الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَدَا لَهُ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا. وَلَمْ يُرَتِّبْ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَصُومَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَيُفْطِرَ ثَلَاثَةً أَوْ يُفْطِرَ أَرْبَعَةً، وَيَصُومَ ثَلَاثَةٍ: فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ أَفْتُونَا يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ؟
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. إذَا انْتَقَلَ مِنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ إلَى صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ، فَقَدْ انْتَقِلْ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ، وَفِيهِ نِزَاعٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْمَفْضُولِ، وَصَلَّى فِي الْأَفْضَلِ، مِثْلَ أَنْ يَنْذِرَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، فَيُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[ثَوَاب صِيَامِ الثَّلَاثَةِ أَشْهُرٍ]
357 -
27 - وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، عَمَّا وَرَدَ فِي ثَوَابِ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَمَا تَقُولُ فِي الِاعْتِكَافِ فِيهَا، وَالصَّمْتِ. هَلْ هُوَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؟ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: أَمَّا تَخْصِيصُ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ جَمِيعًا بِالصَّوْمِ، أَوْ الِاعْتِكَافِ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ، وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ. وَلَا أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ إلَى شَعْبَانَ، وَلَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، مِنْ أَجْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ» .
وَأَمَّا صَوْمُ رَجَبٍ بِخُصُوصِهِ، فَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، بَلْ مَوْضُوعَةٌ، لَا يَعْتَمِدُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَيْسَتْ مِنْ الضَّعِيفِ الَّذِي يُرْوَى فِي الْفَضَائِلِ، بَلْ عَامَّتُهَا مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ الْمَكْذُوبَاتِ، وَأَكْثَرُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا دَخَلَ رَجَبُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ، وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ» .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ «النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ رَجَبٍ» ، وَفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ، لَكِنْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَضْرِبُ أَيْدِي النَّاسِ؛ لِيَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الطَّعَامِ فِي رَجَبٍ. وَيَقُولُ: لَا تُشَبِّهُوهُ بِرَمَضَانَ.
وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَرَأَى أَهْلَهُ قَدْ اشْتَرَوْا كِيزَانًا لِلْمَاءِ، وَاسْتَعَدُّوا لِلصَّوْمِ، فَقَالَ:" مَا هَذَا؟ ، فَقَالُوا: رَجَبٌ، فَقَالَ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تُشَبِّهُوهُ بِرَمَضَانَ؟ وَكَسَرَ تِلْكَ الْكِيزَانَ ". فَمَتَى أَفْطَرَ بَعْضًا لَمْ يُكْرَهْ صَوْمُ الْبَعْضِ.
وَفِي الْمُسْنَد وَغَيْرِهِ: حَدِيثٌ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِصَوْمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَهِيَ: رَجَبٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ» . فَهَذَا فِي صَوْمِ الْأَرْبَعَةِ جَمِيعًا، لَا مَنْ يُخَصِّصُ رَجَبًا.
وَأَمَّا تَخْصِيصُهَا بِالِاعْتِكَافِ فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ أَمْرًا، بَلْ كُلُّ مَنْ صَامَ صَوْمًا مَشْرُوعًا، وَأَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ مِنْ صِيَامِهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِلَا رَيْبٍ، وَإِنْ اعْتَكَفَ بِدُونِ الصِّيَامِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ، بِدُونِ الصَّوْمِ. كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا الصَّمْتُ عَنْ الْكَلَامِ مُطْلَقًا فِي الصَّوْمِ، أَوْ الِاعْتِكَافِ، أَوْ غَيْرِهِمَا، فَبِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. لَكِنْ هَلْ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِهِ، وَغَيْرِهِ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ فَوَجَدَهَا مُصْمِتَةً لَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: إنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ إنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ: مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» .
فَأَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ نَذْرِهِ لِلصَّمْتِ، أَنْ يَتَكَلَّمَ، كَمَا أَمَرَهُ مَعَ نَذْرِهِ لِلْقِيَامِ أَنْ يَجْلِسَ، وَمَعَ نَذْرِهِ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ، أَنْ يَسْتَظِلَّ. وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُوَفِّيَ بِالصَّوْمِ فَقَطْ. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْقُرَبِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِهَا النَّاذِرُ.
وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» .
كَذَلِكَ لَا يُؤْمَرُ النَّاذِرُ أَنْ يَفْعَلَهَا، فَمَنْ فَعَلَهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ بِهَا وَالتَّقَرُّبِ، وَاِتِّخَاذِ ذَلِكَ دِينًا وَطَرِيقًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ، مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، إنَّمَا يَفْعَلُهُ تَدَيُّنًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّدَيُّنِ حَرَامٌ، فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ قُرْبَةً، وَيَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَهَذَا حَرَامٌ، لَكِنْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِ الْعِلْمِ إلَيْهِ، فَقَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا بِجَهْلِهِ، إذَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، فَإِذَا بَلَغَهُ الْعِلْمُ فَعَلَيْهِ التَّوْبَةُ.
وَجِمَاعُ الْأَمْرِ فِي الْكَلَامِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» .
فَقَوْلُ الْخَيْرِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ، أَوْ الْمُسْتَحَبُّ، خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ، وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا مُسْتَحَبٍّ، فَالسُّكُوتُ عَنْهُ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِهِ.
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لِصَاحِبِهِ: السُّكُوتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْآخِرُ: التَّكَلُّمُ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة: 9] .
وَقَالَ تَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] .