الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَة صَدَقَة الْفِطْرِ]
360 -
30 - مَسْأَلَةٌ:
فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: هَلْ يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي صَرْفِهَا أَمْ يُجْزِئُ صَرْفُهَا إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ؟ وَمَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.
الْجَوَابُ الْحَمْدُ لِلَّهِ. الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
فِي زَكَاةِ الْمَالِ كَزَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالنَّقْدِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالْمُعَشَّرَاتِ، فَهَذِهِ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مُزَكٍّ أَنْ يَسْتَوْعِبَ بِزَكَاتِهِ جَمِيعَ الْأَصْنَافِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثَلَاثَةً. وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
الثَّانِي: بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَخْرُجَ بِهَا عَنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَلَا يُعْطِيَ أَحَدًا فَوْقَ كِفَايَتِهِ، وَلَا يُحَابِيَ أَحَدًا، بِحَيْثُ يُعْطِي وَاحِدًا وَيَدَعُ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ مَعَ إمْكَانِ الْعَدْلِ.
وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ إذَا دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ جَمِيعَهَا لِوَاحِدٍ مِنْ صِنْفٍ وَهُوَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَارِمًا عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا يَجِدُ لَهَا وَفَاءً فَيُعْطِيَهُ زَكَاتَهُ كُلَّهَا وَهِيَ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَجْزَأَهُ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ كَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ نَفْسِهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ: أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَك بِهَا» . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهَا أَنَّهُ «قَالَ لِسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ: اذْهَبْ إلَى عَامِلِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْ صَدَقَتَهُمْ إلَيْك» .
فَفِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّهُ دَفَعَ صَدَقَةَ قَوْمٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، لَكِنَّ الْآمِرَ هُوَ الْإِمَامُ، وَفِي مِثْلِ هَذَا تَنَازُعٌ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ بَحْثٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْفَتْوَى فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَصْلُ
الثَّانِي، وَهُوَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى صَدَقَةِ الْأَمْوَالِ أَوْ صَدَقَةِ الْأَبْدَانِ كَالْكَفَّارَاتِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ وُجُوبُ الِاسْتِيعَابِ أَوْجَبَ الِاسْتِيعَابَ فِيهَا. وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَنْبَنِي مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه.
وَمَنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ كَقَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ دَفْعَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلَى وَاحِدٍ كَمَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.
وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَجْرِي مَجْرَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالطَّهَارَةِ وَالْقَتْلِ وَالْجِمَاعِ فِي رَمَضَانِ وَمَجْرَى كَفَّارَةِ الْحَجِّ فَإِنَّ سَبَبَهَا هُوَ الْبَدَنُ لَيْسَ هُوَ الْمَالَ، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«أَنَّهُ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ:«أَغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ» وَلِهَذَا أَوْجَبَ اللَّهُ طَعَامًا كَمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ طَعَامًا.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يُجْزِئُ إطْعَامُهَا إلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْكَفَّارَةَ وَهُمْ الْآخِذُونَ لِحَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يُعْطِي مِنْهَا فِي الْمُؤَلَّفَةِ وَلَا الرِّقَابِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى فِي الدَّلِيلِ.
وَأَضْعَفُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَدْفَعَ صَدَقَةَ فِطْرِهِ إلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَوْ إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَصَحَابَتِهِ أَجْمَعِينَ، لَمْ يَعْمَلْ بِهَذَا مُسْلِمٌ عَلَى عَهْدِهِمْ، بَلْ كَانَ الْمُسْلِمُ يَدْفَعُ صَدَقَةَ فِطْرِهِ وَصَدَقَةَ فِطْرِ عِيَالِهِ إلَى الْمُسْلِمِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ رَأَوْا مَنْ يَقْسِمُ الصَّاعَ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ نَفْسًا يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ حَفْنَةً لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ وَعَدُّوهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَنْكَرَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَحَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدَّرَ الْمَأْمُورَ بِهِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، وَمِنْ الْبُرِّ إمَّا نِصْفَ صَاعٍ وَإِمَّا صَاعًا عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ لِلْوَاحِدِ مِنْ
الْمَسَاكِينِ وَجَعَلَهَا طُعْمَةً لَهُمْ يَوْمَ الْعِيدِ يَسْتَغْنُونَ بِهَا، فَإِذَا أَخَذَ الْمِسْكِينُ حَفْنَةً لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا وَلَمْ تَقَعْ مَوْقِعًا. وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ ابْنُ سَبِيلٍ إذَا أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ حِنْطَةٍ لَمْ يَتَبَلَّغْ بِهَا مِنْ مَقْصُودِهَا مَا يُعَدُّ مَقْصُودًا لِلْعُقَلَاءِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُودًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَمَا أَنْ لَوْ فُرِضَ عَدَدٌ مُضْطَرُّونَ وَإِنْ قُسِمَ بَيْنَهُمْ الصَّاعُ عَاشُوا وَإِنْ خُصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ مَاتَ الْبَاقُونَ، فَهُنَا يَنْبَغِي تَفْرِيقُهُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، لَكِنْ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيقُ هُوَ الْمَصْلَحَةَ، وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي لَا يَرْضَاهَا الْعُقَلَاءُ، وَلَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا.
ثُمَّ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «طُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ» ، نَصٌّ فِي أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ.
وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الظِّهَارِ: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصْرَفَ تِلْكَ لِلْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُخْرَجِ مِنْ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ، وَالْوَاجِبُ مَا يَبْقَى وَيُسْتَنْمَى، وَلِهَذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا الْإِنَاثَ دُونَ الذُّكُورِ إلَّا فِي التَّبِيعِ وَابْنِ لَبُونٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِنَاثِ.
وَفِي الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْلَ كَانَ الذَّكَرُ أَفْضَلَ مِنْ الْأُنْثَى، وَكَانَتْ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا إذَا تَصَدَّقَ بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمَسَاكِينِ أَهْلِ الْحَاجَةِ، دُونَ اسْتِيعَابِ الْمَصَارِفِ الثَّمَانِيَةِ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَجَبَتْ طَعَامًا لِلْأَكْلِ لَا لِلِاسْتِنْمَاءِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْكَفَّارَاتِ.
وَإِذَا قِيلَ إنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] نَصٌّ فِي اسْتِيعَابِ الصَّدَقَةِ، قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّامَ فِي هَذِهِ إنَّمَا هِيَ لِتَعْرِيفِ الصَّدَقَةِ الْمَعْهُودَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} [التوبة: 58] وَهَذِهِ إذًا صَدَقَاتُ الْأَمْوَالِ دُونَ صَدَقَاتِ الْأَبْدَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ: