الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ فِي قَلْبِهِ، وَالدُّعَاءُ يَجُوزُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَبِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ قَصْدَ الدَّاعِي وَمُرَادَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَوِّمْ لِسَانَهُ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ عَلَى تَنَوُّعِ الْحَاجَاتِ.
[مَسْأَلَة قَوْل بَعْضِ الْعُلَمَاءِ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ أَرْبَعَةٍ]
330 -
18 - مَسْأَلَةٌ:
مَا حُكْمُ قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ أَرْبَعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، قَبْرِ الْفَنْدَلَاوِيِّ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَقَبْرِ الْبُرْهَانِ الْبَلْخِيّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَبْرِ الشَّيْخِ نَصْرٍ الْمَقْدِسِيَّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَبْرِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ رضي الله عنهم، وَمَنْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ عِنْدَ قُبُورِهِمْ وَدَعَا اُسْتُجِيبَ لَهُ.
وَقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ يُوصِيهِ إذَا نَزَلَ بِكَ حَادِثٌ أَوْ أَمْرٌ تَخَافُهُ اسْتَوْحِنِي يَنْكَشِفْ عَنْكَ مَا تَجِدُهُ مِنْ الشِّدَّةِ حَيًّا كُنْتَ أَوْ مَيِّتًا، وَمَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَاسْتَقْبَلَ جِهَةَ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ يَخْطُو مَعَ كُلِّ تَسْلِيمَةٍ خُطْوَةً إلَى قَبْرِهِ قُضِيَتْ حَاجَتُهُ، أَوْ كَانَ فِي سَمَاعٍ فَإِنَّهُ يُطَيِّبُ وَيُكْثِرُ التَّوَاجُدَ.
وَقَوْلِ الْفُقَرَاءِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْظُرُ إلَى الْفُقَرَاءِ بِتَجَلِّيهِ عَلَيْهِمْ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ عِنْدَ مَدِّ السِّمَاطِ عِنْدَ قِيَامِهِمْ فِي الِاسْتِغْفَارِ أَوْ الْمَجَازَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، وَعِنْدَ السَّمَاعِ وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُتَعَبِّدِينَ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ قَبْرِ زَكَرِيَّا وَقَبْرِ هُودٍ وَالصَّلَاةِ عِنْدَهُمَا، وَالْمَوْقِفِ بَيْنَ مَشْرِقَيْ رِوَاقِ الْجَامِعِ بِبَابِ الطَّهَارَةِ بِدِمَشْقَ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ. وَمِنْ إلْصَاقِ ظَهْرِهِ الْمَوْجُوعِ بِالْعَمُودِ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِ قَبْرِ مُعَاوِيَةَ عِنْدَ الشُّهَدَاءِ بِبَابِ الصَّغِيرِ، فَهَلْ لِلدُّعَاءِ خُصُوصِيَّةُ قَبُولٍ أَوْ سُرْعَةُ إجَابَةٍ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَان مُعَيَّنٍ عِنْدَ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَغِيثَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ بِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ أَوْ بِكَلَامِهِ تَعَالَى، أَوْ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ بِاحْتِيَاطِ قَافٍ أَوْ بِدُعَاءِ أُمِّ دَاوُد أَوْ الْخَضِرِ.
وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي السُّؤَالِ بِحَقِّ فُلَانٍ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ بِجَاهِ الْمُقَرَّبِينَ بِأَقْرَبِ الْخَلْقِ أَوْ يُقْسِمُ بِأَفْعَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ.
وَهَلْ يَجُوزُ تَعْظِيمُ مَكَان فِيهِ خَلُوقٌ وَزَعْفَرَانٌ وَسَرْجٌ لِكَوْنِهِ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي
الْمَنَامِ عِنْدَهُ، أَوْ يَجُوزُ تَعْظِيمُ شَجَرَةٍ يُوجَدُ فِيهَا خِرَقٌ مُعَلَّقَةٌ، وَيُقَالُ هَذِهِ مُبَارَكَةٌ يَجْتَمِعُ إلَيْهَا الرِّجَالُ الْأَوْلِيَاءُ، وَهَلْ يَجُوزُ تَعْظِيمُ جَبَلٍ أَوْ زِيَارَتُهُ أَوْ زِيَارَةُ مَا فِيهِ مِنْ الْمَشَاهِدِ وَالْآثَارِ وَالدُّعَاءُ فِيهَا وَالصَّلَاةُ كَمَغَارَةِ الدَّمِ وَكَهْفِ آدَمَ وَالْآثَارِ وَمَغَارَةِ الْجُوعِ وَقَبْرِ شِيثٍ وَهَابِيلَ وَنُوحٍ وَإِلْيَاسَ وَحِزْقِيلَ وَشَيْبَانَ الرَّاعِي وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ بِجَبْلَةَ، وَعُشِّ الْغُرَابِ بِبَعْلَبَكَّ وَمَغَارَةِ الْأَرْبَعِينَ وَحَمَّامِ طَبَرِيَّةَ وَزِيَارَةُ عَسْقَلَانَ وَمَسْجِدِ صَالِحٍ بِعَكَّا وَهُوَ مَشْهُورٌ بِالْحُرُمَاتِ وَالتَّعْظِيمِ وَالزِّيَارَاتِ.
وَهَلْ يَجُوزُ تَحَرٍّ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقُبُورِ، وَأَنْ تُقَبَّلَ، أَوْ يُوقَدَ عِنْدَهَا الْقَنَادِيلُ وَالسُّرُجُ، وَهَلْ يَحْصُلُ لِلْأَمْوَاتِ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ الْأَحْيَاءِ مَنْفَعَةٌ أَوْ مَضَرَّةٌ، وَهَلْ الدُّعَاءُ عِنْدَ الْقَدَمِ النَّبَوِيِّ بِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهِ.
وَقَدَمِ مُوسَى وَمَهْدِ عِيسَى وَمَقَامِ إبْرَاهِيمَ وَرَأْسِ الْحُسَيْنِ وَصُهَيْبٍ الرُّومِيِّ وَبِلَالٍ الْحَبَشِيِّ وَأُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، كُلُّهُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ وَالْقُرَى وَالسَّوَاحِلِ وَالْجِبَالِ وَالْمَشَاهِدِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ الدُّعَاءُ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ بُرْجِ بَابِ كَيْسَانَ بَيْنَ بَابَيْ الصَّغِيرِ وَالشَّرْقِيِّ مُسْتَدْبِرًا لَهُ مُتَوَجِّهًا إلَى الْقِبْلَةِ، وَالدُّعَاءُ عِنْدَ دَاخِلِ بَابِ الْفَرَّادِينَ، فَهَلْ ثَبَتَ شَيْءٌ فِي إجَابَةِ الْأَدْعِيَةِ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَغَاثَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يَقُولَ يَا جَاهَ مُحَمَّدٍ أَوْ بِالسِّتِّ نَفِيسَةَ أَوْ يَا سَيِّدُ أَحْمَدُ، أَوْ إذَا عَثَرَ أَحَدًا وَتَعَسَّرَ أَوْ قَفَزَ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان يَقُولُ يَا عَلِيُّ أَوْ يَا الشَّيْخُ فُلَانُ أَمْ لَا؟ وَهَلْ تَجُوزُ النُّذُورُ لِلْأَنْبِيَاءِ أَوْ لِلْمَشَايِخِ مِثْلِ الشَّيْخِ جَاكِيرَ أَوْ أَبِي الْوَفَا أَوْ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ هَلْ يَجُوزُ النُّذُورُ لِقُبُورِ أَحَدٍ مِنْ آلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمُدْرِكِهِ وَالْأَئِمَّةِ وَمَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَالْعَجَمِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْهِنْدِ وَالْمَغْرِبِ وَجَمِيعِ الْأَرْضِ وَجَبَلِ قَانٍ وَغَيْرِهَا أَمْ لَا؟
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ الْمَشَايِخِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورِينَ رضي الله عنهم فَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غَيْرِهِ: قَبْرُ فُلَانٍ هُوَ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ، وَمِنْ جِنْسِ مَا يَقُولُهُ أَمْثَالُ هَذَا الْقَائِلِ مِنْ أَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قَبْرِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ بَعْضِ الْقُبُورِ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ الْقَبْرُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ قَبْرُ رَجُلٍ صَالِحٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الصَّالِحِينَ.
وَقَدْ يَكُونُ نِسْبَةُ ذَلِكَ الْقَبْرِ إلَى ذَلِكَ كَذِبًا، أَوْ مَجْهُولُ الْحَالِ، مِثْلُ أَكْثَرِ مَا يُذْكَرُ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا وَالرَّجُلُ لَيْسَ بِصَالِحٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ مَوْجُودَةٌ فِيمَنْ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ؛ أَوْ مَنْ يَقُولُ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قَبْرٍ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّهُ اُسْتُجِيبَ لَهُ الدُّعَاءُ عِنْدَهُ، وَالْحَالُ أَنَّ ذَاكَ إمَّا قَبْرُ مَعْرُوفٍ بِالْفِسْقِ وَالِابْتِدَاعِ، وَإِمَّا قَبْرُ كَافِرٍ كَمَا رَأَيْنَا مَنْ دَعَا فَكُشِفَ لَهُ حَالُ الْقُبُورِ فَبُهِتَ لِذَلِكَ، وَرَأَيْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنْوَاعًا.
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَوْلٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْمَشْهُورِينَ بِالْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ: كَمَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ. وَلَا مَشَايِخِهِمْ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ: كَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ.
وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَلَا مُطْلَقًا وَلَا مُعَيَّنًا، وَلَا فِيهِمْ مَنْ قَالَ إنَّ دُعَاءَ الْإِنْسَانِ عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَفْضَلُ مِنْ دُعَائِهِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ، وَلَا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهَا، وَلَا فِيهِمْ مَنْ كَانَ يَتَحَرَّى الدُّعَاءَ وَلَا الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْقُبُورِ، بَلْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَسَيِّدُهُمْ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ قَبْرٌ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ قَبْرُ نَبِيٍّ غَيْرُ قَبْرِهِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي قَبْرِ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ. وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ زِيَارَتِهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ، لِمَا فِي السُّنَنِ: عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ بِهَا رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام» وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْهُ:«مَنْ سَلَّمَ عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ ثَانِيًا أُبْلِغْتُهُ» .
وَفِي إسْنَادِهِ لِينٌ، لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ ثَابِتَةٌ، فَإِنَّ إبْلَاغَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ مِنْ الْعَبْدِ قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا فِي السُّنَنِ: عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ قَالُوا: كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ رَمَمْتَ، أَيْ بَلِيتَ. فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ» . وَفِي النَّسَائِيّ وَغَيْرِهِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» . وَمَعَ هَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قَبْرِهِ، وَلَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَحَرَّى الدُّعَاءَ مُتَوَجِّهًا إلَى قَبْرِهِ، بَلْ نَصُّوا عَلَى نَقِيضِ ذَلِكَ؟ وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُدْعَى مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ وَتَنَازَعُوا فِي السَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَأَظُنُّهُ مَنْقُولًا عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: بَلْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، بَلْ نَصَّ أَئِمَّةُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوقَفُ عِنْدَهُ لِلدُّعَاءِ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْمَبْسُوطِ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ مَالِكٌ لَا أَرَى أَنْ يَقِفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَدْعُو وَلَكِنْ يُسَلِّمُ وَيَمْضِي.
وَقَالَ أَيْضًا فِي الْمَبْسُوطِ ": لَا بَأْسَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ خَرَجَ إلَى سَفَرٍ، أَنْ يَقِفَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَيَدْعُوَ لَهُ، وَلِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ.
فَقِيلَ لَهُ: فَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَقْدَمُونَ مِنْ سَفَرٍ وَلَا يُرِيدُونَهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ، وَرُبَّمَا وَقَفُوا فِي الْجُمُعَةِ أَوْ الْيَوْمِ الْمَرَّةَ وَالْمَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَيُسَلِّمُونَ وَيَدْعُونَ سَاعَةً.
فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ بِبَلْدَتِنَا. وَلَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إلَّا مَنْ جَاءَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ أَرَادَهُ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: رَأَيْت أَهْلَ الْمَدِينَةِ إذَا خَرَجُوا مِنْهَا أَوْ دَخَلُوهَا أَتَوْا الْقَبْرَ وَسَلَّمُوا، قَالَ: وَذَلِكَ دَأْبِي، فَهَذَا مَالِكٌ وَهُوَ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ أَيْ زَمَنِ تَابِعِ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّذِينَ كَانَ أَهْلُهَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُشْرَعُ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُونَ الْوُقُوفَ لِلدُّعَاءِ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ الدُّعَاءُ لَهُ وَلِصَاحِبَيْهِ وَهُوَ الْمَشْرُوعُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا لَا يُسْتَحَبُّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ كُلَّ وَقْتٍ، بَلْ عِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ سَفَرٍ أَوْ إرَادَتِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَحِيَّةٌ لَهُ، وَالْمُحَيَّا لَا يُقْصَدُ بَيْتُهُ كُلَّ وَقْتٍ لِتَحِيَّتِهِ بِخِلَافِ الْقَادِمِينَ مِنْ السَّفَرِ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي وَهْبٍ: إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقِفُ وَجْهُهُ إلَى الْقَبْرِ لَا إلَى الْقِبْلَةِ، وَيَدْنُو وَيُسَلِّمُ وَلَا يَمَسُّ الْقَبْرَ بِيَدِهِ وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُقَالَ زُرْنَا قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ كَرَاهَةُ مَالِكٍ لَهُ لِإِضَافَتِهِ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ:«اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يَنْهَى عَنْ إضَافَةِ هَذَا اللَّفْظِ إلَى الْقَبْرِ وَالتَّشَبُّهِ بِفِعْلِ ذَلِكَ قَطْعًا لِلذَّرِيعَةِ وَحَسْمًا لِلْبَابِ.
قُلْت: وَالْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، بَلْ مَوْضُوعَةٌ لَمْ يَرْوِ الْأَئِمَّةُ، وَلَا أَهْلُ السُّنَنِ الْمُتَّبَعَةِ: كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَنَحْوِهِمَا، فِيهَا شَيْئًا وَلَكِنْ جَاءَ لَفْظُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ، مِثْلِ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» .
وَلَكِنْ صَارَ لَفْظُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَتَنَاوَلُ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ وَالزِّيَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَهَا إلَّا بِالْمَعْنَى الْبِدْعِيِّ لَا الشَّرْعِيِّ، فَلِهَذَا كُرِهَ هَذَا الْإِطْلَاقُ، فَأَمَّا الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ يُقْصَدُ بِهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ كَمَا يُقْصَدُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] . فَلَمَّا نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ دَلَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْخِطَابِ وَعِلَّةِ الْحُكْمِ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْقِيَامُ عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَ الدَّفْنِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّفْنِ يُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ لَهُ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَاسْتَحَبَّهُ السَّلَفُ عِنْدَ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَأَمَّا الزِّيَارَةُ الْبِدْعِيَّةُ فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الشِّرْكِ، وَالذَّرِيعَةِ إلَيْهِ كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ، وَالسُّنَنِ، وَالْمَسَانِيدِ:«لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مِمَّا صَنَعُوا.
وَقَالَ: «إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ» . وَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» . فَإِذَا كَانَ قَدْ لَعَنَ مَنْ يَتَّخِذُ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ تَحَرِّيهَا لِلدُّعَاءِ مُسْتَحَبًّا؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ الدُّعَاءُ يُسْتَحَبُّ فِيهِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ عَقِبَ الصَّلَاةِ أَجْوَبُ، وَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَكَانٌ يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ مَعَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَهُ.
وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مُعَلَّلٌ بِخَوْفِ الْفِتْنَةِ بِالْقَبْرِ لَا بِمُجَرَّدِ نَجَاسَتِهِ كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ، وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَأْمُرُونَ بِتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ وَتَعْفِيَةِ مَا يُفْتَتَنُ بِهِ مِنْهَا كَمَا أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِتَعْفِيَةِ قَبْرِ " دَانْيَالَ " لَمَّا ظَهَرَ بِتُسْتَرَ فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى يَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قَبْرُ " دَانْيَالَ " وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِهِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْفِرَ بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا، ثُمَّ يَدْفِنَهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَيُعَفِّيَهُ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ، وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ السَّلَفِ، كَمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ فِي مُخْتَارِهِ، عَنْ «عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمَعْرُوفِ بِزَيْنِ الْعَابِدِينَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيءُ إلَى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَدْخُلُ فَيَدْعُو فِيهَا فَنَهَاهُ، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَمَا كُنْتُمْ» .
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي سُنَن أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ» .
وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنِي «سُهَيْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ قَالَ: رَآنِي الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الْقَبْرِ فَنَادَانِي وَهُوَ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ يَتَعَشَّى فَقَالَ هَلُمَّ إلَى الْعَشَاءِ. فَقُلْتُ: لَا أُرِيدُهُ، فَقَالَ: مَا لِي رَأَيْتُكَ عِنْدَ الْقَبْرِ. فَقُلْتُ: سَلَّمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: إذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ فَسَلِّمْ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا، وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ، مَا أَنْتُمْ وَمَنْ بِالْأَنْدَلُسِ إلَّا سَوَاءٌ» ".
وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعَ فِي قَبْرِ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ خَيْرِ الْخَلْقِ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَى اللَّهِ فَكَيْفَ يُقَالُ فِي قَبْرِ غَيْرِهِ.
وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا نَزَلَتْ بِهِمْ الشَّدَائِدُ كَحَالِهِمْ فِي الْجَدْبِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَعِنْدَ الْقِتَالِ وَالِاسْتِنْصَارِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَغِيثُونَهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُوا الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا غَيْرِهِ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتُسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَأَسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ ".
فَتَوَسَّلُوا بِالْعَبَّاسِ كَمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهَكَذَا تَوَسَّلُوا بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ وَشَفَاعَتِهِ وَلَمْ يَقْصِدُوا الدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَقْسَمُوا عَلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بَلْ تَوَسَّلُوا إلَيْهِ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الْوَسَائِلِ وَهِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ وَدُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَتَوَسَّلُ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ بِالْإِيمَانِ بِنَبِيِّهِ وَبِمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ وَكَمَا يَتَوَسَّلُونَ فِي حَيَاتِهِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ كَذَلِكَ يَتَوَسَّلُ الْخَلْقُ فِي الْآخِرَةِ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَتَتَوَسَّلُ بِدُعَاءِ الصَّالِحِينَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَهَلْ
تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ» .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْقُبُورِ لَوْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ غَيْرِهَا وَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَأَجْوَبُ لَكَانَ السَّلَفُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْ الْخَلْقِ وَكَانُوا أَسْرَعَ إلَيْهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَأَسْبَقَ إلَى طَاعَتِهِ وَرِضَاهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُرَغِّبُ فِيهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ، وَنَهَى عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَمَا تَرَكَ شَيْئًا يُقَرِّبُ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثَ أُمَّتَهُ بِهِ، وَلَا شَيْئًا يُبْعِدُ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنْهُ، وَقَدْ تَرَكَ أُمَّتَهُ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَنْزَوِي عَنْهَا بَعْدَهُ إلَّا هَالِكٌ، فَكَيْفَ وَقَدْ نَهَى عَنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَحَسَمَ مَادَّتَهُ بِنَهْيِهِ وَنَهْيِهِ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، فَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ لِلَّهِ مُسْتَقْبِلًا لَهَا.
وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي لَا يَعْبُدُ الْمَوْتَى وَلَا يَدْعُوهُمْ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ لِأَنَّهَا وَقْتَ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ لِلشَّمْسِ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي لَا يَسْجُدُ إلَّا لِلَّهِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، فَكَيْفَ إذَا تَحَقَّقَتْ الْمَفْسَدَةُ بِأَنْ صَارَ الْعَبْدُ يَدْعُو الْمَيِّتَ، وَيَدْعُو بِهِ كَمَا إذَا تَحَقَّقَتْ الْمَفْسَدَةُ بِالسُّجُودِ لِلشَّمْسِ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَوَقْتَ الْغُرُوبِ؟ وَقَدْ كَانَ أَصْلُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُبُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] . قَالَ السَّلَفُ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: كَانَ هَؤُلَاءِ قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ، ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ، ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ الْأَرْبَعَةِ، فَكَيْفَ يُعَيَّنُ هَؤُلَاءِ لِلدُّعَاءِ عِنْدَ قُبُورِهِمْ دُونَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ، ثُمَّ إنَّ لِكُلِّ شَيْخٍ مِنْ هَؤُلَاءِ وَنَحْوِهِمْ مَنْ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الشَّيْخِ الْآخَرِ، فَهَلْ أَمَرَ اللَّهُ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُشْرِكُونَ بِهِمْ الَّذِينَ ضَاهَوْا الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
فَصْلٌ: وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مِنْ قَوْلِهِ: إذَا نَزَلَ بِكَ حَادِثٌ أَوْ أَمْرٌ تَخَافُهُ فَاسْتَوْحِنِي فَيُكْشَفُ مَا بِكَ مِنْ الشِّدَّةِ، حَيًّا كُنْتُ أَوْ مَيِّتًا. فَهَذَا الْكَلَامُ وَنَحْوُهُ إمَّا يَكُونُ كَذِبًا مِنْ النَّاقِلِ، أَوْ خَطَأٌ مِنْ الْقَائِلِ، فَإِنَّهُ نَقْلٌ لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ، وَمَنْ تَرَكَ النَّقْلَ الْمُصَدَّقَ عَنْ الْقَائِلِ الْمَعْصُومِ، وَاتَّبَعَ نَقْلًا غَيْرَ مُصَدَّقٍ عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِمِثْلِ هَذَا، وَلَا رُسُلُهُ أَمَرُوا بِذَلِكَ، بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7]{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] . وَلَمْ يَقُلْ ارْغَبْ إلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا} [الإسراء: 56]{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] .
قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْعُزَيْرَ، وَالْمَسِيحَ، وَالْمَلَائِكَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إذَا نَزَلَ بِكَ حَادِثٌ فَاسْتَوْحِنِي، بَلْ «قَالَ لِابْنِ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ يُوصِيهِ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَك، تَعَرَّفْ إلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ» .
وَمَا يَرْوِيه بَعْضُ الْعَامَّةِ مِنْ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِجَاهِي فَإِنَّ جَاهِي عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» . فَهُوَ حَدِيثٌ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ، لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمُعْتَمَدَةِ فِي الدِّينِ.
فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ فَضِيلَةٌ، فَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بِكُلِّ فَضِيلَةٍ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْفَعَةً لِلْحَيِّ بِالْمَيِّتِ فَأَصْحَابُهُ أَحَقُّ النَّاسِ انْتِفَاعًا بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا مِنْ الضَّلَالِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ خَطَأٌ مِنْهُ، وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ إنْ كَانَ