الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ، مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا. فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي، فَقَالَ: إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا» فَهَذَا كَانَ رَجُلًا جَاهِلًا، وَمَعَ هَذَا فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ، فَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْإِعَادَةِ. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ رَجُلٍ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» . يَعْنِي يُقِيمُ صُلْبَهُ: إذَا رَفَعَ مِنْ الرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ مِنْ السُّجُودِ. وَفِي الصَّحِيحِ:" أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رضي الله عنه رَأَى رَجُلًا لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَقَالَ: مُنْذُ كَمْ تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ؟ قَالَ: مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: أَمَا إنَّك لَوْ مِتّ لَمُتّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم ".
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «وَأَنَّهُ قَالَ لِمَنْ نَقَرَ فِي الصَّلَاةِ: أَمَا إنَّك لَوْ مِتّ عَلَى هَذَا مِتّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم» أَوْ نَحْوَ هَذَا. وَقَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَلَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ، مَثَلُ الَّذِي يَأْكُلُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَمَا تُغْنِي عَنْهُ» .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا» وَقَدْ كَتَبْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ هُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ الْوَسْوَاسُ فِي الصَّلَاةِ]
184 -
100 مَسْأَلَةٌ: فِيمَنْ يَحْصُلُ لَهُ الْحُضُورُ فِي الصَّلَاةِ تَارَةً، وَيَحْصُلُ لَهُ الْوَسْوَاسُ تَارَةً، فَمَا الَّذِي يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى دَوَامِ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ؟ وَهَلْ تَكُونُ تِلْكَ الْوَسَاوِسُ مُبْطِلَةً لِلصَّلَاةِ؟ أَوْ مُنْقِصَةً لَهَا أَمْ لَا؟ وَفِي قَوْلِ عُمَرَ: إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ. هَلْ كَانَ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ عَنْ حَالِهِ فِي جَمْعِيَّتِهِ أَوْ لَا؟
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْوَسْوَاسُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ إذَا كَانَ قَلِيلًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ يُنْقِصُ الْأَجْرَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا.
وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا، إلَّا ثُلُثُهَا، إلَّا رُبُعُهَا، إلَّا خُمُسُهَا، إلَّا سُدُسُهَا، إلَّا سُبُعُهَا، إلَّا ثُمُنُهَا، إلَّا تُسْعُهَا، إلَّا عُشْرُهَا» .
وَيُقَالُ: إنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ لِجَبْرِ النَّقْصِ الْحَاصِلِ فِي الْفَرَائِضِ، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ أَكْمَلَهَا، وَإِلَّا قِيلَ: اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ، فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ بِهِ الْفَرِيضَةُ، ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ» . وَهَذَا الْإِكْمَالُ يَتَنَاوَلُ مَا نَقَصَ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا الْوَسْوَاسُ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا عَلَى الصَّلَاةِ فَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ - مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ - وَغَيْرُهُمَا: إنَّهُ يُوجِبُ الْإِعَادَةَ أَيْضًا، لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى التَّأْذِينَ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، فَإِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، فَيَقُولُ: اُذْكُرْ كَذَا، اُذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرْ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» . وَقَدْ «صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الصَّلَاةُ مَعَ الْوَسْوَاسِ مُطْلَقًا» . وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْوَسْوَاسَ كُلَّمَا قَلَّ فِي الصَّلَاةِ كَانَ أَكْمَلَ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إنَّ مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُحَدِّثْ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِوَجْهِهِ، وَقَلْبِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» .
وَمَا زَالَ فِي الْمُصَلِّينَ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه: فِي ثَلَاثِ خِصَالٍ، لَوْ كُنْت فِي سَائِرِ أَحْوَالِي أَكُونُ فِيهِنَّ: كُنْت أَنَا أَنَا؛ إذَا كُنْت فِي الصَّلَاةِ لَا أُحَدِّثُ نَفْسِي بِغَيْرِ مَا أَنَا فِيهِ، وَإِذَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا لَا يَقَعُ
فِي قَلْبِي رَيْبٌ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَإِذَا كُنْت فِي جِنَازَةٍ لَمْ أُحَدِّثْ نَفْسِي بِغَيْرِ مَا تَقُولُ، وَيُقَالُ لَهَا. وَكَانَ مَسْلَمَةُ بْنُ بَشَّارٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَانْهَدَمَ طَائِفَةٌ مِنْهُ وَقَامَ النَّاسُ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَشْعُرْ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه يَسْجُدُ، فَأَتَى الْمَنْجَنِيقُ فَأَخَذَ طَائِفَةً مِنْ ثَوْبِهِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ. وَقَالُوا لِعَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ: أَتُحَدِّثُ نَفْسَك بِشَيْءٍ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: أَوَ شَيْءٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ أُحَدِّثُ بِهِ نَفْسِي؟ قَالُوا: إنَّا لَنُحَدِّثُ أَنْفُسَنَا فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَبِالْجَنَّةِ وَالْحُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: لَا، وَلَكِنْ بِأَهْلِينَا وَأَمْوَالِنَا، فَقَالَ: لَأَنْ تَخْتَلِفَ الْأَسِنَّةُ فِي أَحَبُّ إلَيَّ وَأَمْثَالُ هَذَا مُتَعَدِّدٌ.
وَاَلَّذِي يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئَانِ: قُوَّةُ الْمُقْتَضِي، وَضَعْفُ الشَّاغِلِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَاجْتِهَادُ الْعَبْدِ فِي أَنْ يَعْقِلَ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلَهُ، وَيَتَدَبَّرَ الْقِرَاءَةَ وَالذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ، وَيَسْتَحْضِرَ أَنَّهُ مُنَاجٍ لِلَّهِ تَعَالَى، كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا كَانَ قَائِمًا فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ. وَالْإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك، ثُمَّ كُلَّمَا ذَاقَ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الصَّلَاةِ كَانَ انْجِذَابُهُ إلَيْهَا أَوْكَدَ، وَهَذَا يَكُونُ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ.
وَالْأَسْبَابُ الْمُقَوِّيَةُ لِلْإِيمَانِ كَثِيرَةٌ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ: «أَرِحْنَا يَا بِلَالُ بِالصَّلَاةِ» وَلَمْ يَقُلْ: أَرِحْنَا مِنْهَا. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ «لَيْسَ بِمُسْتَكْمِلٍ لِلْإِيمَانِ مَنْ لَمْ يَزَلْ مَهْمُومًا حَتَّى يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ» أَوْ كَلَامٍ يُقَارِبُ هَذَا. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.
فَإِنَّ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَخَشْيَتِهِ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالتَّصْدِيقِ بِأَخْبَارِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا يَتَبَايَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَيَتَفَاضَلُونَ تَفَاضُلًا عَظِيمًا، وَيُقَوِّي ذَلِكَ كُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَدَبُّرًا لِلْقُرْآنِ. وَفَهْمًا، وَمَعْرِفَةً بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَتَفَقُّرِهِ إلَيْهِ فِي عِبَادَتِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ، بِحَيْثُ يَجِدُ اضْطِرَارَهُ إلَى أَنْ يَكُونَ تَعَالَى مَعْبُودَهُ وَمُسْتَغَاثَهُ أَعْظَمَ مِنْ اضْطِرَارِهِ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاحَ لَهُ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ مَعْبُودُهُ الَّذِي يَطْمَئِنُّ إلَيْهِ، وَيَأْنَسُ بِهِ، وَيَلْتَذُّ بِذِكْرِهِ، وَيَسْتَرِيحُ بِهِ، وَلَا حُصُولَ لِهَذَا إلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ، وَمَتَى كَانَ لِلْقَلْبِ إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ فَسَدَ وَهَلَكَ هَلَاكًا لَا صَلَاحَ مَعَهُ، وَمَتَى لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُصْلِحْهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ، وَلَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْهُ إلَّا إلَيْهِ.
وَلِهَذَا يُرْوَى: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، جَمَعَ عِلْمَهَا فِي الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ، وَجَمَعَ الْكُتُبَ الْأَرْبَعَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَجَمَعَ عِلْمَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ، وَجَمَعَ عِلْمَ الْمُفَصَّلِ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَجَمَعَ عِلْمَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] .
وَقَوْلُهُ: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَبَسْطُ هَذَا طَوِيلٌ لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ.
وَأَمَّا زَوَالُ الْعَارِضِ: فَهُوَ الِاجْتِهَادُ فِي دَفْعِ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ مِنْ تَفَكُّرِ الْإِنْسَانِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَتَدَبُّرِ الْجَوَاذِبِ الَّتِي تَجْذِبُ الْقَلْبَ عَنْ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا فِي كُلِّ عَبْدٍ بِحَسْبِهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْوَسْوَاسِ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَتَعْلِيقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبَاتِ الَّتِي يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ إلَى طَلَبِهَا، وَالْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي يَنْصَرِفُ الْقَلْبُ إلَى دَفْعِهَا.
وَالْوَسَاوِسُ: إمَّا مِنْ قَبِيلِ الْحُبِّ، مِنْ أَنْ يَخْطِرَ بِالْقَلْبِ مَا قَدْ كَانَ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الطَّلَبِ، وَهُوَ أَنْ يَخْطِرَ فِي الْقَلْبِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَمِنْ الْوَسَاوِسِ مَا يَكُونُ مِنْ خَوَاطِرِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَيَتَأَلَّمُ لَهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ تَأَلُّمًا شَدِيدًا، كَمَا قَالَ الصَّحَابَةُ:«يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: أَوَجَدْتُمُوهُ؟ ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ» . وَفِي لَفْظٍ: «إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا يَتَعَاظَمُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ» . قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: فَكَرَاهَةُ ذَلِكَ وَبُغْضُهُ، وَفِرَارُ الْقَلْبِ مِنْهُ، هُوَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَانَ غَايَةُ كَيْدِ الشَّيْطَانِ الْوَسْوَسَةَ، فَإِنَّ شَيْطَانَ الْجِنِّ إذَا غَلَبَ وَسْوَسَ، وَشَيْطَانَ الْإِنْسِ إذَا غَلَبَ كَذَبَ، وَالْوَسْوَاسُ يَعْرِضُ لِكُلِّ مَنْ تَوَجَّهَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَثْبُتَ وَيَصْبِرَ، وَيُلَازِمَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ، وَلَا يَضْجَرُ، فَإِنَّهُ بِمُلَازَمَةِ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ عَنْهُ كَيْدُ الشَّيْطَانِ،
{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] . وَكُلَّمَا أَرَادَ الْعَبْدُ تَوَجُّهًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَلْبِهِ جَاءَ مِنْ الْوَسْوَاسِ أُمُورٌ أُخْرَى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ بِمَنْزِلَةِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، كُلَّمَا أَرَادَ الْعَبْدُ يَسِيرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرَادَ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ: إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ: لَا نُوَسْوَسُ، فَقَالَ: صَدَقُوا، وَمَا يَصْنَعُ الشَّيْطَانُ بِالْبَيْتِ الْخَرَابِ. وَتَفَاصِيلُ مَا يَعْرِضُ لِلسَّالِكِينَ طَوِيلٌ مَوْضِعُهُ.
وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ: إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي، وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ. فَذَاكَ لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ مَأْمُورًا بِالْجِهَادِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُوَ أَمِيرُ الْجِهَادِ. فَصَارَ بِذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُصَلِّي الَّذِي يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ حَالَ مُعَايَنَةِ الْعَدُوِّ، إمَّا حَالَ الْقِتَالِ، وَإِمَّا غَيْرَ حَالِ الْقِتَالِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ، وَمَأْمُورٌ بِالْجِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَيْنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ حَالَ الْجِهَادِ لَا تَكُونُ كَطُمَأْنِينَتِهِ حَالَ الْأَمْنِ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ شَيْءٌ لِأَجْلِ الْجِهَادِ لَمْ يَقْدَحْ هَذَا فِي كَمَالِ إيمَانِ الْعَبْدِ وَطَاعَتِهِ، وَلِهَذَا تُخَفَّفُ صَلَاةُ الْخَوْفِ عَنْ صَلَاةِ الْأَمْنِ. وَلَمَّا ذَكَرَ سبحانه وتعالى صَلَاةَ الْخَوْفِ قَالَ:{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] فَالْإِقَامَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا حَالَ الطُّمَأْنِينَةِ لَا يُؤْمَرُ بِهَا حَالَ الْخَوْفِ.
وَمَعَ هَذَا: فَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا قَوِيَ إيمَانُ الْعَبْدِ كَانَ حَاضِرَ الْقَلْبِ فِي الصَّلَاةِ، مَعَ تَدَبُّرِهِ لِلْأُمُورِ بِهَا، وَعُمَرُ قَدْ ضَرَبَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ، وَهُوَ الْمُحَدِّثُ الْمُلْهَمُ، فَلَا يُنْكَرُ لِمِثْلِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ تَدْبِيرِهِ جَيْشَهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْحُضُورِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، لَكِنْ لَا رَيْبَ أَنَّ حُضُورَهُ مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ يَكُونُ أَقْوَى، وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَالَ أَمْنِهِ كَانَتْ أَكْمَلَ مِنْ صَلَاتِهِ حَالَ الْخَوْفِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا حَالَ الْخَوْفِ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ، فَكَيْفَ بِالْبَاطِنَةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَتَفَكُّرُ الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ فِي أَمْرٍ يَجِبُ عَلَيْهِ قَدْ يَضِيقُ وَقْتُهُ لَيْسَ
كَتَفَكُّرِهِ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، أَوْ فِيمَا لَمْ يَضِقْ وَقْتُهُ، وَقَدْ يَكُونُ عُمَرُ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّفَكُّرُ فِي تَدْبِيرِ الْجَيْشِ إلَّا فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَهُوَ إمَامُ الْأُمَّةِ وَالْوَارِدَاتُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ.
وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِضُ لِكُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ، وَالْإِنْسَانُ دَائِمًا يَذْكُرُ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا يَذْكُرُهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ، كَمَا يُذْكَرُ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ ذَكَرَ لَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ دَفَنَ مَالًا وَقَدْ نَسِيَ مَوْضِعَهُ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ، فَقَامَ فَصَلَّى، فَذَكَرَهُ، فَقِيلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْت ذَلِكَ؟ قَالَ: عَلِمْت أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَدَعُهُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُذَكِّرَهُ بِمَا يُشْغِلُهُ، وَلَا أَهَمَّ عِنْدَهُ مِنْ ذِكْرِ مَوْضِعِ الدَّفْنِ. لَكِنَّ الْعَبْدَ الْكَيِّسَ يَجْتَهِدُ فِي كَمَالِ الْحُضُورِ، مَعَ كَمَالِ فِعْلِ بَقِيَّةِ الْمَأْمُورِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
185 -
101 مَسْأَلَةٌ: فِي وَسْوَاسِ الرَّجُلِ فِي صَلَاتِهِ، وَمَا حَدُّ الْمُبْطِلِ لِلصَّلَاةِ؟ وَمَا حَدُّ الْمَكْرُوهِ مِنْهُ؟ وَهَلْ يُبَاحُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ؟ وَهَلْ يُعَذَّبُ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ؟ وَمَا حَدُّ الْإِخْلَاصِ فِي الصَّلَاةِ؟ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ لِأَحَدِكُمْ مِنْ صَلَاتِهِ إلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا» ؟
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ: الْوَسْوَاسُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَمْنَعُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ تَدَبُّرِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي فِي الصَّلَاةِ، بَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْخَوَاطِرِ، فَهَذَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؛ لَكِنْ مَنْ سَلِمَتْ صَلَاتُهُ مِنْهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ تَسْلَمْ مِنْهُ صَلَاتُهُ. الْأَوَّلُ شَبَهُ حَالِ الْمُقَرَّبِينَ.
وَالثَّانِي: شَبَهُ حَالِ الْمُقْتَصِدِينَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُوَ مَا مَنَعَ الْفَهْمَ وَشُهُودَ الْقَلْبِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الرَّجُلُ غَافِلًا، فَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ يَمْنَعُ الثَّوَابَ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا، إلَّا ثُلُثُهَا؛ إلَّا رُبْعُهَا إلَّا خُمُسُهَا إلَّا سُدُسُهَا، حَتَّى قَالَ: إلَّا عُشْرُهَا» فَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ لَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إلَّا الْعُشْرُ.