المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب صفة الصلاة] - الفتاوى الفقهية الكبرى - جـ ١

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَةُ الفاكهي جامع الفتاوى]

- ‌[كِتَابُ الطَّهَارَةِ]

- ‌[بَابُ النَّجَاسَةِ]

- ‌[بَابُ الِاجْتِهَادِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِنْجَاءِ]

- ‌[بَابُ الْوُضُوءِ]

- ‌[بَابُ الْغُسْلِ]

- ‌[بَابُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ]

- ‌[بَابُ التَّيَمُّمِ]

- ‌[بَابُ الْحَيْضِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي النِّفَاسِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌[كِتَابُ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ الْمَوَاقِيتِ]

- ‌[بَابُ الْأَذَانِ]

- ‌[بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ]

- ‌[بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ]

- ‌[بَابُ أَحْكَامِ الْمَسَاجِدِ]

- ‌[بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ]

- ‌[بَابٌ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ]

- ‌[بَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ]

- ‌[كِتَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ]

- ‌[بَابُ شُرُوطِ الْإِمَامَة وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِر]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ]

- ‌[بَابُ اللِّبَاسِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفَيْنِ]

- ‌[بَابُ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ]

الفصل: ‌[باب صفة الصلاة]

بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّ صَلَاتَهُ كَالْمُهَاجِرِينَ فِي الْمَدِينَةِ كَفَضْلِهَا بِمَكَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْهَا كُرْهًا؛ فَاسْتَمَرَّ لَهُمْ ثَوَابُ حَسَنَاتِهَا أَخْذًا مِنْ خَبَرِ: «إذَا سَافَرَ الْعَبْدُ، أَوْ مَرِضَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ صَحِيحًا مُقِيمًا» .

وَزَوَالُ الْإِكْرَاهِ بِفَتْحِ مَكَّةَ لَا يَقْتَضِي طَلَبَ الرُّجُوعِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا تُرِكَتْ لِلَّهِ وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَرْجِعُ فِيهِ.

وَوُجُوبُ الرِّضَا بِالْمَأْمُورِ وَمَحَبَّتُهُ الْمَذْكُورَيْنِ فِي السُّؤَالِ لَا يَمْنَعَانِ طَلَبَ الْأَفْضَلِ مِنْ حَيْثِيَّةِ مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْقُرْبِ، وَامْتِنَاعُ طَلَبِ تَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ مَحِلُّهُ فِي زَمَنٍ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ؛ كَمَا بَعْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِهِ قَبْلَهُ؛ لِجَوَازِ النَّسْخِ، فَلَمْ تَمْتَنِعْ إرَادَةُ التَّغْيِيرِ لِتِلْكَ الْمَصَالِحِ السَّابِقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

[بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ]

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه وَحَشَرَنِي فِي زُمْرَتِهِ - عَنْ تَقْبِيلِ الْيَدَيْنِ بَعْدَ كُلِّ دُعَاءٍ خَارِجَ الصَّلَاةِ هَلْ لَهُ أَصْلٌ كَمَسْحِ الْوَجْهِ بِهِمَا أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ فَهَلْ هُوَ صَحِيحٌ، أَوْ خَبَرُهُ ضَعِيفٌ

(فَأَجَابَ) - فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ -: بِأَنِّي لَمْ أَرَ لَهُ أَصْلًا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا بَعْدَ مَزِيدِ الْبَحْثِ وَالتَّفْتِيشِ؛ فَلَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ.

(وَسُئِلَ) - أَمَدَّنَا اللَّهُ مِنْ مَدَدِهِ -: عَنْ وُجُوبِ مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ بِالتَّكْبِيرِ، هَلْ الْكَافِي مُقَارَنَةُ الْمَجْمُوعِ مِنْ النِّيَّةِ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ التَّكْبِيرِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ مُقَارَنَةِ الْمَجْمُوعِ مِنْهَا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ فَإِذَا قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ قُلْتُمْ بِالثَّانِي فَهَلْ الْمُرَادُ بِالْإِجْزَاءِ الْإِجْزَاءُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، أَوْ الْإِجْزَاءُ الْأَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ بِوَاسِطَةٍ أَمْ لَا فَإِذَا قُلْتُمْ بِالثَّانِي فَهَلْ تُعْتَبَرُ حُرُوفُ: اللَّهُ أَكْبَرُ تِسْعَةً أَمْ ثَمَانِيَةً، بِعَدِّ الْمُدْغَمِ وَاحِدًا؛ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ اسْتِحْضَارُ النِّيَّةِ فِي هَذِهِ الْحُرُوفِ التِّسْعَةِ، أَوْ الثَّمَانِيَةِ، فَتَكُونُ النِّيَّةُ مُسْتَحْضَرَةً ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ، أَوْ تِسْعَ مَرَّاتٍ.

وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنُ الْقَصْدِ وَاحِدًا ثَابِتًا؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ اسْتِحْضَارِهِ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ مُتَعَدِّدٌ، فَهَلْ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ السَّائِلُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لِلتَّكْبِيرِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ مَا يُعْتَبَرُ فِي النِّيَّةِ مِنْ قَصْدِ الْفِعْلِ وَالتَّعْيِينِ وَنِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ، وَيَجْعَلَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ حَاضِرَةً فِي قَلْبِهِ ثَمَّ يَنْطِقُ بِ (اللَّهُ أَكْبَرُ) بِحَيْثُ تَقَعُ جَمِيعُهَا وَتِلْكَ الثَّلَاثَةُ حَاضِرَةٌ فِي قَلْبِهِ لَمْ يَعْزُبْ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ.

وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَكْفِي مُقَارَنَةُ الْمَجْمُوعِ مِنْ النِّيَّةِ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ التَّكْبِيرِ وَلَا بِجَمِيعِهِ، وَلَا نَظَرَ لِكَوْنِ حُرُوفِ التَّكْبِيرِ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً وَأَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ مُسْتَحْضَرَةً ثَمَانِ مَرَّاتٍ وَلَا تِسْعَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْقَصْدَ وَمَا مَعَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ مَوْجُودًا مُسْتَحْضَرًا مِنْ حِينِ النُّطْقِ بِالْهَمْزَةِ إلَى النُّطْقِ بِالرَّاءِ، وَمَتَى عَزَبَ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ ثَمَّ عَادَ - وَلَوْ عَلَى الْفَوْرِ - وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ عَادَ قَبْلَ مُضِيِّ حَرْفٍ مِنْ التَّكْبِيرِ - كَمَا شَمِلَهُ كَلَامُهُمْ - لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ.

وَهَذَا عَسِرٌ جِدًّا إلَّا عَلَى مَنْ صَفَا قَلْبُهُ وَنَارَ سِرُّهُ؛ فَإِنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَوْجَبَهُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ سَهْلٌ، وَأَنَّ الْقُلُوبَ بِهَا مِنْ الصَّفَا مَا بِقَلْبِهِ، لَكِنْ لَمَّا اخْتَبَرَ مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِهِ الْقُلُوبَ وَعَالَجُوهَا، رَأَوْا ذَلِكَ يَكْبُرُ عَلَيْهَا وَيَشُقُّ فَاخْتَارُوا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ الِاكْتِفَاءَ بِالْمُقَارَنَةِ الْعُرْفِيَّةِ بِحَيْثُ يُعَدُّ عُرْفًا أَنَّهُ مُسْتَحْضِرٌ لِلصَّلَاةِ؛ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمُقَارَنَتِهَا لِأَوَّلِ التَّكْبِيرِ.

وَقَدْ بَالَغَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الِانْتِصَارِ لِهَذَا وَالْقَدْحِ فِي الْأَوَّلِ حَتَّى زَعَمَ أَنَّهُ مُحَالٌ، وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ عَلَى الْعُمُومِ إذْ لَا يَسْتَحِيلُ إلَّا فِي حَقِّ قُلُوبٍ لَمْ تَتَحَلَّ بِحِلْيَةِ الصَّفَاءِ وَلَمْ تَخْلُ مِنْ الْأَغْيَارِ وَالْوَسَاوِسِ النَّفْسَانِيَّةِ، وَهَذَا مَقَامٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عِظَمِ مَقَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه كَمَا أَشَرْت إلَيْهِ أَوَّلًا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ الْمُصَلِّي إذَا عَزَبَتْ النِّيَّةُ قَبْلَ قَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَهَلْ يَرْجِعُ لِابْتِدَائِهِ مَرَّةً أَوْ تُجْزِئُهُ إذَا تَذَكَّرَهَا فِي آخِرِ الْإِحْرَامِ؟ وَإِذَا أَرَادَ هَذَا الْمُصَلِّي أَنْ يَقْنُتَ عِنْدَ حُدُوثِ بَعْضِ النَّوَازِلِ مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرُوا وَأَتَى بِالدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ، ثُمَّ ثَنَّى عَلَى أَثَرِهِ بِقِرَاءَةِ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ نُوحٍ، صلى الله عليه وسلم هَلْ ذَكَرَ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيمَا سَأَلْت نَقْلٌ يُنَصُّ بِهِ عَلَى قِرَاءَتِهِ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ: قَوْله تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] فَإِذَا لَمْ يَقْرَأْهَا فِي الصَّلَاةِ لِعَدَمِ النَّقْلِ فِيهَا فَهَلْ إذَا دَعَا بِقَوْلِهِ:

ص: 138

اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُكَ إنَّك كُنْت غَفَّارًا فَأَرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا، هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ وَجَمِيعِ مَا يُعْتَبَرُ فِيهَا بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ قَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَمَتَى عَزَبَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النِّيَّةِ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْ حُرُوفِ اللَّهُ أَكْبَرُ لَمْ تَنْعَقِدْ الصَّلَاةُ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَاخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الِاكْتِفَاءَ بِالْمُقَارَنَةِ الْعُرْفِيَّةِ بِحَيْثُ يُعَدُّ أَنَّهُ مُسْتَحْضِرٌ لِلصَّلَاةِ؛ فَعَلَيْهِ لَا يَضُرُّ عُزُوبُهَا عِنْدَ بَعْضِ حُرُوفِ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَيُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ الْقُنُوتِ، أَوْ بَعْدَهُ، وَلَا بَأْسَ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُك. .. إلَخْ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) - فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - فِي أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَقُولُ: أُصَلِّي فَرْضَ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَهَلْ فِي هَذَا خِلَافٌ وَمَا الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ فَرْضِ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَفَرْضِ الظُّهْرِ، فَقَالَ: إنَّ الْأُولَى صَحِيحَةٌ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ اسْمٌ لِلْوَقْتِ لَا لِلْعِبَادَةِ وَهُوَ فَرْقٌ ضَعِيفٌ، وَالْمُعْتَمَدُ الصِّحَّةُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَمَا عُلِّلَ بِهِ مَمْنُوعٌ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - عَمَّا لَوْ نَسِيَ قِرَاءَةَ السَّجْدَةِ فِي الْأُولَى مِنْ صُبْحِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، الْجُمُعَةِ أَوْ سُبِقَ بِالْأُولَى، هَلْ يُسَنُّ لَهُ قِرَاءَتُهَا فِي الثَّانِيَةِ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) - أَمَدَّنِي اللَّهُ مِنْ مَدَدِهِ -: بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعْلُومَةٌ مِمَّا قَالُوهُ فِي نَظِيرِهَا؛ وَهُوَ قِرَاءَةُ الْجُمُعَةِ، أَوْ سَبِّحْ فِي أُولَى الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقُونَ، أَوْ الْغَاشِيَةُ فِي ثَانِيَتِهَا، مِنْ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ قِرَاءَةَ الْجُمُعَةُ فِي الْأُولَى فَإِنْ قَرَأَ بَدَلَهَا الْمُنَافِقُونَ قَرَأَ الْجُمُعَةُ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِذَا قَرَأَ غَيْرَهَا قَرَأَهُمَا فِي الثَّانِيَةِ سَوَاءٌ نَسِيَ ذَلِكَ أَمْ تَعَمَّدَهُ؛ لِئَلَّا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ مِنْهُمَا، فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ مِنْ جَمْعِهِمَا فِي الثَّانِيَةِ تَطْوِيلُهَا عَنْ الْأُولَى - وَهُوَ مَكْرُوهٌ.

قُلْنَا: مَحَلُّ كَرَاهَتِهِ إذَا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ وَهُنَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ؛ إذْ الْمُنَافِقُونَ أَطَوَلُ مِنْ الْجُمُعَةِ، وَأَيْضًا فَفَضِيلَةُ تَطْوِيلِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ لَا تُقَاوِمُ فَضِيلَةَ السُّورَتَيْنِ، كَمَا قَالُوهُ وَأَفْهَمُ كَلَامُهُمْ أَنَّهُ يَقْرَؤُهُمَا فِي الثَّانِيَةِ؛ وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَرَأَهُ فِي الْأُولَى بَعْدَهُمَا، وَهُوَ مُتَّجِهٌ خِلَافًا لِمَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا إذَا قَرَأَ مَا قَبْلَهُمَا؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَتْ مَصْلَحَةُ تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ وَأَنْ لَا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنْ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فَقَدَّمَ الثَّانِي لِمَصْلَحَتِهِ الْخَاصَّةِ.

هَذَا مَا ذَكَرُوهُ فِيمَا يُقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِيمَا يُقْرَأُ فِي صُبْحِهَا؛ فَيُقَالُ: إذَا تَرَكَ قِرَاءَةَ {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] السَّجْدَةَ فِي الْأُولَى وَقَرَأَ غَيْرَهَا مِمَّا فَوْقَهَا، أَوْ تَحْتَهَا قَرَأَهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنْ تَعَمَّدَ لِئَلَّا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنْهَا، وَيَأْتِي مَا مَرَّ مِنْ الْإِشْكَالِ وَالْجَوَابِ، وَكَتَرْكِهَا مِنْ الْأُولَى مَا لَوْ سَبَقَ بِهَا فَاَلَّذِي يَتَّجِهُ أَخْذًا مِمَّا مَرَّ؛ أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ قِرَاءَتُهَا فِي الثَّانِيَةِ لِئَلَّا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنْهَا.

وَوَاضِحٌ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَأْمُومٍ يُنْدَبُ لَهُ قِرَاءَةُ السُّورَةِ بِأَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ الْإِمَامِ لَا يَسْمَعُهُ، أَوْ يَسْمَعُ صَوْتًا لَا يَفْهَمُهُ، أَمَّا الْمَأْمُومُ الَّذِي يَسْمَعُ إمَامَهُ فَإِنَّهُ لَا يُخَاطَبُ بِالسُّورَةِ. نَعَمْ، إذَا سَبَقَ هَذَا فَثَانِيَةُ الْإِمَامِ الَّتِي يَقْرَأُ فِيهَا هَلْ أَتَى، أُولَاهُ؛ فَإِذَا قَامَ بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ لِيَأْتِيَ بِثَانِيَتِهِ فَهَلْ يَقْرَأُ فِيهَا هَلْ أَتَى وَحْدَهَا؛ لِأَنَّ أُولَاهُ قَرَأَ فِيهَا الْإِمَامُ، وَقِرَاءَتُهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الَّذِي يَسْمَعُهُ، أَوْ الْجُمُعَةَ وَهَلْ أَتَى؛ لِأَنَّ أُولَاهُ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا هُوَ وَلَا مَنْ يَقُومُ قِرَاءَتُهُ مَقَامَ قِرَاءَتِهِ الْجُمُعَةُ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَرَأَ هَلْ أَتَى فِي أُولَاهُ، وَمَنْ قَرَأَهَا فِي أُولَاهُ يُسَنُّ لَهُ قِرَاءَتُهُمَا فِي الثَّانِيَةِ، كُلٌّ مُحْتَمَلٌ، وَالثَّانِي هُوَ الْأَقْرَبُ فَيُسَنُّ لَهُ قِرَاءَتُهُمَا فِي الثَّانِيَةِ؛ لِئَلَّا تَخْلُو صَلَاتُهُ عَنْهُمَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ وَمَتَّعَ بِوُجُودِهِ الْمُسْلِمِينَ - هَلْ يَضَعُ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ حِينَ يَأْتِي بِذِكْرِ الِاعْتِدَالِ كَمَا يَضَعُهُمَا بَعْدَ التَّحَرُّمِ أَوْ يُرْسِلُهُمَا

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ: الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ - أَنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ فِي الِاعْتِدَالِ كَمَا يَضَعُهُمَا بَعْدَ التَّحَرُّمِ وَعَلَيْهِ جَرَيْت فِي شَرْحِي عَلَى الْإِرْشَادِ وَغَيْرِهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يَجِبُ وَضْعُ أَعْضَاءِ السُّجُودِ دَفْعَةً وَاحِدَةً؟

(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - ذَكَرَ جَمْعٌ وُجُوبَ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، وَإِنْ قِيلَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ خِلَافُهُ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّا لَوْ حَرَّكَ الشَّخْصُ يَدَيْهِ مَعًا فِي الصَّلَاةِ، هَلْ تُحْسَبُ حَرَكَتُهُمَا إذَا وَقَعَتَا مَعًا فِيهَا حَرَكَةً أَمْ حَرَكَتَيْنِ وَكَذَا الرِّجْلَانِ

ص: 139

حُكْمُهُمَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الَّذِي اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ أَنَّ حَرَكَةَ الْيَدَيْنِ تُحْسَبُ حَرَكَتَيْنِ سَوَاءٌ وَقَعَتَا مَعًا أَمْ مُرَتَّبًا، حَتَّى لَوْ حَرَّكَهُمَا مَعَ رَأْسِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَفْعَالٍ مُتَوَالِيَةٍ وَعَلَى ذَلِكَ جَرَيْت فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَعِبَارَتُهُ: كَثَلَاثِ خُطُوَاتٍ - بِضَمِّ الْخَاءِ - وَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ خُطْوَةٍ مُغْتَفَرَةٍ وَثَلَاثِ مَضَغَاتٍ وَتَحْرِيكِ يَدَيْهِ وَرَأْسِهِ، وَلَوْ مَعًا؛ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: لَا فَرْقَ عِنْدَ كَثْرَةِ الْأَفْعَالِ بَيْنَ كَوْنِهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَكْثَرَ انْتَهَتْ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ شَخْصٍ عَلَيْهِ فَوَائِتُ كَثِيرَةٌ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَهَا مَعَ مُؤَدَّيَاتِهِ؛ لِعُسْرِ تَوَالِيهَا عَلَيْهِ، فَهَلْ يُسَنُّ لَهُ تَقْدِيمُ كُلٍّ مِنْهَا عَلَى الْمُؤَدَّاةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَهَا مَعَهَا، وَلَا يَفُوتُهُ بِذَلِكَ فَضِيلَةُ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَإِذَا أَخَّرَهَا عَنْ الصُّبْحِ، أَوْ الْعَصْرِ تَكُونُ مَكْرُوهَةً لِقَوْلِ الرَّافِعِيِّ كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ تَأْخِيرَ فَائِتَةٍ؛ لِيَقْضِيَهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِهِمْ نَدْبُ تَقْدِيمِ الْفَائِتَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْحَاضِرَةِ عَلَيْهَا؛ إذْ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنْهَا عَلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ مَنْ وَجَدَ إمَامًا يُصَلِّي الْحَاضِرَةَ وَعَلَيْهِ فَائِتَةٌ صَلَّى الْفَائِتَةَ مُنْفَرِدًا، ثُمَّ إنْ كَانَ أَدْرَكَ الْحَاضِرَةَ مَعَهُمْ فَذَاكَ، وَإِلَّا صَلَّاهَا مُنْفَرِدًا أَيْضًا اهـ.

فَإِذَا قُدِّمَتْ الْفَائِتَةُ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَتَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ أَوْلَى. وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَفُوتُهُ فَضِيلَةُ أَوَّلِهِ لَكِنْ لَوْ قِيلَ مَحَلُّهُ فِيمَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهَا قَبْلَ الْوَقْتِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَإِذَا قَضَاهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، أَوْ الصُّبْحِ لَمْ تُكْرَهْ. وَمُرَادُ الرَّافِعِيِّ بِمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مَا إذَا أَخَّرَ الْفَائِتَةَ لِأَجْلِ إيقَاعِهَا فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ وَقْتَ كَرَاهَةٍ، وَهُنَا لَمْ يَقْصِدْ مُؤَخِّرُهَا إلَّا التَّخْفِيفَ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُرَاغَمَةٌ لِلشَّرْعِ.

(وَسُئِلَ) عَمَّنْ قَرَأَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ} [الفلق: 1]، عَلَى نِيَّةِ أَنْ يُكْمِلَ سُورَةَ الْفَلَقِ فَطَرَأَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] فَبَنَى عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِمَّا ذَكَرَ فَهَلْ تَحْصُلُ لَهُ قِرَاءَةُ سُورَةٍ كَامِلَةٍ؟

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، تَحْصُلُ لَهُ لِاتِّفَاقِ السُّورَتَيْنِ فِي هَذَا اللَّفْظِ الَّذِي أَتَى بِهِ، وَقَصْدُهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْ قُرْآنٍ إلَى غَيْرِهِ حَتَّى يَكُونَ صَارِفًا بَلْ مِنْ قُرْآنٍ إلَى قُرْآنٍ آخَرَ وَهُوَ لَا يَضُرُّ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا صُورَتُهُ: وَرَدَ قِرَاءَةُ النَّظَائِرِ فِي تَهَجُّدِهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ عِشْرُونَ سُورَةً عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ مُصْحَفِ الْإِمَامِ، فَهَلْ الْأَوْلَى لِمَنْ أَرَادَ قِرَاءَتَهَا فِي تَهَجُّدِهِ اتِّبَاعُ مَا وَرَدَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ التَّوَالِي عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْوَارِدُ عَدُّهَا بِالْوَاوِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ حَجَرٍ وَقَعَ سَرْدُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الرَّحْمَنُ وَالنَّجْمُ فِي رَكْعَةٍ، وَاقْتَرَبَتْ وَالْحَاقَّةُ فِي رَكْعَةٍ، وَالطُّورُ وَالذَّارِيَاتُ فِي رَكْعَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالدُّخَانُ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ فِي رَكْعَةٍ، وَذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ آخِرَهُنَّ مِنْ الْحَوَامِيمِ حم الدُّخَانُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَقَالَ أَيْضًا عَنْ الْأَعْمَشِ هُنَّ عِشْرُونَ سُورَةً؛ أُولَاهُنَّ: الرَّحْمَنُ؛ وَآخِرُهُنَّ: الدُّخَانُ. وَقَالَ أَيْضًا: وَالذَّارِيَاتُ وَالطُّورُ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَالدُّخَانُ اهـ.

وَلَا يُنَافِيه قِرَاءَةُ السُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الطُّورُ وَالذَّارِيَاتُ مَثَلًا فِي رَكْعَةٍ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِتَقْدِيمِ الذَّارِيَاتِ وَتَأْخِيرِهَا.

وَالْحَدِيثُ لَا يُنَافِيه لَكِنْ إذَا قُدِّمَتْ الذَّارِيَاتُ حَصَلَ سُنَّتَا التَّرْتِيبِ وَالتَّوَالِي الْمَعْهُودُ فِي الْمُصْحَفِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قُدِّمَتْ الطُّورُ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا التَّوَالِي وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُ الرَّحْمَنِ عَلَى النَّجْمِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَتَأْخِيرُ الدُّخَانِ فِي الْأَخِيرَةِ لِقَوْلِهِ: أُولَاهُنَّ: الرَّحْمَنُ، وَآخِرُهُنَّ: الدُّخَانُ.

وَأَمَّا التَّوَالِي فَلَا يُمْكِنُ إلَّا فِي بَعْضِ السُّوَرِ؛ لَا فِي الرَّحْمَنِ وَالنَّجْمِ؛ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا فَاصِلًا لَكِنَّ عَدَمَ التَّوَالِي مَعْهُودٌ لِقِرَاءَةِ السَّجْدَةِ وَهَلْ أَتَى فِي صُبْحِ الْجُمُعَةِ وَالْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصُ فِي أَمَاكِنِهِمَا الْمَعْرُوفَةِ، فَتُسَنُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعِشْرِينَ سُورَةً فِي التَّهَجُّدِ؛ لِلِاتِّبَاعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَوَالٍ قِيَاسًا عَلَى مَا ذُكِرَ.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَمَّنْ رَدَّدَ كَلِمَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِأَجْلِ مَخْرَجِ حَرْفٍ، هَلْ يَسْتَأْنِفُ الْقِرَاءَةَ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: حَيْثُ رَدَّدَ الْكَلِمَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا ثَلَاثًا، أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَبْطُلْ قِرَاءَتُهُ وَلَا مُوَالَاتُهُ؛ سَوَاءٌ كَانَ لِعُذْرٍ أَمْ لِغَيْرِهِ.

(وَسُئِلَ) - فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَمَّنْ أَفْسَدَ صَلَاتَهُ فِي الْوَقْتِ هَلْ يُصَلِّيهَا فِيهِ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: مَنْ

ص: 140

أَفْسَدَ صَلَاتَهُ فِي الْوَقْتِ - وَلَوْ تَعَدِّيًا - أَعَادَهَا فِيهِ أَدَاءً لَا قَضَاءً؛ خِلَافًا لِلْقَاضِي حُسَيْنٍ وَمَنْ تَبِعَهُ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ وَالْفُقَهَاءُ فِعْلُ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا الْمُقَدَّرِ لَهَا شَرْعًا، وَالْقَضَاءُ بِخِلَافِهِ، وَهَذِهِ مَفْعُولَةٌ فِي وَقْتِهَا الْمُقَدَّرِ لَهَا شَرْعًا، فَلَا وَجْهَ لِتَسْمِيَتِهَا قَضَاءً إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْقَاضِي بِذَلِكَ أَنَّهَا كَالْقَضَاءِ فِي الْعِصْيَانِ؛ بِجَامِعِ الْإِثْمِ بِالْقَضَاءِ مِنْ حَيْثُ التَّأْخِيرُ. وَالْإِثْمُ بِهَذِهِ أَوْلَى مِنْ حَيْثُ الْقَطْعِ فَحِينَئِذٍ يَتَّجِهُ كَلَامُهُ نَوْعَ اتِّجَاهٍ، وَيَلْزَمُهُ إنْ كَانَ أَرَادَ بِالْقَضَاءِ حَقِيقَتَهُ - أَنَّهُمْ لَوْ شَرَعُوا فِي الْجُمُعَةِ، ثُمَّ أَفْسَدُوهَا فِي الْوَقْتِ، وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ لَا يُعِيدُونَهَا جُمُعَةً بَلْ ظُهْرًا؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُقْضَى وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَا أَظُنُّ الْقَاضِي يَلْتَزِمُهُ.

(وَسُئِلَ) - فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَمَّنْ مَضَى عَلَيْهِ عِشْرُونَ سَنَةً مَثَلًا وَهُوَ يُصَلِّي الظُّهْرَ قَبْلَ وَقْتِهَا؛ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ عِشْرِينَ سَنَةً سَنَةً أَوْ قَضَاءُ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الَّذِي أَفْتَى بِهِ الْبَارِزِيُّ الثَّانِي؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْقَضَاءِ؛؛ لِأَنَّ صَلَاةَ كُلِّ يَوْمٍ تَكُونُ قَضَاءً لِلْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، لَكِنْ مَشَى ابْنُ الْمُقْرِي عَلَى خِلَافِهِ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ نَوَى كُلَّ يَوْمٍ فِعْلَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِاَلَّتِي ظَنَّ الْآنَ دُخُولَ وَقْتِهَا تَعَيَّنَ مَا قَالَهُ الْبَارِزِيُّ؛ إذْ لَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لِلْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَيَصِحُّ أَحَدُهُمَا بِنِيَّةِ الْآخَرِ عِنْدَ الْجَهْلِ كَغَيْمٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْ ثَمَّ اشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُ بِمَقْضِيَّةٍ وَمُؤَدَّاةٍ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ كَالظُّهْرِ فَنَوَى الظُّهْرَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ صَحَّ خِلَافًا لِمَا اعْتَمَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَحَصَلَتْ لَهُ إحْدَاهُمَا، ثَمَّ تَحْصُلُ لَهُ الْأُخْرَى بِنِيَّةٍ كَذَلِكَ، كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ؛ تَفْرِيعًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَإِنْ نَوَى كُلَّ يَوْمٍ الْفَرْضَ الَّذِي ظَنَّ الْآنَ دُخُولَ وَقْتِهِ، عَبَّرَ عَنْهُ بِالْأَدَاءِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ يَنْوِي كُلَّ يَوْمٍ صَلَاةً لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا وَلَا أَثَرَ لِظَنِّهِ دُخُولَهُ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي.

وَإِنَّمَا لَمْ تَقَعْ صَلَاتُهُ هَذِهِ عَنْ مِثْلِهَا الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَهَا عَنْ ذَلِكَ بِقَصْدِهِ بِهَا الَّتِي ظَنَّ دُخُولَ وَقْتِهَا، فَحَيْثُ بَطَلَتْ لِتَبَيُّنِ خَطَإِ ظَنِّهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَقَعَ عَمَّا عَلَيْهِ.

وَفِي التَّتِمَّةِ: تَعْيِينُ الْيَوْمِ الَّذِي فَاتَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَلَوْ عَيَّنَ وَأَخْطَأَ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْفِعْلِ أَيْ: الْقَضَاءَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ لَهُ بِالشَّرْعِ وَإِنَّمَا يَقْضِي عَنْ ذِمَّتِهِ وَاَلَّتِي عَلَيْهِ مَا نَوَاهَا، وَاَلَّتِي نَوَاهَا فَلَيْسَتْ عَلَيْهِ، وَأَوْرَدَهُ فِي الْخَادِمِ - كَابْنِ الرِّفْعَةِ - عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ.

وَصِحَّةُ كُلٍّ بِنِيَّةِ الْآخَرِ إلْزَامًا عَلَى ابْنِ الصَّبَّاغِ وَأَجَابَ عَنْهُ نَقْلًا عَنْ صَاحِبِ الْوَافِي بِمَا يُحَقِّقُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَتَأَمَّلْهُ وَلَا تَغْتَرَّ بِقَوْلِ صَاحِبِ الذَّخَائِرِ: يُمْكِنُ الْتِزَامُ ذَلِكَ.

(وَسُئِلَ) - فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَنْ قَوْلِهِمْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ مَعَ النَّظَرِ لِمَا يُلْهِي كَثَوْبٍ لَهُ أَعْلَامٌ هَلْ الْمُرَادُ مَا يُلْهِي بِالْفِعْلِ، أَوْ مَا مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ فَيَلْتَهِي بِهِ، فَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ لِعَمًى، أَوْ تَغْمِيضِ عَيْنَيْهِ أَوْ نَحْوِ اسْتِغْرَاقِهِ فِي مَعَانِي مَتْلُوِّهِ فَلَا كَرَاهَةَ، عَلَى مَا فِي الْأَخِيرَةِ مِنْ وَقْفَةٍ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «قَالَ - لَمَّا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلَامٌ -: أَلْهَتْنِي أَعْلَامُهُ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ وُقُوعَ اللَّهْوِ بِهَا قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مُنَزَّهٌ عَنْ الْمَكْرُوهِ بَلْ مَعْصُومٌ مِنْ وُقُوعِهِ مِنْهُ مَكْرُوهًا؛ فَالْمُرَادُ قَارَبَتْ أَنْ تُلْهِيَنِي، أَوْ أَلْهَانِي التَّحَفُّظُ عَنْ اللَّهْوِ بِهَا عَمَّا كُنْت بِصَدَدِهِ مِمَّا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ لَهُ صلى الله عليه وسلم فَغَيْرُهُ أَوْلَى، فَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ يَنْظُرُ ذَلِكَ كُرِهَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ النَّظَرِ إلَيْهِ اللَّهْوَ بِهِ، فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى أَحْوَالِ الْمُصَلِّينَ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - هَلْ يُقْنَتُ لِلْوَبَاءِ وَالطَّاعُونِ وَالطَّاعُونِ أَوْ لَا؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الطَّاعُونُ أَخَصُّ مِنْ الْوَبَاءِ، وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ يُقْنَتُ لِرَفْعِ الْوَبَاءِ الْخَالِي عَنْ الطَّاعُونِ وَلَا يُقْنَتُ لِرَفْعِ الطَّاعُونِ، عَلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ بِهِ بَلْ وَفِي زَمَنِهِ - وَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِهِ - بَلْ وَفِي غَيْرِ زَمَنِهِ إذَا مَكَثَ فِي بَلَدِهِ أَيَّامَهُ؛ صَابِرًا مُحْتَسِبًا رَاضِيًا بِمَا يَنْزِلُ بِهِ - يَكُونُ شَهِيدًا. وَالشَّهَادَةُ لَا يُسْأَلُ رَفْعُهَا بِخِلَافِ الْمَيِّتِ بِمُطْلَقِ الْوَبَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَهِيدًا؛ فَلِذَا شُرِعَ الْقُنُوتُ لِرَفْعِهِ. وَقَالَ جَمْعٌ: وَيَدُلُّ لَهُ كَلَامُ شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ: يُقْنَتُ لِرَفْعِهِ وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يُفْنِي الْعُلَمَاءَ وَالصُّلَحَاءَ حَتَّى يَخْتَلَّ نِظَامُ الدِّينِ، فَفِي رَفْعِهِ مَصْلَحَةٌ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ سُؤَالُ

ص: 141

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنْ لَا يَدْخُلَ الطَّاعُونُ مَدِينَتَهُ الشَّرِيفَةَ» قَالُوا: وَمِنْ حِكَمِهِ؛ أَنَّهَا صَغِيرَةٌ فَلَوْ دَخَلَهَا لَرُبَّمَا أَفْنَى أَهْلَهَا؛ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ لِلْمُسْلِمِ إلَّا مِنْ كَفَرَةِ الْجِنِّ، وَرِوَايَةُ (فَإِنَّهُ طَعْنُ إخْوَانِكُمْ) لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا أُخُوَّةَ الدِّينِ، عَلَى أَنَّ فِيهَا مَقَالًا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا «قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم مَا فَشَا الزِّنَا فِي قَوْمٍ إلَّا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ الطَّعْنُ» فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عُقُوبَةٌ، وَإِنْ كَانَ شَهَادَةً، أَوْ يُقَالُ: كَوْنُهُ شَهَادَةً مَحْضَةً إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْكُمَّلِ الَّذِينَ حُفِظُوا مِنْ الْمُخَالَفَاتِ، وَأَدَامُوا الطَّاعَاتِ.

(وَسُئِلَ) - فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَمَّنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِكَسْرِ اللَّامِ، فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالُ: تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ غَيَّرَ الْمَعْنَى؛ إذْ الْعَالَمِينَ بِفَتْحِ اللَّامِ جَمْعُ عَالَمٍ؛ وَهُوَ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَبِكَسْرِهَا جَمْعُ عَالِمٍ، وَهُوَ مَنْ قَامَتْ بِهِ صِفَةُ الْعِلْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالُ: لَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْ الْمَعْنَى مِنْ أَصْلِهِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ، وَأَيْضًا فَذَلِكَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ يُفْهِمُ مَا حَذَفَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَأَوْلَى غَيْرُهُمْ. وَاَلَّذِي يَنْبَغِي تَرْجِيحُهُ - الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْمَعْنَى لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ - فِيمَا يَظْهَرُ - رَفْعَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْ أَصْلِهِ؛ بَلْ أَنْ يَصِيرَ وَضْعُ الْكَلِمَةِ لَا يُفْهِمُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِتَمَامِهِ، كَمَا هُنَا.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - بِمَا لَفْظُهُ: حَيْثُ لَا يُسَنُّ لِلْمَأْمُومِ قِرَاءَةُ السُّورَةِ، وَفَرَغَ مِنْ فَاتِحَتِهِ قَبْلَ رُكُوعِ الْإِمَامِ، فَهَلْ يَسْكُتُ، أَوْ يَقْرَأُ، أَوْ يَشْتَغِلُ بِذِكْرٍ وَهَلْ إذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ قَبْلَهُ، يَسْكُتُ، أَوْ يَشْتَغِلُ بِبَقِيَّةِ التَّشَهُّدِ مَعَ الدُّعَاءِ بَعْدَهُ

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْمَأْمُومَ إذَا فَرَغَ مِنْ فَاتِحَتِهِ وَلَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ؛ كَأَنْ بَعُدَ عَنْهُ أَوْ سَمِعَ صَوْتًا لَا يَفْهَمُهُ؛ أَوْ كَانَ فِي سِرِّيَّةٍ، وَفِي الثَّالِثَةِ، أَوْ فِي الرَّابِعَةِ مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ، سُنَّ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ، أَوْ يَدْعُوَ، وَالْقِرَاءَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مَحَلُّهَا، وَلَا يَسْكُتُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا سُكُوتَ فِيهَا إلَّا فِي مَوَاضِعَ لَيْسَتْ هَذِهِ مِنْهَا. وَكَذَا إذَا فَرَغَ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ قَبْلَ إمَامِهِ فَإِنَّهُ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالدُّعَاءِ لَا بِالصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ؛ لِأَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ فِيهَا نَقْلَ رُكْنٍ قَوْلِيٍّ عَلَى قَوْلٍ وَهُوَ مُبْطِلٌ عَلَى قَوْلٍ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه بِمَا لَفْظُهُ: إذَا قَامَ الْإِمَامُ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ الْمَأْمُومُ مِنْهُ فَهَلْ يُتَابِعُ الْإِمَامَ أَوْ يُتِمُّهُ فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْمُتَابَعَةِ فَذَاكَ، وَإِنْ قُلْتُمْ يُتِمُّهُ فَفَرَغَ مِنْهُ وَقَامَ، فَهَلْ يَكُونُ كَالْمَسْبُوقِ فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَذَاكَ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَا فَأَتَمَّ فَاتِحَتَهُ، فَهَلْ لَهُ حُكْمُ التَّخَلُّفِ بِعُذْرٍ، أَوْ مَا الْحُكْمُ فِيهَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ كَثُرَ كَلَامُهُمْ وَاضْطِرَابُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَقِيَاسُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ مَا لَوْ تَرَكَ إمَامُهُ الْقُنُوتَ حَيْثُ قَالُوا: يُسَنُّ لَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ إنْ كَانَ أَدْرَكَهُ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ السَّجْدَةِ الْأُولَى، وَفِي الْمَسْبُوقِ حَيْثُ قَالُوا: يُسَنُّ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالِافْتِتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ إنْ كَانَ ظَنَّ إدْرَاكَ الْفَاتِحَةِ لَوْ أَكْمَلَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُكْمِلْ الْمَأْمُومُ السُّورَةَ بَعْدَ رُكُوعِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بَعْضًا، بِخِلَافِ التَّشَهُّدِ. وَالْمَحْذُورُ إنَّمَا هُوَ التَّخَلُّفُ لِلْإِتْيَانِ بِهِ لَا إتْمَامُهُ، وَإِذَا تَخَلَّفَ لِإِتْمَامِهِ وَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي أَثْنَاءِ فَاتِحَتِهِ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ كَمَسْبُوقٍ اشْتَغَلَ بِنَحْوِ الِافْتِتَاحِ فَرَكَعَ إمَامُهُ فِي أَثْنَاءِ فَاتِحَتِهِ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَخَلَّفَ بِقَدْرِ مَا فَوَّتَ، فَإِذَا قَرَأَ بِقَدْرِهِ فَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَكَعَ مَعَهُ، وَكَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ وَإِلَّا فَهَلْ يَكُونُ كَالْمُوَافِقِ يَجْرِي عَلَى نَظْمِ صَلَاةِ نَفْسِهِ مَا لَمْ يُسْبَقْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ طَوِيلَةٍ، أَوْ يُتَابِعُهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ وَتَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ كَالْبَغَوِيِّ الْأَوَّلُ، وَمَشَى عَلَيْهِ كَثِيرُونَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ.

وَكَلَامُ الْمَجْمُوعِ وَالتَّحْقِيقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَإِنْ مَشَى جَمْعٌ مِنْ الْأَصْحَابِ وَتَبِعَهُمْ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ عَلَى الثَّانِي.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - هَلْ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاجِبَةٌ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ عَدَمُ الْوُجُوبِ، بَلْ قَوْلُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ الْمُتَوَلِّي: أَنَّ مُوَالَاةَ التَّشَهُّدِ وَاجِبَةٌ كَالْفَاتِحَةِ فِيهِ وَقْفَةٌ لَكِنَّهُمْ اعْتَمَدُوهُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّنْ أَحْرَمَ بِفَرْضِ الظُّهْرِ مَثَلًا ثُمَّ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا عَلَى وَجْهِ الِاحْتِيَاطِ أَوْ مُعَادَةً بِنِيَّةِ فَرْضِ الْوَقْتِ

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّرَدُّدَ إنْ كَانَ بَيْنَ مُبْطِلَيْنِ، أَوْ مُبْطِلٍ وَمُصَحِّحٍ يَأْتِي فِيهِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ طُولِ الزَّمَنِ وَمُضِيِّ رُكْنٍ وَضِدِّهِمَا، وَهُوَ

ص: 142

مَشْهُورٌ كَالشَّكِّ؛ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ؛، أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا.

وَإِنْ كَانَ بَيْنَ صَحِيحَيْنِ لَمْ يُؤَثِّرْ؛ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِالظُّهْرِ ثُمَّ شَكَّ هَلْ نَوَاهَا مَثَلًا أَوْ الْعَصْرَ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُ نَوَى الْعَصْرَ لَمْ يُؤَثِّرْ شَكُّهُ الْمَذْكُورُ وَإِنْ طَالَ زَمَنُهُ وَفَعَلَ مَعَهُ أَرْكَانًا، إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْمُعَادَةُ لِلِاحْتِيَاطِ: تَارَةً تَكُونُ بَاطِلَةً؛ بِأَنْ يَقْصِدَ بِهَا مُجَرَّدَ الِاحْتِيَاطِ وَلَا جَمَاعَةَ يُعِيدُ مَعَهُمْ، فَهَذِهِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ طَلَبِ الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا صَلَاةً - بُطْلَانُ فِعْلِهَا؛ وَتَارَةً تَكُونُ صَحِيحَةً بِأَنْ جَرَى فِي صَلَاتِهِ الْأُولَى قَوْلٌ بِالْبُطْلَانِ، فَيُسَنُّ لَهُ إعَادَتُهَا وَلَوْ مُنْفَرِدًا كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَغَيْرِهِ.

وَالْمُعَادَةُ مَعَ جَمَاعَةٍ: تَارَةً تَكُونُ صَحِيحَةً؛ بِأَنْ يَنْوِيَ بِهَا الْفَرْضَ؛ أَيْ: صُورَةً، أَوْ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الْجُمْلَةِ؛ وَتَارَةً تَكُونُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ عَلَى مَا فِي الْمِنْهَاجِ وَغَيْرِهِ بِأَنْ يَنْوِيَ بِهَا صَلَاةَ الْوَقْتِ فَإِذَا أَعَادَ مَعَ جَمَاعَةٍ وَتَرَدَّدَ بَيْنَ نِيَّتِهِ الْفَرْضَ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ، وَنِيَّتِهِ صَلَاةَ الْوَقْتِ، فَهَذَا تَرَدُّدٌ بَيْنَ صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ عَلَى مَا فِي الْمِنْهَاجِ وَغَيْرِهِ، فَيَأْتِي فِيهِ التَّفْصِيلُ السَّابِقُ.

وَبَيْنَ صَحِيحَيْنِ عَلَى مَا فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا فَلَا يَضُرُّ مُطْلَقًا وَإِذَا أَعَادَ وَحْدَهُ وَتَرَدَّدَ هَلْ إعَادَتُهُ لِأَجْلِ جَرَيَانِ قَوْلٍ بِبُطْلَانٍ، أَوْ لَا، أَوْ لِمُجَرَّدِ الِاحْتِيَاط مِنْ غَيْرِ جَرَيَانِ قَوْلٍ كَذَلِكَ يَأْتِي فِيهِ التَّفْصِيلُ لِمَا عَلِمْت أَنَّهُ تَرَدُّدٌ بَيْنَ صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ قُنُوتِ النَّازِلَةِ هَلْ وَرَدَ فِيهِ أَلْفَاظٌ مَخْصُوصَةٌ مَثَلًا أَوْ لَا وَهَلْ يُقْرَأُ مَعَهُ قُنُوتُ الصُّبْحِ؟ وَهَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ قُنُوتُ الصُّبْحِ مَثَلًا أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الَّذِي وَرَدَ فِي ذَلِكَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَدْعُو عَلَى قَاتِلِي أَصْحَابِهِ الْقُرَّاءِ بِبِئْرِ مَعُونَةَ» ، وَيُقَاسُ بِالْعَدُوِّ غَيْرُهُ.

وَالْقَوْلُ بِمَنْعِ الْقُنُوتِ لَهَا، قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَفِيهِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ قَوْلَ الطَّحَاوِيِّ: لَمْ يَقُلْ بِهِ فِيهَا غَيْرُ الشَّافِعِيِّ - غَلَطٌ مِنْهُ بَلْ قَنَتَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي الْمَغْرِبِ بِصِفِّينَ اهـ.

وَصَرَّحَ أَئِمَّتُنَا بِأَنَّ لَفْظَ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ وَالنَّازِلَةِ وَالْوِتْرِ فِي نِصْفِ رَمَضَانَ الثَّانِي: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْت. .... إلَخْ

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّنْ تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ وَفِي حَرْفٍ مِنْهَا خَلَلٌ؛ لِثِقَلٍ فِي اللِّسَانِ هَلْ تُجْزِيهِ صَلَاتُهُ أَوْ لَا وَهَلْ يَجِبُ التَّعَلُّمُ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ أَوْ لَا وَهَلْ تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إذَا لَمْ يَكْمُلْ الْعَدَدُ إلَّا بِهِ مَثَلًا أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلَلُ نَحْوَ فَأْفَأَةٍ بِأَنْ صَارَ يُكَرِّرُ الْحَرْفَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَالْقُدْوَةُ بِهِ، لَكِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، وَتَكْمُلُ الْجُمُعَةُ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّعَلُّمُ.

وَإِنْ كَانَ لُثْغَةً؛ فَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً بِحَيْثُ يَخْرُجُ الْحَرْفُ صَافِيًا وَإِنَّمَا فِيهِ شَوْبُ اشْتِبَاهٍ بِغَيْرِهِ فَهَذَا أَيْضًا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَإِمَامَتُهُ وَتَكْمُلُ الْجُمُعَةُ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّعَلُّمُ؛ وَإِنْ كَانَ لُثْغَةً حَقِيقِيَّةً؛ بِأَنْ كَانَ يُبْدِلُ الْحَرْفَ بِغَيْرِهِ فَتَصِحُّ صَلَاتُهُ لَا الْقُدْوَةُ بِهِ، إلَّا لِمَنْ هُوَ مِثْلُهُ؛ بِأَنْ اتَّفَقَا فِي الْحَرْفِ الْمُبْدَلِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْبَدَلِ؛ فَلَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُبْدِلُ الرَّاءَ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا يُبْدِلُهَا لَامًا وَالْآخَرُ عَيْنًا صَحَّ اقْتِدَاءُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ.

وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُبْدِلُ الرَّاءَ وَالْآخَرُ يُبْدِلُ السِّينَ لَمْ يَصِحَّ اقْتِدَاءُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ.

هَذَا فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ، أَمَّا فِيهَا فَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي الْعُبَابِ وَشَرْحِي لَهُ، وَعِبَارَتُهُمَا: لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ أَرْبَعُونَ أُمِّيًّا فَقَطْ وَاتَّفَقُوا أُمِّيَّةً بِحَيْثُ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ قَالَ الْبَغَوِيّ وَأَقَرَّهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ: يَنْبَغِي أَنْ تَلْزَمَهُمْ الْجُمُعَةُ؛ لِصِحَّةِ اقْتِدَاءِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ،، أَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ أَرْبَعُونَ وَبَعْضُهُمْ - وَلَوْ وَاحِدًا - أُمِّيٌّ وَقَدْ قَصَّرَ فِي التَّعَلُّمِ كَمَا تُفْهِمُهُ الْعِلَّةُ الْآتِيَةُ، فَلَا تَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ لِارْتِبَاطِ صَلَاةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَأَشْبَهَ اقْتِدَاءَ قَارِئٍ بِأُمِّيٍّ، أَمَّا إذَا لَمْ يُقَصِّرْ الْأُمِّيُّ فِي التَّعَلُّمِ فَتَصِحُّ الْجُمُعَةُ إنْ كَانَ الْإِمَامُ قَارِئًا، وَكَذَا لَا تَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ إذَا اخْتَلَفُوا أُمِّيَّةً؛ كَأَنْ عَرَفَ بَعْضٌ أَوَّلَ الْفَاتِحَةِ وَبَعْضٌ آخِرَهَا؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ صَلَاةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، كَمَا عُرِفَ ذَلِكَ مِمَّا مَرَّ فِي صِفَةِ الْأَئِمَّةِ.

قَالَ الْبَغَوِيّ أَيْضًا: وَلَوْ جَهِلُوا كُلُّهُمْ الْخُطْبَةَ لَمْ تَجُزْ الْجُمُعَةُ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا جَهِلَهَا بَعْضُهُمْ، وَمُرَادُهُ بِجَوَازِهَا فِي الشِّقِّ الثَّانِي مَا يَصْدُقُ بِالْوُجُوبِ؛ فَإِنَّهُ إذَا عَرَفَهَا وَاحِدٌ مِنْ الْأُمِّيِّينَ الْمُسْتَوِينَ لَزِمَتْهُمْ كَمَا مَرَّ عَنْهُ، ثُمَّ رَأَيْته صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ فَقَالَ: لَوْ أَحْسَنَ الْخُطْبَةَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَيْ: وَقَدْ اتَّفَقُوا أُمِّيَّةً كَمَا تَقَرَّرَ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْجُمُعَةِ

ص: 143

فَجَازَ لَهُمْ إقَامَتُهَا بَلْ وَجَبَ، انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ. وَمَنْ كَانَ بِلِسَانِهِ خَلَلٌ فِي الْفَاتِحَةِ مَثَلًا فَمَتَى رُجِيَ زَوَالُهُ عَادَةً لِتَعَلُّمٍ لَزِمَهُ - وَإِنْ طَالَ الزَّمَنُ - وَمَتَى لَمْ يَرْجُهُ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْمُبَلِّغِ أَنْ يَكُونَ ثِقَةً مُصَلِّيًا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، يُشْتَرَطُ فِي الْمُبَلِّغِ أَنْ يَكُونَ ثِقَةً، وَكَذَا الْإِمَامُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى مُجَرَّدِ صَوْتِهِ، إلَّا إنْ كَانَ ثِقَةً، وَكَذَلِكَ الْمُؤَذِّنُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى صَوْتِهِ إلَّا إنْ كَانَ ثِقَةً، وَإِنْ صَحَّ أَذَانُ الْفَاسِقِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ شَيْئَانِ؛ إظْهَارُ الشِّعَارِ؛ وَالْإِعْلَامُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ. وَالْأَوَّلُ مَوْجُودٌ فِي أَذَانِ الْفَاسِقِ؛ وَلِذَلِكَ صَحَّ أَذَانُهُ، وَالثَّانِي غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ اعْتِمَادُ صَوْتِهِ وَأَمَّا كَوْنُ الْمُبَلِّغِ مُصَلِّيًا، أَوْ طَاهِرًا فَغَيْرُ شَرْطٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ الدَّلَالَةُ عَلَى فِعْلِ الْإِمَامِ حَتَّى يَتْبَعَهُ الْمُقْتَدُونَ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِتَبْلِيغِ الثِّقَةِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُصَلٍّ وَلَا مُتَطَهِّرٍ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) - أَدَامَ اللَّهُ النَّفْعَ بِعُلُومِهِ - هَلْ لِلطَّاعُونِ قُنُوتٌ مَخْصُوصٌ فَتَفَضَّلُوا بِهِ إنْ كَانَ كَانَ وَإِلَّا فَيُجْمَعُ قُنُوتٌ لَهُ، وَهَلْ أَحَدٌ مِنْ الْحُكَمَاءِ ذَكَرَ لَهُ دَوَاءً جُرِّبَ فَنَفَعَ

(فَأَجَابَ) رضي الله عنه بِقَوْلِهِ: اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي الْقُنُوتِ لِلطَّاعُونِ؛ فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْنَتُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُقْنَتُ لَهُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَكَوْنُهُ شَهَادَةً لَا يَمْنَعُ الْقُنُوتَ لَهُ، كَمَا أَنَّ هُجُومَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَقْتَضِي الْقُنُوتَ لَهُ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْهُمْ شَهِيدًا، عَلَى أَنَّهُ مِنْ النَّوَازِلِ الْعِظَامِ؛ إذْ فِيهِ مَوْتُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَبَقَاءُ الرَّعَاعِ وَالْجَهَلَةِ وَالطَّغَامِ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ اخْتِلَافِ شَمْلِ الدِّينِ مَا لَا يَخْفَى، فَطُلِبَ صَرْفُهُ لِذَلِكَ؛ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ شَهَادَةً، وَعَلَيْهِ فَلَا قُنُوتَ لَهُ مَخْصُوصٌ، بَلْ يُقْنَتُ فِيهِ بِقُنُوتِ الصُّبْحِ لَكِنْ يَتَعَرَّضُ فِي آخِرِهِ لِسُؤَالِ رَفْعِهِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِصَرْفِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَنَقْلِ وَبَائِهَا إلَى الْجُحْفَةِ وَقَدْ ذَكَرَ الْحُكَمَاءُ لَهُ أَدْوِيَةً كَثِيرَةً مِنْ أَعْظَمِهَا شَمُّ الْعَنْبَرِ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْهَوَاءِ مَا أَمْكَنَ وَاسْتِعْمَالُ الْأَدْوِيَةِ الْقَلِيلَةِ الْكَيْمُوسِ الَّتِي لَا تُورِثُ ثِقَلًا وَلَا تَخْلِيطًا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُصَلِّيهِمَا النَّاسِكُونَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ لِبَقَاءِ الْإِيمَانِ هَلْ يَنْوِي بِهِمَا بَقَاءَ الْإِيمَانِ مَثَلًا أَوْ مُطْلَقَ فِعْلِ الصَّلَاةِ؟ وَفِيمَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ غَيْرَ سُنَّتِهَا مِنْ صَلَاةِ الْأَوَّابِينَ وَغَيْرِهَا هَلْ تُضَافُ فِي الْمَغْرِبِ فِي النِّيَّةِ مَثَلًا أَوْ لَا وَكَيْفَ يَنْوِي بِهِ وَفِي سُنَّةِ الظُّهْرِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ أَيَجِبُ تَعْيِينُهَا بِاَلَّتِي قَبْلَهَا وَاَلَّتِي بَعْدَهَا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْمَجْمُوعِ، أَوْ لَا؟ إلَّا إذَا أَخَّرَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِسْنَوِيُّ، أَوْ لَا يَجِبُ مُطْلَقًا وَمَا الرَّاجِحُ وَالْحَرِيُّ بِالِاعْتِمَادِ، وَإِنْ قُلْتُمْ بِالْوُجُوبِ فَهَلْ يُلْحِقُ بِهَا سُنَّةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْمُتَقَدِّمَةَ وَالْمُتَأَخِّرَةَ، أَوْ لَا؟ وَإِنْ قُلْتُمْ لَا، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الرَّكْعَتَانِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ سُنَّةٌ؛ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ بِنَدْبِ صَلَاةِ الْأَوَّابِينَ قَالَا: وَتُسَمَّى صَلَاةَ الْغَفْلَةِ لِحَدِيثٍ بِذَلِكَ، وَأَكْمَلُهَا عِشْرُونَ؛ لِخَبَرِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّيهَا عِشْرِينَ وَيَقُولُ: هَذِهِ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ، فَمَنْ صَلَّاهَا غُفِرَ لَهُ.

وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يُصَلُّونَهَا قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهَا دُونَ صَلَاةِ الضُّحَى فِي التَّأْكِيدِ اهـ.

وَرُوِيَ فِيهَا أَحَادِيثُ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ، ذَكَرَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْحَقِّ مِنْهَا جُمْلَةً، قَالَ جَمْعٌ: وَرُوِيَتْ سِتًّا فَفِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ كُتِبَتْ لَهُ عِبَادَةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً» وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ لَكِنْ بِزِيَادَةِ «لَا يَتَكَلَّمُ بَيْنَهُنَّ بِسُوءٍ» .

وَفِي حَدِيثٍ غَرِيبٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَنْدَهْ «غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» .

وَرُوِيَتْ أَرْبَعًا وَرُوِيَتْ رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا الْأَقَلُّ اهـ.

فَعُلِمَ أَنَّ تَيْنِك الرَّكْعَتَيْنِ يُسَمَّيَانِ صَلَاةَ الْغَفْلَةِ وَصَلَاةَ الْأَوَّابِينَ، وَأَمَّا كَوْنُهُمَا لِبَقَاءِ الْإِيمَانِ فَهُوَ لَا أَصْلَ لَهُ؛ إذْ لَمْ نَرَ مَنْ ذَكَرَهُ، وَلَا دَلِيلَ لَهُ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ.

وَالْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أُرِيدَ بِكَوْنِهِمَا لِبَقَاءِ الْإِيمَانِ عَوْدُ بَرَكَتِهِمَا عَلَى مُصَلِّيهِمَا حَتَّى يُحْفَظَ فِي إيمَانِهِ - اُحْتِيجَ إلَى إقَامَةِ دَلِيلٍ يُخَصِّصُهُمَا بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنْ بَقِيَّةِ النَّوَافِلِ وَالْفُرُوضِ أَوْ الدُّعَاءَ فِيهِمَا بِخُصُوصِهِمَا بِذَلِكَ، أَوْ الشُّكْرَ بِهِمَا بِخُصُوصِهِمَا عَلَى بَقَائِهِ إلَى

ص: 144

وَقْتِ فِعْلِهِمَا فَهُوَ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ، أَوْ إلَى أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ فَذَلِكَ غَيْبٌ لَا يُعْلَمُ فَاتَّضَحَ بُطْلَانُ زَعْمِ أَنَّهُمَا لِبَقَاءِ الْإِيمَانِ، وَحِينَئِذٍ فَمَنْ صَلَّاهُمَا نَاوِيًا بِهِمَا ذَلِكَ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً بَلْ يَنْوِي بِهِمَا سُنَّةَ الْغَفْلَةِ، أَوْ سُنَّةَ صَلَاةِ الْأَوَّابِينَ فَإِنْ أَطْلَقَ وَقَعَتَا نَافِلَةً مُطْلَقَةً فَلَا يُثَابُ عَلَيْهِمَا إلَّا مِنْ حَيْثُ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ دُونَ خُصُوصِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ الْحُبَيْشِيِّ الْيَمَانِيِّ أَنَّ تَيْنِك الرَّكْعَتَيْنِ يُفْعَلَانِ لِلْمَوْتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَذَكَرَ لَهُمَا دُعَاءً فِيهِ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ؛ فَهُوَ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ، وَلَيْسَ الرَّجُلُ بِحُجَّةٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسْنِدْهُ لِخَبَرٍ ضَعِيفٍ فَضْلًا عَنْ صَحِيحٍ بَلْ وَلَا لِأَثَرٍ كَذَلِكَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا شَيْءٌ انْفَرَدَ بِهِ هُوَ؛ إذْ مِثْلُهُ مِمَّنْ لَا يَتَقَيَّدُ بِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ وَأَدِلَّتِهِمْ وَإِنَّمَا يَقُولُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ لِقِيَاسٍ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الضَّعِيفَةِ فَضْلًا عَنْ الْقَوِيَّةِ، فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُمَا بِنِيَّةِ الْبَقَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ الْآنَ وَلَا إلَى الْمَوْتِ لِمَا قَدَّمْته مَبْسُوطًا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ صَلَاةَ الْغَفْلَةِ أَقَلُّهَا وَمَا فَوْقَهُ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا كَالْوِتْرِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا تُفْعَلُ فِي وَقْتِ غَيْرِهَا لَكِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ رَوَاتِبِهِ؛ فَحِينَئِذٍ لَا تُضَافُ لِلْمَغْرِبِ فَيَنْوِي بِهِمَا سُنَّةَ الْغَفْلَةِ، أَوْ سُنَّةَ صَلَاةِ الْأَوَّابِينَ، فَإِنْ أَضَافَهَا لِلْمَغْرِبِ عَامِدًا عَالِمًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ كَمَا لَوْ أَضَافَ الْوِتْرَ لِلْعِشَاءِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ، كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يَصِحُّ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ مِنْ الرَّوَاتِبِ، وَيُجَابُ بِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ تَقَيُّدِهِ بِوَقْتِ فَرْضٍ هُوَ الْعِشَاءُ لَا بِاعْتِبَارِ إضَافَتِهِ إلَيْهَا، وَالْمَنْقُولُ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِكَوْنِهَا الْقَبْلِيَّةَ، أَوْ الْبَعْدِيَّةَ سَوَاءٌ أَخَّرَ الْقَبْلِيَّةَ عَنْ الْفَرْضِ أَمْ لَا، وَمِثْلُهَا فِي ذَلِكَ كُلُّ رَاتِبَةٍ فِيهَا قَبْلِيَّةٌ وَبَعْدِيَّةٌ؛ كَسُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَسُنَّةِ الْعِشَاءِ. وَمَا بَحَثَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ ضَعِيفٌ كَمَا جَرَيْت عَلَيْهِ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَغَيْرِهِ.

وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ: وَيَكْفِي سُنَّةُ الظُّهْرِ أَيْ: نِيَّةُ ذَلِكَ فِي رَاتِبَتِهَا الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ الَّتِي بَعْدَهَا، ظَاهِرُ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ السَّابِقِ: كَسُنَّةِ الصُّبْحِ أَوْ الظُّهْرِ، بَلْ صَرِيحُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي رَاتِبَةِ الظُّهْرِ - وَمِثْلُهَا كُلُّ فَرِيضَةٍ لَهَا رَاتِبَةٌ قَبْلَهَا وَرَاتِبَةٌ بَعْدَهَا - غَيْرُ إضَافَتِهَا إلَى فَرْضِهَا وَهُوَ فَاسِدٌ؛ فَفِي الْمَجْمُوعِ وَفِي الرَّوَاتِبِ تَعَيُّنٌ بِالْإِضَافَةِ فَيَنْوِي سُنَّةَ الصُّبْحِ، أَوْ سُنَّةَ الظُّهْرِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ الَّتِي بَعْدَهَا، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى سُنَّةِ الظُّهْرِ مُطْلَقًا وَتَبِعَهُ السُّبْكِيّ وَالْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَوَجْهُهُ أَنَّ تَعَيُّنَهُمَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاسْمِ وَالْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ تُؤَخَّرْ الْمُقَدَّمَةُ، كَمَا يَجِبُ تَعْيِينُ الظُّهْرِ لِئَلَّا تَلْتَبِسَ بِالْعَصْرِ فَانْدَفَعَ قَوْلُ الْإِسْنَوِيِّ: لَا وَجْهَ لِاشْتِرَاطِهِ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْمُقَدَّمَةِ، لَا فِيهَا وَلَا فِي الْمُؤَخَّرَةِ، فَإِنْ أَخَّرَهَا اُحْتُمِلَتْ الشَّرْطِيَّةُ اهـ.

ثُمَّ رَأَيْت الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي تَجْرِيدِهِ: الَّذِي يُعْطِيه كَلَامُ الْمَجْمُوعِ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ فِيهِمَا لَا مَا فَهِمَهُ الْإِسْنَوِيُّ أَيْ: مِنْ الِاشْتِرَاطِ، وَفِي الْمَطْلَبِ مَا يَقْتَضِيه اهـ.

وَهُوَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ مَعَ تَأَمُّلِ عِبَارَةِ الْمَجْمُوعِ الَّتِي ذَكَرْتهَا، انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ وَبِهَا يُعْلَمُ مَا قَدَّمْته مِنْ أَنَّ الْمَنْقُولَ الْمُعْتَمَدَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الَّتِي قَبْلَهَا وَاَلَّتِي بَعْدَهَا مُطْلَقًا، أَمَّا إذَا أُخِّرَتْ الْمُقَدَّمَةُ فَوَاضِحٌ؛ لِلِاشْتِبَاهِ الظَّاهِرِ حِينَئِذٍ فِي الِاسْمِ وَالْوَقْتِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تُؤَخَّرْ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالنِّيَّةِ التَّمْيِيزُ، وَعِنْدَ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لَا يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ إلَّا بِالْوَصْفِ، فَسُنَّةُ الظُّهْرِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْقَبْلِيَّةِ وَالْبَعْدِيَّةِ فَلَا مُمَيِّزَ لِبَعْضِ مَا قَدْ فَاتَهُ عَنْ بَعْضٍ إلَّا بِنَحْوِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ الَّتِي بَعْدَهَا، فَإِنْ قُلْت الَّتِي بَعْدَهَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا إلَى الْآنَ فَكَيْفَ اُحْتِيجَ إلَى تَمْيِيزِهَا؟ قُلْت: قَدْ عَلِمْت أَنَّ سَبَبَ التَّمْيِيزِ الِاشْتِرَاكُ الْوَاقِعُ فِيهَا وَهَذَا حَاصِلٌ سَوَاءٌ قُدِّمَتْ أَوْ أُخِّرَتْ، وَكَوْنُ الْخَارِجِ يُخَصِّصُ النِّيَّةَ بِالْمُقَدَّمَةِ لِعَدَمِ دُخُولِ الْمُؤَخَّرَةِ لَا يُنْظَرُ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَرِينَةٌ خَارِجِيَّةٌ وَالْقَرَائِنُ الْخَارِجِيَّةُ لَا تُخَصَّصُ، سِيَّمَا هُنَا؛ لِأَنَّ مَنَاطَ النِّيَّةِ الْقَلْبُ، وَلَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِالْقَرِينَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا التَّعْيِينَ فِي الظُّهْرِ مَثَلًا، وَقَالُوا: لِئَلَّا يَشْتَبِهَ بِالْعَصْرِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ بَلْ لَمْ يَكْتَفُوا عَنْ تَعْيِينِهِ بِصَلَاةِ الْوَقْتِ لِصِدْقِهِ بِفَائِتَةٍ تَذَكَّرَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَذَكَّرَ فَائِتَةً، أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ لَا يَعْتَدُّونَ فِي النِّيَّاتِ بِالْقَرَائِنِ الْخَارِجِيَّةِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إلَى إمْكَانِ الِالْتِبَاسِ بِاعْتِبَارِ صِدْقِ

ص: 145

الِاسْمِ وَإِنْ شَهِدَ الْوَاقِعُ بِخِلَافِهِ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ نَفِيسٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَنْ قَوْلِ التَّعَقُّبَاتِ: إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ وَضْعِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - فَلَا بُدَّ مِنْ الطُّمَأْنِينَةِ بِهَا؛ كَالْجَبْهَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَضَعَهَا حَالَةَ وَضْعِ الْجَبْهَةِ حَتَّى لَوْ وَضَعَهَا، ثُمَّ رَفَعَهَا، ثُمَّ وَضَعَ الْجَبْهَةَ، أَوْ عَكَسَ لَمْ يَكْفِ؛ لِأَنَّهَا أَعْضَاءٌ تَابِعَةٌ لِلْجَبْهَةِ، وَإِذَا رَفَعَ الْجَبْهَةَ مِنْ السَّجْدَةِ الْأُولَى وَجَبَ عَلَيْهِ رَفْعُ الْكَفَّيْنِ أَيْضًا؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الْيَدَيْنِ تَسْجُدَانِ كَمَا تَسْجُدُ الْجَبْهَةُ، فَإِذَا سَجَدْتُمْ فَضَعُوهُمَا، وَإِذَا رَفَعْتُمْ فَارْفَعُوهُمَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ.

وَلِأَصْحَابِ مَالِكٍ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ اهـ.

فَصَرَّحَ بِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ بِهَا وَبِوُجُوبِ رَفْعِ الْكَفَّيْنِ مِنْ السَّجْدَةِ الْأُولَى وَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ، فَهَلْ خَالَفَ غَيْرَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ، أَوْ خَصَّصَ كَلَامَهُمْ بِمَا ذَكَرَهُ، وَمَا الرَّاجِحُ فِي ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: أَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي وَضْعِ غَيْرِ الْجَبْهَةِ قِيَاسًا عَلَى الْجَبْهَةِ فَظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا التَّرَدُّدُ فِي أَنَّهُ: هَلْ يَجِبُ التَّحَامُلُ عَلَيْهَا كَمَا يَجِبُ عَلَى الْجَبْهَةِ، أَوْ لَا يَجِبُ بَلْ يُسَنُّ وَاَلَّذِي قَالَهُ شَيْخُنَا زَكَرِيَّا: الْأَوَّلُ، وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا؛ حَيْثُ جَعَلَا الِاعْتِمَادَ عَلَى بَطْنِ الْقَدَمَيْنِ مِنْ الْأَكْمَلِ، وَاعْتَمَدَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ التَّنْبِيهِ: إنَّ تَعْبِيرَهُمْ بِالْوَضْعِ يُفْهِمُهُ هُوَ الثَّانِي، وَجَرَيْت عَلَيْهِ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَغَيْرِهِ وَأَطَلْت فِي الِانْتِصَارِ لَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوبِ وَضْعِهَا حَالَةَ وَضْعِ الْجَبْهَةِ ظَاهِرٌ أَيْضًا كَمَا جَرَيْت عَلَيْهِ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ مَعَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، وَعِبَارَتُهُ: وَتَجِبُ مُقَارَنَةُ وَضْعِهَا لِوَضْعِ الْجَبْهَةِ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا فَلَوْ تَأَخَّرَتْ عَنْهَا، أَوْ تَقَدَّمَتْ عَلَيْهَا لَمْ يَكْفِ، كَمَا بَحَثَهُ ابْنُ الْعِمَادِ.

بَلْ يَتَّجِهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَضْعِهَا كُلِّهَا مَعَ وَضْعِ الْجَبْهَةِ فِي آنٍ وَاحِدٍ فَلَوْ وَضَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا، ثُمَّ رِجْلَيْهِ ثُمَّ رَفَعَهُمَا، أَوْ عَكَسَ وَالْجَبْهَةُ مَوْضُوعَةٌ فِي الْجَمِيعِ لَمْ يَكْفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى سَاجِدًا إلَّا إذَا اجْتَمَعَ وَضْعُ السِّتَّةِ مَعَ وَضْعِ الْجَبْهَةِ فِي آنٍ وَاحِدٍ مَعَ الطُّمَأْنِينَةِ، انْتَهَتْ.

وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوبِ رَفْعِ الْكَفَّيْنِ ضَعِيفٌ، وَالْمَنْقُولُ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ: وَلَوْ وَضَعَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ حَوْلَهُ فَكَإِرْسَالِهِمَا قَائِمًا، فَإِنْ أَمِنَ الْعَبَثَ بِهِمَا لَمْ يُكْرَهْ، وَإِلَّا كُرِهَ، نَظِيرُ مَا مَرَّ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: يَجِبُ رَفْعُهُمَا وَوَضْعُهُمَا ثَانِيًا، كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْمَجْمُوعِ لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ بَلْ كَلَامُ الْأَصْحَابِ صَرِيحٌ فِي خِلَافِهِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَخَبَرُ أَبِي دَاوُد أَنَّ الْيَدَيْنِ يَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ فَإِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَهُ فَلْيَرْفَعْهُمَا - مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِهِمَا عَنْ مَوْضِعِهِمَا فِي حَالِ السُّجُودِ عَلَى مَا هُوَ السُّنَّةُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا بِإِزَاءِ مَنْكِبَيْهِ؛ إذْ يَتَعَذَّرُ بَقَاؤُهُمَا عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ مَعَ اسْتِوَاءِ جُلُوسِهِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّا لَوْ رَفَعَ الْمُسَبِّحَةَ فِي التَّشَهُّدِ عِنْدَ: إلَّا اللَّهُ، فَهَلْ يُسْتَحَبُّ رَفْعُهَا إلَى تَمَامِ الصَّلَاةِ مَثَلًا أَوْ لَا وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ عَنْ نَصِّ الْمَقْدِسِيِّ أَنَّهُ إذَا رَفَعَ الْمُسَبِّحَةَ فِي التَّشَهُّدِ عِنْدَ: إلَّا اللَّهُ يُقِيمُهَا وَلَا يَضَعُهَا. وَقَالَ الْجَوْجَرِيُّ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ أَنَّهُ يُعِيدُهَا إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَصْرِيحٌ، فَهَلْ الْأَوْلَى بِالْعَمَلِ قَوْلُ نَصْرٍ الْمَقْدِسِيِّ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْمُعْتَمَدُ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ نَصْرٌ رحمه الله، وَعِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ: قَالَ الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي كَافِيهِ أَنَّهُ يُقِيمُهَا وَلَا يَضَعُهَا وَلَا يُحَرِّكُهَا اهـ.

وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي بَقَائِهَا مَرْفُوعَةً إلَى السَّلَامِ. وَقَوْلُ جَمْعٍ مُتَأَخِّرَيْنِ: لَمْ نَرَ فِيهِ نَقْلًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُعِيدُهَا. بَحْثٌ مُخَالِفٌ لِلْمَنْقُولِ كَمَا عَلِمْت، وَإِنْ تَبِعَهُمْ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَفِيهِ نَظَرٌ، انْتَهَتْ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - عَمَّنْ رَاءَى بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ؛ وَهُوَ التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى مَعَ النِّيَّةِ هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ظَاهِرًا أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنَّ النِّيَّةَ حَيْثُ كَانَتْ جَازِمَةً مُسْتَوْفِيَةً لِشُرُوطِهَا الْمُقَرَّرَةِ فِي مَحَلِّهَا، فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ مُنْعَقِدَةٌ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ قَارَنَ ذَلِكَ قَصْدٌ دُنْيَوِيٌّ؛ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَئِمَّتُنَا: لَوْ قِيلَ لَهُ: صَلِّ وَلَك دِينَارٌ، فَصَلَّى بِذَلِكَ الْقَصْدِ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ.

وَقَالُوا أَيْضًا لَوْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا عَنْ غَرِيمٍ يُطَالِبُهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ. وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الثَّوَابِ وَقَدْ حَرَّرْت الْكَلَامَ فِيهِ فِي أَوَائِلِ حَاشِيَةِ إيضَاحِ النَّوَوِيِّ فَانْظُرْهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ.

وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا بَسَطَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ وَلَا أَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ مَا جَمَعْته مَعَ

ص: 146

تَحْرِيرِهِ وَتَنْقِيحِهِ. وَوَقَعَ لِلْكَمَالِ الدَّمِيرِيِّ وَالسَّرَّاجِ بْنِ الْمُلَقِّنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ وَأَقَرُّوهُ أَنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] : أَجْمَعَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ عَبَدَ وَدَعَا لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ الْعَذَابِ وَالطَّمَعِ فِي الثَّوَابِ لَا تَصِحُّ عِبَادَتُهُ، وَأَنَّهُ جَزَمَ فِي أَوَائِلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أُصَلِّي لِثَوَابِ اللَّهِ أَوْ الْهَرَبِ مِنْ عِقَابِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ اهـ. .

وَالْعَجَبُ فِي تَقْرِيرِ أُولَئِكَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِقَوْلِ الْأَصْحَابِ الَّذِي قَدَّمْته فِيمَنْ صَلَّى بِقَصْدِ حُصُولِ الدُّنْيَا لَهُ، أَوْ دَفْعِ الْغَرِيمِ عَنْهُ، وَكَأَنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ مُرَادَ الْفَخْرِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مَا إذَا لَاحَظَ فِي عِبَادَتِهِ الْخَوْفَ، أَوْ الطَّمَعَ مَعَ ضَمِّهِ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ مَا عَبَدَهُ وَحِينَئِذٍ بُطْلَانُ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إسْلَامِ مَنْ جَرَّدَ قَصْدَهُ إلَى ذَلِكَ فَحَسْبُ، لَا أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ اسْتِحْقَاقَ اللَّهِ لِلطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ لِذَاتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ جَزْمًا، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ مُسْلِمٌ.

وَإِنَّمَا غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ النَّاسَ يَرْجُونَ بِعِبَادَتِهِمْ حُصُولَ الثَّوَابِ وَالنَّجَاةَ مِنْ الْعَذَابِ. وَهَذَا الرَّجَاءُ، أَوْ الْخَوْفُ لَا يُنَافِي حُصُولَ الثَّوَابِ، كَيْفَ؟ وَاَللَّهُ تبارك وتعالى أَعْلَمُ بِخَلْقِهِ بِمَا تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ نَيْلِ الدَّرَجَاتِ وَإِسْبَاغِ الْهِبَاتِ فِي مُقَابَلَةِ امْتِثَالِهِمْ لِأَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِهِمْ لِنَوَاهِيهِ. وَذِكْرُ فَوَائِدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ رِعَايَةُ تِلْكَ الْفَوَائِدِ وَرَجَاءُ حُصُولِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْإِحْيَاءِ فِي مَوَاضِعَ بِحُصُولِ الثَّوَابِ وَصِحَّةِ النِّيَّةِ وَإِنْ قَارَنَتْ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْته؛ فَقَالَ - فِي أَوَاخِرِ مَبْحَثِ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ -: غَايَةُ مَنْ مَالَ قَلْبُهُ إلَى الدُّنْيَا وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ النَّارَ وَيُحَذِّرَ نَفْسَهُ عِقَابَهَا، أَوْ نَعِيمَ الْجَنَّةِ وَيُرَغِّبَ نَفْسَهُ فِيهَا، فَرُبَّمَا تَنْبَعِثُ لَهُ دَاعِيَةٌ ضَعِيفَةٌ فَيَكُونُ ثَوَابُهُ بِقَدْرِ رَغْبَتِهِ وَنِيَّتِهِ، وَالطَّاعَةُ عَلَى نِيَّةِ إجْلَالِ اللَّهِ - لِاسْتِحْقَاقِهِ الطَّاعَةَ وَالْعُبُودِيَّةَ - لَا تَتَيَسَّرُ لِلرَّاغِبِ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ أَعَزُّ النِّيَّاتِ وَأَعْلَاهَا، وَيَعِزُّ مَنْ يَفْهَمُهَا فَضْلًا عَمَّنْ يَتَعَاطَاهَا. وَنِيَّاتُ النَّاسِ أَقْسَامٌ؛ إذْ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَمَلُهُ إجَابَةً لِبَاعِثِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ يَتَّقِي النَّارَ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ إجَابَةً لِبَاعِثِ الرَّجَاءِ وَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ نَازِلًا بِالْإِضَافَةِ إلَى قَصْدِ طَاعَةِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ لِذَاتِهِ وَجَلَالِهِ لَا لِأَمْرٍ سِوَاهُ - فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ النِّيَّاتِ الصَّحِيحَةِ لِأَنَّهُ مَيْلٌ إلَى الْمَوْجُودِ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَأْلُوفِ فِي الدُّنْيَا اهـ.

كَلَامُ الْغَزَالِيِّ، وَهُوَ كَمَا تَرَى جَازِمٌ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ النِّيَّاتِ الصَّحِيحَةِ، وَإِنَّمَا خِلَافُهُ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - هَلْ يَجُوزُ ضَمُّ رَاءِ (أَكْبَرُ) مِنْ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ يَجُوزُ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ صَاحِبِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهِ، بَلْ قَوْلُهُمْ: لَوْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ، صَحَّ كَالصَّرِيحِ فِيهِ؛؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ ضَمُّ الرَّاءِ، وَمِنْ ثَمَّ أَفْتَى بِهِ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ كَالنَّجْمَيْنِ الْأَصْفُونِيِّ وَالطَّبَرِيِّ وَالسَّرَّاجِ بْنِ الْمُلَقِّنِ، وَقَوْلُ ابْنِ يُونُسَ أَنَّهُ مُبْطِلٌ - ضَعِيفٌ وَإِنْ تَبِعَهُ ابْنُ الْعِمَادِ وَالدَّمِيرِيُّ وَالنَّاشِرِيُّ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي خَبَرِ التَّكْبِيرِ جَزْمٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَزْمُ الْقَلْبِ لَا اللَّفْظِ؛؛ لِأَنَّ الْجَزْمَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَفْعَالِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - عَمَّنْ أَبْدَلَ هَمْزَةَ (أَكْبَرُ) وَاوًا فَهَلْ يَصِحُّ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يَصِحُّ عَلَى الْأَوْجَهِ، وَزَعَمَ ابْنُ الْعِمَادِ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْمُنِيرِ الْمَالِكِيِّ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ قَدْ تُبْدَلُ وَاوًا كَإِشَاحٍ وَوِشَاحٍ غَيْرُ بَعِيدٍ فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ هُوَ بَعِيدٌ؛ إذْ الْمَدَارُ فِي لَفْظِ التَّكْبِيرِ عَلَى الِاتِّبَاعِ مَا أَمْكَنَ، وَكَذَا لَوْ أَبْدَلَ الْكَافَ هَمْزَةً.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يَقُومُ (أَعْظَمُ) مَقَامَ (أَكْبَرُ) وَمَعْنَاهُمَا كَالْجَلِيلِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يَقُومُ مَقَامَ (أَكْبَرُ) شَيْءٌ لِلِاتِّبَاعِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ - تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ -: لَا يَقُومُ (أَعْظَمُ) مَقَامَ (أَكْبَرُ) ؛؛ لِأَنَّ الرِّدَاءَ أَشْرَفُ مِنْ الْإِزَارِ أَيْ: الْمُشَارِ إلَيْهِ؛ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اللَّهِ «الْعَظَمَةُ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَصَمْته» وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّجَمُّلَ يَكُونُ بِالرِّدَاءِ.

وَهَذَا تَمْثِيلٌ كُنِّيَ بِهِ عَنْ الصِّفَةِ، وَالثَّوْبِ يُكَنَّى بِهِ عَنْ الصِّفَةِ؛ قَالَ تَعَالَى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] .

قَالَ الْغَزَالِيُّ وَمَعْنَى الْكَبِيرِ: ذُو الْكِبْرِ، وَالْكِبْرِيَاءُ: كَمَالُ الذَّاتِ، وَأَعْنِي بِكَمَالِ الذَّاتِ كَمَالَ الْوُجُودِ؛ وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا: دَوَامُهُ أَزَلًا وَأَبَدًا، فَكُلُّ مَوْجُودٍ مَقْطُوعٍ بِعَدَمِ سَابِقٍ، أَوْ لَاحِقٍ فَهُوَ نَاقِصٌ. وَالثَّانِي:

ص: 147

أَنَّ وُجُودَهُ هُوَ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ كُلُّ مَوْجُودٍ.

قَالَ: وَالْجَلِيلُ: الْمَوْصُوفُ بِنُعُوتِ الْجَلَالِ الَّتِي هِيَ الْعِزُّ وَالْمُلْكُ وَالْقُدْسُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، وَغَيْرُهَا مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَالْجَامِعُ لِجَمِيعِهَا هُوَ الْجَلِيلُ الْمُطْلَقُ، فَالْجَلِيلُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ. فَكَأَنَّ الْكَبِيرَ يَرْجِعُ إلَى كَمَالِ الذَّاتِ، وَالْجَلِيلَ إلَى كَمَالِ الصِّفَاتِ وَالْعَظِيمَ إلَى كَمَالِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ جَمِيعًا.

قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى أَفْعَلْ التَّفْضِيلِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى النَّعْتُ؛ فَأَكْبَرُ بِمَعْنَى كَبِيرٍ؛ إذْ لَا مُسَاوِيَ لَهُ تَعَالَى فِي كَمَالِ الْوُجُودِ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَا خَطَرَ بِبَالِ الْعَبْدِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ وَتَمَامِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْقُدْسِ - فَاَللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَرَاءِ مَا خَطَرَ لَهُ إذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَبِيرَ يَرْجِعُ إلَى كَمَالِ الذَّاتِ وَالْجَلِيلَ إلَى كَمَالِ الصِّفَاتِ، وَالْعَظِيمَ إلَى كَمَالِهِمَا.

وَسُئِلَ - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ أَوَّلِ مَا نَطَقَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَآخِرِ مَا نَطَقَ بِهِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: أَوَّلُ مَا نَطَقَ بِهِ صلى الله عليه وسلم (اللَّهُ أَكْبَرُ) كَمَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْحَافِظُ الشِّهَابُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَأَمَّا آخِرُ مَا نَطَقَ بِهِ فَهُوَ: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى، كَمَا فِي الصَّحِيحِ، قِيلَ: وَهُوَ أَعْلَى الْمَنَازِلِ كَالْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى الْجَنَّةِ، فَمَعْنَاهُ أَسْأَلُك يَا اللَّهُ أَنْ تُنِيلَنِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أُرِيدُ أَلْقَاك يَا رَفِيقُ يَا أَعْلَى، وَالرَّفِيقُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ» فَكَأَنَّهُ طَلَبَ لِقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَعْلَى صِفَاتِ الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ بِهِ وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْ وَارِثِيهِ وَحَشَرَنَا مَعَهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ يَجِبُ فِي السُّجُودِ وَضْعُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ مَعًا مَثَلًا أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: يَجِبُ اجْتِمَاعُهُمَا بِقَدْرِ الطُّمَأْنِينَةِ، سَوَاءٌ وَضَعَهَا وَرَفَعَهَا مَعًا أَمْ مُرَتِّبًا صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ النَّحْوِيِّ وَغَيْرُهُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه عَمَّنْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِتَعَمُّدِ ذَلِكَ وَعِلْمِ عَدَمِ وُرُودِهِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ حَرْفَيْنِ فَإِنْ جَهِلَ، أَوْ نَسِيَ لَمْ تَبْطُلْ.

(وَسُئِلَ) - فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَمَّنْ يَدْعُو بِنَحْوِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، فَمَا يَزِيدُ إحْسَانِي سُلْطَانَك وَلَا تُقَبِّحُ إسَاءَتِي مُلْكَك، وَنَحْوِ ذَلِكَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا مَنْعَ فِي ذَلِكَ، حَيْثُ اعْتَقَدَ الدَّاعِي أَنَّ اللَّهَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. وَالْأَوْلَى فِي الْمُنَاجَاةِ الْإِقْرَارُ بِالذَّنْبِ، وَالتَّضَرُّعُ فِي سُؤَالِ الْغُفْرَانِ مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ حُجَّةٍ وَلَا تَعْلِيلٍ، فَذَلِكَ أَوْلَى بِالْمُذْنِبِ الْمَمْلُوكِ مَعَ مَوْلَاهُ الْقَادِرِ عَلَيْهِ، الْفَاعِلِ لِمَا يَشَاءُ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ شَخْصٍ سَبَّحَ بِنَحْوِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ. .. إلَخْ، هَلْ الْمَرَّةُ مِنْهُ أَفْضَلُ مِمَّنْ يُسَبِّحُ بِسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَيُعَدِّدُ مِنْ ذَلِكَ أَلْفَ مَرَّةٍ مَثَلًا.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، هُوَ أَفْضَلُ مِنْ أُلُوفٍ مُؤَلَّفَةٍ؛ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى بَعْضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَعِنْدَهَا حَصَوَاتٌ كَثِيرَةٌ سَبَّحَتْ بِهَا، فَقَالَ:«لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً عَدَلَتْ جَمِيعَ مَا قُلْتِ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ» الْحَدِيثَ، وَلَمَّا سُئِلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ نَحْوِ مَا فِي السُّؤَالِ قَالَ: قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَذْكَارِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ لِعُمُومِهَا وَشُمُولِهَا لِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ وَالذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، فَيَكُونُ الْقَلِيلُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَفْضَلَ مِنْ الْكَثِيرِ؛ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَاءَ نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» وَلِهَذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِيهِمَا قَدْ أَفَادَتْ الِاتِّصَافَ بِكُلِّ جَلَالٍ وَكَمَالٍ، فَأَعْطَتْ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ فِي الْإِكْرَامِ وَالْجَلَالِ.

فَإِذًا لَا إكْرَامَ إلَّا مِنْهُ وَلَا جَلَالَ وَكَمَالَ إلَّا وَقَدْ اتَّصَفَ بِهِ اهـ.

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبَعْضِ نِسَائِهِ - حِينَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا تُسَبِّحُ بِالْحَصَى -: «أَدُلُّك عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، فَقُولِي: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا فِي السَّمَوَاتِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا فِي الْأَرْضِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ مِثْلَ ذَلِكَ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ الْعَدَدِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَبِهِ تُقَاسُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ عَدَدَ خَلْقِك كُتِبَ لَهُ

ص: 148

صَلَوَاتٍ بِعَدَدِ الْخَلْقِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ، وَمِنْ مَزِيدِ كَرَمِهِ وَسَابِغِ مِنَّتِهِ.

وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: تَعْدِلُ ثُلُثَهُ بِلَا تَضْعِيفٍ.

وَقِيلَ: إنَّهَا ثُلُثُ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَحْكَامُ وَالْقَصَصُ وَالتَّوْحِيدُ. وَقِيلَ: تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لِمَنْ لَمْ يُحْسِنْ إلَّا هِيَ وَيَمْنَعُهُ مِنْ تَعَلُّمِ غَيْرِهَا مَانِعٌ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

(وَسُئِلَ) - فَسَحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - بِمَا لَفْظُهُ: مَا حُكْمُ مَنْ يُنْكِرُ الدُّعَاءَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: لَا يُنْكِرُ الدُّعَاءَ إلَّا كَافِرٌ مُكَذِّبٌ بِالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَ عِبَادَهُ بِهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، وَوَعَدَهُمْ بِالِاسْتِجَابَةِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثَةٍ؛ إمَّا اسْتِجَابَةٌ أَوْ ادِّخَارٌ، أَوْ يُكَفِّرُ عَنْهُ.

وَفِيهِ أَنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِ لَا تُرَدُّ مَا لَمْ تَكُنْ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ؛ فَفِي إحْدَى الثَّلَاثَةِ اسْتِجَابَةٌ وَفِي الْآخَرَيْنِ تَعْوِيضُ الِاسْتِجَابَةِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [المؤمنون: 71] وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْتَلِي الْعَبْدَ وَهُوَ يُحِبُّهُ لِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ» .

وَمِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ أَنْ يَعْزِمَ الْمَسْأَلَةَ؛ فَلَا يَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ إنْ شِئْت، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ الِاسْتِغْنَاءِ وَعَدَمِ الِافْتِقَارِ.

وَالدُّعَاءُ إنَّمَا وُضِعَ لِمَزِيدِ التَّذَلُّلِ وَإِظْهَارِ الِافْتِقَارِ وَالِاحْتِيَاجِ، وَفِي الْحَدِيثِ:«يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ» أَيْ: بَلْ يَنْبَغِي الْإِلْحَاحُ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ» ، وَلَا تَيْأَسْ مِنْ الْإِجَابَةِ وَلَا تَسْأَمْ مِنْ الرَّغْبَةِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُحْرَمْ مِنْ إحْدَى تِلْكَ الثَّلَاثِ.

وَمَنْ أَدْمَنَ قَرْعَ بَابِ الْكَرِيمِ يُوشِكُ أَنْ يَفْتَحَ لَهُ، قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: قَوْلُهُ: يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ، يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالْجَوَازَ؛ فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ الْأَوَّلَ - فَلَا بُدَّ مِنْ إحْدَى الثَّلَاثِ فَإِذَا عَجِلَ بَطَلَ وُجُوبُ أَحَدِهَا، وَتَعَرَّى الدُّعَاءُ عَنْ جَمِيعِهَا.

وَعَلَى الْجَوَازِ تَكُونُ الْإِجَابَةُ بِفِعْلِ مَا دَعَا وَيَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِعْجَالُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ وَهُوَ مُوقِنٌ بِالْإِجَابَةِ وَبِقَلْبٍ حَاضِرٍ لِخَبَرٍ بِذَلِكَ رَوَاهُ الْخَطِيبُ، وَهُوَ:«اُدْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ مِنْ قَلْبٍ لَاهٍ» .

وَآكَدُ آدَابِ الدُّعَاءِ أَكْلُ الْحَلَالِ وَلُبْسُهُ، وَلَهُ آدَابٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنْتهَا مَعَ شُرُوطِهِ وَوَاجِبَاتِهِ وَحُرُمَاتِهِ وَمُكَفِّرَاتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ فِي صِفَةِ الصَّلَاةِ - بِمَا لَمْ يُجْمَعْ مِثْلُهُ فِيمَا أَحْسِبُ فَاطْلُبْ ذَلِكَ مِنْهُ فَإِنَّهُ نَفِيسٌ مُهِمٌّ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ دَاءِ الْوَسْوَسَةِ هَلْ لَهُ دَوَاءٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَهُ دَوَاءٌ نَافِعٌ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا جُمْلَةً كَافِيَةً.

وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْسِ مِنْ التَّرَدُّدِ مَا كَانَ - فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يَلْتَفِتْ لِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ بَلْ يَذْهَبُ بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ كَمَا جَرَّبَ ذَلِكَ الْمُوَفَّقُونَ، وَأَمَّا مَنْ أَصْغَى إلَيْهَا وَعَمِلَ بِقَضِيَّتِهَا فَإِنَّهَا لَا تَزَالُ تَزْدَادُ بِهِ حَتَّى تُخْرِجَهُ إلَى حَيِّزِ الْمَجَانِينِ بَلْ وَأَقْبَحَ مِنْهُمْ، كَمَا شَاهَدْنَاهُ فِي كَثِيرِينَ مِمَّنْ اُبْتُلُوا بِهَا وَأَصْغَوْا إلَيْهَا وَإِلَى شَيْطَانِهَا الَّذِي جَاءَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:«اتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ» أَيْ: لِمَا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ اللَّهْوِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ كَمَا بَيَّنْت ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي شَرْحِ مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ، وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته وَهُوَ أَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فَلْيَعْتَقِدْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ.

فَتَأَمَّلْ هَذَا الدَّوَاءَ النَّافِعَ الَّذِي عَلَّمَهُ مَنْ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى لِأُمَّتِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ حُرِمَهُ فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ مِنْ الشَّيْطَانِ اتِّفَاقًا، وَاللَّعِينُ لَا غَايَةَ لِمُرَادِهِ إلَّا إيقَاعُ الْمُؤْمِنِ فِي وَهْدَةِ الضَّلَالِ وَالْحَيْرَةِ وَنَكَدِ الْعَيْشِ وَظُلْمَةِ النَّفْسِ وَضَجَرِهَا إلَى أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ.

وَهُوَ لَا يَشْعُرُ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاِتَّخِذُوهُ عَدُوًّا.

وَجَاءَ فِي طَرِيقٍ آخَرَ فِيمَنْ اُبْتُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فَلْيَقُلْ: آمَنْت بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اسْتَحْضَرَ طَرَائِقَ رُسُلِ اللَّهِ سِيَّمَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم وَجَدَ طَرِيقَتَهُ وَشَرِيعَتَهُ سَهْلَةً وَاضِحَةً بَيْضَاءَ بَيِّنَةً سَهْلَةً لَا حَرَجَ فِيهَا وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ وَآمَنَ بِهِ حَقَّ إيمَانِهِ ذَهَبَ عَنْهُ دَاءُ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِصْغَاءِ إلَى شَيْطَانِهَا.

وَفِي كِتَابِ ابْنِ السُّنِّيِّ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ: رضي الله عنها «مَنْ بُلِيَ بِهَذَا الْوَسْوَاسِ فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ ثَلَاثًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُهُ عَنْهُ» وَذَكَرَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ نَحْوَ مَا قَدَّمْته فَقَالُوا: دَوَاءُ الْوَسْوَسَةِ أَنْ

ص: 149

يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ، وَأَنَّ إبْلِيسَ هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُقَاتِلُهُ، فَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ الْمُجَاهِدِ؛ لِأَنَّهُ يُحَارِبُ عَدُوَّ اللَّهِ، فَإِذَا اسْتَشْعَرَ ذَلِكَ فَرَّ عَنْهُ، وَأَنَّهُ مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ نَوْعُ الْإِنْسَانِ مِنْ أَوَّلِ الزَّمَانِ وَسَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِحْنَةً لَهُ؛ لِيُحِقَّ اللَّهُ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.

وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي فَقَالَ: ذَلِكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبٌ، فَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِك ثَلَاثًا، فَفَعَلْت فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي.

وَفِي رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: ضَاقَ صَدْرِي لَيْلَةً لِكَثْرَةِ مَا صَبَبْت مِنْ الْمَاءِ، وَلَمْ يَسْكُنْ قَلْبِي فَقُلْت: يَا رَبِّ عَفْوَك، فَسَمِعْت هَاتِفًا يَقُولُ: الْعَفْوُ فِي الْعِلْمِ؛ فَزَالَ ذَلِكَ عَنِّي اهـ.

وَبِهِ تَعْلَمُ صِحَّةَ مَا قَدَّمْته أَنَّ الْوَسْوَسَةَ لَا تُسَلَّطُ إلَّا عَلَى مَنْ اسْتَحْكَمَ عَلَيْهِ الْجَهْلُ وَالْخَبَلُ وَصَارَ لَا تَمْيِيزَ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الِاتِّبَاعِ وَلَا يَمِيلُ إلَى الِابْتِدَاعِ.

وَأَقْبَحُ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُوَسْوَسُونَ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ مَالِكٌ رحمه الله عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ - إمَامِ أَهْلِ زَمَنِهِ -: كَانَ رَبِيعَةُ أَسْرَعَ النَّاسِ فِي أَمْرَيْنِ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَالْوُضُوءِ، حَتَّى لَوْ كَانَ غَيْرَهُ - قُلْت: مَا فَعَلَ. وَكَانَ ابْنُ هُرْمُزَ بَطِيءَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْوُضُوءِ، وَيَقُولُ: مُبْتَلًى لَا تَقْتَدُوا بِي.

وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ رحمه الله عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ بُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فِي الْوُضُوءِ، أَوْ الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إذَا سَمِعَ الذِّكْرَ خَنَسَ؛ أَيْ: تَأَخَّرَ وَبَعُدَ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ - رَأْسُ الذِّكْرِ وَلِذَلِكَ اخْتَارَ صَفْوَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ - مِنْ أَصْحَابِ التَّرْبِيَةِ وَتَأْدِيبِ الْمُرِيدِ - قَوْلَ (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) لِأَهْلِ الْخَلْوَةِ، وَأَمَرُوهُمْ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا، وَقَالُوا: أَنْفَعُ عِلَاجٍ فِي دَفْعِ الْوَسْوَسَةِ الْإِقْبَالُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا شَكَوْت إلَى الدَّارَانِيِّ الْوَسْوَسَةَ فَقَالَ: إذَا أَرَدْت قَطْعَهُ فَمَتَى أَحْسَسْت بِهِ فَافْرَحْ فَإِذَا فَرِحْت انْقَطَعَ عَنْك فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى الشَّيْطَانِ مِنْ سُرُورِ الْمُؤْمِنِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ مَنْ كَمُلَ إيمَانُهُ؛ فَإِنَّ اللِّصَّ لَا يَسْرِقُ مِنْ بَيْتِ لِصٍّ مِثْلِهِ اهـ.

وَهَذَا إنْ سَلِمَ فَهُوَ فِي الْوَسْوَاسِ فِي الْعَقَائِدِ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَحْضُ الْإِيمَانِ.

عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ ابْنَ عَرَفَةَ قَالَ إنَّمَا يُبْتَلَى بِهِ فِي الدِّينِ مَنْ أَخَذَهُ تَقْلِيدًا دُونَ مَنْ عَرَفَ بَرَاهِينَهُ؛ لِأَنَّ الْوَسْوَاسَ شَكٌّ وَهُوَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ الْمُسْتَنِدِ إلَى دَلِيلٍ لِكَوْنِهِ ضِدَّهُ.

وَقَالَ الْعَارِفُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ: إذَا كَثُرَ عَلَيْك الْوَسْوَاسُ فَقُلْ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْخَلَّاقِ {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19]{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20] ، أَذْهَبَ اللَّهُ عَنَّا سَائِرَ الْمَضَارِّ وَالْمَخَاوِفِ وَالْفِتَنِ، وَأَنَالَنَا كُلَّ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ أَهْلِ النِّعَمِ وَالْمِنَنِ إنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - بِمَا لَفْظُهُ ذَكَرَ: الشَّيْخُ زَكَرِيَّا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ الْبَهْجَةِ أَنَّهُ إذَا اسْتَوَى مُعْتَدِلًا بَعْدَ رُكُوعِهِ أَرْسَلَ يَدَيْهِ إرْسَالًا خَفِيفًا إلَى تَحْتِ صَدْرِهِ فَقَطْ. وَقَالَ غَيْرُهُ بِإِرْسَالِهِمَا فَمَا الْمُعْتَمَدُ مِنْ ذَلِكَ.

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّهُ يُرْسِلُهُمَا وَلَا يَجْعَلُهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ، وَعِبَارَةُ شَرْحِي لِلْعُبَابِ بَعْدَ قَوْلِهِ (فَإِذَا انْتَصَبَ أَرْسَلَهُمَا) : وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ هُنَا بَلْ صَرِيحُهُ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ أَوْهَمَ إطْلَاقُهُمْ جَعْلَهُمَا تَحْتَهُ فِي الْقِيَامِ خِلَافَهُ، ثُمَّ رَأَيْتهمْ صَرَّحُوا بِمَا ذَكَرْته؛ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْقُنُوتِ فَقَالَ كَثِيرُونَ: لَا يَرْفَعُ كَدُعَاءِ الِافْتِتَاحِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَلْ يَرْفَعُ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ لِيَدَيْهِ ثَمَّ وَظِيفَةً أَيْ: وَهِيَ جَعْلُهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ وَلَا وَظِيفَةَ لَهُمَا هُنَا اهـ.

فَقَوْلُهُمْ: لَا وَظِيفَةَ لَهُمَا هُنَا صَرِيحٌ فِي إرْسَالِهِمَا، وَأَنَّهُ لَا يُنْدَبُ جَعْلُهُمَا تَحْتَ الصَّدْرِ وَإِلَّا لَمْ يَتَأَتَّ الْفَرْقُ بِمَا ذُكِرَ، انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ فِي السَّلَامِ: يَنْوِي بِهِ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنْ مَلَائِكَةٍ وَإِنْسٍ وَجِنٍّ؛ فَلَوْ دَخَلَ عَلَى الْمُصَلِّي دَاخِلٌ حِينَئِذٍ فَهَلْ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ لِسَلَامِ الْمُصَلِّي أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: مَا ذُكِرَ عَنْ الْأَئِمَّةِ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الرَّدِّ كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَعِبَارَتُهُ: اُعْتُرِضَ قَوْلُهُمْ يَنْوِي السَّلَامَ عَلَى مَنْ ذُكِرَ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ كَافٍ فِي الصَّرْفِ إلَيْهِمْ، فَأَيُّ مَعْنًى

ص: 150

لِلنِّيَّةِ؛ وَالصَّرِيحُ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ وَبِأَنَّ كَلَامَ جَمْعٍ يَقْتَضِي حُصُولَ السُّنَّةِ بِالْخِطَابِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، كَمَا لَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُ خَارِجَ الصَّلَاةِ إلَى نِيَّةٍ فِي أَدَاءِ السُّنَّةِ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ لَهُ مَعْنًى وَاضِحًا؛ فَإِنَّ السَّلَامَ هُنَا جُزْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ حَقِيقَةً أَوْ تَبَعًا، فَلَمْ يَصِحَّ التَّخَاطُبُ الْعَادِيُّ بِهِ فَاحْتَاجَ فِي صَرْفِهِ لِذَلِكَ إلَى نِيَّةٍ، وَبِهِ فَارَقَ السَّلَامَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، أَوْ نَقُولُ مَا فِيهِ مِنْ الْخِطَابِ صَيَّرَهُ مُغَايِرًا لِبَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَاحْتَاجَ صَرْفُهُ إلَيْهَا إلَى نِيَّةٍ لِيُثَابَ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مِنْ أَجْزَائِهَا لَا لِيَصْلُحَ لِلتَّخَاطُبِ بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ لِنِيَّةٍ؛ وَبِهَذَا يَقْرُبُ احْتِمَالُ وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَى غَيْرِ مُصَلٍّ خُوطِبَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الْوُجُوبِ أَوْجَهَ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُصَلٍّ غَيْرُ مُتَأَهِّلٍ لِلْخِطَابِ الْعَادِيِّ، وَلَكِنْ بِهِ يُؤْمَنُ غَيْرُهُ بِسَلَامَتِهِ مِنْهُ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ لَهُ السَّلَامُ بِوَجْهٍ، انْتَهَتْ عِبَارَةُ الشَّرْحِ الْمَذْكُورِ.

وَنُقِلَ عَنْ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ أَفْتَى بِوُجُوبِ الرَّدِّ فَإِنْ صَحَّ عَنْهُ فَوَجْهُهُ مَا أَشَرْت إلَيْهِ، لَكِنِّي مَعَ ذَلِكَ لَا أَعْتَمِدُهُ؛ لِمَا ذَكَرْته، فَتَأَمَّلْهُ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ قُنُوتِهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَعْدَائِهِ هَلْ كَانَ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِالْقُنُوتِ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا. .. إلَخْ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: قَالَ الْحَافِظُ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ: لَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ بَلْ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي قُنُوتِهِ عَلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - عَنْ حَدِيثِ: لَا تُسَيِّدُونِي فِي الصَّلَاةِ هَلْ لَهُ أَصْلٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا أَصْلَ لَهُ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ وَرَدَ أَنَّ بِلَالًا أَوْ غَيْرَهُ أَذَّنُوا بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ إلَّا فِي أَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَنَطَقَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُؤَذِّنْ قَبْلَهَا بِلَالٌ وَلَا غَيْرُهُ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ خَبَرِ التِّرْمِذِيِّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: إنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ الْعُطَاسَ وَالنُّعَاسَ وَالتَّثَاؤُبَ فِي الصَّلَاةِ. وَلَهُ شَاهِدٌ ضَعِيفٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، هَلْ يُعَارِضُهُ الْخَبَرُ الضَّعِيفُ أَيْضًا الْمَوْقُوفُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ: إنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ وَيُحِبُّ الْعُطَاسَ فِي الصَّلَاةِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا يُعَارِضُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامَانِ: مَقَامُ إطْلَاقٍ وَمَقَامٌ نِسْبِيٌّ؛ فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ التَّثَاؤُبَ وَالنُّعَاسَ كِلَاهُمَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِذَا وَقَعَا فِي الصَّلَاةِ مَعَ كَوْنِهِمَا مِنْ الشَّيْطَانِ فَالْعُطَاسُ فِي الصَّلَاةِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ التَّثَاؤُبِ فِيهَا، وَالتَّثَاؤُبُ فِيهَا أَكْرَهُ إلَيْهِ مِنْ الْعُطَاسِ فِيهَا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَثَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى تَفَاوُتِ رُتَبِ بَعْضِ الْمَكْرُوهِ عَلَى بَعْضٍ. كَذَا قِيلَ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي الْجَوَابِ حَمْلُ الْعُطَاسِ الْمَحْبُوبِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى قَلِيلِهِ الَّذِي لَا يُخِلُّ بِخُشُوعِهَا وَالْمَكْرُوهِ فِيهَا عَلَى كَثِيرِهِ الَّذِي يُخِلُّ بِخُشُوعِهَا.

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَبْعٌ مِنْ الشَّيْطَانِ، فَذَكَرَ مِنْهَا شِدَّةَ الْعُطَاسِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته فَتَأَمَّلْهُ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ حَدِيثِ: التَّكْبِيرُ جَزْمٌ، مَنْ خَرَّجَهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا أَصْلَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَفَسَّرَهُ أَوْ الرَّاوِي عَنْهُ أَوْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الْمُخَرِّجُ لَهُ عَنْهُ؛ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُمَدُّ، وَفَسَّرَهُ بِذَلِكَ أَيْضًا فِي الْعَزِيزِ كَابْنِ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ وَجَمَاعَةٍ، وَبِهِ رُدَّ تَفْسِيرُ آخَرِينَ لَهُ بِأَنَّهُ تَسْكِينُ الرَّاءِ.

عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ الْجَزْمِ عَلَى حَذْفِ الْحَرَكَةِ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِي زَمَنِ النَّخَعِيِّ وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ بَعْدَهُ فَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَخَبَرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْطِقْ بِالتَّكْبِيرِ إلَّا مَجْزُومًا، قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ: لَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ فَصَاحَتَهُ الْعَظِيمَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ.

وَأَخْذُ جَمْعٍ مِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطَ جَزْمِ الرَّاءِ - وَإِلَّا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ - ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ لَحْنٌ، وَهُوَ إذَا لَمْ يُغَيِّرْ الْمَعْنَى لَا يُبْطِلُ فِي الْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا؛ مَعَ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِلَحْنٍ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ تَصْرِيحٍ بِالْحَرَكَةِ فِي حَالِ الْوَقْفِ وَهُوَ دُونَ اللَّحْنِ؛ وَمِنْ ثَمَّ كُرِهَ تَعَمُّدُ هَذَا هُنَا، وَحَرُمَ تَعَمُّدُ اللَّحْنِ وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ، وَمَنْ فَهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ اشْتِرَاطَ الْجَزْمِ فَقَدْ اسْتَرْوَحَ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي النَّدْبِ لَا غَيْرُ بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ ذَلِكَ مَعَ مَسْأَلَةِ الْمَدِّ.

وَمَدُّ التَّكْبِيرِ لَا يُبْطِلُ بِلَا خِلَافٍ، وَحَذْفُهُ سُنَّةٌ بِلَا خِلَافٍ. وَنَصُّ الْأُمِّ عَلَى جَزْمِهِ مُرَادُهُ بِهِ حَذْفُهُ وَعَدَمُ

ص: 151

مَدِّهِ وَتَمْطِيطِهِ.

(وَسُئِلَ) رضي الله عنه هَلْ لِلسُّبْحَةِ أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، وَقَدْ أَلَّفَ فِي ذَلِكَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ؛ فَمِنْ ذَلِكَ مَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ بِيَدِهِ.» وَمَا صَحَّ عَنْ صَفِيَّةَ: رضي الله عنها «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ يَدَيَّ أَرْبَعَةُ آلَافِ نَوَاةٍ أُسَبِّحُ بِهِنَّ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا بِنْتَ حُيَيٍّ. قُلْت: أُسَبِّحُ بِهِنَّ، قَالَ: قَدْ سَبَّحْت مُنْذُ قُمْت عَلَى رَأْسِك أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، قُلْت: عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: قُولِي سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ مِنْ شَيْءٍ.

» وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ: «عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ وَلَا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ التَّوْحِيدَ، وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ وَمُسْتَنْطَقَاتٌ.» وَجَاءَ التَّسْبِيحُ بِالْحَصَى وَالنَّوَى وَالْخَيْطِ الْمَعْقُودِ فِيهِ عُقَدٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ مَرْفُوعًا: نِعْمَ الْمُذَكِّرُ السُّبْحَةُ.

وَعَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: عَقْدُ التَّسْبِيحِ بِالْأَنَامِلِ أَفْضَلُ مِنْ السُّبْحَةِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إنْ أَمِنَ الْمُسَبِّحُ الْغَلَطَ كَانَ عَقْدُهُ بِالْأَنَامِلِ أَفْضَلَ وَإِلَّا فَالسُّبْحَةُ أَفْضَلُ؟

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّا قِيلَ إنَّ أَكْثَرَ قِرَاءَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ كَانَتْ بِقِرَاءَةِ نَافِعٍ هَلْ لَهُ أَصْلٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ لَا أَصْلَ لِذَلِكَ؛ إذْ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا خَرَّجَهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا بِإِسْنَادٍ غَيْرِ صَحِيحٍ؛ بَلْ كَانَ يَقْرَأُ بِجَمِيعِ الْأَحْرُفِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِ.

وَفِي الذَّخِيرَةِ لِلْقَرَافِيِّ: يُسْتَحَبُّ الْقِرَاءَةُ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لُغَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ حَسَنٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ؛ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ لُغَتَهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَلُغَتُهُمْ تَسْهِيلُ الْهَمْزَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرِيَّةُ قِرَاءَتِهِ؛ بَلْ كَانَ تَارَةً يَقْرَأُ بِتَسْهِيلِهَا الَّذِي هُوَ لُغَتُهُ، وَتَارَةً بِتَحْقِيقِهَا الَّذِي هُوَ لُغَةُ غَيْرِ قُرَيْشٍ، وَتَارَةً بِتَرْكِ الْإِمَالَةِ كَلُغَةِ الْحِجَازِ، وَبِالْإِمَالَةِ كَلُغَةِ تَمِيمٍ.

(وَسُئِلَ) - فَسَّحَ اللَّهُ فِي مُدَّتِهِ - عَمَّا قِيلَ إنَّ الْقِرَاءَةَ بِالتَّرْقِيقِ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهَةٌ لِإِذْهَابِهَا الْخُشُوعَ، صَحِيحٌ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ إذْ لَا بُدَّ لِلْكَرَاهَةِ مِنْ نَهْيٍ خَاصٍّ أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ، وَزَعْمُ إذْهَابِهَا الْخُشُوعَ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْفِكْرِ فِي أَدَاءِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ - فَجَمِيعُ هَيْئَاتِ الْأَدَاءِ كَذَلِكَ.

وَالْفِكْرُ فِي أَدَاءِ الْأَلْفَاظِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهَا لَا يُنَافِي الْخُشُوعَ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا الْمُنَافِي لِلْخُشُوعِ الْفِكْرُ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَيْضًا الْقِرَاءَةُ بِالْأَحْرُفِ الثَّابِتَةِ فِي السَّبْعَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إجْمَاعًا، فَكَيْفَ يُوصَفُ مَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ؟ وَكَأَنَّ مَا فِي السُّؤَالِ تَوَهُّمٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ رضي الله عنه: وَأَكْرَهُ التَّرْقِيقَ وَالتَّفْخِيمَ وَالرَّوْمَ وَالْإِشْمَامَ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا تُشْغِلُ عَنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ.

وَلَيْسَ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ يُطْلِقُونَ الْكَرَاهَةَ عَلَى الْإِرْشَادِيَّةِ الَّتِي لَا ثَوَابَ فِي تَرْكِهَا وَلَا قُبْحَ فِي فِعْلِهَا.

وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: رضي الله عنه وَأَنَا أَكْرَهُ الْإِمَامَةَ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ، وَأَنَا أَكْرَهُ سَائِرَ الْوِلَايَاتِ لَمْ يُرِدْ الْكَرَاهَةَ الشَّرْعِيَّةَ لِأَنَّهَا مِنْ قِسْمِ الْقَبِيحِ.

وَالْإِمَامَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِتَوَقُّفِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي هِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَيْهَا بَلْ هِيَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَذَانِ عِنْدَ كَثِيرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الدُّخُولَ فِيهَا وَلَا يَخْتَارُهُ، وَلَا أَنَّهُ لَا ثَوَابَ فِيهَا إذْ الْكَرَاهَةُ وَالثَّوَابُ لَا يَجْتَمِعَانِ؛ فَكَذَلِكَ مُرَادُ مَالِكٍ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَحَبَّ وَاخْتَارَ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ لَا أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيِّزِ الْقَبِيحِ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ لَا تُوصَفُ بِذَلِكَ قَطْعًا.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّنْ يُصَلِّي وَيَقُولُ فِي الْفَاتِحَةِ: وَلَا الظَّالِّينَ، هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؟ وَهَلْ لَهُ أَنْ يَؤُمَّ بِالْمُسْلِمِينَ؟ وَهَلْ يَكُونُ آثِمًا فِي إمَامَتِهِ أَمْ مُثَابًا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: أَمَّا صَلَاتُهُ فَلَا تَصِحُّ إلَّا إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ النُّطْقِ بِالضَّادِ، وَيَلْزَمُهُ التَّعَلُّمُ لِلنُّطْقِ بِهَا مَا أَمْكَنَهُ، وَلَوْ بِأُجْرَةٍ لِمَنْ يُعَلِّمُهُ، وَمَتَى تَرَكَ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَيُعَزَّرُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ الزَّاجِرَ لَهُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْقَبَائِحِ الَّتِي يُفَسَّقُ مُرْتَكِبُهَا. وَأَمَّا إمَامَتُهُ لِلنَّاسِ فَلَا تَصِحُّ فَيُعَزَّرُ عَلَيْهَا أَيْضًا؛ إلَّا إنْ كَانَ الْمُؤْتَمُّ بِهِ مِثْلَهُ فِي الْعَجْزِ عَنْ النُّطْقِ بِالضَّادِ فَحِينَئِذٍ تَصِحُّ إمَامَتُهُ بِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَضَاعُوا حُقُوقَ الْقُرْآنِ وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ تَعَلُّمِ إخْرَاجِ الْحُرُوفِ مِنْ مَخَارِجِهَا فَأَثِمُوا بَلْ فَسَقُوا وَبَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ وَشَهَادَتُهُمْ؛ فَيَتَعَيَّنُ

ص: 152

عَلَيْهِمْ السَّعْيُ فِيمَا قُلْنَاهُ، وَبَذْلُ الْجُهْدِ فِي التَّعَلُّمِ مَا أَمْكَنَهُمْ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ قَوْلِ الْأَصْحَابِ: تُسْتَحَبُّ الْقِرَاءَةُ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ وَمُتَوَالِيًا، فَإِذَا شُرِعَتْ لِلْإِمَامِ قِرَاءَةُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ جَهْرًا مَثَلًا، وَقُلْتُمْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْكُتَ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بِقَدْرِ مَا يَقْرَؤُهَا الْمَأْمُومُ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ فِي سُكُوتِهِ الْقِرَاءَةُ؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ فِي سُكُوتِهِ الْأَوَّلِ يَقْرَأُ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ سِرًّا؛ لِاتِّصَالِهَا بِمَا يَقْرَؤُهُ جَهْرًا مِنْ سُورَةِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَمَا الَّذِي يَقْرَؤُهُ فِي السُّكُوتِ الثَّانِي؟ هَلْ يَقْرَأُ سُورَةَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ سِرًّا ثُمَّ جَهْرًا؟

وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَكْرِيرٌ مُحَافَظَةً عَلَى النَّمَطِ السَّابِقِ أَوْ الْحُكْمُ غَيْرُ ذَلِكَ؟ وَمَا هُوَ أَثَابَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَأَدَامَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ السَّابِغَةَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْوَجْهُ أَنَّهُ يَقْرَأُ النَّاسَ سِرًّا ثُمَّ جَهْرًا. وَلَا نَظَرَ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ تَكْرِيرِ قِرَاءَتِهَا؛ لِأَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ بِإِذَا زُلْزِلَتْ مَرَّتَيْنِ كُلُّ مَرَّةٍ فِي رَكْعَةٍ فَلَا مُخَالَفَةَ فِي ذَلِكَ لِلسُّنَّةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَلَّ بِتَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ أَوْ الْمُوَالَاةِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الصَّرِيحَةِ.

هَذَا إنْ فُرِضَ أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ قِرَاءَةُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ بِخُصُوصِهِمَا جَهْرًا كَمَا فِي السُّؤَالِ، وَكَذَا يُقَالُ بِنَظِيرِ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ وَسَبِّحْ وَهَلْ أَتَاك، فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ فَفِي الثَّانِيَةِ يَقْرَأُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ أَوْ هَلْ أَتَاك فِي سُكُوتِهِ بِقَدْرِ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ يَقْرَأُ السُّورَةَ بِكَمَالِهَا وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ التَّكْرِيرِ؛ لِمَا تَقَرَّرَ. أَمَّا إذَا لَمْ يُسَنَّ الْجَهْرُ فِيهِمَا بِخُصُوصِهِمَا فَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي السُّكُوتِ الثَّانِي قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، ثُمَّ يَقْرَأُ جَهْرًا مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ؛ كَمَا إذَا قَرَأَ جَهْرًا فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ بِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ، فَإِنَّهُ يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ بِأَوَّلِ الْبَقَرَةِ، كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ.

وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّهُ يُلْزَمُ عَلَى قِرَاءَةِ النَّاسِ؛ إمَّا تَطْوِيلُ الثَّانِيَةِ إنْ أَكْمَلَ الْبَقَرَةَ؛ وَإِمَّا عَكْسُ التَّرْتِيبِ إنْ قَرَأَ بِغَيْرِهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا خِلَافُ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّا لَا نَأْمُرُهُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ، وَإِنَّمَا نَأْمُرُهُ بِقِرَاءَةِ نَحْوِ آيَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، كَمَا أَفْهَمَهُ قَوْلُ الْمَجْمُوعِ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ، وَإِنَّمَا آثَرُوا هَذَا لِلِاضْطِرَارِ إلَى أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. وَهَذَا أَخَفُّ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ؛ إذْ تَطْوِيلُ الثَّانِيَةِ الَّذِي لَمْ يَرِدْ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الصَّرِيحَةِ فَارْتِكَابُ بَعْضِ السُّورَةِ أَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي تَفْرِيقِهِ الْأَعْرَافَ عَلَى رَكْعَتَيْ الْمَغْرِبِ وَقِرَاءَتِهِ آيَتَيْ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ.

وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ عَلَى عَكْسِ تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ الصَّرِيحَةِ أَيْضًا؛ فَكَانَ ارْتِكَابُ بَعْضِ السُّورَةِ أَوْلَى مِنْهُ. وَأَمَّا قِرَاءَتُهُ صلى الله عليه وسلم فِي رَكْعَةٍ بِالْبَقَرَةِ ثُمَّ بِالنِّسَاءِ ثُمَّ بِآلِ عِمْرَانَ - فَهُوَ إيمَاءٌ إلَى أَنَّ آلَ عِمْرَانَ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، أَوْ أَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ. وَأَمَّا أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ فِي أُولَى الْجُمُعَةِ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي ثَانِيَتِهَا فَهُوَ إنَّمَا هُوَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ؛ وَهِيَ إعْلَامُهُ بِأَنْ لَا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنْ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الْمَقْصُودَتَيْنِ لِذَاتِهِمَا، وَأَيْضًا تَرْتِيبُ السُّوَرِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَقِرَاءَةُ سُورَةٍ كَامِلَةٍ ثَبَتَ اجْتِهَادًا فَكَانَتْ مُخَالَفَةُ هَذَا الثَّانِي بِقِرَاءَةِ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ أَخَفَّ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَوَّلِ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهَا، فَتَأَمَّلْهُ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَنْ الْإِحْضَارِ الْمَذْكُورِ مِنْ شَرَائِطِ نِيَّةِ الصَّلَاةِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ لِلنِّيَّةِ حَتَّى تَتِمَّ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ؟ وَهَلْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ فَيُحْضِرُهُ؛ أَيْ مَا يَجِبُ قَصْدُهُ حَتْمًا وَيَتَلَفَّظُ بِهِ نَدْبًا، ثُمَّ يَقْصِدُهُ مُقَارِنًا لِأَوَّلِ التَّكْبِيرِ أَنَّ النِّيَّةَ وَالْإِحْضَارَ شَيْئَانِ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْإِحْضَارُ الْمَذْكُورُ شَرْطٌ لِلِاعْتِدَادِ بِالنِّيَّةِ، فَهُوَ غَيْرُهَا، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ حَيْثُ قَالُوا مَا حَاصِلُهُ: الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ تَجِبُ مُقَارَنَةُ النِّيَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى جَمِيعِ مَا يُعْتَبَرُ فِيهَا مِنْ قَصْدِ الْفِعْلِ أَوْ وَالتَّعْيِينِ أَوْ وَالْفَرْضِيَّةِ أَوْ وَالْقَصْرِ أَوْ وَالِاقْتِدَاءِ أَوْ وَالْإِمَامَةِ فِي الْجُمُعَةِ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ؛ بِأَنْ يَسْتَحْضِرَ فِي ذِهْنِهِ ذَاتَ الصَّلَاةِ.

وَمَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لَهُ فِيهَا مِمَّا ذُكِرَ، ثُمَّ يَقْصِدُ إلَى فِعْلِ هَذَا الْمَعْلُومِ، وَيَجْعَلُ قَصْدَهُ هَذَا مُقْتَرِنًا بِأَوَّلِ التَّكْبِيرَةِ، وَيَسْتَدِيمُ اسْتِحْضَارَ قَصْدِهِ لِتِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهَا النِّيَّةُ فِي قَلْبِهِ حَتَّى يُفْرِغَ الرَّاءَ مِنْ (أَكْبَرُ) . قَالَ بَعْضُهُمْ: وَتَسْمِيَةُ هَذِهِ الْإِدَامَةِ اسْتِمْرَارًا لِلنِّيَّةِ مَجَازٌ؛ إذْ اسْتِحْضَارُ النِّيَّةِ غَيْرُهَا؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الْقَصْدِ عَلَى ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ. وَقِيلَ: يَجِبُ، وَأَنَّهُ لَا يَكْفِي تَوْزِيعُهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَبْتَدِئَهُ مَعَ ابْتِدَائِهِ

ص: 153

وَيُنْهِيَهُ مَعَ انْتِهَائِهِ؛ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ خُلُوِّ مُعْظَمِ التَّكْبِيرِ عَنْ تَمَامِ النِّيَّةِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الْأَنْوَارِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يَجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ النِّيَّةَ أَيْ الْقَصْدَ إلَى تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى التَّكْبِيرِ.

وَلَوْ قَدَّمَ فَالِاعْتِبَارُ بِالْمُقَارَنِ بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْإِحْضَارُ فِي الذِّهْنِ ثُمَّ الْقَصْدُ إلَى الْمَعْلُومِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ النِّيَّةَ بِالْقَلْبِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ بِاللِّسَانِ وَيَفْرُغَ مِنْهَا مَعَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّكْبِيرِ اهـ.

وَقِيلَ: يَكْفِي ذَلِكَ التَّوْزِيعُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ - مُتَعَقِّبًا قَوْلَ إمَامِهِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ -: حَقِيقَةُ الْمُقَارَنَةِ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا تَحْوِيهِ الْقُدْرَةُ الْبَشَرِيَّةُ اهـ. وَأَمْرُ هَذِهِ الْمُقَارَنَةِ سَهْلٌ، وَإِنَّمَا سَبَبُ عُسْرِهِ الْوَسْوَسَةُ أَوْ الْجَهْلُ بِحَقِيقَتِهَا، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ وَأَطَالَ فِيهِ بِمَا بَيَّنْت مَا فِيهِ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّنْ تَرَكَ تَسْبِيحَ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ الْأَوَّلِ فَهَلْ يُعِيدُهُ فِي الثَّانِي كَمَا فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ تُجْبَرُ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ؟

وَإِذَا سَبَّحَ فِي الْأُولَى مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَهَلْ يُعِيدُ الْبَاقِيَ فِي الثَّانِيَةِ مَعَ الَّتِي فِيهَا أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَأْتِي بِمَا تَرَكَهُ سَوَاءٌ الْكُلُّ أَوْ الْبَعْضُ فِي مُمَاثِلِهِ الَّذِي يَلِيه مِنْ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي تَعْقُبُ الْمَتْرُوكَ فِيهَا، وَالسُّجُودِ الَّذِي يَلِي الْمَتْرُوكَ فِيهِ مِنْ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ بِأَنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِنْهُ السُّجُودَ الْأَوَّلَ أَوْ رَكْعَةٍ أُخْرَى؛ بِأَنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِنْهُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ، سَوَاءٌ كَانَ التَّرْكُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا؛ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِمْ: لَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ سَبِّحْ مِنْ أُولَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا قَرَأَهَا مَعَ الْمُنَافِقِينَ أَوْ هَلْ أَتَاك فِي الثَّانِيَةِ.

وَإِنْ لَزِمَ تَطْوِيلُهَا عَلَى الْأُولَى؛ لِأَنَّ مَحَلَّ كَرَاهَتِهِ إذَا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ، وَهُنَا وَرَدَ بِهِ إذْ الْمُنَافِقُونَ وَالْغَاشِيَةُ أَطْوَلُ مِنْ الْجُمُعَةِ أَوْ سَبِّحْ.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ: وَلِأَنَّ تَرْكَهُ أَدَبٌ لَا يُقَاوِمُ فَضْلَهُمَا. وَنَظَرَ فِيهِ الْأَذْرَعِيُّ بِأَنَّ الْجُمُعَةُ فَاتَ مَحَلُّهَا مَعَ مُخَالَفَةِ سُنَّةِ التَّرْتِيبِ وَمَعَ التَّطْوِيلِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، وَيُرَدُّ بِمَنْعِ فَوَاتِ مَحَلِّهَا لِقَوْلِهِمْ: الْقَصْدُ أَنْ لَا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنْهُمَا، وَبِأَنَّ هَذَا أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ التَّرْتِيبِ. وَالتَّطْوِيلُ إنَّمَا يُذَمُّ حَيْثُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ بِخُصُوصِهِ وَإِلَّا لَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهُمْ مُطْلَقًا، وَلَوْ قَرَأَ الثَّانِيَةَ فِي الْأُولَى قَرَأَ الْأُولَى فَقَطْ فِي الثَّانِيَةِ؛ كَيْ لَا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنْهُمَا كَمَا تَقَرَّرَ، وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُسَنُّ لَهَا سُورَتَانِ مَخْصُوصَتَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ مُطْلَقًا؛ قِيَاسًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ أَوْ الْمُنْفَرِدُ التَّكْبِيرَاتِ السَّبْعَ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ لَمْ يَتَدَارَكْهَا فِي الثَّانِيَةِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الْأُمِّ وَجَرَى عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ.

وَقَوْلُ الْعُبَابِ: إنَّهُ يَتَدَارَكُهَا فِي الثَّانِيَةِ مَعَ تَكْبِيرِهَا - سَهْوٌ كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِهِ، وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي أَثْنَاءِ التَّكْبِيرَاتِ لَمْ يَتَدَارَكْ الْفَائِتَ نَدْبًا فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَتَحَمَّلُهُ عَنْهُ قَالُوا: وَلَوْ أَدْرَكَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ مَعَهُ خَمْسًا، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا فَقَطْ؛ لِأَنَّ فِي قَضَاءِ ذَلِكَ تَرْكَ سُنَّةٍ أُخْرَى، وَبِهِ فَارَقَ مَا مَرَّ فِي الْجُمُعَةِ، وَفَارَقَ مَا يَأْتِي فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ؛ بِأَنَّ السُّنَّةَ عَدَمُ السَّبْعِ فِي الثَّانِيَةِ. وَلَيْسَتْ السُّنَّةُ عَدَمَ السُّورَةِ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ بَلْ لَا تُسَنُّ فِيهِمَا. وَفَرْقٌ وَاضِحٌ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَرْبِعَاءَ لَا يُسَنُّ صَوْمُهُ مَعَ أَنَّ مَنْ صَامَهُ أُثِيبَ؛ لِإِتْيَانِهِ بِعِبَادَةٍ، وَبِأَنَّ السُّنَّةَ فِي تَكْبِيرِ الْعِيدِ الْجَهْرُ، فَلَوْ أَتَى بِالتَّكْبِيرَةِ السَّادِسَةِ أَوْ السَّابِعَةِ جَهْرًا غَيَّرَ شِعَارَ الثَّانِيَةِ، بِخِلَافِ السُّوَرِ فَإِنَّهُ يُسَنُّ الْإِسْرَارُ بِهَا فَلَيْسَ فِي الْإِتْيَانِ بِهَا تَغْيِيرُ شِعَارِ الْأَخِيرَتَيْنِ. وَقِيَاسًا أَيْضًا عَلَى مَا لَوْ تَرَكَ رَمَلَ الطَّوَافِ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ لَا يَأْتِي بِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِيهَا الْمَشْيُ، وَعَلَى مَا لَوْ فُقِدَتْ يَمِينُهُ فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ فِي تَشَهُّدِ الصَّلَاةِ بِيَسَارِهِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِيهِ بِيَمِينِهِ؛ لِفَوَاتِ سُنَّةِ بَسْطِ الْيَسَارِ، وَيُحْتَمَلُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ فَيَأْتِي بِذَلِكَ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَأْتِي بِهِ؛ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِمْ: لَوْ فَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ أُوِّلَتَا الرُّبَاعِيَّةِ - قَرَأَ السُّورَةَ سِرًّا فِي أَخِيرَتَيْهِمَا؛ لِئَلَّا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ مِنْهُمَا، فَلَمْ يَقُولُوا بِنَدْبِ التَّدَارُكِ هُنَا إلَّا لِلْمَعْذُورِ دُونَ غَيْرِهِ؛ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَوْ أَدْرَكَ ثَانِيَةَ رُبَاعِيَّتِهِ وَأَمْكَنَتْهُ السُّورَةُ فِي أُولَيَيْهِ تَرَكَهَا فِي الْبَاقِي، وَإِنْ تَعَذَّرَتْ فِي ثَانِيَتِهِ دُونَ ثَالِثَتِهِ قَرَأَهَا، وَلَا يَقْرَؤُهَا فِي الرَّابِعَةِ اهـ.

فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ ظَهَرَ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثِ وَجْهًا وَسَنَدًا مِنْ كَلَامِهِمْ، فَمَا الَّذِي يَتَرَجَّحُ مِنْهَا؟ قُلْتُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ إمَامَ

ص: 154

غَيْرِ الْمَحْصُورِينَ لَا يُتَدَارَكُ؛ لِأَنَّهُ يُطَوِّلُ عَلَيْهِمْ بِمَا لَمْ يَرِدْ؛ إذْ السُّنَّةُ لَهُ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَا مَرَّ فِي الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَهُ قِرَاءَةُ تَيْنِك السُّورَتَيْنِ، وَإِنْ طَوَّلَ عَلَيْهِمْ؛ لِوُرُودِهِمَا فِيهَا بِخُصُوصِهِمَا. وَالْمَأْمُومُ تَابِعٌ لِإِمَامِهِ تَطْوِيلًا وَضِدَّهُ.

وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ وَإِمَامُ الْمَحْصُورِينَ الرَّاضِينَ بِشَرْطِهِمْ فَيُتَدَارَكُ كُلٌّ مِنْهُمَا إنْ عُذِرَ؛ بِأَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُسَنُّ فِي الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَبِمَا فَوَّتَهُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا مَرَّ فِي الْجُمُعَةِ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ شَيْءٌ بِخُصُوصِهَا، فَتَأَكَّدَتْ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ طَوَّلَ أَوْ أَخَلَّ بِالتَّرْتِيبِ أَوْ تَعَمَّدَ التَّرْكَ كَمَا مَرَّ.

وَالسُّجُودُ وَالرُّكُوعُ لَمْ يَرِدْ فِيهِمَا شَيْءٌ خَاصٌّ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ؛ فَكَانَتْ أَذْكَارُهُمَا أَشْبَهَ بِمُطْلَقِ السُّورَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَيَأْتِي فِيهِمَا مَا فِيهَا، وَفَارَقَ مَا مَرَّ فِي الْعِيدِ وَالطَّوَافِ وَالتَّشَهُّدِ بِأَنَّ التَّدَارُكَ ثَمَّ يَلْزَمُهُ فَوَاتُ شِعَارٍ مَنْدُوبٍ وَلَا كَذَلِكَ هُنَا، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّا صُورَتُهُ: ذَكَرُوا أَوَائِلَ بَابِ الصَّلَاةِ كَمَا فِي الْإِسْنَوِيِّ وَغَيْرِهِ فِيمَا لَوْ شَكَّ بَعْدَ الْوَقْتِ، هَلْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؟

وَذَكَرُوا فِي بَابِ مَسْحِ الْخُفِّ مَا قَدْ يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ حَيْثُ قَالُوا - وَاللَّفْظُ لِلْعُبَابِ -: وَإِذَا أَحْدَثَ وَمَسَحَ وَصَلَّى عَقِبَهُ صَلَوَاتٍ، إلَى قَوْلِهِ: وَفِي الْمَسْحِ بِأَنَّهُ لِزَمَنٍ يَسَعُ أَرْبَعًا اهـ فَإِنَّ فِي هَذَا إلْزَامًا بِالْقَضَاءِ بِالشَّكِّ بَعْدَ الْوَقْتِ، كَمَا لَا يَخْفَى؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: لَا مُخَالَفَةَ؛ لِأَنَّ صُورَةَ الْأُولَى كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُهُمْ أَنْ يَشُكَّ: هَلْ لَزِمَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ ذِمَّتَهُ أَوْ لَا؟ وَعَدَمُ اللُّزُومِ فِي هَذِهِ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ شَغْلُ الذِّمَّةِ بِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَكَّ: هَلْ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ؟ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ هُنَا تَيَقَّنَ لُزُومَهَا لِذِمَّتِهِ، وَشَكَّ فِي أَدَائِهَا فَلَزِمَهُ، وَكَذَا فِيمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ؛ لِأَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَقْضِيَّةَ لَزِمَتْ ذِمَّتَهُ يَقِينًا ثُمَّ شَكَّ فِي بَعْضِهَا: هَلْ فَعَلَهُ أَوْ لَا؟ فَلَزِمَهُ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ فِعْلِهِ لَهُ،

فَإِنْ قُلْتَ: شَكُّهُ فِي أَنَّهَا هَلْ لَزِمَتْ ذِمَّتَهُ شَكٌّ فِي أَنَّهُ هَلْ صَلَّاهَا أَوْ لَا؟ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.

قُلْتُ: مَمْنُوعٌ بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي اللُّزُومِ شَكٌّ فِي طَارِئٍ عَلَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَالشَّكُّ فِي الْفِعْلِ شَكٌّ فِي مُسْقِطٍ لِمَا لَزِمَ الذِّمَّةَ، وَكَوْنُ مَا حَصَلَ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ قَدْ يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ لَا نَظَرَ إلَيْهِ؛ لِبُعْدِهِ وَعَدَمِ تَبَادُرِهِ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ رَأَيْتُنِي فِي شَرْحِ الْعُبَابِ ذَكَرْتُ حَاصِلَ مَا مَرَّ مَعَ نَقْلِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ الْمَجْمُوعِ وَعِبَارَتُهُ: قَالَ فِي الذَّخَائِرِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا - وَأَقَرَّهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ -: وَمَنْ تَرَدَّدَ فِيمَا مَضَى مِنْ صَلَاةِ شَهْرٍ مَثَلًا؛ أَيْ هَلْ هِيَ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ لَمْ يُؤَثِّرْ قَطْعًا اهـ وَيُؤَيِّدُهُ - بَلْ يُصَرِّحُ بِهِ - قَوْلُ الْمَجْمُوعِ: لَوْ شَكَّ بَعْدَ الْوَقْتِ هَلْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؟ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهَا، فَإِنْ قَضَاهَا فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا عَلَيْهِ لَمْ تُجْزِئْهُ اتِّفَاقًا اهـ وَجَرَى عَلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَوْ شَكَّ بَعْدَ الْوَقْتِ هَلْ صَلَّى أَوْ لَا؟ لَزِمَتْهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ؛ لِمَا فِي كُلٍّ مِنْ الْعَمَلِ بِالْأَصْلِ؛ إذْ هُوَ فِي الْأُولَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ عَدَمُ فِعْلِهَا. وَتَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ اتِّحَادَهُمَا؛ فَنَقَلَ فِي هَذِهِ عَنْ الْمَجْمُوعِ عَدَمَ اللُّزُومِ، وَهُوَ غَفْلَةٌ عَمَّا ذَكَرْتُهُ مِنْ الْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَهُمَا؛ إذْ الَّذِي فِيهِ إنَّمَا هُوَ الْأُولَى، وَلَيْسَتْ الثَّانِيَةُ مِثْلَهَا كَمَا عَلِمْتَ.

نَعَمْ، نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ شَكَّ هَلْ قَضَى الْفَائِتَةَ الَّتِي عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهَا اهـ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَالْمُعْتَمَدُ خِلَافُهُ.

وَلَا يُنَافِي مَا فِي الْمَتْنِ قَوْلُ الْقَفَّالِ لَوْ لَمْ يَدْرِ عَدَدَ فَائِتَتِهِ؛ فَإِنْ ذَكَرَ الْيَوْمَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الشَّكُّ؛ كَأَنْ قَالَ: أَنَا شَاكٌّ فِي أَنِّي تَرَكْت الصَّلَاةَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ لَمْ أَتْرُكْ إلَّا صَلَوَاتِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَطْ - لَزِمَهُ قَضَاءُ صَلَوَاتِ جَمِيعِ الْعَشْرِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ شَكَّ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: أَشُكُّ هَلْ هِيَ عَشْرُ صَلَوَاتٍ مِنْ الشَّهْرِ أَوْ جَمِيعُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْأَقَلُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ الْوَقْتَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الشَّكُّ اهـ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا مَرَّ عَنْهُ أَوَّلَ الْفَرْعِ. وَقِيَاسُ مَا مَرَّ عَنْ الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُنَا عَدَمُ التَّرْكِ، فَهُوَ كَأَصْلِ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ ثَمَّ، وَهُنَا فِي صُورَتِهِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ فِيهَا، وَلَا الْأَقَلُّ؛ لِلْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَاهُ، وَمَعَ النَّظَرِ إلَيْهِ لَا تَظْهَرُ تَفْرِقَتُهُ الْمَذْكُورَةُ بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْرِفَ وَقْتَ الشَّكِّ وَأَنْ لَا. وَبِمَا تَقَرَّرَ يُعْلَمُ أَيْضًا ضَعْفُ قَوْلِهِ، وَكَذَا يُقَالُ فِي الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ إبِلٌ وَبَقَرٌ وَغَنَمٌ وَنَقْدٌ فَشَكَّ هَلْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ أَوْ الْكُلِّ؟ لَزِمَهُ الْكُلُّ، أَوْ هَلْ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ مِنْ جُمْلَةِ الزَّكَاةِ أَوْ أَرْبَعُونَ

ص: 155

دِرْهَمًا وَلَمْ يَعْرِفْ عَيْنَ ذَلِكَ الْمَالِ؟ لَزِمَهُ الدِّرْهَمُ فَقَطْ اهـ وَقِيَاسُ مَا مَرَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَرْبَعُونَ؛ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَوْ كَانَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ وَلَمْ يَدْرِ هَلْ هِيَ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ لَزِمَاهُ؛ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَمِنْهُ يُعْلَمُ التَّصْوِيرُ بِمَا إذَا لَزِمَهُ الْأَمْرَانِ وَأَخْرَجَ أَحَدَهُمَا وَشَكَّ فِيهِ، أَمَّا إذَا لَزِمَهُ أَحَدُهُمَا فَقَطْ وَشَكَّ فِي عَيْنِهِ فَيَتَّجِهُ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ.

وَنُقِلَ عَنْ الْبَيَانِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فِي كِيسٍ وَمِثْلُهُمَا فِي آخَرَ، وَشَكَّ هَلْ بَقِيَ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ مِنْ جُمْلَةِ زَكَاةِ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَكَّ فِي مِائَتَيْنِ فِي كِيسٍ بِعَيْنِهِ هَلْ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ أَوْ لَا؟ فَإِنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهَا وَعَلَيْهِ إخْرَاجُهَا. وَمِثْلُهُ لَوْ لَزِمَهُ كَفَّارَاتٌ فَأَعْتَقَ ثُمَّ شَكَّ فِي بَقَاءِ شَيْءٍ عَلَيْهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَكَّ هَلْ كَفَّرَ عَنْ ظِهَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَثَلًا اهـ وَقِيَاسُ مَا مَرَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْخَمْسَةُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى أَيْضًا، وَالتَّكْفِيرُ عَمَّا لَمْ يَتَيَقَّنْ التَّكْفِيرَ عَنْهُ، وَالضَّابِطُ أَنَّهُ مَتَى لَزِمَهُ شَيْءٌ وَشَكَّ هَلْ أَخْرَجَهُ أَوْ لَا - لَزِمَهُ إخْرَاجُهُ؛ لِتَيَقُّنِ شَغْلِ الذِّمَّةِ بِهِ، فَلَا تَبْرَأُ إلَّا بِتَيَقُّنِ إخْرَاجِهِ، وَمَتَى شَكَّ هَلْ لَزِمَهُ كَذَا، أَوْ لَا؟ لَمْ يَلْزَمْهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ: لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَشَكَّ فِي قَدْرِهِ لَزِمَهُ إخْرَاجُ الْيَقِينِ فَقَطْ، قَطَعَ بِهِ الْإِمَامُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَشْتَغِلَ الذِّمَّةُ بِالْأَصْلِ فَلَا تَبْرَأُ إلَّا بِيَقِينٍ؛ كَمَا لَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ، انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْعُبَابِ.

وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مَبْنِيٌّ، عَلَى مَا مَرَّ عَنْهُ أَوَّلَ الْفَرْعِ، إلَى قَوْلِهِ: وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ فَوَائِتُ لَا يَدْرِي قَدْرَهَا وَعَدَدَهَا؛ كَأَنْ عَلِمَ تَرْكَ صَلَوَاتٍ مِنْ شَهْرٍ مَثَلًا وَجَهِلَ قَدْرَهَا، قَضَى مَا لَا يَتَيَقَّنُ فِعْلَهُ مِنْهَا، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي وَصَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ. وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْأَصْحَابِ لِمَنْ قَالَ: عَلَيَّ فَوَائِتُ لَا أَذْكُرُ عَدَدَهَا - نَرُدُّكَ إلَى زَمَنِ بُلُوغِك: فَمَا تَتَحَقَّقُ مِنْ وَقْتِ بُلُوغِك أَنَّك قَدْ فَعَلْته فَذَاكَ، وَمَا شَكَكْت فِيهِ وَجَبَ عَلَيْك قَضَاؤُهُ اهـ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا قَوْلُ الْقَفَّالِ: يَلْزَمُهُ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَهُ، وَمَا شَكَّ فِيهِ لَا يَلْزَمُهُ، فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَعْدَ تَيَقُّنِ التَّرْكِ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْجَمِيعِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ أَدَائِهِ لَهُ فَلَزِمَهُ قَضَاءُ مَا شَكَّ فِي أَدَائِهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ رَدِّ الْقَاضِي لَهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي تَرْكِ فَرْضٍ بَعْدَ السَّلَامِ لَا يُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّ ذَاكَ هُوَ الْأَصَحُّ حَيْثُ كَانَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ غَيْرَ النِّيَّةِ وَالتَّكْبِيرِ.

وَأَمَّا تَضْعِيفُهُ - أَعْنِي الْقَفَّالَ لِلْأَوَّلِ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا لَا يَتَذَكَّرُ صَلَاةَ أُسْبُوعٍ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى التَّضْيِيقِ، فَيُرَدُّ بِأَنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ عُسْرٌ وَمَشَقَّةٌ اهـ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّنْ فَكَّ الْإِدْغَامَ عَمْدًا مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْحَرْفَيْنِ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الَّذِي يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُهُمْ وَجَرَيْتُ عَلَيْهِ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ الْبُطْلَانُ، وَعِبَارَتُهُ: أَوْ خَفَّفَ حَرْفًا مُشَدَّدًا بِحَذْفِ الشَّدَّةِ أَوْ فَكَّ الْمُدْغَمَ، كَذَا قِيلَ.

وَالثَّانِي غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ فَكَّهُ حَذْفٌ لَهَا بِلَا عُذْرٍ؛ أَيْ بِأَنْ قَدَّرَ أَوْ قَصَّرَ بِتَرْكِ التَّعَلُّمِ بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ لِتِلْكَ الْكَلِمَةِ؛ لِتَغْيِيرِهِ النَّظْمَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَسْطُرٍ: وَمَحَلُّ بُطْلَانِ الْقِرَاءَةِ دُونَ الصَّلَاةِ بِتَخْفِيفِ الْمُشَدَّدِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ الْمَعْنَى وَإِلَّا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، كَمَا قَالَ - تَبَعًا لِلْأَنْوَارِ - وَلَوْ تَرَكَ تَشْدِيدَ الْجَلَالَةِ مِنْ بِسْمِ اللَّهِ، أَيْ مَثَلًا، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ أَيْ لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى بَلْ رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ وَإِلَّا يَتْرُكُهُ عَمْدًا.

فَقِرَاءَتُهُ هِيَ الَّتِي تَبْطُلُ فَيُعِيدُهَا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، أَوْ تَرَكَ تَشْدِيدَ إيَّاكَ عَمْدًا عَالِمًا بِمَعْنَاهُ كَفَرَ؛ لِأَنَّ الْإِيَا ضَوْءُ الشَّمْسِ. هَذَا إنْ قَصَدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ، وَأَنَّ إيَّا إنَّمَا خُفِّفَتْ لِكَرَاهَةِ ثِقَلِ تَشْدِيدِهَا بَعْدَ كَسْرَةٍ؛ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ عَدَمُ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ الْقَصْدِ، وَيُحْتَمَلُ الْبُطْلَانُ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الْحَرْفِ فِي الشَّاذَّةِ مُبْطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَعْنَى. وَتَرْكُ الشَّدَّةِ كَتَرْكِ الْحَرْفِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ؛ لِمَا يَأْتِي مِنْ رَدِّ عِلَّةِ الثَّانِي، أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا سَجَدَ لِلسَّهْوِ اهـ وَبِمَا ذَكَرَهُ فِي إيَّاكَ صَرَّحَ الْخَطَّابِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ، وَيُوَافِقُ مَا قَالُوهُ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ مَا يَأْتِي عَنْ التَّتِمَّةِ وَالْبَحْرِ وَقَوْلُ الْكِفَايَةِ: وَحَيْثُ بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.

وَهُوَ ظَاهِرٌ لِلْقَاعِدَةِ الْآتِيَةِ: إنَّ مَا أَبْطَلَ عَمْدُهُ يُسْجَدُ لِسَهْوِهِ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: لَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِبْدَالَ وَتَخْفِيفَ الشَّدَّةِ بِلَا عُذْرٍ يُبْطِلَانِ الْقِرَاءَةَ لَا الصَّلَاةَ، يُرَدُّ بِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ ذَلِكَ - كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ - عَلَى مَا إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَعْنَى بِدَلِيلِ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ

ص: 156

كَالْأَصْحَابِ فِي اللَّحْنِ الْمُغَيِّرِ لِلْمَعْنَى كَ (أَنْعَمْت) بِضَمٍّ أَوْ كَسْرٍ؛ إنْ تَعَمَّدَهُ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ، انْتَهَتْ.

وَمِنْهَا فِي مَوَاضِعَ يُعْلَمُ نَقْلُ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ فَكَّ الْمُدْغَمِ مُبْطِلٌ لِلْقِرَاءَةِ، تَارَةً بِأَنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْمَعْنَى، وَلِلصَّلَاةِ أُخْرَى بِأَنْ تَغَيَّرَ، فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ بُطْلَانِ الْقِرَاءَةِ بِفَكِّ الْإِدْغَامِ مَعَ عَوْدِ حَرْفٍ بَدَلَ الشَّدَّةِ فَلَمْ يَفُتْ شَيْءٌ قُلْتُ: وَجْهُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحَرْفَ الْمُدْغَمَ صَارَ نَسْيًا مَنْسِيًّا، أَلْغَى الشَّارِعُ اعْتِبَارَهُ وَجَعَلَ الشَّدَّةَ بَدَلَهُ، فَإِذَا حَذَفَهَا صَارَ تَارِكًا لِحَرْفٍ مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا لِلْحَرْفِ الْعَائِدِ بِحَذْفِهَا؛ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشَّارِعَ أَعْرَضَ عَنْهُ وَأَلْغَى اعْتِبَارَهُ بِدَلِيلِ حُرْمَةِ تَعَمُّدِهِ ذَلِكَ بِلَا عُذْرٍ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَإِطْبَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ تَخْفِيفَ الْمُشَدَّدِ مُبْطِلٌ لِلْقِرَاءَةِ تَارَةً، وَلِلصَّلَاةِ أُخْرَى دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ؛ أَنَّهُمْ أَلْغَوْا اعْتِبَارَ ذَلِكَ الْحَرْفِ الْمُدْغَمِ وَلَمْ يَنْظُرُوا لِعَوْدِهِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ - عَمَّنْ اقْتَدَى فِي ثَانِيَةِ صُبْحِ الْجُمُعَةِ هَلْ يَقْرَأُ إذَا قَامَ إلَى ثَانِيَتِهِ الم تَنْزِيلُ أَوْ هَلْ أَتَى أَوْ غَيْرَهُمَا؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: يُؤْخَذُ حُكْمُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ تَرَكَ سُورَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ سَبِّحْ فِي أُولَى الْجُمُعَةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا وَقَرَأَ بَدَلَهَا الْمُنَافِقِينَ أَوْ الْغَاشِيَةَ - قَرَأَ الْجُمُعَةَ أَوْ سَبِّحْ فِي الثَّانِيَةِ، وَلَا يُعِيدُ الْمُنَافِقِينَ وَلَا الْغَاشِيَةَ؛ لِتَقَدُّمِ قِرَاءَتِهَا فِي الْأُولَى، وَلَوْ لَمْ يَقْرَأْ فِي الْأُولَى الْجُمُعَةَ وَلَا سَبِّحْ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ الْجُمُعَةَ وَالْمُنَافِقِينَ أَوْ سَبِّحْ وَالْغَاشِيَةَ؛ كَيْ لَا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنْهُمَا.

وَلَا نَظَرَ لِتَطْوِيلِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ فِيمَا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِخِلَافِهِ كَمَا هُنَا؛ إذْ الْمُنَافِقُونَ وَالْغَاشِيَةُ أَطْوَلُ مِنْ الْجُمُعَةِ وَسَبِّحْ اهـ فَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّهُ - إنْ قَرَأَ فِي أُولَاهُ الَّتِي مَعَ الْإِمَامِ بِأَنْ لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ - هَلْ أَتَى قَرَأَ فِي ثَانِيَتِهِ الم تَنْزِيلُ وَلَا يُعِيدُ هَلْ أَتَى، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي أُولَاهُ شَيْئًا أَوْ قَرَأَ غَيْرَ الم تَنْزِيلُ وَهَلْ أَتَى قَرَأَهُمَا فِي الثَّانِيَةِ؛ كَيْ لَا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنْهُمَا. وَلَا نَظَرَ لِتَطْوِيلِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا هُنَا أَطْوَلُ مِنْ الْأُولَى ضَرُورَةَ أَنَّ هَلْ أَطْوَلُ مِنْ الم تَنْزِيلُ، وَلَوْ سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فِي أُولَاهُ - أَعْنِي الْمَأْمُومَ - فَهُوَ كَقِرَاءَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَرَأَ هَلْ أَتَى قَرَأَ الْمَأْمُومُ فِي ثَانِيَتِهِ الم تَنْزِيلُ.

وَإِنْ كَانَ قَرَأَ غَيْرَهَا قَرَأَ الْمَأْمُومُ الم تَنْزِيلُ وَهَلْ أَتَى؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ الَّتِي سَمِعَهَا الْمَأْمُومُ بِمَنْزِلَةِ قِرَاءَتِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي رُكُوعِ الْأُولَى فَكَمَا لَوْ لَمْ يَقْرَأْ شَيْئًا فَيَقْرَأُ الم تَنْزِيلُ وَهَلْ أَتَى فِي الثَّانِيَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ كَيْ لَا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنْهُمَا، هَذَا مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ مَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ مِنْ رُبَاعِيَّةٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ السُّورَةَ فِي أُولَيَيْهِ قَضَى السُّورَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ بِأَنْ يَقْرَأَهُمَا فِي أَخِيرَتَيْهِ؛ لِئَلَّا تَخْلُوَ مِنْهُمَا صَلَاتُهُ، وَلِأَنَّ إمَامَهُ لَمْ يَقْرَأْهُمَا فِيهِمَا، وَفَاتَهُ فَضْلُهُمَا فَيَتَدَارَكُهُمَا فِي الْبَاقِي كَسُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي أُولَى الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يَقْرَؤُهَا مَعَ الْمُنَافِقِينَ فِي الثَّانِيَةِ، أَمَّا إذَا كَانَ قَرَأَ السُّورَةَ فِي أُولَيَيْهِ فَلَا يَقْرَؤُهَا فِي أَخِيرَتَيْهِ.

قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: وَعَلَى هَذَا لَوْ أَدْرَكَهُ فِي ثَانِيَةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَتَمَكَّنَ مِنْ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي أُولَيَيْهِ لَا يَقْرَؤُهَا فِي الْبَاقِي، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهَا فِي ثَانِيَتِهِ وَتَمَكَّنَ مِنْهَا فِي ثَالِثَتِهِ قَرَأَهَا فِيهَا، ثُمَّ لَا يَقْرَؤُهَا فِي رَابِعَتِهِ اهـ وَأَقَرَّهُ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ، وَتَعَقَّبْتُهُ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ فَقُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ. وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّ الثَّانِيَةَ الَّتِي أَدْرَكَهَا مَعَ الْإِمَامِ لَا يَقْضِي سُورَتَهَا؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَحَلَّ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ قِرَاءَةِ السُّورَةِ وَأَنْ لَا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ أُولَيَيْهِ وَلَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ لَا يَقْضِيهَا فِي ثَالِثَتِهِ وَرَابِعَتِهِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَكَذَا هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلثَّانِيَةِ.

وَأَمَّا ثَانِيَتُهُ الَّتِي هِيَ ثَالِثَةُ الْإِمَامِ فَيَقْرَؤُهَا فِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فَفِيمَا بَعْدَهَا، وَلَوْ رَابِعَةَ نَفْسِهِ؛ لِئَلَّا تَخْلُوَ صَلَاتُهُ عَنْ السُّورَةِ الَّتِي طُلِبَتْ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّانِيَةِ فَتَأَمَّلْهُ، انْتَهَتْ عِبَارَةُ شَرْحِ الْإِرْشَادِ. وَبِتَمَامِهَا مَعَ مَا قَدَّمْته يَتَّضِحُ مَا ذَكَرْته فِي جَوَابِ السُّؤَالِ؛ فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ أُولَيَيْهِ وَلَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ لَا يَقْضِيهَا فِي ثَالِثَتِهِ وَرَابِعَتِهِ، وَهَذَا قَدْ يُنَافِي مَا قَدَّمْته، قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقْرَأَ، فَلَمَّا تَرَكَ فَوَّتَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ قَضَاءٌ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ لَا قَضَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ بِخِلَافِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ فَتَأَمَّلْهُ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - هَلْ الْأَوْلَى قِرَاءَةُ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ سِرًّا؟ وَكَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ صلى الله عليه وسلم؟ وَإِذَا جَهَرَ بِهَا فِي مَسْجِدٍ وَثَمَّ مُصَلُّونَ

ص: 157