الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأرته من شدّة وقعتها العجب العجاب، وأمر بتقبيل الأرض فأبى من حمقه، ونهي فصمّم إياسا ممّا بقي من رمقه. وكان كثير الضحك، فعمد إليه الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار فألقى برأسه إلى الأرض، وأقامه من سجوده / 46 ب / لتقبيل يد مولانا السلطان ليحصل على السّنّة والفرض. فقبّلها مرارا، ورأى ما هاله من حسن هيئة
(1)
مولانا السلطان وهيبته وجميل صورته. وعلم أنّ ذا الحقّ لا يمارى.
ثم أمر مولانا السلطان بانصرافه إلى قلعة دمشق المحروسة وإنزاله في برج من أبراجها، وأن تحمل له الفرش والحكماء ويداوى، وأن يقرّر له من الإقامة كفايته وزيادة. وأحسن له - أحسن الله إليه - العادة في العيادة.
ولمّا حضر مولانا السلطان إلى القلعة من الميدان استحضره واستخبره، فأخبر بمثل ما تضمّنه الملطّف الواصل من ديار بكر من العدّة والعدّة.
وأملى عليّ قريبي الصدر فتح الدين صاحب ديوان الإنشاء الشريف مقدّمي القوم، حتى كان إملاؤه وملطّف ديار بكر لم يختلفا في مدّه.
ولمّا عزم مولانا السلطان على التوجّه للقاء القوم جهّز المذكور إلى ديار مصر. ولمّا عاد بعد نصره إلى مقرّ ملكه أحسن إليه، وأفاض / 47 أ / بملابس النعماء عليه. وأجرى رزقه، ووفّاه من الصدق في الأخيار حقّه. وأطلقه من الأسار، وصيّره بعد العبوديّة من الأحرار. إلى أن مات في خدمته، وأدركه ما فاته من الموت عند صرعته.
ذكر الركوب للقاء العدوّ المخذول
ولما كانت ليلة الخميس المسفر صباحها عن اليوم المبارك الرابع عشر من شهر رجب الفرد سنة ثمانين وستماية، بات مولانا السلطان والعساكر المنصورة على ظهر قوّضت الخيام، وتهيّئات القسيّ لاعتقال عوامل السهام. وتلمّظت
(2)
السيوف في الأغماد حنقا، وشكت الرماح ببعدها عن أسنّتها بطول ليل انتظارها أرقا. وزرّرت الجواشن أطواقها على اسم التحصين، وحمى الحديد فظنّ في ظلامها أنه ومضان برق أو شعاع شمس بما أبداه صقالها من تحسين. وأسفر نجّاب
(1)
في الأصل: «هياة» .
(2)
في الأصل: «تلمضت» .
صبحها / 47 ب / وعلى يده مخلّق
(1)
تملأ الدنيا بشائره، وأشرقت شمس يومها وقد جاء نصر الله والفتح الميمون طائره، فترتّبت الجيوش الإسلامية ميمنة وميسرة، وانضمّت جناحين لا تسأل في الإقدام نظرة إلى ميسرة. ونشرت الأعلام المحمّديّة، وأظلّت الراية السوداء العباسية. وبايع مولانا السلطان الله ورسوله، ورفع يديه مبتهلا بأن يبلّغه من نصر الدين المحمّدي سوله. ووقف وما في الموت شكّ لواقف، وأقدم من مماليكه في جمع متكاثف. وارتفعت الأصوات بتلاوة القرآن، واجتمع حول جواد مولانا السلطان من الفقراء والمشايخ الصلحاء الحاضرين من مصر وبغداد والبطايح والعراقين والشام جمع كبير مشاة. وتقدّمت الجاليشيّة، وأقبل القوم فغصّ الفضاء بكثرة جمعهم، وضاق وسعا عن وسعهم وارتفع عجاجهم، وهال ثجاجهم، وأمطرت غمامتهم السوداء مطر السّوء من سهامهم. وخطت وما / 48 أ / تخطّت مرسلات نبل أقلامهم. ودارت سواقي عجل النيل، إلاّ أنها قرنت بالخطاء (من الخطأ)
(2)
لا الصواب، وجاءت حور عين معاينتهم فدخلت على المستشهد بها من كلّ باب. وأخذ مولانا السلطان في تثبيت عساكره، واستجرار القوم من غير رهج وثوقا بالله ناصره.
ثم إنّ التتار المخذولين صاروا كرديسا
(3)
واحدا بعد الترتيب، وحملوا على الميسرة الإسلامية حملة رجل واحد فتراجعوا عنها كيما تخسر وثبتهم وتخيب.
وعندما بلغ مولانا السلطان خبر الميسرة وتأخّرها، وتحيّرها وتتابعها، وأنّ التتار قد صاروا خلف صناجقه المنصورة أمر بلفّها، وتبطيل الكوسات
(4)
وكفّ كفّها.
ثم لم يزل مولانا السلطان على من بقي من القوم إلى أن هزمهم بإذن الله وقوّته، وشتّت شملهم بعظيم سطوته
(5)
.
(1)
المخلّق: الكتاب أو الرسالة المعطّرة بالروائح، المخلّقة بالمسك وغيره.
(2)
عن الهامش.
(3)
هكذا، والصواب: كردوسا. والكردوس: القطعة العظيمة من الجيش.
(4)
الكوسات: مفردها كوسة: صنوج من نحاس تشبه الترس الصغير يدق بإحداهما على الأخرى بإيقاع.
(5)
أنظر عن موقعة حمص في: تاريخ مختصر الدول 288، 289، وتاريخ الزمان 341، 342، وزبدة الفكرة 9 / ورقة 112 ب - 119 ب، والدرّة الزكية 241 - 247، والمختصر في أخبار البشر 4/ 14، 15، ونهاية الأرب 31/ 31 - 35، ودول الإسلام 2/ 182، 183، والعبر 5/ 326، 327، -