الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كافرة أو منحلة لا تراعي القيم والثوابت الإِسلامية؛ فتغزو مجتمعاتنا بكل قوة مؤثرة ومغرية كالمستجدات المالية والفكرية والإعلامية وغيرها، فيحتاج الفقيه إزاءها أن يقرّ ما هو مقبول مباح شرعًا، حماية للدين، وإصلاحًا للناس، ويمنع ما هو محظور أو محرم، وهذا من أعظم الفقه.
ثالثًا: التمهيد في بيان حكم النازلة:
ينبغي للناظر في النوازل التمهيد للحكم المستغرب بما يجعله مقبولًا لدى السائلين، كما ينبغي أيضًا للناظر في النازلة أن يعدل عن جواب المستفتي عما سأله عنه إلى ما هو أنفع له منه؛ ولا سيما إذا تضمن ذلك بيان ما سأل عنه، وذلك من كمال علم المفتي وفقهه ونصحه، وشاهده قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
وينبغي له أيضًا أن يجيب السائل بأكثر مما سأله عنه، وهذا من كمال العلم والنصح والإرشاد في بيان أحكام النوازل؛ وذلك لما فيها من تكميل موضوع السؤال أو لعلةٍ ترتبط بينهما قد يحتاج إليها السائل فيما بعد أو يستفيد منها عموم أهل الواقعة.
وقد بوب الإِمام البخاري لذلك في صحيحه فقال: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله عنه، ثم ساق حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ ما يلبس المحرم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا الخفاف، إلا أن لا يجد نعلين؛ فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل الكعبين"(1).
رابعًا: مراعاة مقاصد الشريعة:
1 -
تعريفها ومدى أهميتها في فقه النوازل:
هذه قاعدة هامة من القواعد الكلية التي يحتاج إليها المجتهد وطالب العلم
(1) رواه البخاري في كتاب العلم، باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله رقمه (234).
لضبط مناهج الاستدلال والبعد عن مواطن الزلل في الاجتهاد والنظر.
ومعنى هذه القاعدة كما يقول الفقهاء المعاصرون هي: المعاني والحكم الملحوظة في الأحكام الشرعية والمترتبة عليها سواء أكانت تلك المعاني حكمًا جزئيًّا أو مصالح كلية أو سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين.
إذن؛ فعلم المقاصد الشرعية يتناول حكم الأحكام، وأسرار التشريع، وغايات الدين، ومقاصد الشرع، ومقصود المكلف ونيته.
وقد أولى العلماء المقاصد الشرعية عناية كبيرة؛ لما لها من شأن عظيم في حسن الفهم عن الله عز وجل ورسوله، ومن ثم حسن الامتثال للتكاليف الشرعية، وإيقاعها على الوجه المطلوب شرعًا، فينال العبد ما أمله من الأجر والثواب والقبول عند الله تعالى، ويسلم من مغبة التقصير والتفريط والانحراف في تحقيق العبودية، ويأمن من المخالفات المحظورة والبدع المذمومة.
ولذلك كان الناظر في النوازل في أمس الحاجة إلى مراعاتها عند فهم النصوص؛ لتطبيقها على الوقائع، وإلحاق حكمها بالنوازل والمستجدات، وكذلك إذا أراد التوفيق بين الأدلة المتعارضة فإنه لا بد أن يستعين بمقصد الشرع، وإن دعته الحاجة إلى بيان حكم الله في مسألة مستجدة عن طريق القياس أو الاستصلاح أو الاستحسان أو العرف المعتبر، تحرى بكل دقة أهداف الشريعة ومقاصدها.
فينبغي عندئذٍ أن يراعي الناظر في النوازل تحقيق المصالح في حكمه وفتواه حتى لا يخرج عن كليات الشريعة ومقاصدها العليا.
2 -
ذكر بعض الجوانب المهمة التي ينبغي أن يدركها الناظر في النوازل من خلال قاعدة مراعاة مقاصد الشريعة.
الجانب الأول: تحقيق المصلحة الشرعية عند النظر في النازلة:
إن اعتبار تحقيق المصلحة الشرعية عند النظر هو من مقصود الشرع الذي حافظ على ما يجلب فيه النفع ويدفع فيه الضرر، وكثيرًا ما يكون اجتهاد الناظر في النوازل بناءً على اعتبار حجِية المصلحة المرسلة التي لم يرد في الشرع نصٌّ على اعتبارها بعينها أو بنوعها ولا على استبعادها، ولكنها داخلة ضمن مقاصد الشرع الحنيف، وجمهور العلماء على اعتبار حجيتها.
وواقعنا المعاصر يشهد على اعتبار المصلحة المرسلة في كثير من المسائل المستجدة في الأنظمة المدنية والدولية وصورٍ من التوثيقات اللازمة لبعض العقود المالية والزوجية وغيرها.
وإذا لم يكن للفقيه فهم وإدراك لمقاصد الشرع وحفظ ضرورياته؛ وإلا أغلق الباب بالمنع على كثير من المباحات، أو فتحه على مصراعيه بتجويز كثير من المحظورات.
لكن المصالح المرسلة ليست بابًا مفتوحًا على مصراعيه يأخذ منه الشخص ما تهواه نفسه ويترك ما لا تهواه، بل لذلك ضوابط، نذكرها بإيجاز:
1 -
اندراج المصلحة ضمن مقاصد الشريعة.
2 -
أن لا تخالف نصوص الكتاب والسنة.
3 -
أن تكون المصلحة قطعية أو يغلب على الظن وجودها.
4 -
أن تكون المصلحة كلية.
5 -
ألا يفوت اعتبار المصلحة مصلحة أهم منها أو مساوية لها.
ومما ينبغي للناظر في النوازل في هذا المقام؛ أنه إذا أفتى في واقعة بفتوى مراعيًا فيها مصلحة شرعية ما، فإن عليه أن يعود في فتواه ويغير حكمه فيها في حالة تغيّر
المصلحة التي روعيت في الفتوى الأولى، ولا يخفى أن تغير الفتوى هنا إنما هو تغيُّر في حيثيات الحكم لا تغير في الشرع، والحكم يتغير بحسب حيثياته ومناطه المتعلق به، وهذا أمر ظاهر.
الجانب الثاني: اعتبار قاعدة رفع الحرج:
أي: من الجوانب المهمة التي ينبغي أن يدركها الناظر في النوازل من خلال قاعدة مراعاة مقاصد الشريعة اعتبار قاعدة رفع الحرج:
نتناول في هذه القاعدة ما يلي:
1 -
تعريفها وذكر أدلتها ومدى أهميتها في فقه النوازل:
يقصد بالحرج: كل ما يؤدي إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال حالًا أو مآلًا.
إذن؛ فالمراد برفع الحرج: التيسير على المكلفين بإبعاد المشقة عنهم في مخاطبتهم بتكاليف الشريعة الإِسلامية.
وقد دلت الأدلة على رفع الحرج من الكتاب والسنة حتى صار أصلًا مقطوعًا به في الشريعة، كما في قوله تعالى:{مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ"(1). فإذا تبين لنا قطعية هذا الأصل، وجب على المجتهد أن يراعي هذه القاعدة فيما ينظر فيه من وقائع ومستجدات، بحيث لا يفتي أو يحكم بما لا يطاق شرعًا من المشاق، كما يجب عليه أن يراعي الترخيص في الفعل أو الترك على المكلفين الذين تتحقق فيهم الأعذار والمسوغات الشرعية المبيحة لذلك، كما في الترخيص في الضروريات أو التخفيف لأصحاب الأعذار ورفع المؤاخذة عنهم.
(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، رقمه (38).
2 -
الشروط المعتبرة لقاعدة رفع الحرج:
لا بد لمن ينظر في فقه النوازل من تحقيق بعض الشروط عند اعتباره قاعدة رفع الحرج فيما يعرض له من نوازل وواقعات، وهي:
1 -
أن يكون الحرج حقيقيًّا، وهو ما له سبب معين واقع؛ كالمرض والسفر، أو ما تحقق بوجوده مشقة خارجة عن المعتاد، ومن ثمَّ فلا اعتبار بالحرج التوهمي وهو الذي لم يوجد السبب المرخص لأجله؛ إذ لا يصح أن يبني حكمًا على سبب لم يوجد بعد، كما أن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى قسم التوهمات.
2 -
أن لا يعارض نصًّا، فالمشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه، وأما في حال مخالفته النص فلا يعتد بهما.
3 -
أن يكون الحرج عامًّا وهو الذي لا قدرة للإنسان على الانفكاك عنه فإذا كان في نازلة عامة في الناس فإنه يسقط. قال ابن العربي: إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس فإنه يسقط. وقد فسره الشاطبي: بأنه: هو الذي لا قدرة للإنسان على الانفكاك عنه (1).
3 -
الأسباب المؤدية إلى رفع الحرج:
هناك أسباب تؤدي إلى رفع الحرج، وهي على سبيل الإجمال:
1 -
السفر.
2 -
المرض.
3 -
الإكراه.
4 -
النسيان.
5 -
الجهل.
6 -
العسر.
7 -
عموم البلوى.
8 -
النقص.
(1) أحكام القرآن لابن العربي (3/ 310).
الجانب الثالث: النظر إلى العواقب:
أي: ومما ينبغي أن يدركه الناظر في النوازل من خلال قاعدة مراعاة مقاصد الشريعة، أن ينظر إلى ما تؤول إليه عواقب الأمور، فينظر المجتهد في تطبيق النص؛ هل سيؤدي إلى تحقيق مقصده أم لا؟ فلا ينبغي للناظر في النوازل والواقعات التسرع بالحكم والفتيا إلا بعد أن ينظر إلى ما يؤول إليه الفعل، وهذا أصل ثابت في الشريعة دلت عليها النصوص الكثيرة بالاستقراء التام، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 188]. وقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوَا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أشير إليه بقتل من ظهر نفاقه قوله: "أخاف أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"(1). وقوله: "لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم"(2). إلى غيرها من النصوص المتواترة في اعتبار هذا الأصل.
يقول الإِمام الشاطبي: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفه؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل؛ فقد يكون مشروعًا لمصلحة قد تستجلب أو لمفسدة قد تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع، لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحه تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى
(1) رواه البخاري: كتاب المناقب، باب ما ينهى عن دعوة الجاهلية (3257)، ومسلمٌ: كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا (4682).
(2)
رواه البخاري: كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه (126).