الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ الْإِمَام الَّذِي يَجْهَرُ بِالتَّعَوُّذِ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ]
مَسْأَلَةٌ:
فِي رَجُلٍ يَؤُمُّ النَّاسَ، وَبَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ يَجْهَرُ بِالتَّعَوُّذِ، ثُمَّ يُسَمِّي وَيَقْرَأُ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ؟
الْجَوَابُ: إذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَحْيَانًا لِلتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَجْهَرُ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ مُدَّةً، وَكَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَجْهَرَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ أَحْيَانًا. وَأَمَّا الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْجَهْرِ بِذَلِكَ فَبِدْعَةٌ، مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِذَلِكَ دَائِمًا، بَلْ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ جَهَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ قِرَاءَة الْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ]
155 -
71 مَسْأَلَةٌ:
فِي حَدِيثِ «نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ: كُنْت وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْكِتَابِ، حَتَّى بَلَغَ {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] . قَالَ: آمِينَ، وَقَالَ النَّاسُ: آمِينَ، وَيَقُولُ كُلَّمَا سَجَدَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَشْبَهَكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَكَانَ «الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَبْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَبَعْدَهَا، وَيَقُولُ: مَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ أَبِي، وَقَالَ أَبِي: مَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ أَنَسٍ، وَقَالَ أَنَسٌ: مَا آلُو أَنْ أَقْتَدِيَ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، فَهَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ فِي الْجَهْرِ بِهَا. ذَكَرَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رُوَاةَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ آخِرِهِمْ ثِقَاتٌ، فَهَلْ يُحْمَلُ مَا قَالَهُ أَنَسٌ: وَهُوَ صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَذْكُرُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَلَى عَدَمِ السَّمَاعِ؟ وَمَا التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالصَّوَابُ
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فِي نَفْيِ الْجَهْرِ فَهُوَ صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ، فَإِنَّهُ قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ فِيهِ:«صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلَا فِي آخِرِهَا» وَهَذَا النَّفْيُ لَا يَجُوزُ
إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، لَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ لَمْ يَسْمَعْ مَعَ إمْكَانِ الْجَهْرِ بِلَا سَمَاعٍ.
وَاللَّفْظُ الْآخَرُ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْهَرُ، أَوْ قَالَ: يُصَلِّي بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، فَهَذَا نُفِيَ فِيهِ السَّمَاعُ، وَلَوْ لَمْ يُرْوَ إلَّا هَذَا اللَّفْظُ لَمْ يَجُزْ تَأْوِيلُهُ، بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ جَهْرًا، وَلَا يَسْمَعُ أَنَسٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَنَسًا إنَّمَا رَوَى هَذَا لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ، إذْ لَا غَرَضَ لِلنَّاسِ فِي مَعْرِفَةِ كَوْنِ أَنَسٍ سَمِعَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، إلَّا لِيَسْتَدِلُّوا بِعَدَمِ سَمَاعِهِ عَلَى عَدَمِ الْمَسْمُوعِ، فَلَوْ لَوْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَنَسٌ لِيَرْوِيَ شَيْئًا لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِيهِ، وَلَا كَانُوا يَرْوُونَ مِثْلَ هَذَا الَّذِي لَا يُفِيدُهُمْ. الثَّانِي: أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ صَارَ دَالًّا فِي الْعُرْفِ عَلَى عَدَمِ مَا لَمْ يُدْرَكْ، فَإِذَا قَالَ: مَا سَمِعْنَا، أَوْ مَا رَأَيْنَا، لِمَا شَأْنُهُ أَنْ يَسْمَعَهُ وَيَرَاهُ، كَانَ مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ نَفْيَ وُجُودِهِ، وَذِكْرُ نَفْيِ الْإِدْرَاكِ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ دَلِيلٌ فِيمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِدْرَاكِهِ.
وَهَذَا يَظْهَرُ بِالْوَجْهِ الثَّالِثِ وَهُوَ: أَنَّ أَنَسًا كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حِينِ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِهِ قَبْلَ الْحِجَابِ، وَيَصْحَبُهُ حَضَرًا وَسَفَرًا وَكَانَ حِينَ حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ نَاقَتِهِ يَسِيلُ عَلَيْهِ لُعَابُهَا أَفَيُمْكِنُ مَعَ هَذَا الْقُرْبِ الْخَاصِّ، وَالصُّحْبَةِ الطَّوِيلَةِ أَنْ لَا يَسْمَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِهَا، مَعَ كَوْنِهِ يَجْهَرُ بِهَا هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ بُطْلَانُهُ فِي الْعَادَةِ.
ثُمَّ إنَّهُ صَحِبَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَتَوَلَّى لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وِلَايَاتٍ، وَلَا كَانَ يُمْكِنُ مَعَ طُولِ مُدَّتِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْهَرُونَ، وَهُوَ لَا يَسْمَعُ ذَلِكَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا تَحْرِيفٌ لَا تَأْوِيلٌ، لَوْ لَمْ يُرْوَ إلَّا هَذَا اللَّفْظُ، فَكَيْفَ وَالْآخَرُ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الذِّكْرِ بِهَا، وَهُوَ يَفْضُلُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى. وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ يَنْفِي تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ (بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَنَّهُ أَرَادَ السُّورَةَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَفْتَتِحُونَ، (بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لَا يَذْكُرُونَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ، وَلَا فِي آخِرِهَا، صَرِيحٌ أَنَّهُ فِي قَصْدِ الِافْتِتَاحِ بِالْآيَةِ، لَا بِسُورَةِ الْفَاتِحَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إذْ لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ ذَلِكَ لَتَنَاقَضَ حَدِيثَاهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ بِالْفَاتِحَةِ قَبْلَ السُّورَةِ، هُوَ مِنْ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ الْعَامِّ الَّذِي يَعْرِفُهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، كَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الرُّكُوعَ قَبْلَ السُّجُودِ وَجَمِيعُ الْأَئِمَّةِ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ يَفْعَلُونَ هَذَا، لَيْسَ فِي نَقْلِ مِثْلِ هَذَا فَائِدَةٌ، وَلَا هَذَا مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى نَقْلِ أَنَسٍ، وَهُمْ قَدْ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَجَمِيعُ الْأَئِمَّةِ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ وَالْجُيُوشِ، وَخُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَبَنِي الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَدْرَكَهُ أَنَسٌ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ بِالْفَاتِحَةِ، وَلَمْ يَشْتَبِهْ هَذَا عَلَى أَحَدٍ، وَلَا شَكَّ؛ فَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ أَنَسًا قَصَدَ تَعْرِيفَهُمْ بِهَذَا، وَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْهُ. وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: فَكَانُوا يُصَلُّونَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ أَرْبَعًا، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، أَوْ يَقُولَ: فَكَانُوا يَجْهَرُونَ فِي الْعِشَاءَيْنِ وَالْفَجْرِ، وَيُخَافِتُونَ فِي صَلَاتَيْ الظُّهْرَيْنِ، أَوْ يَقُولَ: فَكَانُوا يَجْهَرُونَ فِي الْأُولَيَيْنِ، دُونَ الْأَخِيرَتَيْنِ.
وَمِثْلُ حَدِيثِ أَنَسٍ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةِ بِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] » إلَى آخِرِهِ، وَقَدْ رُوِيَ «يَفْتَحُ الْقِرَاءَةَ بِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] » .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إرَادَةِ الْآيَةِ؛ لَكِنْ مَعَ هَذَا لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ نَفْيٌ لِقِرَاءَتِهَا سِرًّا؛ لِأَنَّهُ رَوَى «فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وَهَذَا إنَّمَا نَفَى هُنَا الْجَهْرَ.
وَأَمَّا اللَّفْظُ الْآخَرُ: " لَا يَذْكُرُونَ " فَهُوَ إنَّمَا يَنْفِي مَا يُمْكِنُهُ الْعِلْمُ بِانْتِفَائِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْجَهْرِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَسْمَعْ مَعَ الْقُرْبِ، عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْهَرُوا.
وَأَمَّا كَوْنُ الْإِمَامِ لَمْ يَقْرَأْهَا فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إدْرَاكُهُ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ سَكْتَةٌ يُمْكِنُ فِيهَا الْقِرَاءَةُ سِرًّا؛ وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَنَسٍ عَلَى عَدَمِ الْقِرَاءَةِ، مَنْ لَمْ يَرَ هُنَاكَ سُكُوتًا، كَمَالِكٍ وَغَيْرِهِ؛ لَكِنْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ «أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ، مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ» : كَذَا وَكَذَا " إلَى آخِرِهِ.
وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ وَأُبَيُّ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ
كَانَ يَسْكُتُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. وَفِيهَا أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ، وَإِذَا كَانَ لَهُ سُكُوتٌ لَمْ يُمْكِنْ أَنَسًا أَنْ يَنْفِيَ قِرَاءَتَهَا فِي ذَلِكَ السُّكُوتِ، فَيَكُونُ نَفْيُهُ لِلذِّكْرِ، وَإِخْبَارُهُ بِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِهَا إنَّمَا هُوَ فِي الْجَهْرِ، وَكَمَا أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ الْجَهْرِ مَعَ الذِّكْرِ سِرًّا يُسَمَّى سُكُوتًا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَيَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَقْرَأْهَا، وَلَمْ يَذْكُرْهَا؛ أَيْ جَهْرًا؛ فَإِنَّ لَفْظَ السُّكُوتِ، وَلَفْظَ نَفْيِ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ: مَدْلُولُهُمَا هُنَا وَاحِدٌ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ. الَّذِي فِي السُّنَنِ: أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَهُ يَجْهَرُ بِهَا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ إيَّاكَ وَالْحَدَثَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِهَا، فَهَذَا مُطَابِقٌ لِحَدِيثِ أَنَسٍ، وَحَدِيثِ عَائِشَةَ اللَّذَيْنِ فِي الصَّحِيحِ.
وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْجَهْرَ بِهَا مِمَّا تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَلَوْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْهَرُ بِهَا كَالْجَهْرِ بِسَائِرِ الْفَاتِحَةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَادَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ تَرْكُ نَقْلِ ذَلِكَ، بَلْ لَوْ انْفَرَدَ بِنَقْلِ مِثْلِ هَذَا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ لَقُطِعَ بِكَذِبِهِمَا، إذْ التَّوَاطُؤُ فِيمَا تَمْنَعُ الْعَادَةُ وَالشَّرْعُ كِتْمَانَهُ، كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ فِيهِ. وَيُمَثَّلُ هَذَا بِكَذِبِ دَعْوَى الرَّافِضَةِ فِي النَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَهْرِ بِهَا حَدِيثٌ صَرِيحٌ، وَلَمْ يَرْوِ أَهْلُ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ كَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ الْجَهْرُ بِهَا صَرِيحًا فِي أَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ، يَرْوِيهَا الثَّعْلَبِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَأَمْثَالُهُمَا فِي التَّفْسِيرِ. أَوْ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَغَيْرِهِ، بَلْ يَحْتَجُّونَ بِمِثْلِ حَدِيثِ الْحُمَيْرَاءِ.
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَفَاضِلِ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَمْ يَعْزُ فِي كِتَابِهِ حَدِيثًا إلَى الْبُخَارِيِّ إلَّا حَدِيثًا فِي الْبَسْمَلَةِ، وَذَلِكَ الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ، وَمَنْ هَذَا مَبْلَغُ عِلْمِهِ فِي الْحَدِيثِ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ، أَوْ يَرْوِيهَا مَنْ جَمَعَ هَذَا الْبَابَ كَالدَّارَقُطْنِيِّ، وَالْخَطِيبِ، وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُمْ جَمَعُوا مَا رُوِيَ، وَإِذَا سُئِلُوا عَنْ صِحَّتِهَا
قَالُوا: بِمُوجَبِ عِلْمِهِمْ. كَمَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَمَّا دَخَلَ مِصْرَ. وَسُئِلَ أَنْ يَجْمَعَ أَحَادِيثَ الْجَهْرِ بِهَا فَجَمَعَهَا، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ فِيهَا شَيْءٌ صَحِيحٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا، وَأَمَّا عَنْ الصَّحَابَةِ فَمِنْهُ صَحِيحٌ، وَمِنْهُ ضَعِيفٌ.
وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، فَذَكَرَ حَدِيثَيْنِ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ لَمَّا صَلَّى بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى مُعَاوِيَةُ بِالْمَدِينَةِ فَجَهَرَ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِهَا لِلسُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَلَمْ يُكَبِّرْ حِينَ يَهْوِي حَتَّى قَضَى تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ نَادَاهُ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ كُلِّ مَكَان يَا مُعَاوِيَةُ أَسَرَقْت الصَّلَاةَ أُمّ نَسِيت؟ فَلَمَّا صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِلسُّورَةِ الَّتِي بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَكَبَّرَ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَنْبَأَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَصَلَّى بِهِمْ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَمْ يُكَبِّرْ إذَا خَفَضَ، وَإِذَا رَفَعَ فَنَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ سَلَّمَ وَالْأَنْصَارُ: أَيْ مُعَاوِيَةَ؟ سَرَقْت الصَّلَاةَ؟ وَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِمِثْلِهِ، أَوْ مِثْلِ مَعْنَاهُ، لَا يُخَالِفُهُ وَأَحْسَبُ هَذَا الْإِسْنَادَ أَحْفَظَ مِنْ الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ فِي كِتَابِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّهُ أَقْوَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ. فَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَهْرِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَا صَرِيحٌ، فَضْلًا أَنْ يَكُونَ فِيهَا أَخْبَارٌ مُسْتَفِيضَةٌ أَوْ مُتَوَاتِرَةٌ، امْتَنَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْهَرُ بِهَا، كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَانَ يَجْهَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ ثُمَّ لَا يُنْقَلُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعَارَضٌ بِتَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا، فَإِنَّهُ مِمَّا تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، ثُمَّ هُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ، بَلْ قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، كَمَا أَنَّ تَرْكَ الْجَهْرِ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ كَانَ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا قَاطِعًا، بَلْ وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ.
قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِي تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فِي الْعَادَةِ، وَيَجِبُ نَقْلُهُ شَرْعًا: هُوَ الْأُمُورُ الْوُجُودِيَّةُ، فَأَمَّا الْأُمُورُ الْعَدَمِيَّةُ فَلَا خَبَرَ لَهَا، وَلَا يُنْقَلُ مِنْهَا إلَّا مَا ظُنَّ وُجُودُهُ، أَوْ اُحْتِيجَ إلَى مَعْرِفَتِهِ، فَيُنْقَلُ لِلْحَاجَةِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا لَوْ نَقَلَ نَاقِلٌ افْتِرَاضَ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ، أَوْ زِيَادَةً عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ حَجًّا غَيْرَ حَجِّ الْبَيْتِ، أَوْ زِيَادَةً فِي الْقُرْآنِ، أَوْ زِيَادَةً فِي رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، أَوْ فَرَائِضِ الزَّكَاةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، لَقَطَعْنَا بِكَذِبِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ لَوَجَبَ نَقْلُهُ نَقْلًا قَاطِعًا عَادَةً وَشَرْعًا، وَإِنْ عُدِمَ النَّقْلُ [يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ] لَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا قَاطِعًا عَادَةً وَشَرْعًا؛ بَلْ يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ نَقْلِهِ مَعَ تَوَافُرِ الْهِمَمِ وَالدَّوَاعِي فِي الْعَادَةِ وَالشَّرْعِ عَلَى نَقْلِهِ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ.
وَقَدْ مَثَّلَ النَّاسُ ذَلِكَ بِمَا لَوْ نَقَلَ نَاقِلٌ: أَنَّ الْخَطِيبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَقَطَ مِنْ الْمِنْبَرِ، وَلَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ أَوْ أَنَّ قَوْمًا اقْتَتَلُوا فِي الْمَسْجِدِ بِالسُّيُوفِ، فَإِنَّهُ إذَا نَقَلَ هَذَا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ دُونَ بَقِيَّةِ النَّاسِ عَلِمْنَا كَذِبَهُمْ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فِي الْعَادَةِ؛ وَإِنْ كَانُوا لَا يَنْقُلُونَ عَدَمَ الِاقْتِتَالِ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا الْجَهْرَ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ، وَاسْتَدَلَّتْ الْأُمَّةُ عَلَى عَدَمِ جَهْرِهِ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا عَامًّا عَدَمُ الْجَهْرِ بِذَلِكَ، فَبِالطَّرِيقِ الَّذِي يُعْلَمُ عَدَمُ جَهْرِهِ بِذَلِكَ، يُعْلَمُ عَدَمُ جَهْرِهِ بِالْبَسْمَلَةِ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا يُورِدُهُ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ كَوْنُ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا يَمْتَنِعُ تَرْكُ نَقْلِهَا، فَإِنَّهُمْ عَارَضُوا أَحَادِيثَ الْجَهْرِ وَالْقُنُوتِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَأَمَّا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فَقَدْ نُقِلَ فِعْلُ هَذَا وَهَذَا، وَأَمَّا الْقُنُوتُ فَإِنَّهُ قَنَتَ تَارَةً وَتَرَكَ تَارَةً، وَأَمَّا الْجَهْرُ فَإِنَّ الْخَبَرَ عَنْهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، وَلَمْ يُنْقَلْ فَيَدْخُلُ فِي الْقَاعِدَةِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأُمُورَ الْعَدَمِيَّةَ لَمَّا اُحْتِيجَ إلَى نَقْلِهَا نُقِلَتْ، فَلَمَّا انْقَرَضَ عَصْرُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَصَارَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ يَجْهَرُ بِهَا كَابْنِ الزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِ، سَأَلَ بَعْضُ النَّاسِ بَقَايَا الصَّحَابَةِ كَأَنَسٍ، فَرَوَى لَهُمْ أَنَسٌ تَرْكَ الْجَهْرِ بِهَا، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ الْخُلَفَاءِ فَكَانَتْ السُّنَّةُ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً وَلَمْ يَكُنْ فِي الْخُلَفَاءِ مَنْ يَجْهَرُ بِهَا، فَلَمْ يُحْتَجْ إلَى السُّؤَالِ عَنْ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ حَتَّى يُنْقَلَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ نَفْيَ الْجَهْرِ قَدْ نُقِلَ نَقْلًا صَحِيحًا صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْجَهْرُ بِهَا لَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا صَحِيحًا صَرِيحًا، مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ وَالشَّرْعَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأُمُورَ الْوُجُودِيَّةَ أَحَقُّ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ مِنْ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ.
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ مَنْ تَدَبَّرَهَا، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، قَطَعَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا، بَلْ وَمَنْ لَمْ يَتَدَرَّبْ فِي مَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِهَا يَقُولُ أَيْضًا: إذَا كَانَ الْجَهْرُ بِهَا لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْهَرُ بِهَا وَلَمْ تَنْقُلْ الْأُمَّةُ هَذِهِ السُّنَّةَ، بَلْ أَهْمَلُوهَا وَضَيَّعُوهَا؟ وَهَلْ هَذِهِ إلَّا بِمَثَابَةِ أَنْ يَنْقُلَ نَاقِلٌ: أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ، كَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ، وَمَعَ هَذَا فَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ، كَمَا كَانَ يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ، كَذَلِكَ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ، كَمَا كَانَ يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا أَحْيَانًا، أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِهَا قَدِيمًا ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْهَرُ بِهَا بِمَكَّةَ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إذَا سَمِعُوهَا سَبُّوا الرَّحْمَنَ، فَتَرَكَ الْجَهْرَ، فَمَا جَهَرَ بِهَا حَتَّى مَاتَ» فَهَذَا مُحْتَمَلٌ.
وَأَمَّا الْجَهْرُ الْعَارِضُ: فَمِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِالْآيَةِ أَحْيَانًا، وَمِثْلُ جَهْرِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ خَلْفَهُ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، وَمِثْلُ جَهْرِ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك، وَمِثْلُ جَهْرِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَمِثْلُ جَهْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ جَهْرُ مَنْ جَهَرَ بِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، لِيَعْرِفُوا أَنَّ قِرَاءَتَهَا سُنَّةٌ؛ لَا لِأَنَّ الْجَهْرَ بِهَا سُنَّةٌ.
وَمَنْ تَدَبَّرَ عَامَّةَ الْآثَارِ الثَّابِتَةِ فِي هَذَا الْبَابِ عَلِمَ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ قَرَءُوهَا لِبَيَانِ ذَلِكَ، لَا لِبَيَانِ كَوْنِهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَأَنَّ الْجَهْرَ بِهَا سُنَّةٌ، مِثْلُ مَا ذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ
وَابْنِ شِهَابٍ: مِثْلَهُ بِغَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا، قَالَ: وَكَانَ أَهْلُ الْفِقْهِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَعْرُوفٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى جَهَرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَإِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ هُوَ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ الْحَالِ، فَإِنَّ الْعُمْدَةَ فِي الْآثَارِ فِي قِرَاءَتِهَا، إنَّمَا هِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ.
وَقَدْ عَرَفَ حَقِيقَةَ حَالِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ مِمَّنْ يَرْوِي الْجَهْرَ بِهَا لَيْسَ مَعَهُ حَدِيثٌ صَرِيحٌ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ تِلْكَ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مَكْذُوبَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا يَتَمَسَّكُ بِلَفْظٍ مُحْتَمَلٍ، مِثْلَ اعْتِمَادِهِمْ عَلَى حَدِيثِ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيّ. فَإِنَّ الْعَارِفِينَ بِالْحَدِيثِ يَقُولُونَ: إنَّهُ عُمْدَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ.
فَإِنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَظْهَرُ دَلَالَةٍ عَلَى نَفْيِ قِرَاءَتِهَا مِنْ دَلَالَةِ هَذَا عَلَى الْجَهْرِ بِهَا؛ فَإِنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ: نِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - أَوْ قَالَ فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سُلَيْمَانَ - وَهُوَ كَذَّابٌ - أَنَّهُ قَالَ: فِي أَوَّلِهِ «فَإِذَا قَالَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ ذَكَرَنِي عَبْدِي» وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى كَذِبِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا كَثُرَ الْكَذِبُ فِي أَحَادِيثِ الْجَهْرِ؛ لِأَنَّ الشِّيعَةَ تَرَى الْجَهْرَ، وَهُمْ أَكْذَبُ الطَّوَائِفِ، فَوَضَعُوا فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ لَبَّسُوا بِهَا عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ مِنْ السُّنَّةِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَتَرْكَ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، كَمَا يَذْكُرُونَ تَقْدِيمَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ شِعَارِ الرَّافِضَةِ.
وَلِهَذَا ذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى تَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا، قَالَ: لِأَنَّ الْجَهْرَ بِهَا صَارَ مِنْ شِعَارِ الْمُخَالِفِينَ، كَمَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى تَسْنِمَةِ الْقُبُورِ؛ لِأَنَّ التَّسْطِيحَ صَارَ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْبِدَعِ.
فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ، وَلَا مِنْ الْقِرَاءَةِ الْمَقْسُومَةِ، وَهُوَ عَلَى نَفْيِ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ حَدِيثِ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ عَلَى الْجَهْرِ؛ فَإِنَّ فِي حَدِيثِ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ «أَنَّهُ قَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ قَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ» ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ؛ فَهِيَ خِدَاجٌ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَنَا أَحْيَانًا أَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك يَا فَارِسِيُّ؛ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» الْحَدِيثَ.
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ أُمَّ الْقُرْآنِ الَّتِي يَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ هِيَ الْقِرَاءَةُ الْمَقْسُومَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مَعَ دَلَالَةِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ؛ وَذَلِكَ يَنْفِي وُجُوبَ قِرَاءَتِهَا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَيَكُونُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِنْ كَانَ قَرَأَ بِهَا؛ قَرَأَ بِهَا اسْتِحْبَابًا لَا وُجُوبًا.
وَالْجَهْرُ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ؛ وَلَا أَعْلَمُ بِهِ قَائِلًا؛ لَكِنْ هِيَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَإِيجَابُ قِرَاءَتِهَا مَعَ الْمُخَافَتَةِ بِهَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ؛ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ وَإِذَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إنَّمَا قَرَأَهَا اسْتِحْبَابًا لَا وُجُوبًا؛ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا تُشْرَعُ
الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْجَهْرِ بِهَا؛ كَانَ جَهْرُهُ بِهَا أَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لِيُعَرِّفَهُمْ اسْتِحْبَابَ قِرَاءَتِهَا؛ وَأَنَّ قِرَاءَتَهَا مَشْرُوعَةٌ؛ كَمَا جَهَرَ عُمَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ: وَكَمَا جَهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجِنَازَةِ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ: وَيَكُونُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَصَدَ تَعْرِيفَهُمْ أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي الْجُمْلَةِ؛ وَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهَا وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ هَذَا مُخَالِفًا لِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: وَحَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: وَغَيْرِ ذَلِكَ. هَذَا إنْ كَانَ الْحَدِيثُ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا؛ فَإِنَّ لَفْظَهُ لَيْسَ صَرِيحًا بِذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ قَرَأَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثُمَّ قَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ، وَلَفْظُ الْقِرَاءَةِ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ قَرَأَهَا سِرًّا، وَيَكُونُ نُعَيْمٌ عَلِمَ ذَلِكَ بِقُرْبِهِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ قِرَاءَةَ السِّرِّ إذَا قَوِيَتْ يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِي الْقَارِئَ، وَيُمْكِنُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ بِقِرَاءَتِهَا، وَقَدْ أَخْبَرَ أَبُو قَتَادَةَ بِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَةٍ، وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ، وَهِيَ قِرَاءَةُ سِرٍّ، كَيْفَ وَقَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ وُجُوبَ قِرَاءَتِهَا، فَضْلًا عَنْ كَوْنِ الْجَهْرِ بِهَا سُنَّةً، فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي الثَّانِي أَضْعَفُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَرَأَهَا قَبْلَ أُمِّ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ: إنِّي لَأَشْبَهَكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَّنَ وَكَبَّرَ فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا كَانَ يَتْرُكُهُ الْأَئِمَّةُ، فَيَكُونُ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي فِيهَا مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَرَكُوهُ هُمْ، وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ مِثْلَ صَلَاتِهِ، مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَعَلَّ قِرَاءَتَهَا مَعَ الْجَهْرِ أَمْثَلُ مِنْ تَرْكِ قِرَاءَتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ وَكَانَ أُولَئِكَ لَا يَقْرَءُونَهَا أَصْلًا؛ فَيَكُونُ قِرَاءَتُهَا مَعَ الْجَهْرِ أَشْبَهَ عِنْدَهُ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ؛ فَيُعْلَمُ أَوَّلًا: أَنَّ تَصْحِيحَ الْحَاكِمِ وَحْدَهُ وَتَوْثِيقَهُ وَحْدَهُ لَا يُوثَقُ بِهِ فِيمَا دُونَ هَذَا؛ فَكَيْفَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعَارَضُ فِيهِ بِتَوْثِيقِ الْحَاكِمِ.
وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الصَّحِيحِ عَلَى خِلَافِهِ، وَمَنْ لَهُ أَدْنَى خِبْرَةٍ فِي الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ لَا يُعَارِضُ بِتَوْثِيقِ الْحَاكِمِ مَا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ خِلَافُهُ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ فِيهِ مِنْ التَّسَاهُلِ وَالتَّسَامُحِ فِي بَابِ التَّصْحِيحِ، حَتَّى أَنَّ تَصْحِيحَهُ دُونَ تَصْحِيحِ التِّرْمِذِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَأَمْثَالِهِمَا بِلَا نِزَاعٍ.
فَكَيْفَ بِتَصْحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. بَلْ تَصْحِيحُهُ دُونَ تَصْحِيحِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ الْبُسْتِيِّ، وَأَمْثَالِهِمَا، بَلْ تَصْحِيحُ الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْدِسِيَّ فِي مُخْتَارِهِ خَيْرٌ مِنْ تَصْحِيحِ الْحَاكِمِ فَكِتَابُهُ فِي هَذَا الْبَابِ خَيْرٌ مِنْ كِتَابِ الْحَاكِمِ بِلَا رَيْبٍ، عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ الْحَدِيثَ، وَتَحْسِينُ التِّرْمِذِيِّ أَحْيَانًا يَكُونُ مِثْلَ تَصْحِيحِهِ أَوْ أَرْجَحَ، وَكَثِيرًا مَا يُصَحِّحُ الْحَاكِمُ أَحَادِيثَ يَجْزِمُ بِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا، فَهَذَا هَذَا.
وَالْمَعْرُوفُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَابْنِهِ مُعْتَمِرٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَجْهَرَانِ بِالْبَسْمَلَةِ، لَكِنْ نَقْلُهُ عَنْ أَنَسٍ هُوَ الْمُنْكَرُ، كَيْفَ وَأَصْحَابُ أَنَسٍ الثِّقَاتُ الْأَثْبَاتُ يَرْوُونَ عَنْهُ خِلَافَ ذَلِكَ، حَتَّى أَنَّ شُعْبَةَ سَأَلَ قَتَادَةَ عَنْ هَذَا قَالَ: أَنْتَ سَمِعْت أَنَسًا يَذْكُرُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَخْبَرَهُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ الْمُنَافِي لِلْجَهْرِ.
وَنَقْلُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ مَا سَمِعَهُ مِنْ أَنَسٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، وَأَرْفَعُ دَرَجَاتِ الصَّحِيحِ عِنْدَ أَهْلِهِ، إذْ قَتَادَةُ أَحْفَظُ أَهْلِ زَمَانِهِ، أَوْ مِنْ أَحْفَظِهِمْ وَكَذَلِكَ إتْقَانُ شُعْبَةَ وَضَبْطُهُ هُوَ الْغَايَةُ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا مِمَّا يَرُدُّ بِهِ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ رَوَى حَدِيثَ أَنَسٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ إلَّا قَوْلُهُ: يَسْتَفْتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَفَهِمَ بَعْضُ الرُّوَاةِ مِنْ ذَلِكَ نَفْيَ قِرَاءَتِهَا، فَرَوَاهُ مِنْ عِنْدِهِ، فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ هُوَ أَبْعَدُ النَّاسِ عِلْمًا بِرُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَأَلْفَاظِ رِوَايَتِهِمْ الصَّرِيحَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، وَبِأَنَّهُمْ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ فِي الْغَايَةِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ الْمُجَازَفَةَ، أَوْ أَنَّهُ مُكَابِرٌ صَاحِبُ هَوًى يَتْبَعُ هَوَاهُ، وَيَدَعُ مُوجِبَ الْعِلْمِ وَالدَّلِيلِ.
ثُمَّ يُقَالُ: هَبْ أَنَّ الْمُعْتَمِرَ أَخَذَ صَلَاتَهُ عَنْ أَبِيهِ، وَأَبُوهُ عَنْ أَنَسٍ وَأَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا مُجْمَلٌ وَمُحْتَمَلٌ؛ إذْ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ كُلُّ حُكْمٍ جُزْئِيٍّ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ بِمِثْلِ هَذَا الْإِسْنَادِ الْمُجْمَلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ وَتَعَدُّدِ الْإِسْنَادِ لَا تُضْبَطُ الْجُزْئِيَّاتُ فِي أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ حَقَّ الضَّبْطِ؛ إلَّا بِنَقْلٍ مُفَصَّلٍ لَا مُجْمَلٍ، وَإِلَّا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِثْلَ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالْأَعْمَشِ، وَغَيْرَهُمْ أَخَذُوا صَلَاتَهُمْ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَذَوِيهِ، وَإِبْرَاهِيمُ أَخَذَهَا عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَنَحْوِهِمَا، وَهُمْ أَخَذُوهَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَهَذَا الْإِسْنَادُ أَجَلُّ رِجَالًا مِنْ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ، وَهَؤُلَاءِ أَخَذَ الصَّلَاةَ عَنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ نَفْسُ صَلَاةِ هَؤُلَاءِ هِيَ
صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْإِسْنَادِ، حَتَّى فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ، فَإِنْ جَازَ هَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يَجْهَرُونَ، وَلَا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ، إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَيُسْفِرُونَ بِالْفَجْرِ، وَأَنْوَاعُ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهِ الْكُوفِيُّونَ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ احْتِجَاجُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْجَهْرِ بِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَانُوا يَجْهَرُونَ، وَأَنَّهُمْ أَخَذُوا صَلَاتَهُمْ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ أَخَذَهَا عَنْ عَطَاءٍ، وَعَطَاءٌ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه أَوَّلُ مَا أَخَذَ الْفِقْهَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ جُرَيْجٍ، كَسَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْقَدَّاحِ، وَمُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزِّنْجِيِّ، لَكِنْ مِثْلُ هَذِهِ الْأَسَانِيدِ الْمُجْمَلَةِ لَا يَثْبُتُ بِهَا أَحْكَامٌ مُفَصَّلَةٌ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا.
وَلَئِنْ جَازَ ذَلِكَ لَيَكُونَنَّ مَالِكٌ أَرْجَحَ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ أَجَلُّ قَدْرًا، وَأَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ، وَأَتْبَعُ لَهَا مِمَّنْ كَانَ بِالْكُوفَةِ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ.
وَقَدْ احْتَجَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَلَى تَرْكِ الْجَهْرِ بِالْعَمَلِ الْمُسْتَمِرِّ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا الْمِحْرَابُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ الْأَئِمَّةُ، وَهَلُمَّ جَرًّا. وَنَقْلُهُمْ لِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَقْلٌ مُتَوَاتِرٌ، كُلُّهُمْ شَهِدُوا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَلَاةَ خُلَفَائِهِ، وَكَانُوا أَشَدَّ مُحَافَظَةً عَلَى السُّنَّةِ، وَأَشَدَّ إنْكَارًا عَلَى مَنْ خَالَفَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُغَيِّرُوا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا الْعَمَلُ يَقْتَرِنُ بِهِ عَمَلُ الْخُلَفَاءِ كُلِّهِمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَبَنِي الْعَبَّاسِ، فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ، وَلَيْسَ لِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ غَرَضٌ بِالْأَطْبَاقِ عَلَى تَغْيِيرِ السُّنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا. وَلَا يُمْكِنُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ كُلَّهُمْ أَقَرَّتْهُمْ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ، بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُ ضَرُورَةَ أَنَّ خُلَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَمُلُوكَهُمْ لَا يُبَدِّلُونَ سُنَّةً لَا تَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ مُلْكِهِمْ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ الْأَهْوَاءِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا لِلْمُلُوكِ فِيهَا غَرَضٌ.
وَهَذِهِ الْحُجَّةُ إذَا احْتَجَّ بِهَا الْمُحْتَجُّ لَمْ تَكُنْ دُونَ تِلْكَ، بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهَا أَقْوَى مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ أَنَّ الْجَزْمَ بِكَوْنِ صَلَاةِ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ أَشْبَهَ بِصَلَاةِ الصَّحَابَةِ بِهَا، وَالصَّحَابَةُ بِهَا أَشْبَهَ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَبُ مِنْ الْجَزْمِ بِكَوْنِ صَلَاةِ شَخْصٍ أَوْ شَخْصَيْنِ أَشْبَهَ بِصَلَاةِ آخَرَ، حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْهَبْ ذَاهِبٌ قَطُّ إلَى أَنَّ عَمَلَ غَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةً، وَإِنَّمَا تُنُوزِعَ فِي
عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِجْمَاعِهِمْ: هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ نِزَاعًا لَا يَقْصُرُ عَنْ عَمَلِ غَيْرِهِمْ، وَإِجْمَاعِ غَيْرِهِمْ إنْ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ.
فَتَبَيَّنَ دَفْعُ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَمْثَالِهِمَا بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَنْقُولُ نَقْلًا صَحِيحًا صَرِيحًا عَنْ أَنَسٍ يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ وَأَصَحُّ وَأَثْبَتُ مِنْ أَنْ يُعَارَضَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ، وَإِنَّمَا صَحَّحَهُ مِثْلُ الْحَاكِمِ، وَأَمْثَالُهُ.
وَمِثْلُ هَذَا أَيْضًا يُظْهِرُ ضَعْفَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى بِالصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ تَرْكَ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَأَوَّلِ السُّورَةِ حَتَّى عَادَ يَعْمَلُ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَإِنْ كَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ: إسْنَادُهُ ثِقَاتٌ، وَقَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ أَجْوَدُ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يُعْلَمُ ضَعْفُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الْمُسْتَفِيضَةَ الَّذِي يَرُدُّ هَذَا. الثَّانِي: أَنَّ مَدَارَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ وَقَدْ ضَعَّفَهُ طَائِفَةٌ، وَقَدْ اضْطَرَبُوا فِي رِوَايَتِهِ إسْنَادًا وَمَتْنًا، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إسْنَادٌ مُتَّصِلُ السَّمَاعِ؛ بَلْ فِيهِ مِنْ الضَّعَفَةِ وَالِاضْطِرَابِ مَا لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ الِانْقِطَاعُ أَوْ سُوءُ الْحِفْظِ الرَّابِعُ: أَنَّ أَنَسًا كَانَ مُقِيمًا بِالْبَصْرَةِ، وَمُعَاوِيَةُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ عَلِمْنَاهُ أَنَّ أَنَسًا كَانَ مَعَهُ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْخَامِسُ: أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ بِتَقْدِيرِ وُقُوعِهَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَالرَّاوِي لَهَا أَنَسٌ وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ، وَهِيَ مِمَّا تَتَوَافَرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَصْحَابَ أَنَسٍ الْمَعْرُوفِينَ بِصُحْبَتِهِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ؛ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْ أَنَسٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ نَقِيضُ ذَلِكَ، وَالنَّاقِلُ لَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ. السَّادِسُ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَوْ كَانَ رَجَعَ إلَى الْجَهْرِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ، لَكَانَ
هَذَا أَيْضًا مَعْرُوفًا مِنْ أَمْرِهِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ الَّذِينَ صَحِبُوهُ، وَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ؛ بَلْ الشَّامِيُّونَ كُلُّهُمْ: خُلَفَاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ كَانَ مَذْهَبُهُمْ تَرْكَ الْجَهْرِ بِهَا؛ بَلْ الْأَوْزَاعِيُّ مَذْهَبُهُ فِيهَا مَذْهَبُ مَالِكٍ لَا يَقْرَؤُهَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا. فَهَذِهِ الْوُجُوهُ وَأَمْثَالُهَا إذَا تَدَبَّرَهَا الْعَالِمُ قَطَعَ بِأَنَّ حَدِيثَ مُعَاوِيَةَ إمَّا بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَإِمَّا مُغَيَّرٌ عَنْ وَجْهِهِ، وَأَنَّ الَّذِي حَدَّثَ بِهِ بَلَغَهُ مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَحَصَلَتْ الْآفَةُ مِنْ انْقِطَاعِ إسْنَادِهِ وَقِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَوْ كَانَ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ لَكَانَ شَاذًّا؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا رَوَاهُ النَّاسُ الثِّقَاتُ الْأَثْبَاتُ عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلِ الشَّامِ، وَمِنْ شَرْطِ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ أَنْ لَا يَكُونَ شَاذًّا وَلَا مُعَلَّلًا وَهَذَا شَاذٌّ مُعَلَّلٌ، إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ سُوءِ حِفْظِ بَعْضِ رُوَاتِهِ.
وَالْعُمْدَةُ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْمُصَنِّفُونَ فِي الْجَهْرِ بِهَا وَوُجُوبِ قِرَاءَتِهَا إنَّمَا هُوَ كِتَابَتُهَا فِي الْمُصْحَفِ بِقَلَمِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ جَرَّدُوا الْقُرْآنَ عَمَّا لَيْسَ مِنْهُ.
وَاَلَّذِينَ نَازَعُوهُمْ دَفَعُوا هَذِهِ الْحُجَّةَ بِلَا حَقٍّ، كَقَوْلِهِمْ: الْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَاطِعٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا قَاطِعًا لَكَفَرَ مُخَالِفُهُ. وَقَدْ سَلَكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا الْمَسْلَكَ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ بِخَطَأِ الشَّافِعِيِّ فِي كَوْنِهِ جَعَلَ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، مُعْتَمَدِينَ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْقُرْآنِ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَلَا تَوَاتُرَ هُنَا، فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِنَفْيِ كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ مُقَابَلَةٌ بِمِثْلِهَا، فَيُقَالُ لَهُمْ: بَلْ يُقْطَعُ بِكَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ، كَمَا قَطَعْتُمْ بِنَفْيِ كَوْنِهَا لَيْسَتْ مِنْهُ.
وَمِثْلُ هَذَا النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ الصَّحَابَةِ بِأَنَّ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ قُرْآنٌ، فَإِنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ آيَةٍ وَآيَةٍ يَرْفَعُ الثِّقَةَ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ الْمَكْتُوبِ بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ كَلَامَ اللَّهِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ نَقَلُوا إلَيْنَا أَنَّ مَا كَتَبُوهُ بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. فَإِنْ قَالَ الْمُنَازِعُ: إنْ قَطَعْتُمْ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ، فَكَفِّرُوا النَّافِيَ، قِيلَ لَهُمْ: وَهَذَا يُعَارِضُ حُكْمَهُ إذَا قَطَعْتُمْ بِنَفْيِ كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ، فَكَفِّرُوا مُنَازِعَكُمْ.
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى نَفْيِ التَّكْفِيرِ فِي هَذَا الْبَابِ، مَعَ دَعْوَى كَثِيرٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ
الْقَطْعَ بِمَذْهَبِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ قَطْعِيًّا عِنْدَ شَخْصٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا ادَّعَتْ طَائِفَةٌ أَنَّهُ قَطْعِيٌّ عِنْدَهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي دَعْوَى الْمُدَّعِي الْقَطْعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْقَطْعِ، كَمَا يَغْلَطُ فِي سَمْعِهِ وَفَهْمِهِ وَنَقْلِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِ، كَمَا قَدْ يَغْلَطُ الْحِسُّ الظَّاهِرُ فِي مَوَاضِعَ، وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ: الْأَقْوَالُ فِي كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةٌ: طَرَفَانِ، وَوَسَطٌ. الطَّرَفُ الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَطَائِفَةٌ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. مُدَّعِيًا أَنَّهُ مَذْهَبُهُ، أَوْ نَاقِلًا لِذَلِكَ رِوَايَةً عَنْهُ. وَالطَّرَفُ الْمُقَابِلُ لَهُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ آيَةٌ أَوْ بَعْضُ آيَةٍ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، وَإِنَّمَا يُسْتَفْتَحُ بِهَا فِي السُّوَرِ تَبَرُّكًا بِهَا، وَأَمَّا كَوْنُهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ فِيهِ دَلِيلٌ.
وَالْقَوْلُ الْوَسَطُ: أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ، وَأَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْ السُّوَرِ، بَلْ كُتِبَتْ آيَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَكَذَلِكَ تُتْلَى آيَةً مُنْفَرِدَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، كَمَا تَلَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. كَمَا فِي قَوْلِهِ: «إنَّ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ هِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ، وَهِيَ سُورَةُ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] » رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ سَائِرِ مَنْ حَقَّقَ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَوَسَّطَ فِيهَا جَمْعٌ مِنْ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَكِتَابَتِهَا سَطْرًا مَفْصُولًا عَنْ السُّورَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى تَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ فِي الْفَاتِحَةِ قَوْلَانِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
أَحَدُهُمَا: إنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا، تَجِبُ قِرَاءَتُهَا حَيْثُ تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ قِرَاءَتَهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ كَقِرَاءَتِهَا فِي أَوَّلِ السُّوَرِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ، لَا تُخَالِفُهُ.
وَحِينَئِذٍ الْخِلَافُ أَيْضًا فِي قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وُجُوبَ الْفَاتِحَةِ، كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ.
وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: قِرَاءَتُهَا مَكْرُوهَةٌ سِرًّا وَجَهْرًا، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ قِرَاءَتَهَا جَائِزَةٌ؛ بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يُسَوِّي بَيْنَ قِرَاءَتِهَا وَتَرْكِ قِرَاءَتِهَا، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ هَذَا عَلَى إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ، وَذَلِكَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى.
ثُمَّ مَعَ قِرَاءَتِهَا هَلْ يُسَنُّ الْجَهْرُ أَوْ لَا يُسَنُّ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قِيلَ: يُسَنُّ الْجَهْرُ بِهَا. كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ.
وَقِيلَ: لَا يُسَنُّ الْجَهْرُ بِهَا، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ، وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ.
وَقِيلَ: يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا. كَمَا يُرْوَى عَنْ إِسْحَاقَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ.
وَمَعَ هَذَا فَالصَّوَابُ أَنَّ مَا لَا يُجْهَرُ بِهِ قَدْ يُشْرَعُ الْجَهْرُ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، فَيُشْرَعُ لِلْإِمَامِ أَحْيَانًا لِمِثْلِ تَعْلِيمِ الْمَأْمُومِينَ، وَيَسُوغُ لِلْمُصَلِّينَ أَنْ يَجْهَرُوا بِالْكَلِمَاتِ الْيَسِيرَةِ أَحْيَانًا، وَيَسُوغُ أَيْضًا أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ الْأَفْضَلَ لِتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ، وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ خَوْفًا مِنْ التَّنْفِيرِ، عَمَّا يَصْلُحُ كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَاءَ الْبَيْتِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ؛ لِكَوْنِ قُرَيْشٍ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ، وَخَشِيَ تَنْفِيرَهُمْ بِذَلِكَ. وَرَأَى أَنَّ مَصْلَحَةَ الِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ الْبِنَاءِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - لَمَّا أَكْمَلَ الصَّلَاةَ خَلْفَ عُثْمَانَ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ فِي