الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يجر في طرس كما أثرته
…
قلم ولم يمرو على أفكار
كلاّ ولا سير الملوك تضمّنت
…
مثلا لها في سالف الأعصار
ما جاء قبلك قطّ جيش مثله
…
ولقد سمى
(1)
بالكثر عن أنظار
فليهننا الأمن المنيم بمحقهم
…
عن آخر بحسامك الجزّار
لا زلت منصور اللّواء مظفّرا
…
في قوّة أبدا وفي استظهار
انقضى خبر هذه الوقعة مفصّلا ومفرّعا ومؤصّلا. وقد أفردت لها جزءا مستقلاّ برسم الخزانة العالية المولويّة السلطانية، عمّرها الله تعالى بدوام ملكه.
/
59 أ / ذكر ما انفصل عليه أمر الأمير شمس الدين سنقر الأشقر
بعد انفصاله من وقعة حمص المذكورة
ولمّا قويت أخبار التتار وتأكّدت، وتجمّعت وتألّبت، طمعا فيما بلغهم من أمر الأمير شمس الدين سنقر المذكور. وبلغ مولانا السلطان أنّ حضورهم إنما كان باستدعائه، وقصدهم البلاد كان استنصارا لهم لكشف بلائه. ورسم فكتبنا إليه ننكر عليه سوء هذه الخاتمة، ونوبّخه بهذه الفعلة التي بلغت بما يجب لملتّها من اللائمة. التي هي لمن يدّعي الإسلام غير ملائمة. وقلنا وقلنا وواجهنا بالمراسيم الشريفة وما استقبلنا، فجاء كتابه وهو يحلف بالله إنّ هذا لم يتمّ منه، ولا صدر عنه، ومعاذ الله أن يبيع آخرته بدنياه، وأن يمدّ لغير مبايعة الإسلام يمناه.
وحين قرئ على مولانا السلطان كتابه، أمر فكتب جوابه. إنه إن كان الأمر كما زعم فليقدّم / 59 ب / خيرة الله ويحضر لتنتظم في سلك الحامدين، ويتّحد جيش الموحّدين. وتبعد الظنّ عمّا قيل إن حقّا وإن كذب، وتخيّب آمال الملحدين بما يتعيّن من اتفاق الكلمة ويجب. وجهّز إليه فعاد جوابه بتلبية مناديه، وأنه سيستدرك الأمر من مباديه.
وكان قد نفّر إليه الأمير سيف الدين أيتمش
(2)
السّعدي الناصري.
ذكر سبب تقصير الأمير سيف الدين أيتمش المذكور
كان سيف الدين كوندك نائب السلطنة عن الملك السعيد قد التجى
(3)
لمولانا
(1)
الصواب: «سما» .
(2)
هو: أيتمش بن أطلس خان. كما في: نهاية الأرب 31/ 21.
(3)
هكذا. والصواب: «التجأ» .
السلطان عندما أراد من حول الملك السعيد قتّله، وهرب إلى مولانا السلطان كما تقدّم شرحه. قد أحسن إليه مولانا السلطان وقرّ به. وعظّم منزلته في أيام ملكه وأدناه منه وما تجنّبه. وأبت نفسه أن لا تخرج من الدنيا حتى تسيء لمن أحسن إليها، وأن تجزى الحسنة بالسّيئة ومن أساء فعليها.
واتّفق / 60 أ / أنّ مولانا السلطان لمّا خرج إلى الشام في السنة المذكورة صار يبلغه عن هذا المذكور ما يصمّ الآذان خبره، ويكاد أن يسري ضرره، ومولانا السلطان يغضي، ويقيّد حظّ نفسه ولا يمضي. ولم يزل كذلك إلى أن خيّم بالروحاء قريب عكا، وهي منزلة لم تزل الفرنج تهرج إلى مساكن مصر عند نزولها، وتضرّع له بالخضوع والخشوع عند حلولها، وتنوّع في هداياها، وتفنّن في تحاياها خشية أن يمرّ بواديها، أو يلمّ بناديها.
فأقام مولانا السلطان بهذه المنزلة خمسة عشر يوما ولا حسّ ولا خبر، ولا عين ولا أثر، ولا زائرا برز من عكا (حتى)
(1)
ولا في أقبح الصّور. فحصل تعجّب مولانا السلطان من هذا الفتور، وعلم أنّ هذا الأمر سيكشف لطف الله منه المستور.
وكان بعكا مكاتب يقال له «جوان خندق» ، فعندما وجد السبيل طالع بالسبب، وأزال ما كان مولانا السلطان فيه من عجب. وحضر قاصده وعلى يده كتابه الشريف، فإذا مضمونه:
فحين عرّب هذا الكتاب رسّم الصاحب فتح الدين بن عبد الظاهر صاحب الديوان على التراجمة، وهم: السّابق، والاسبتاريّ كاتب الإنبرطور، بحيث لم ينفّس لهم في الاجتماع بأحد من خلق الله تعالى، خيفة أن يشيع هذا الخبر. وقرأه على مولانا السلطان، واستقرّ ذلك في نفسه، واستدرك في يومه فائت أمسه.
ولما كان بعد ليال من ورود هذا الكتاب ركب كوندك وطلع إلى كوم عال
(1)
كتبت فوق السطر.
بالمنزلة المذكورة ليلا ومعه جماعة من السلاح داريّة الظاهرية ملبسين مثقلين، ولأنواع الفتن مستقبلين.
/ 61 أ / ولمّا بلغ مولانا السلطان ذلك ثبت له أيّما ثبوت، ولم يظهر عليه من الهلع شيء وانتظر وقت الظفر الموقوت. وطلب في الوقت الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري وسيّره إليه، مستفسرا عن الأمر الذي عزم عليه. فقال: بلغني أنّ مولانا السلطان متغيّر الخاطر عليّ، مادّ طرف الغضب إليّ، من غير ذنب ولا سبب. وعاد الأمير بدر الدين المذكور بهذا القول. فللوقت رسّم مولانا السلطان، فكتبت له الأمان، متضمّنا ما فيه خلاصه من الأيمان. وقرنه بالخاتم والمنديل الشريف، فحين دخل على مولانا نهض له واقفا وأمر فأفيضت عليه ملابس التشريف. وأخذ مولانا السلطان في تسكين هلعه، وتوطين جزعه. وخرج من بين يديه، فعاد إلى ما نهي عنه من تسنّم ذلك الكوم، وسام ما كان قد اشتطّ فيه من سوم. فأعاد مولانا السلطان إليه الأمير بدر الدين المذكور قائلا له: ما هذا الاعتماد؟ / 61 ب / فقال: كأنّ هؤلاء رفقتي يشكون من الأمير علم الدين الشجاعي مدبّر المملكة بمصر، ومدّه إلى أرزاقهم يد عدوانه، واحتجب عن شكاوى وكلائهم بالسفهاء من أعوانه.
فحين عاد الأمير بدر الدين بهذه الشكاية أمر مولانا السلطان فكتبت إلى مولانا السلطان الملك الصالح ونائب السلطنة الأمير زين الدين كتبغا بعزله وكفّ يده، وأن لا تكون له قطيعة غير القعود بباب القلّه. وأن يستبدّ الصاحب برهان الدين السّنجاري بالوزارة، والأمير زين الدين الصوابي بشدّ الدواوين.
واستقرّ الحال، وتمّت المكيدة على الرجال، ولم يبق من هذه المنزلة إلاّ الرحال. وقوّض الدّهليز المنصور. ورحل مولانا السلطان إلى المنزلة المعروفة بعيون الأساور، ووجّه دهليزه إلى عكا إذ هي أقرب. فحين رأى الفرنج ذلك وأبطأ عليهم الخبر، ولم يجدوا لصحّته من أثر، بادروا بتسيير الرسل بالهدايا معتذرين، وبمصرع من خالف منهم / 62 أ / وحالف معتبرين. فأهينت رسلهم، وضيّقت سبلهم. ثم استعطف مولانا السلطان عليهم فعطف، ولوطف فلطف. وقبل هديّتهم المحضرة، وأمهلهم وما أهملهم وقوفا عند الهدنة المقرّرة.
وسار مولانا السلطان على اسم الله تعالى والنصر مكتنف بأطلابه، ضامنا نجح طلاّبه. كلّ هذا وأيتمش السّعدي عاقد رأيه وراياته، والمشير بنفيه وإثباته. والحامل على فتنته بجهله، والماكر بسيء هذا الاعتماد ولا يحيق المكر السّيء إلاّ بأهله.
ثم إنّ مولانا السلطان أعمل السّير إلى أن نزل بحمراء بيسان، واستدعى الأمراء فحضروا إلاّ أيتمش فإنّه لم يحضر استشعارا من نفسه بما حملها عليه من الغرر، وجلبه لها من صور الخيانة في أقبح الصّور. وأخذ مولانا السلطان في الحديث مع الأمرا فيما بلغه من ذلك. ثم التفت فأمر الأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوري بإمساك كوندك، فبادر إلى سيفه فأخذه، ثم ذهب به فقيّده، وأمر فأمسكت أعوانه، وهم خمسة وعشرون أميرا
(1)
. / 62 ب / وأقرّ بعض المماليك الصغار الظاهرية على جمع كبير منهم فأحضروا وأمسكوا، وخابت آمالهم ممّن كانوا به قد تمسّكوا.
ورحل مولانا السلطان فنزل خربة اللصوص، ومنها هرب أيتمش السّعدي إلى صهيون، وتوجّه مولانا السلطان قاصدا دمشق بعد أن أمّر على أخباز المذكورين بالمنزلة المعروفة بقرن الحرّا، ودخلها وقد تبرّجت له بزينتها من البنّات، وقبّلت الأرض بين يديه باستنابة تساقط يانع الثمرات. وأسالت واديها وأرته حميد العواقب من مباديها. فحلّ قلعتها، واستجلى طلعتها. وحلّ ذراها، وحلّ إذ حلّ عراها. وآنس ما كان من الوحشة قد عراها، ومنها سار للقاء العدوّ.
وحين كتبنا إلى سنقر الأشقر من حمص كتبنا إلى أيتمش السّعدي نؤمّنه على نفسه، وأن يحضر ولا يخشى ممّا كان منه، ولا ممّا بلغنا عنه. ويغتنم فرصة الجهاد، وأن لا يخشى حقدا فالشدائد تذهب الأحقاد. وورد جوابه بالسمع والطاعة لله تعالى ولرسوله ولمولانا السلطان، والتنصّل ممّا نسب إليه / 63 أ / ممّا زعم أنه زور وبهتان، وقال ما نصّه:
«ومن هو كوندك القطعة التركمانيّ حتى أكون أنا معه؟ والله يا خوند ما أبيع نشّابة من تركاشك بألف كوندك» .
وأخذ يمتّ بمناصرة مولانا السلطان ومتابعته، ومبايعته. وأنه أول من أطاع وما اعترف بأنه أول من عصى، ولا أنه الحامل على شقّ العصا.
وكانت الحوطة بالديار المصرية قد وقعت على موجوده من خيل وإبل وأسلحة وأثاث وذخائر من فضّيّات لها قيمة، حسب المراسيم السلطانية. فضمّن
(1)
في نهاية الأرب، 31/ 78 كانوا ثلاثة وثلاثين نفرا، أحضر بعضهم من جبال بعلبك، وبعضهم من ناحية صرخد.