَمْرِ إلَى التَّخَلُّلِ أَنَّ أَعْرَاضَهَا هِيَ الْمُتَبَدِّلَةُ دُونَ جِسْمِهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: مَاءُ الْعِنَبِ يُغَيِّرُهُ اللَّهُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ فِي الرَّائِحَةِ وَاللَّوْنِ وَالْفِعْلِ وَالطَّعْمِ لَا أَنَّهُ ذَهَبَ مَاءُ الْعِنَبِ، وَحَدَثَ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ الشُّبْهَةُ عَلَى مَنْ قَالَ انْتَقَلَتْ عَيْنُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمَةُ الذَّاتِ نَجِسَتُهَا، وَالْخَلُّ حَلَالُ الذَّاتِ طَاهِرٌ فَظُنَّ اسْتِحَالَةُ الْحُكْمِ عَلَى الذَّاتِ الْوَاحِدَةِ بِالضِّدِّ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ وَالْحُرْمَةِ، وَالْحِلِّ، وَلَيْسَ كَمَا ظُنَّ بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ: هُوَ أَنَّ النَّجِسَ إمَّا لِأَصْلِهِ كَالْبَوْلِ أَوْ لِمَا طَرَأَ عَلَيْهِ كَزَيْتٍ مَاتَتْ بِهِ فَأْرَةٌ، فَالْأَوَّلُ تَسْتَحِيلُ طَهَارَتُهُ بِاسْتِحَالَةِ أَصْلِهِ بِخِلَافِ الثَّانِي الطَّارِئِ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي نَجَاسَتِهِ؟ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ صَحَّ ارْتِفَاعُ النَّجَاسَةِ عَنْهُ شَرْعًا.
وَنَجَاسَةُ الْخَمْرِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا قَبْلَ وُجُودِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ فِيهِ، فَإِذَا أُورِدَتْ وَجَبَتْ نَجَاسَتُهَا فَإِذَا زَالَتْ وَجَبَتْ طَهَارَتُهَا إلَّا إذَا كَانَ بِمُصَاحَبَةِ عَيْنٍ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي مَذْهَبِنَا فَجِسْمُ الْخَمْرِ يَطْهُرُ بِزَوَالِ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ كَمَا يَطْهُرُ الثَّوْبُ مِنْ النَّجَسِ بِالْمَاءِ فَإِنْ قُلْت: لَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْنَ الْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَالزَّيْتِ إذْ الْمَاءُ أَصْلُ الْبَوْلِ فَسَاوَاهُمَا قُلْت: أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُقَرَّرَ أَنَّ الْمَاءَ أَصْلٌ لِكُلِّ مَا فِيهِ بِلَّةٌ مِنْ جَمِيعِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فَلَمَّا كَانَ الْمَاءُ مُسْتَهْلَكًا فِي جَمِيعِ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ كَانَ مُلْغًى، وَوَجَبَ اعْتِبَارُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ كَالْعَصِيرِ وَالْبَوْلِ، فَالْبَوْلُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ لَمَّا أُلْغِيَ أَصْلُهُ، كَمَا أَنَّ الْعَصِيرَ أَصْلٌ لَمَّا أُلْغِيَ أَصْلُهُ عَلَى أَنَّ الْبَوْلَ لَيْسَ عَيْنَ الْمَشْرُوبِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَسَخٌ يَصِلُ لِلْمَثَانَةِ يَجْتَمِعُ مِنْ بِلَّةِ الْجِسْمِ وَرُطُوبَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُشْرَبْ الْمَاءُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَلَدَ يَبُولُ عَقِبَ الْوِلَادَةِ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَ مَاءً وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ الْخَمْرُ أَصْلًا فِي نَفْسِهِ كَالْعَصِيرِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَصِيرِ لَمْ يُسْتَهْلَكْ بَعْدَ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ بِخِلَافِ الْمَاءِ الَّذِي شُرِبَ أَوْ يُسْقَى بِهِ الْكَرْمُ فَإِنَّهُ اُسْتُهْلِكَ فِي الْجِسْمِ وَالْكَرْمِ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ كَلْبٍ لَاقَى دَرَجَةَ بِرْكَةٍ وَفِيهَا مَاءٌ كَثِيرٌ فَهَلْ يَنْجُسُ مَا لَاقَاهُ بَيْنَ الْمَاءِ؟
(فَأَجَابَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: كَثْرَةُ الْمَاءِ مَانِعَةٌ مِنْ النَّجَاسَةِ؛ لِتَعَذُّرِهَا مَعَهَا وَمِنْ ثَمَّ لَوْ أَمْسَكَ كَلْبًا دَاخِلَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ لَمْ تَنْجُسْ يَدُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُلُومِهِ - عَنْ الزَّبَادِ هَلْ يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِ الشُّعُورِ وَهَلْ يُعْفَى عَنْهَا؟ وَمَا قَدْرُ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا؟ ، وَعُسْرُ الِاحْتِرَازِ وَوُجُودُ الْخِلَافِ فِي الْهِرَّةِ الْوَحْشِيَّةِ هَلْ يَقْتَضِيَانِ الْعَفْوَ مُطْلَقًا لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ؟
(فَأَجَابَ) - فَسَّحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُدَّتِهِ - بِقَوْلِهِ يَحِلُّ اسْتِعْمَالُ الزَّبَادِ وَيُعْفَى عَنْ شَعْرِهِ الْقَلِيلِ عُرْفًا كَالثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَعِبَارَةُ شَرْحِي عَلَى الْعُبَابِ مَعَ مَتْنِهِ فَرْعٌ فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ
(الزَّبَادُ طَاهِرٌ وَهُوَ لَبَنُ سِنَّوْرٍ بَحْرِيٍّ يُجْلَبُ كَالْمِسْكِ رِيحًا، وَاللَّبَنِ بَيَاضًا يَسْتَعْمِلُهُ أَهْلُ الْبَحْرِ طِيبًا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَأَشَارَ إلَى خِلَافٍ فِيهِ بِنَاءً عَلَى نَجَاسَةِ لَبَنِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ لَكِنْ تَعَقَّبَهُمَا فِي الْمَجْمُوعِ بِأَنَّ الصَّوَابَ طَهَارَتُهُ، وَصِحَّةُ بَيْعِهِ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ جَمِيعَ حَيَوَانِ الْبَحْرِ طَاهِرٌ يَحِلُّ لَحْمُهُ وَلَبَنُهُ أَوْ عَرَقُ سِنَّوْرٍ بَرِّيٍّ كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ الَّذِي سَمِعْته مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ فَعَلَى هَذَا هُوَ طَاهِرٌ بِلَا خِلَافٍ) اهـ.
وَقَدْ يُقَالُ لَا مُنَافَاةَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَبَنُ الْبَحْرِيِّ كَذَلِكَ ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ الرِّفْعَةِ قَالَ: وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنَّهُ نَوْعَانِ لَكِنَّ الْغَالِبَ الثَّانِي، وَبِهِ يُرَدُّ قَوْلُ الدَّمِيرِيِّ: أَنَّ مَا فِي الْحَاوِي
وَالْبَحْرِ وَهْمٌ وَفِي الْقَامُوسِ: وَالزَّبَادُ الطِّيبُ وَهُوَ رَشْحٌ يَجْتَمِعُ تَحْتَ ذَنَبِهَا عَلَى الْمَخْرَجِ فَتُمْسَكُ الدَّابَّةُ، وَتُمْنَعُ الِاضْطِرَابَ وَيُسْلَتُ ذَلِكَ الْوَسَخُ الْمُجْتَمَعُ هُنَالِكَ بِلِيطَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ اهـ. وَيَتَّجِهُ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُهُمْ وَتَبِعَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ الْعَفْوُ عَنْ يَسِيرِ شَعْرِهِ؛ لِمَا يَأْتِي مِنْ الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ شَعْرِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ وَبِهِ يُخَصُّ عُمُومُ قَوْلِ الْمَجْمُوعِ:
(أَنَّهُ يَغْلِبُ اخْتِلَاطُهُ بِمَا يَتَسَاقَطُ مِنْ شَعْرِهِ فَلْيُحْذَرْ عَمَّا وُجِدَ فِيهِ، فَإِنَّ الْأَصَحَّ نَجَاسَةُ شَعْرِ مَا لَا يُؤْكَلُ، وَمَنْعُ أَكْلِ السِّنَّوْرِ الْبَرِّيِّ) انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّنْ جُرِحَ جَفْنُ عَيْنِهِ فَخَرَجَ مِنْهُ دَمٌ، وَدَخَلَ عَيْنَهُ هَلْ يَلْزَمُهُ غَسْلُ بَاطِنِهَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ وَكَانَ يَخَافُ مِنْ غَسْلِهَا تَلَفَهَا أَوْ بُطْءَ بُرْئِهَا أَوْ قِلَّةَ ضَوْئِهَا مَا الْحُكْمُ؟
(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - بِقَوْلِهِ: يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ الدَّمِ مَا لَمْ يَخْتَلِطْ بِالدَّمْعِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ بَاطِنِ الْعَيْنِ مَا لَمْ يُخْشَ مِنْ غَسْلِهِ مُبِيحٌ تَيَمَّمَ كَحُدُوثِ رَمَدٍ أَوْ بُطْءِ بُرْئِهِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ لَحْمِ الْمُذَكَّاةِ يَخْرُجُ مِنْهُ عُرُوقٌ يَخْرُجُ مِنْهَا دَمٌ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ يُعْفَى عَنْهُ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ وَأَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ طَاهِرٌ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ حُكْمُ الطَّاهِرِ بِاعْتِبَارِ الْعَفْوِ عَنْهُ، وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ زَعَمَ حَقِيقَةَ الطَّهَارَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] لِأَنَّ هَذَا مَسْفُوحٌ وَإِنَّمَا مَنَعَ جَرَيَانَهُ قِلَّتُهُ؛ فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِالْمَسْفُوحِ وَإِنَّمَا هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا انْعَقَدَ أُخْرِجَا عَنْ السَّفْحِ فَصَارَا طَاهِرَيْنِ وَحَلَّ أَكْلُهُمَا بِنَصِّ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أُحِلَّ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ.»
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا لَفْظُهُ: فِي جِهَتِنَا تَصْلُحُ الْبُيُوتُ بِالطِّينِ وَكَذَلِكَ كُوَّارَاتُ النَّحْلِ يُعْجَنُ طِينُهَا بِالزِّبْلِ هَلْ يُعْفَى عَنْهُ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ؟
(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ لَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذْ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يُضْطَرُّ إلَيْهِ وَزَعَمَ أَنَّ الطِّينَ لَا يُعْجَنُ وَلَا يُلْتَئَمُ إلَّا بِالزِّبْلِ مَمْنُوعٌ، بَلْ دَقِيقُ تِبْنِ نَحْوِ الْفُولِ أَحْسَنُ فِي الْخَلْطِ وَالِالْتِئَامِ مِنْ الزِّبْلِ، وَكَذَا يُقَالُ فِي الْآجُرِّ الْمَعْجُونِ طِينُهُ بِالزِّبْلِ فَلَا يُعْفَى عَنْهُ كَذَلِكَ وَلَقَدْ شَاهَدْنَا كَثِيرًا مَنْ يَعْجِنُونَهُ بِالتِّبْنِ الْمَذْكُورِ فَيَأْتِي أَحْسَنَ مِمَّا عُجِنَ بِالزِّبْلِ، فَالْعَجْنُ بِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ فَضْلًا عَنْ زَعْمِ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ.
(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّا فِي فَتَاوَى الشَّيْخِ زَكَرِيَّا رحمه الله وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا صُورَتُهُ إذَا بَالَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَسْتَنْجِ أَوْ اسْتَنْجَى بِحَجَرٍ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّضَمُّخِ بِالنَّجَاسَةِ وَهُوَ حَرَامٌ اهـ. كَلَامُهُ.
فَهَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ لَكِنْ فِي الْخَادِمِ نَبَّهَ الصَّيْمَرِيُّ فِي شَرْحِ الْكِفَايَةِ عَلَى أَمْرٍ حَسَنٍ، وَهُوَ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ كُلِّ إنْسَانٍ أَنَّهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ يَسْبِقُ مِنْهُ خُرُوجُ الْمَذْيِ قَبْلَ الْمَنِيِّ لَا سِيَّمَا مَنْ يَحْصُلُ مِنْهُ مُلَاعَبَةٌ، وَإِذَا سَبَقَ الْمَنِيُّ تَنَجَّسَ رَأْسُ الذَّكَرِ وَكَذَا مَنِيُّهُ الْخَارِجُ عَقِبَهُ مُتَنَجِّسٌ؛ فَيَنْبَغِي لَهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى مَنِيِّ الْمَرْأَةِ فَيُنَجِّسُهُ اهـ.
وَظَاهِرُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَدَمُ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ خِلَافُ مَا فِي فَتَاوَى الشَّيْخِ الْمَذْكُورِ فَمَا الْمُعْتَمَدُ مِنْ ذَلِكَ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: أَمَّا مَا قَالَهُ فِيمَنْ لَمْ يَسْتَنْجِ فَظَاهِرٌ وَإِنَّمَا التَّرَدُّدُ فِيمَا قَالَهُ فِي الْمُسْتَنْجِي بِالْحَجَرِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَقَامَيْنِ: الْأَوَّلُ فِي أَنَّ الذَّكَرَ هَلْ يَتَنَجَّسُ بِمُلَاقَاةِ الْفَرْجِ حِينَئِذٍ أَوْ لَا؟ كُلٌّ مُحْتَمَلٌ، وَالْأَوْجَهُ الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ مَحَلُّ قَوْلِهِمْ إذَا عَرِقَ مَحَلُّ اسْتِجْمَارِهِ وَلَمْ يُجَاوِزْ صَفْحَتَهُ أَوْ حَشَفَتَهُ عُفِيَ عَنْهُ وَإِنْ تَلَوَّثَ بِهِ غَيْرُهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ نَحْوَ ثَوْبِهِ دُونَ ثَوْبِ غَيْرِهِ اهـ. وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ إذَا لَاقَى رُطُوبَةً أُخْرَى، وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ.
(وَلَمْ أَرَ تَعَرُّضًا لِلْمَرْأَةِ الْمُسْتَجْمِرَةِ بِالْحَجَرِ، وَظَاهِرٌ أَنَّهَا كَالرَّجُلِ فِيمَا ذَكَرُوا، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي فَرْجِهَا بِمُجَاوَزَةِ شُفْرَيْهَا قِيَاسًا عَلَى حَشَفَةِ الذَّكَرِ وَأَنَّ ذَكَرَ مُجَامِعِهَا لَا يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُهُ مِنْ رُطُوبَةِ فَرْجِهَا مَا دَامَتْ مُسْتَجْمِرَةً بِالْحَجَرِ، ثُمَّ رَأَيْت الزَّرْكَشِيّ أَخَذَ نَحْوَ هَذَا الْأَخِيرِ مِنْ تَعْلِيلِهِمْ الْعَفْوَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَعْنِي قَوْلَهُمْ: أَوْ تَلَوَّثَ بِهِ غَيْرُهُ لِعُسْرِ تَجَنُّبِهِ، أَيْ وَذَلِكَ لَا يَعْسُرُ تَجَنُّبُهُ، وَسَبَقَهُ إلَيْهِ ابْنُ الْعِمَادِ) انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا قُلْنَا بِتَنَجُّسِ الذَّكَرِ فَهَلْ نَقُولُ بِحُرْمَةِ الْوَطْءِ كَمَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّضَمُّخِ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ لَا يَحْرُمُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ؟ وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ اسْتَنْجَى
بِالْحَجَرِ لِعَدَمِ الْمَاءِ جَازَ لَهُ الْوَطْءُ لِلْحَاجَةِ أَوْ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ؛ إذْ لَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ الشَّيْخِ.
وَفِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ رضي الله عنهم أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَوَطَّنَ بَادِيَةً لَا مَاءَ بِهَا وَأَنْ يُجَامِعَ زَوْجَتَهُ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: وَصَحَّ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رضي الله عنه كَانَ يُقِيمُ بِالرَّبْذَةِ، أَيْ وَهِيَ بَادِيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ الْمَدِينَةِ وَيَفْقِدُ الْمَاءَ أَيَّامًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «التُّرَابُ كَافِيك وَإِنْ لَمْ تَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ» ، وَرَوَى أَحْمَدُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَغِيبُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، أَيُجَامِعُ أَهْلَهُ؟ قَالَ نَعَمْ» اهـ. حَاصِلُ مَا فِي الْمَجْمُوعِ، وَهُوَ كَمَا تَرَى صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الْوَطْءِ عِنْدَ الِاسْتِجْمَارِ بِالْحَجَرِ لِفَاقِدِ الْمَاءِ، وَيُوَافِقُ ذَلِكَ اتِّفَاقَ أَئِمَّتِنَا عَلَى جِوَازِ وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَةِ بِلَا كَرَاهَةٍ.
وَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَجْرِي، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا؛ لِلْخَبَرِ الْحَسَنِ أَنَّ حَمْنَةَ رضي الله عنها كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً، وَكَانَ زَوْجُهَا يَطَؤُهَا فَهَذَا تَضَمُّخٌ بِالنَّجَاسَةِ لَكِنَّهُ عُفِيَ عَنْهُ لِلْحَاجَةِ فَإِنْ قُلْت: مَا ذَكَرْته فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَحَمَلْت عَلَيْهِ إفْتَاءَ الشَّيْخِ فِيهِ نَظْرٌ، فَفِي الْجَوَاهِرِ يَجُوزُ وَطْءُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ فِي ثُقْبَةٍ انْفَتَحَتْ تَحْتَ مَعِدَتِهَا مَعَ انْفِتَاحِ الْأَصْلِيِّ أَوْ انْسِدَادِهِ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ مَعَ مُبَاشَرَتِهِ لِلنَّجَاسَةِ، وَعَدَمِ تَعَاطِيهِ مُخَفِّفًا لَهَا، فَلْيَجُزْ فِي مَسْأَلَتِنَا دُنُوٌّ مَعَ الْمَاءِ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ بِالْحَجَرِ رُخْصَةٌ تُصَيِّرُ الْمَحَلَّ كَالْمَحْكُومِ لَهُ بِالطَّهَارَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ قُلْت: هَذَا ظَاهِرٌ لَوْ كَانَ مَا فِي الْجَوَاهِرِ سَالِمًا عَنْ النِّزَاعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ نَازَعَ فِيهِ الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّ التَّضَمُّخَ بِالْغَائِطِ أَشَدُّ مِنْهُ بِالدَّمِ، أَيْ فِي وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَةِ؛ وَلِذَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِهِ دُونَ يَسِيرِ الْغَائِطِ، وَلِذَا حُرِّمَ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ اهـ. وَهُوَ نِزَاعٌ مُتَّجَهٌ مُوَافِقٌ لِعُمُومِ قَوْلِ الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ: لَا يَثْبُتُ لِلْمُنْفَتِحِ الْمَذْكُورِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْفَرْجِ، فَاسْتِثْنَاءُ الْقَمُولِيِّ ذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، نَعَمْ يُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى وَطْءٍ لَيْسَ فِيهِ تَضَمُّخٌ بِغَائِطٍ بَلْ بِدَمٍ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ نَظِيرُ وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَقَوْلُ السَّائِلِ - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - إنَّ كَلَامَ الْخَادِمِ الَّذِي ذَكَرَهُ ظَاهِرٌ فِي جَوَازِ الْوَطْءِ فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ لَيْسَ ظَاهِرُهُ ذَلِكَ وَلَا قَضِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَيَنْبَغِي لَهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ أَيْ عَنْ الْمَنِيِّ فَلْيَغْسِلْ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ نَحْكُمْ بِنَجَاسَتِهِ احْتِيَاطًا؛ رِعَايَةً لِلْغَالِبِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ سَبْقِ الْمَذْيِ النَّجِسِ لِلْمَنِيِّ الَّذِي يَعْقُبُهُ، فَلَيْسَ فِي هَذَا تَعَرُّضٌ لِوَطْءٍ وَلَا دَلَالَةٌ عَلَى حُكْمِهِ أَصْلًا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ الْأَفْيُونِ الَّذِي يُجْلَبُ مِنْ الْهِنْدِ وَالْيَمَنِ، هَلْ يَحْرُمُ أَكْلُهُ أَوْ لَا؛ لِعَدَمِ إسْكَارِهِ وَإِضْرَارِهِ؟ وَفِي السَّمْنِ الَّذِي يَجْلِبُهُ الْكُفَّارُ الْوَثَنِيُّونَ مِنْ الْجَبَلِ فِي الْجِلْدِ الَّذِي لَمْ يُدْبَغْ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ الْمَذْبُوحِ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُمْ يَقُولُونَ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ، هَلْ يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ لِلْمُسْلِمِ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: أَكْلُ الْأَفْيُونِ حَرَامٌ إلَّا لِمَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ وَخَشِيَ الْهَلَاكَ مِنْ فَقْدِهِ فَيُبَاحُ لَهُ لَكِنْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، لَا مُطْلَقًا كَلَحْمِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَكَثِيرُونَ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ الَّذِينَ اُبْتُلُوا بِهِ يَظُنُّونَ أَنَّ مُجَرَّدَ خَشْيَةِ هَلَاكِهِمْ بِفَقْدِهِ يَجُوزُ لَهُمْ تَنَاوُلُهُ كَيْفَ أَرَادُوا وَهَذَا تَخَيُّلٌ فَاسِدٌ زَيَّنَهُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ لِيَدُومَ ضَحِكُهُ عَلَيْهِمْ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ.
وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يَصِيرُ كَلَحْمِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا حَالَةَ الِاضْطِرَارِ وَلَا يَتَنَاوَلُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا الْقَدْرَ الْيَسِيرَ جِدًّا الَّذِي يَنْدَفِعُ بِهِ خَشْيَةَ الْمَوْتِ، وَمَنْ أَدَمْنَ ذَلِكَ انْقَطَعَ عَنْهُ سَرِيعًا فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَنْقَطِعُ بِالتَّدْرِيجِ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْمُبْتَلَى بِهِ أَنْ يَتَدَرَّجَ فِي قَطْعِهِ حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ عَظِيمِ إثْمِهِ، وَقَوْلُ السَّائِلِ: لِعَدَمِ إسْكَارِهِ وَإِضْرَارِهِ عَجِيبٌ مِنْهُ فَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِحُرْمَتِهِ وَعَدُّوهُ مِنْ السَّمُومِ الْمُخَدِّرَةِ الْمُسْكِرَةِ.
وَهَذَا مُشَاهَدٌ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى ذَوْقٍ أَوْ إحْسَاسٍ اللَّهُمَّ إلَّا عَلَى مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ، وَارْتَبَكَ فِيهِ فَهَذَا لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا دِينَ لِأَنَّهُ يُخْرِجُهُ عَنْ حَيِّزِ الْآدَمِيِّينَ إلَى حَيِّزِ الْمَمْسُوخِينَ مِنْ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَكَمْ شَاهَدْنَا مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ فَمُسِخَ بَدَنُهُ حَتَّى صَارَ لَا يُدْرَكُ مِنْهُ إلَّا خَيَالُهُ، وَمُسِخَ عَقْلُهُ حَتَّى صَارَ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ إلَّا هَدَرُهُ وَخَبَالُهُ، وَالسَّمْنُ الْمَذْكُورُ طَاهِرٌ كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ مِنْ قَاعِدَةِ أَنَّ مَا غَلَبَتْ النَّجَاسَةُ فِي نَوْعِهِ وَلَمْ تُعْلَمْ فِيهِ بِعَيْنِهِ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَمَا كَمَسْأَلَةِ بَوْلِ الظَّبْيَةِ إنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى انْضَمَّ لِلْمُشَاهَدَةِ لَا يَتَأَتَّى هُنَا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا لَوْ وَلَغَتْ هِرَّةٌ فِي مُتَنَجِّسٍ بِنَجَاسَةٍ كَلْبِيَّةٍ ثُمَّ غَابَتْ بِحَيْثُ يُحْتَمَلُ وُلُوغُهَا فِي مَاءٍ كَثِيرٍ، ثُمَّ وَلَغَتْ فِي إنَاءٍ